Monday, December 27, 2010

Black Swan (2010)

 مشروع ١٠ سنوات آخر، هذه المرة مع دارِن آرنوفسكي، مخرج أفلام أخرى مشهورة شعبيا ونقدياً، مثل مرثية حلم. المصارع، وغيرها. أجد أن المعضلة السيكولوجية الرئيسة للفيلم، ليست فكرة "القرين". بل الكمال. فيلمي البجعة السوداء، والمصارع، يكمّلان بعضهما- بحسب قول آرنوفسكي- في استكشاف الهوس المُرهق، والمُهلك، للإنسان، سواء نحو المجد أو الكمال. في حين أن فيلمه المصارع يلعب على وتر المجد العابر لبطل مصارعة يتقدم في السن، يفقد قوته بالتدريج وكذلك شعبيته، رأيي أن فيلم البجعة السوداء أكثر ثقلاً من الناحية الدرامية، السيكولوجية والفلسفية، فيلم المصارع يتناول موضوع العاطفة، والوحدة، والعلاقة بين الأب والابنة. ومسائل "انسانية" أخرى أكثر لطفاً، حتى أحداثه تدور أغلب الوقت في "العالم السفلي" للمصارعين المأجورين، في الكابينة التي يسكن بها بطل الفيلم، في الحانة التي تعمل بها حبيبته، كلها أماكن "متواضعة". قبيحة، في حين يُثقل فيلم البجعة السوداء باعتبارات الجمال الحادة والمتطرفة، يُحسب لآرنوفسكي محاولاته الناجحة في اسكتشاف عوالم أناس مرهقين دوماً ومُستنزفين حتى الموت بسبب مهنتهم المتطلبة، عاطفيا ونفسيا وجسدياً. وأكاد أحسّ أن آرنوفسكي يتفق معي لو قلنا أن حياة راقصة الباليه الأولى (باليرينا) أشدّ عنفاً وايلاما من حياة مصارع حرّ.

في طفولتي شاهدتُ فيلما يحكي قصة باليرينا تتدهور نفسياً، وتقع في هوّة الهوس الجنوني بوزنها، حتى ينال المرض كذلك جسدها، إنها في طريقها لبلوغ الكمال تُدمّر نفسها.

تأثرتُ بالفيلم، وبفضله صرتُ أرى أوضح، راقصة الباليه ليست مؤديّة فن، كمغنية الأوبرا، وليست منتجة له. ككاتبة أو رسّامة أو عازفة. هي ذاتها عملٌ فني.

حبكة الفيلم الخلفية تدور حول هوس نينا -البطلة- بالكمال. لكن هل هوس كلمة صحيحة؟ نعرف من الفيلم أن مهنتها الحالية كراقصة باليه إنما وُرّثتْ لها من أمّها. راقصة باليه قديمة لم تفلح في اكمال مسيرة الشهرة لأنها اضطرّت لتربية ابنتها. العلاقة السايكوباتية بين الأم والابنة جليّة تماما. الأم تحاول "تحويل" ابنتها إلى راقصة باليه كاملة/مثالية. كنوع من التعويض، العلاقة مُكهربة ومشدودة نفسياً. آرنوفسكي ينجح في تبيان "الظلام" الذي يسود الشقة التي تحيى بها الأم مع ابنتها لدرجة تجلب الاختناق للمشاهد. والأم تعامل نينا كطفلة، فهي متحكّمة تماماً بكل مناطق حياتها لدرجة أنها أحيانا تُلبسها وتخلع لها ملابسها. حجرة نينا مليئة "بالدباديب". كل شيء "وردي". "هوس الجمال/الكمال" الذي "يسكن" منزلهما يكاد يكون خانقا للمشاهد، في أول مشهد للفيلم تستيقظ نينا على الافطار الذي تعدّه لها أمها، ثمرة جريب وردية، تقول نينا بمرح : وردي!، جميل، جميل. ثم تردد الأم من ورائها : جميل.


علاقة أم/ابنة غير سوية، فنحن لا نجد في حياة نينا شيئا آخر غير الباليه، ونجد أمّها متحكّمة في كل عنصر بحياتها، لقد حوّلتها أمّها إلى الشيء الذي لم تستطع هي أن تكونه، ولم تسمح لها أن تكون شيئا آخر غيره.

في بداية الفيلم، حيث حلم نينا، نجدها تؤدي عرضاً للباليه، ويظهر معها رجل/ يراقصها ويتحول إلى هيئة موحشة/شيطانية. ولعل حلمها هذا محاولة من آرنوفسكي للعب - استاطيقياً- على مسألة الكمال، فهي لم تر "قرينتها" مهددة، إياها، في الأمر احالات فاوستية. وبعد الحلم في طريق نينا لمحل عملها تشاهد في المترو فتاة أخرى تكاد تماثلها شكلا.

هناك نشاهد للمرة الأولى "توما" مخرج العرض، يعدّ لعرض جديد للباليت الأزلي "بحيرة البجع". هذه المرّة يقدم معالجة جديدة للقصّة للتحوّل إلى "البجعة السوداء". تعديلات توما على القصة تتضمن ادخال شخصية البجعة السوداء. أخت توأم للبجعة البيضاء- البطلة الأصلية للأسطورة، أوديت، التي يسحرها  فون روثبارت، تتحول إلى بجعة محصورة اقامتها في بحيرة تخلّفت عن دموع أمها حزناً عليها، أوديت تعود انسانة فقط في الليل- وفي الأسطورة الأصلية هنالك أوديل، ابنة روثبارت التي تحاول خداع الأمير سيغفريد وايقاعه في حبائلها. الحبكة الأصلية أن سيغفريد يترك أوديت لأجل أوديل، هكذا تضيع فرصة أوديت للأبد في العودة بشرية من جديد، لأن "الحب الأبدي" الذي يجب أن يُررها ضاع منها. يعرف سيغفريد هذا ويعود محاولا كسب غفران أوديت من جديد، تسامحه لكنها تُغرق نفسها في البحيرة، لأن الموت هو الطريق الوحيد كي تستعيد حريّتها مجددا، خارج جسد البجعة. سيغفريد ينتحر معها تعبيرا عن حبه. تُختتم الباليته ببقائهما معاً، للأبد، في الجنة.

معالجة "توما" تدور حول ادخال "قرينة" لأوديت، الملكة البجعة، هي بجعة سوداء، المفترض أنها شريرة، مؤذية وجشعة تسعى للاستحواذ على الأمير. وحين تعرف أوديت بضياع الأمير منها تنتحر كذلك. ويبدو أنها تفعل هذا، هذه المرة، وحيدة دون الأمير.

في الفيلم "توما" يلعب ألعاب سيكولوجية مع نينا، ففي البداية يعطيها فكرة أنه اختار راقصة أخرى للدور الرئيسي، معللا هذا بضحالة نينا - دراميا- فهي لا تستطيع إلا أن تؤدي البجعة البيضاء، إنها هشّة، بريئة، متحفظة، تفتقر إلى الانطلاقة والحرارة العاطفية، كل حركاتها مُتحكم بها، منضبطة جداً.

تكتشف نينا فيما بعد أنها هي صاحبة الدور الرئيس. منذ هذه اللحظة بالضبط يبدأ مرضها النفسي. توما زرع داخل نينا - عن غير قصد- قلق أنها غير كفء لأداء الدور المزدوج. (بجعة بيضاء، وبجعة سوداء). تتربص نينا بنفسها، يستمر الفيلم مع مشاهد لتدريبات نينا أمام توما، العابث، ثم مشهد الاعلان الرئيسي لنينا بطلة العرض الجديد، وتوديع للملكة البجعة السابقة - بيث/تؤدي دورها وينونا رايدر- بعد الحفلة تنشب مشادة كلامية بين بيث ونينا، تعرف نينا بعد ذاك أن بيث حاولت الانتحار - صدمتها سيارة. ويعزز هذا لدى نينا المزيد من المشاعر السوداء والذنب.
النصف الثاني من الفيلم يشهد تقرّب ليلي/ميلا كونيس. من نينا، ليلي راقصة باليه كذلك لكنها أكثر انطلاقا وحرارة، و"عبثا" من نينا الملتزمة المتحفظة. في أحد المشاهد المهمة يعلّق توما على رقص ليلي : أنها لا تصطنع، حركاتها غير مضبوطة لكنها تنم عن عاطفة حقيقية. يؤجج هذا المزيد من المشاعر السيئة لدى نينا، البارانويا والهوس يجعلان نينا تقتنع أن ليلي هي المؤدية المثالية للبجعة السوداء. في حين أنها هي -نينا- لا يمكنها مهما حاولت أن تؤدي شيئا غير البجعة البيضاء. ليلي القوية المنطلقة، غير العابئة بالقوانين، حين تدخّن في قاعة الرقص. تشهد بكاء وذعر نينا الهشّة حين تصاب هذه بالتشوش من محاولات توما المستهترة للعبث معها واثارتها، وتعبر عن عجزها عن المواصلة. ثم تعرف نينا فيما بعد أن ليلي أخبرت توما بمدى الاستياء والبؤس الذي وصلت إليه نينا. وهذا يُظهر بمظهر أكثر ضعفا أمامه.

تستاء نينا من ليلي. لكن فيما بعد تذهب الأخيرة لبيتها لتعتذر. وتدعوها للخروج معها متأخر للشراب. أم نينا تعرب عن رفضها، وفي هذه اللحظة نشهد أول محاولة من نينا للتمرّد على حياتها السابقة، المنضبطة للغاية، كراقصة باليه ليس في حياتها شيئا آخر غير الباليه. وتذهب للسهر والقصف مع ليلي رغم تدريباتها المبكرة في اليوم التالي.


تتعقّد الأمور سيكولوجيا أكثر، لدى نينا، حين تزداد هلاوسها وحشية، إنها الآن صارت ترى وجهها في وجه ليلي - في اللحظات الأكثر عبثا وانحلالا للأخيرة. في اليوم التالي تذهب متأخرة للتدريب، وتجد ليلي ترتدي ملابس البجعة السوداء وقد حلّت محلّها في التدريب. تشرح لها الأخيرة أن توما جعلها بديلة.

المشهد التالي هو المشهد الأكثر جنونا وسوريالية. تعود نينا غاضبة لمنزلها، وهناك تهاجمها المزيد من الهلاوس المرعبة، جروح ظهرها التي كانت تظهر من حين لآخر - والتي نعرف أن علّتها الهوس المرضي لديها بخدش نفسها- تزداد توّرما وقد برز في ظهرها "ريش أسود". تحاول أمّها الدخول لحجرتها، تمنعها نينا بعنف مغلقة الباب على يدها.

نينا تستيقظ في مساء اليوم التالي - ليلة الحفل الكبير- وتجد أمها بجانبها، وقد اتصلت هذه بالشركة وأخبرت أن نينا لن تحضر لأنها - مريضة-. يجن جنون نينا، ولعلها في هذه اللحظة تدرك أن أمها كذلك تغار منها، ولا تريد لها النجاح، تريدها أن تفشل مثلها. تصل بارانويا ووحشة نينا لذروتها حين تجد الجميع عدائيين تجاهها، زميلاتها الراقصات يحقدن عليها، ليلي تحاول سلب الدور منها، توما يعبث بها. الخ.

تذهب نينا للعرض، وتنتزع من ليلي الدور من جديد، بعد أن آل للأخيرة حين علموا أنها لن تأتي للأداء. يدخل توما لحجرة تبديل الملابس ويخبرها أن ليلي صارت المؤدية الرئيسة بالفعل، وهناك يشهد "تحولا" لنينا، حين تخبره هذه بخبث إن كان قد أعلن ذاك، وأنه ربما لا يرغب في المزيد من الجدل بعد حادثة بيث.

أثناء العرض تتعثر نينا - بسبب المزيد من الهلاوس. يصب توما جمّ غضبه، وتعود هذه لحجرتها وتجد هناك ليلي، تغيظها هذه بشأن خطئها معبّرة عن "قلقها؛ من أن نينا غالبا لن تستطيع أداء الحركة التالية (تقصد، البجعة السوداء). ذروة الفيلم في هذه المشهد حين تجن نينا من جديد وتدفع ليلي إلى المرآة، - مع مزيد من الهلاوس، بتحوّل ليلي من حين لآخر للتتخذ شكل نينا- ثم تطعن نينا ليلي، وقد ظنت أنها قتلتها، تسحبها إلى الحمام.

لقد اكتمل "التحول الظلامي" لنينا، وهي الآن تنظر لنفسها في المرآة، تضع ماكياج البجعة السوداء، الشريرة، وعينيها محمرتان حمرة شيطانية. إنها حتى لا تهتم بالقتيلة ليلي، وتصعد نينا إلى خشبة المسرح مؤدية دور البجعة السوداء بامتياز، يصفق الجمهور بحرارة، وتنتشي هذه - لدرجة جنونية - بالمجد والتألق. نينا وصلت أخيراً للكمال حين صارت تنتقل - بلا أي صعوبة - من بجعة طيبة/فتاة بريئة وبيضاء، إلى بجعة سوداء/فتاة مغوية شريرة. 
المشهد الختامي حين تعود نينا لحجرة الملابس. وتغطي دماء ليلي المتسربة من باب الحمام بمنشفة، ثم تعود إلى المرآة، متأملة نفسها بزهو تكمل زينتها بلا أي شعور بالذنب. يُطرق بابها فتجد ليلي بالخارج تشيد بدورها، تُذهل نينا، وتفتح باب الحمام فلا تجد هنالك أية جثة. تنظر فتجد أن الطعنة المدماة إنما في معدتها هي. لقد قتلت نينا نفسها في نوبة هلوسة.
تصعد رغم ذلك لتؤدي مشهد ختام الباليت. وتلقي بنفسها -كما هو السيناريو- لكن حين تسقط، ووسط تصفيق الجمهور. نجد زيّها وقد أُدمي بالكامل. لعلها تحتضر، يُختتم الفيلم بتوما يستدعي اسعافا طبيا، ويسأل نينا عمّا فعلته، تقول هذه : لقد شعرتُ به. شعرتُ بالكمال
لعل آرنوفسكي يحاول تقديم قصة "تدمير ذات"، بمسحات فاوستية، حين تحاول نينا السعي للكمال، الكمال في دورها بالذات - بجعة بيضاء/بجعة سوداء- هوسها وكراهيتها لعجزها عن أداء الدور بشكل الصحيح يدفعانها لنوع من العنف تجاه النفس - هو الفيلم مرضها النفسي أو البارانويا- الجزء الرمزي هو قتل نينا لنفسها، هل قتلت نينا شخصية الفتاة الحلوة -بحد تعبير أمها- البريئة، البيضاء؟ كي تصل للكمال وتتمكن من أداء دور البجعة السوداء الشريرة؟ إن أفضل الأفلام في نظري - رغم اعجابي بالرمزية - هي التي تقدم رموزاً مضطربة، فوضوية، غير مصنوعة بالمسطرة. لا أريد فيلما أتمكن من القبض على رمزه بوضوح شديد ودقّة. أفضل ما بأفلام آرنوفسكي هو "روح العبث" التي تحوم بها. لا أظن أن آرنوفسكي كمخرج يهتم كثيرا بالرموز. غالبا يهتم باظهار التمزق العاطفي والنفسي لأرواح أبطاله، وأجسادهم.

Sunday, December 26, 2010

Die Entzauberung der Welt

اضطررتُ للأسف لحضور حلقة دراسية تتطرق لبعض المواضيع من الحضارة المصرية القديمة، والبارحة تطرّق أحدهم - يحمل درجة علمية عالية في الموضوع نفسه- قائلاً: أن المصريين القدماء توصّلوا لطريقة لصنع الذهب، وهنا أتدخل أنا لأشرح للقرّاء: ما فهمته أنها طريقة -ميتافيزيقية- باستخدام أرقام معينة،  في أوقات معينة من السنة -بحسب علم التنجيم أو الفلك المصري القديم. بتجميع هذه الأرقام بكيفية ما - على حدّ قوله- يُصنع الذهب.

طبعاً، كلامه هراء. ولست من هواة التفافز بالحجّة العلمية التي سوف تجعل الكلام كله كوميدياً جداً، لكن، أولاً "هذا التخيل" حديث العهد، رأيي أنه ينتمي لعصر النهضة الأوروبية حين سطع نجم القبالة اليهودية، التخيل الذي يقترحه الأخ تخيل "قبالي" جداً. التصوف اليهودي قديم العهد- لكن ليس جداً، تقريباً أيام مدرسة الاسكندرية حين اختلطت أفكار فيلون اليهودي بالأفكار الغنوصية الناشئة. أما القبالا فهي نهضوية بالكامل. ولا أتصوّر أن تكون قد قامت - بهذه التخيلات الرقمية، ذاتها- في زمان أقدم.

ثانياً، والأهم: هذه التخيّلات جاءت غالباً لتبرير الكميات الهائلة من الذهب التي تحصّل عليها قدماء المصريين، ونعرف أن مصدرها الحقيقي/الفيزيقي، هو السُخرة، وعمليات السخرة القاسية واللا آدمية التي قادها عليّة القوم في مصر القديمة، لجمع الذهب من المناجم، وعمال المناجم يعملون في ظروف مرعبة، وصفها كتّاب اغريق في كثير من المصادر.

أنا لا يهمني هذا الهراء، ما يهمني  هو استخدام أبعاد خرافية لتبرير واقع مرير، وكل هذا يحدث في اللا-وعي البشري، هنالك مثال آخر هو الخيمياء - وتلك أيضاً استمّدتْ قاعدتها الخرافية من مصر القديمة، الخيمياء في عصر النهضة وما يليه - أي عصر المركنتليين، والمركنتليون مفكرون "اقتصاديون" أرجعوا قوّة الدولة -السياسية، العسكرية والمالية- للنقد، العملة، أي الذهب، وعليه فإن الدول الراغبة في القوة والثراء عليها أن تغير على جيرانها لتتحصل على ذهبهم. وفي العصر ذاته يستبدّ بالمثقفين هوس باطني بتحويل الرصاص إلى ذهب. وفي العصر ذاته تظهر خرافة "إل دورادو". وتحكي عن زعيم قبيلة مويزيكي غطّى نفسه بتراب الذهب وغاص في بحيرة غواتافيتا كنوع من الطقس الديني - بكولومبيا حالياً. الطريف أن كل هذه الخرافات تتعلّق بالذهب بشكل ما- هذه الخرافة منشأها أسباني تحوّرت لتصف مكانا خرافيا (مدينة ذهبية ضائعة). أين ؟ في أمريكا الجنوبية. وهو هوس خرافي استبدّ كذلك بالغزاة الأسبان أيام اغاراتها المتتالية على هذه القارة.


إن كل عمليات التحصّل على الذهب في العصور القديمة - مدفوعة بجشع إنساني متوحش لكن منظّم للغاية. شابها بعض الخرافات. هل الخرافة هي نوع من "وضع يد البشر وقتها في الماء البارد". الخرافة ترفع "هذه المسؤولية" الأخلاقية التي قد يحتملها هؤلاء. والأمر أكثر وضوحا في حالة "إل دورادو" : البحث عن مكان خرافي يبرر كل جنون/عنف/ دموية/ تُساق في سبيله، والعالم حينها يفقد -من الأساس- كل أبعاد الحكم السليم.

Friday, November 12, 2010

المخلوقة الجميلة في الرداء الأبيض/٢

لا أتذكر مشهدا روائيا أفضل من ذاك الفصل، في رواية المعلم ومارغريتا، للروسي بولغاكوف، حين راحت مرغريتا تحطم كل نوافد البناية، التي تحوي شقة رجل تسبب في ضياع المستقبل المهني لحبيبها. كأديب وروائي.
لكن كيف؟ على مقشّة سحرية، بعدما دهنت جسدها بمرهم أعطاها إياه "فولند"، أو الشيطان في الرواية، واستعادت شبابها، واكتسبت قوى ساحرة.

مارغاريتا، مثل "سوبر-غيرل/ليدي" كلاسيكية، روّعت الجميع، في البناية، في الشارع وفي موسكو، إلا طفلا صغيرا ينام وحده في البرد، في شقة ما من البناية المكروبة، إنها غير-مرئية، لكن الصبي أحس بوجود إنساني، وخاطبها على أنها عمّته. تهدئه مارغاريتا وتساعده على النوم.

اسم مارغارتيا مستقى من القصة الفلكلورية الجرمانية الأشهر، فاوست، وهو أصلاً لفتاة تدخل إلى "التابلو" المانوي بين فاوست وميفستوفيلس، المزاج الشعبي يجعلها ميتافور للخطيئة، وعقدة الذنب لدى فاوست، لكن غوته يخلع عليها أدوار أكثر قوة: الموازن.
إنها موازن لأن في نسخة غوته من فاوست، خلاص فاوست متمثل في حب مارغاريت/غريتشن له. يدخل الحب كعامل رومانتيكي، من شاعر ميوله رومانتيكية، في الصراع الصارم والكابوسي بين النور والظلام، الخير والشر، إلخ.

فولند وزمرته في رواية "المعلم ومارغاريتا" يشير صراحة إلى بحثه عن سيدة تحمل اسم مارغاريتا، في موسكو، لتأخذ دور "ملكة" وراعية لحفلته العجائبية. حفلة "في العالم السفلي" تضم أموات قادمين من الجحيم، لكن لماذا مارغاريتا، في الرواية اشارات مثل" لم نجد من هو أكثر مناسبة منها"، ويبدو أنهم يبحثون عن مواصفات معينة لهذه الراعية/الملكة، أن تكون عاشقة.

في الرواية كانت مارغاريتا على استعداد بالقيام بهذه المهمة العجيبة، والبغيضة، لأنها تتوقع أن تحصل على شيء، أن تجد حبيبها مجدداً، الذي فقدت الطريق إليه، ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وهذا ما يحدث.


تتقاطع "مارغاريتا" كشخصية استثنائية مع الإرث الميثولوجي المصري القديم، تحديدا في شخصية "ايزيس"، ايزيس ذاتها مرت بتحولات كثيرة، ولا يمكن وضع معالم، حدود واضحة أو صارمة ترسم أبعاد لا تُخطيء، لكننا نتحدث عن الصورة النهائية لها التي ترسخت خصوصا في المعابد التي شيدت على شرفها في روما. "ايزيس" بحسب بلوتارك ومؤرخين آخرين، هي ملكة العالم والراعية له. وكما هي راعية "للمخطئين"، فهي ترعى المرضى واليائسين، والفقراء والأغنياء، على حد سواء. ما يهمنا هو الجزء الفلكلوري من تاريخ ايزيس، كحبيبة لأوزر، إن ايزيس لا تكتسب أهمية واضحة إلا حين يُحوّل الخيال الفلكلوري "سيث"، راعي مصر العليا، إلى ممثل للشر، القصة تكتسب أبعاد مانوية فتدخل ايزيس كموازن، بل هي البطلة الوحيدة للحكاية الميثولوجية الأهم تقريبا في الديانة المصرية الوثنية القديمة، الأمر لن يختلف كثيرا عن مارغاريتا، ايزيس العاشقة تفعل كل عجيب لتنقذ أوزر، ولـ"ايزيس" علاقة وثيقة بالسحر، تختلف عن الدور "الابيستمولوجي" لـ تحوت مثلاً، حين يأخذ دور المُعلّم، ايزيس تملك القوة السحرية -بحسب المصري القديم- التي تعالج، تنقذ، وتفعل الأعاجيب لنصرة الخير.

و ايزيس تكتسب قواها السحرية حين تستخدم الثعبان "وادجيت" للدغ رع، والحصول منه على اسمه السرّي، مهددة اياه لأنها الوحيدة التي تعرف علاج سم وادجيت، ايزيس تلعب لعبة خطرة جداً في الميثولوجيا لكن، كل هذا لأجل اعادة أوزر إلى الحياة. ومن أوزر، ايزيس تكتسب علاقتها بالعالم السفلي.


دور ايزيس، يتمثل، كما هي الشروح الحديثة للميثولوجيا، في استعادة النظام لعالم وقع في فوضى اثر انتصار "سيث"، أو عالم فقد مبادئه، لأنه لم يعد يفرق بين الخير والشر، كلا منهما فقد معناه وتحول إلى مجرد صراع بين قوتين، بين جانبين مفرطي القوى، ولم يعد ذاك الصراع يهم الإنسان العادي، شديد الضعة والتعاسة في شيء. الحب، العاطفة والأمان الأمومي هو ما يكسب هذا الصراع المعنى الوحيد.

في رواية كـ"المعلم ومارغاريتا"، التي، بحسب النقاد، تعتبر تعبيرا عن استهجان وغضب انساني من ضياع القيم في وطن فاقد لهويته، روسيا الشيوعية، حين يقف المثقف، أو من هو، كما يفترض،  الشخص "المُمَيِّز"، يقف هذا المثقف وغيره بلا مبالاة أمام جرائم النظام الشيوعي ضد الأقليات، وضد الجميع تقريباً، في فترة تتميز بصراع بين القوى، شديد العبثية وخال من أي معنى انساني، (الشرق الشيوعي، الوسط الفاشي، والغرب الرأسمالي)، تأتي شخصية مارغاريتا كاستعادة للدور القديم، والمتجدد، لشخصية "راعية" ومتوازنة تصنع " النظام من الفوضى"، وفي الرواية، النهاية السعيدة إنما المحرك الرئيسي، والمسبب لها، هو مارغاريتا، إن النظر في دور مارغاريتا في الرواية كذلك يلقي بالضوء -بشكل ريتروسبيكتي- على سر اهتمام المجتمع الروماني، الغربي المفرض في غربيته وعقلانيته، المعادي للشرق بطبيعته، حين يحتضن شخصية كـ"ايزيس"، في عصر فوضوي، في ظل تصارع عبثي للقوى بين روما وبين كل ما عداها.

Friday, November 5, 2010

Au revoir les enfants (1987)

فيلم فرنسي من اخراج لويس مال، يحكي قصة بسيطة: مدرسة فرنسية كاثوليكية للصبيان، أيام الاحتلال النازي لفرنسا (الحرب العالمية الثانية)، تؤمّ ولداً يهودياً، بعيداً عن بطش العسكر الألماني.

والفيلم يسير بالقاعدة السينمائية الكلاسيكية: لو أردت، املأ الفيلم بما تشاء من التفاصيل المملة، لكن ادهش المشاهد بالنهاية، الفارق أن التفاصيل لم تك مملة، مذ البداية وحتى النصف ساعة الأخيرة من الفيلم يصوّر تفاصيل حياة الصبية داخل مدرسة مغلقة، صارمة وبعيدة في شتاء كئيب.
الفتى البطل، جوليان كينتان، فرنسي من عائلة برجوازية، ثرية، يفتتح الفيلم بمشهد توديع أمه له في محطة القطار، قبل أن يذهب للاقامة بالمدرسة. في ذات الوقت يصل الفتى الجديد، والذي يقدمه الرهبان إلى الصبية باسم : جان بونيه، جوليان فتى حذق، لكن متعجرف، ولأن الصبيان يتمتعان بذات المستوى من الذكاء والتميز الدراسي، تنشأ بينهما في البداية عداوة، ومنافسة، لكن هذه المشاعر تتحول إلى صداقة وتسامح بعدما يكتشفان نقاط تشارك أعمق لدى كلا منهما، مثلاً، حب القراءة.


تتعقد علاقتهما حين يكتشف جوليان بالصدفة الاسم الحقيقي لجان بونيه، وهو: جان كيبلشتاين، يدرك جوليان بالتدريج أن جان يهودي، فهو لا يتناول اليوخاريست، ولا يأكل من شطائر لحم الخنزير، ويتلو صلواته بوضعية غريبة بالنسبة لجوليان، والجو، كما قد يتوقع، عنصرياً داخل هذه المدرسة، التي تؤم صبيان من عائلات غنية جداً، ونحن نلاحظ مذ بداية الفيلم عدوانية الصبية تجاه من هم أقل، سواء تجاه الصبي العامل في المطبخ، جوزيف، أو تجاه الفتى الجديد والمنطوي جوليان اليهودي. في اشارة عابرة، حين يفسر جان بونيه اختلاف ممارساته الدينية، يقول أنه بروتستانتي، أحد الصبية ينعته مزحاً، أيها الهرطيق.
يواجه جوليان كينتان، صديقه جان بونيه/كيبلشتاين، بأمر أنه يهودي، مما يهدم تقريباً كل ودّ بينهما.

في مشهد يحوى عناصر شاعرية، كلاسيكية، يتيه جوليان كينتان في الغابة المجاورة للمدرسة، بعد أن يقطعها وحيداً، في لعبة صبيانية، بحثا عن كنز ما، يكتشف جوليان أنه وحيد، ويكتشف كذلك أن جان كيبلشتاين معه، يخرج الولدان ويجدا سيارة تقل عساكر ألمان، يركض كيبلشتاين فزعاً لكن أحدهما يمسك به. ويعيداهما إلى المدرسة.
لعل مشهد الضياع في الغابة، بحثا عن كنز، ثم الخروج منها، يرمز إلى التحول التنويري في رؤية جوليان تجاه الآخر، والمختلف والأقل، بالنسبة لفتى صلف، مدلل، يعامل حتى أمه بجفاء.

يتخذ الفيلم منعطفا دراميا حين تُكتشف سرقات الفتى جوزيف، ويُطرد من عمله بالمدرسة، فيشي ذاك للجشتابو بوجود فتية يهود داخل المدرسة، بل أنه يعطي الجشتابو أسماء هؤلاء، ربما، يريد الفيلم، بما أن الاطار والأحداث تجري في بيئة دينية، اعطاء تلميحات انجيلية لقصة اضطهاد المسيحين الأوائل، أو حتى لقصة خيانة يهوذا.

في مشهد الخاتمة يدخل ضابط الجشتابو على الأولاد، في قاعة الدرس، سائلا ان كان هنالك من يدعى كيبلشتاين، والمشهد يصوّر "الرعب من النازي"، حين يجعل الضابط قادرا على التعرف على اليهود، بدقة، من مجرد النظر لوجوههم.
يسلم الفتى كيبلشتاين نفسه، ويُقبض على صبيين آخرين. وكذلك على الراهب جان، المسؤول عن المدرسة، في الفيلم تُطرح مسألة التصارع في القوى، بين سلطتين -أصلاً- قامعتين، سلطة الكنيسة الأوروبية، وسلطة النازي/الجشتابو، لكن كعادة هذه الأفلام، تظهر جهة الكنيسة، هي الجهة الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه الدولة "اللويثيان"، (في اشارة ظريفة، في بداية الفيلم يأتي جندي ألماني يطلب الاعتراف لأحد الكهنة). والكنيسة في الفيلم تبدو كدولة داخل دولة، والرهبان وحدهم هم من يملكون القدرة على صدّ تدخل الجنود الألمان، والمطالبة باحترام الجهة الدينية وراء المدرسة، بل أن القس جان يخاطر بحياته، وبحياة الأطفال داخل المدرسة، أطفال الأعيان والبرجوازيين، ليؤم ولداً يهودياً فقيراً، من أصل متواضع "أبوه محاسب". في حركة تكاد تبدو راديكالية. هذا التمثيل يتكرر كذلك في أفلام أخرى عالجت مشكلة النازية، مثل فيلم "الكتاب الأسود"، فمن يجرؤ على ايواء يهودي؟ في بداية هذا الأخير تقيم الشابة راشيل شتاين، اليهودية، مع عائلة رجل دين بروتستانتي.
لا يمكننا أن ننسى الاحالة المفضلة لدى كثير من الفنانين، حين يظهر العسكر، الحرس، كهؤلاء الرومان الذي اضطهدوا المسيحيين الأوائل، ففي الذهنية الغربية، حين تقع احالات شبيهة، الأمر يبدو مثل البروباغاندا لتجريم سلطة الدولة، لا تزال تظهر اشارات مماثلة في تاريخ الفن عموماً، ففي لوحة غويا الأشهر، الثالث من مايو، لا يخفى علينا المظهر الاستشهادي للرجل ذي القميص الأبيض، موضوع اللوحة الرئيسي، رافعاً ذراعيه كصليب، الاشارة الأكثر مباشرة هي ذاك القس، الذي يجثو على ركبتيه بجانب ذي القميص، ضاماً كفيه في صلاة متوسلة. وأمام هذا الجمع من المضطهدين، يصطف عسكر نابليون (أو عسكر التنوير الفرنسي!) ببنادقهم. اللوحة باحالاتها تبدو صادمة حين تصدر من فنان طليعي مؤمن بالتنوير -سابقاً- مثل غويا، لهذا، بشكل شخصي أعتبر هذه اللوحة مهمة بسبب اشاراتها الإنجيلية ولأنها تجسد احباط وصدمة فنان تنويري في الأنوار.

كل هذه الأفكار عادت إلي في مشهد الخاتمة، المرعب، حين جعل الضابط النازي الأطفال يصطفون جميعاً، وحين بدا النازي مستعداً لاضطهاد جمعاً من الصبية، بحثا عن يهودي آخر، يُختتم الفيلم بينما يبدأ الضابط في المناداة على أسماء صبيان بعينهم، ولا نعرف هل لأنهم يهود، أم لأن أسماء عائلاتهم أقل تواضعاً من الآخرين، بينما يودع القس جان تلامذته، قائلا الجملة عنوان الفيلم : الوداع أيها الأطفال، يصطحبه الجنود الألمان ومعه الثلاثة أطفال اليهود، من بينهم كيبلشتاين، بينما يقف بطلنا متجمدا في البرد، جوليان، يودع القس جان، ويلوح بيده لصديقه كيبلشتاين، بعينين دامعتين.

هذا الفيلم يقع في دائرة اهتمامي لأنه قصة بلوغ (coming of age) في أوقات عصيبة، والمشهد الأخير يشرح عنوانه،  حين يودع جوليان كينتان طفولته، ممثلة في القس جان صاحب المباديء الصارمة "في الاحسان المسيحي"، جوليان يودع عالما مثاليا، حين كان يمكن أن تؤم مدرسة ما طفلاً مضطهدا، فقط لأن أخلاقيات الاحسان توجب ذاك، (وربما، يودع كذلك جوليان أحلام طفولته، فقد أعرب في وقت سابق من الفيلم عن رغبته في أن يصبح كاهناً). إن جوليان في مشهد النهاية إنما يلوح بيده مودعاً البراءة، والتسامح تجاه الآخر. (ممثلاً في صديقه كيبلشتاين). في حين ينضج هو، بينما يقف بين جماعة الأطفال الذين تبقوا لأنهم ينتمون للعائلات الأكثر ثراء، ونضجُ جوليان، أو مغادرته عالم الطفولة يتمثل في انتقاله، ولو قسراً، إلى العالم المادي حيث لا اعتبارات، ولا معنى، إلا للمال.

Sunday, October 31, 2010

التحوّلات/٢

رائحة النسيم الخريفي جالبة للكآبة، بما أن شهر أكتوبر أكثر وقت في السنة يتضح به التغير الفصلي، خاصة في آخره، لا يخلو هذا الجو من طعم مظلم أو مقبض، تُقدم الميثولوجيا الكلتية تفسيراً : يصبح الحدّ الفاصل بين هذا العالم، والعالم الآخر، رفيع جداً لدرجة تسمح بمرور أرواح الموتى، الطيبة منها أو الشريرة.

احتفال السامهاين، الكلتي، هو الأصل تقريباً لما يسمّى حالياً، الهالوين (٣١ أكتوبر)، وعادة ارتداء الأقنعة المخيفة إنما هي للظهور بمظهر مخيف- مثل روح شريرة أو مؤذية-، وبالتالي، هذا سوف يضلل هذه الأرواح.

ارتداء الأقنعة المخيفة في أوروبا عموماً، يُمارس للغرض ذاته، الإرث الشاماني كان قوياً في خرافات شعوب الشمال، حيث كان الإيمان بأرواح الطبيعة، لهذا تختلط أغراض استخدام الأقنعة، عادة، بين الحماية من الأرواح غير المرغوب بها، وبين الاحتفاء بالحصاد، يظهر هذا التضارب في استعمالات القناع الاغريقي كأداة طقوسية، مرتبطة بمهرجان الخمر/حصاد العنب، ومن ثم اكتسابها ثقلاً ميثولوجياً حين صارت تمثل ديونيزوس.

في القرون الوسطى تختفي الممارسات الوثنية لكن يظل احساس الكآبة الخريفية، خاصة في بلاد الشمال، الباردة والمحرومة من طبيعة زاهية، في غالب الشتاء، تلعب الأقنعة زاهية الألوان (أحمر-برتقالي) الدور الرئيسي، في حين تكتسب أهميتها كلعبة فنية سخيفة، مثلما يحدث في "مهرجان الحمقى"، في عدة بلدان أوروبية، أيضاً، في الشتاء (آواخر ديسمبر).

التغيرات المناخية، من الفصول الصيفية المنيرة إلى ظلام الشتاء، تم ربطه ميثولوجياً بتواجد الأرواح الشريرة، ونحن نرى أن القناع، كشكل من الفن البصري، بألوانه البرتقالية الزاهية، حين يكون صارماً في الممارسة المسرحية الاغريقية، فارضاً على الممثل المشاعر المفترض به تأديتها، دون أن يحيد، كان قناع كرنفالات الشمال مجرد محاولة بشرية للوقوف بـ"ثبات" أمام تحولات الطبيعة، وأمام الاحساس العام بالكآبة، الذي هو أصلاً نزعة بشرية، تحذيرية، من الفناء.

Wednesday, October 20, 2010

التحوّلات

العبقري، كمفهوم وكلمة واصطلاح، سواء في الذهن الغربي أو الشرقي، هو من يضيف إلي الطبيعة، يشاركها انتاجها، يتحداها. وليس من يفكّ أسرارها أو يتفّهمها. لذا: علماء الفيزيقا ليسوا عباقرة، وفي حين لا يمكننا أن نقول على (ايزاك نيوتن) أنه عبقري، لو التزمنا بأصول المفهوم، فإننا سوف نطلق على غوته مسمى عبقرياً، (طبعاً، مثله مثل دافنشي، دانتي، بيتهوفن، وغيره من الفنانين).


ولو تأملنا في الكلمة العربية، التي تشترك تقريباً مع الكلمة اللاتينية في الأصول، تنحدر من وادي (عبقر). والشعراء في شبه الجزيرة كانوا عباقرة، بسبب الطبيعة الغامضة، المظلمة، والمخيفة للابداع الفني.  ولو الأمر في الذهنية البشرية يتعلق بـ(عفاريت) الابداع فحسب، لما ارتبطت الكلمة بمكان طبيعي، أي وادي عبقر. فالعبقرية الفنية لا تتعلق بالميتافيزيقا فقط، والماورائيات الظلامية، بل المسألة هي غموض الطبيعة، وطاقة الابداع (بحسب الفكرة القروسطية، حيث الفنان هو تلميذ الطبيعة، الجاثي على ركبتيه أمام عظمتها)- هي دائماً طاقة نابعة من مناطق غامضة، مظلمة ومجهولة في الكون : وادي عبقر المقفر بصحراء شبه الجزيرة. والفنان حين يستمد من ظلام الطبيعة واستتارها الهامه، وطاقاته، يستطيع فقط في هذه الحالة منافستها والاضافة إليها. أي يصبح عبقرياً.

النظريات الجمالية تجد في الابداع الفني شيء معاكس لاتجاه العقل، فبينما يأتي الابداع الفني من الروح (كما يقترح جاسون باشلار)، يميل الفلاسفة للعب دور المنظّمين، وميل النظريات الفلسفية للشمولية: حيث يجب أن تقدم النظرية الفلسفية -بحسب الاعتبارات المدرسية والأكاديمية- تفسيراً لقضايا محددة: الكون، الإنسان، الإيمان، المجتمع، الخ. هي هكذا تميل لتصبح عدائية للاختلاف والثورية والابداع، العقل الغربي حين تأسس مذ أفلاطون، وحتى هيغل: كان تحليليا تنميطيا، نسقيا (نظاميا)، يستقي خط سيره من البرهان، والافتراضات، ووضع تسميات/تصورّات تعسفية للتفسير. أفلاطون أدرك شمولية آيديوليجيته، وخاف عليها من التصدّع، فطرد الشعراء من مدينته الفاضلة، وحين نصل لهيغل نجد عنده ذات القلق، حين يربط -في نظريته- بين الفرد والدولة برباط شبه مقدس.
ولعل أقرب ممارسة عملية لهذا النوع من الشمولية العدائية هي التحليل النفسي والمدرسة الفرويدية، والسيكولوجيا تحاول سبر أغوار العبقرية، (كما يفرد فرويد كتاباً مستقلاً لاكتشاف (العقد النفسية) التي دفعت دافنشي ليصير دافنشي). وتعاملها كنوع من الانحراف البشري، أو "الظاهرة".
والعقل الاغريقي (الفلسفة- الحكمة - المنطق) ارتبط بالمدينة الاغريقية، وكان رأيي دائماً أن نشأة الفلسفة كانتاج اغريقي له علاقة بشكل المدينة (بوليس) الاغريقية، وفرادتها بالنسبة لبقية الحضارات، إنها شكل اجتماعي صارم، والحكم برلماني أوليغاركي، في حين كان عدم انفراد شخص واحد بالسلطة ميزة نادرة، إلا أن الأمر وقف عائقاً أمام الاختلاف الفردي الحاد: فلا يوجد ملك (مثقف) يرعى الفنون والفلاسفة-كما، في حالة الاسكندر، والحادثة الطريفة حين أحرق كل مدينة طيبة عدا بيت الشاعر بيندار)، كما أن المدينة تميل دائماً للموائمة بين التقاليد والتحفظات الاجتماعية لجميع أفرادها (كما في حالة اعدام سقراط). أو حتى منع السلطات الرومانية للجماعات الدينية التابعة لديونيزوس من ممارسة طقوسها.


يقدم نيتشه نظرية ظريفة في المقارنة بين الابداع العقلاني الصارم، والعدائي، وبين الابداع الفني (الحقيقي - غير المريض)، يضع الفنون المتحفظة في كفة أبوللو (الشعر ، النحت)، ويضع الموسيقى، الرقص، والغناء والفن الايمائي والتمثيل والتراجيدي المسرحي في كفة ديونيزوس.
أطروحة نيتشه عميقة ومطوّلة، لكننا نختزلها اختزالاً مخلاً: فأنا، مثل نيتشه، أرى بالفعل اختلافاً بين الشعر والنحت والرسم، وبين الموسيقى، ان ارتباط الشعر باللوغوس (الكلمة، العقل)، وارتباط الرسم والنحت بحاسة العين (وهي، بحسب دافنشي، أرقى الحواس، وحين تنظر العين للشيء فهي تتحصل علي نوع من المعرفة الحقة، أي معرفة الثابت، والأبدي، وفي هذا تضاد مع طبيعة الموسيقى (المتحولة). التي تثور على هذه الفكرة القديمة الصارمة بشأن المعرفة. ). بينما ترتبط الموسيقى بحاسة السمع (حاسة دنيا بحسب دافنشي). للموسيقى طبيعة دنيوية (دنيا؟)، وهي الأقرب لقوى الطبيعة الغامضة من سائر ربات الفن، وللموسيقى تأثير خطر دائماً: ومجهول، وظلامي، وهي قادرة على استثارة مشاعر السامع، بل دفعه للحركة والايماء والرقص، ودفعه أحياناً للعنف (طبول الحرب). بل ترتبط هذه بممارسات تصوفية، وأورفيوس الشاعر الغنائي، بآداته (الناي)، يسخّر له قوى الطبيعة: فهو يعزف ألحان شديدة العذوبة، تسكن لها الحيوانات والشجر والطير، بل أن شارون ذاته رسول الجحيم يتأثر بألحانه، وسائر مخلوقات العالم السفلى.


والموسيقى عنصر أساسي في التراجيديا الاغريقية، أي: المسرح الاغريقي، وحين نذكر المسرح فنحن نعود من جديد إلى دينويزوس، ويقال: دينوزيوس إله القناع.

أكثر ما يثيرني في المسرح الاغريقي هو أقنعته، وقد تساءل المؤرخون عن سبب التزام الاغريق بالقناع، لماذا يرتدي الممثل قناعاً في حين بامكانه التمثيل من دونه؟ إن أكثر الافتراضات التي تروقني، أن القناع يقوم بعملية (تحويل)، في القناع يتحوّل الممثل من مجرد مواطن اغريقي، أو حتى انسان ينتمي لمجتمع عدائي ومتحيز، إلى ممثل: وهنا بامكانه أن يؤدي كافة الانفعالات الصاخبة بحرية تامة، فالقناع، بحسب الممارسة التصوفية، يستشرف حلول ديونيزوس في الممثل.

القناع المسرحي اذن هو انفصال للإنسان عن المجتمع، وانسحابه تدريجياً إلى قوى الطبيعة الغامضة، أي قوى دينويزوس، أو من على شاكلته (بان، الساتير).

 في رواية (شبح الأوبرا)، إريك عبقري موسيقي، لكن مشوه، نشأ مذ صغره في قبو لدار الأوبرا، مختبئاً عن الجميع، ووجوده مجهول، ويتخذ شكل الاشاعات أو القصص المخيفة، تثير فتاة اهتمامه (كريتسين)، ويتعهد بتدريبها لتصبح مغنية أوبرا شهيرة، إيريك هو (وحش)، الى جانب تشوهه فهو (معاد للبشر)، وكاره للمجتمع، وللشكل المدجن لحفلات الأوبرا، وللمستوى الضحل للمغنيات، فهو يحول كريستين إلى معجزة فنية، عبقرية موسيقية، في فيلم 2004، مشهد ظهور كريستين على المسرح وأدائها للأغنية، وحولها هالة نورانية من قداسة (الفن العصيّ على الادراك البشري العادي). لكن إيريك مثله مثل قوى الطبيعة يملك جانباً ظلامياً، يزداد هوسه بكريستين (التي يقوم بتدريبها على الغناء، دون أن يدرك أحد أن له وجود، فهو في نظر الجميع مجرد وهم أو حتى شبح). في الرواية يبدو إيريك أكثر اصرارا من الفيلم، ويعرب بصراحة عن عدائه لأي انسان يهدد (المستقبل المهني لكريستين كأعظم مغنية أوبرا علي الاطلاق). إيريك مزج بين الساتير وديونيزوس، وعلاقته بديونيزوس تتعدى الموسيقى والقناع، فهو (شبح)، وهذه الحالة الشاحبة من الحياة والموت تذكرنا بحكاية دينويزوس الميثولوجية، حين عاد من الموت إلي الحياة، كما أن فن الأوبرا، كما يراه كل من نيتشه وفاغنر، هو أفضل "استعادة" لفن التراجيديا الاغريقية. و إيريك ساتير حين يسحب كريستين إلى عالمه السفلي (القبو)، ويزداد جنونه بها، حين تقع في حب راؤول، الفيكونت، إن كون راؤول فيكونت يجعله ممثلاً لكل الضحالة الاجتماعية، بمنصبه العسكري، وشكله الجميل المقبول اجتماعياً، وربما ابتعاده تماماً عن عالم الموسيقى، قد يظهر هنا راؤول كـ(أبوللو).



إيريك وقناعه يقع ضمن مجموعة الشخصيات البارونية التي تثير انجذاباً (uncanny) لدى الجمهور الطليعي، وجاذبيته ظلامية، لكنه يعدّ تمثيلاً نموذجياً لمسألة القناع والانفصال عن المجتمع، الانفصال عن المجتمع يبلغ ذروته عند إيريك، فهو تهديد لدار الأوبرا، وتهديد لمدرائها وزائريها، وهو كذلك يشكل تحديا للشرطة، فهو يملك قوته الظلامية، وأسلحته، التي يواجه بها النظام الاجتماعي، ومحاولات الشرطة لفرض نظامها المدني الخاص. ثم يحوّل كريستين إلى (مايناد) خاصة به، التعبير البشري عن عبقريته الموسيقية المستترة. كشكل من أشكال قوى الطبيعة.


إيريك شبح الأوبرا يشكل (حلقة وصل)، من الممارسات المسرحية التراجيدية في عصر الاغريق، إلى شكل البطل الخارق المعاصر الشائع في الكتب المصورة، وإن كونه بطلاً خارقاً، ومقنعاً، ومعاد للمجتمعات، وتهديد للنظام الخاص بالشرطة، به ربط ظريف لأفكار نيتشه عن السوبر مان، والفن الديونيزي، والثورة علي المجتمعات،

كافة الأبطال الخارقين في القصص المصورة، تقريباً، ومن تحول منهم إلى منتج سينمائي، يملكون مزجاً من الساتير والطوطمية والديونيزوسية، الرجل الوطواط (باتمان)، الذي اتجه إلى حالته المقنعة، بسبب حادثة مأساوية في طفولته، قُتل والديه، بينما اختبأ هو لفترة في كهف تحوطه الخفافيش. أو المرأة القطة (التي سقطت من علّ، أو غرقت في البحر، بحسب المعالجات العديدة للقصة)، ثم تجمعت حولها القطط، ويبدو أن عضة قطة حوّلتها.
الأمر ذاته مع الرجل العنكبوت، الذي "تحوّل" بسبب عضة عنكبوت سام.
المشترك بين كل هؤلاء هو القناع، والطوطمية، حين تُعطى للطبيعة قوى خارقة، غامضة وظلامية، ممثلة في قوى الحيوانات، الخفافيش سادة الليل والظلام، أو القطط، بأرواحها التسعة، أو العنكبوت وسُمّه.

كل هؤلاء الأبطال يشكلون تهديداً لنظام المدينة، ويستجلبون ارتياب السلطات، لكن الجماهير تشعر تجاههم بنوع من الانجذاب الـ(uncanny). وجميعهم مثل إيريك الشبح، يملكون تشوههم الخاص، وإن كان نفسياً، فهو انفصالهم النهائي عن المجتمع البشري، واستحالة اندماجهم به بأي شكل، رغم قوتهم النفسية والجسدية، ولهذا أبعاده التراجيدية. يأتي هنا افتراض نيتشه إلى ذهننا، حين يقترح أن التفوق الفني الأقصى، ليس في انسان منتج أو مبدع لأعمال فنية، بل في أن "يتحوّل" الإنسان ذاته إلى عمل فني، وكان يقصد حالة الممثل التراجيدي المقنّع، الذي يُخرج كل انفعالاته وعاطفته بقوة. ونرى أن الأبطال الخارقين لعصر الكوميكس إنما هم، ببساطة، محاولة عصرية لانتاج ما يسمى بالـ"الإنسان التحفة الفنية"، أو هو مجرّد درب آخر، غير مطروق، شكل غريب للعبقرية.

Thursday, September 23, 2010

عاطفة آخر الوحوش

مصطلح (avant-garde)، الذي يمكن ترجمته كـ(طليعي)، يصف عادة الأعمال الفنية، الأدبية، التجريبية، التي تتحدى مقاييس الجمال السائدة في العصر المعني، فهي (سابقة لأوانها)،  تصدم الغالبية من الذوق الشعبي، لكنها سوف تعجب قلّة من ذوي الذوق الطليعي.

الأمر يمكن ملاحظته لو دققنا النظر في الحداثة الفنية الفرنسية (القرن التاسع عشر)، وأعمال مثل (زهور الشر) لبودلير، أو أغاني مولدورر لـ(لوتريامون)، وبعض الروايات القوطية ، ورغم أن الأعمال الفنية القوطية، للقرن التاسع عشر، تحوي مفاهيم وتفضيلات رومانتيكية لا تعجبنا حالياً، مثل نموذج (Damsel in distress)، الذي قد يصف عدد من الشخصيات، مثل (ازميرالدا) في أحدب نوتردام، أو (كريستين) في شبح الأوبرا، إلا أن وجود هذا النموذج السخيف، يجب أن يقابله نموذج (التنين)، وقصة (الجميلة في الأزمة) هي قصة قوطية، من حيث مرجعيتها إلى عدد من الحكايات الخرافية التي سادت عصور الظلام/أو القرون الوسطى الأوروبية، من حين لآخر قد تنتمي هذه إلى قصص الفروسية وقد لا تفعل بالضرورة، أقرب مثال للأمر، حكاية (آندروميدا)، وهي تقريباً ما يُقتبس منها التسمية التصنيفية (damsel in distress).

أفسحت الروايات القوطية مجالاً أوسع للشر، الممثل في التنين، بما قد يحمله تنين آندروميدا من مقاربات مع التنين الإنجيلي (اللويثيان) الذي كذلك قد يمثل الشيطان أو الآنتي-كرايست، تقدم الروايات القوطية شحنة نفسية ودرامية، مغلفة باثارة غريبة وبربرية، حين تحدث المواجهة بين البراءة النائمة، البراءة الغافلة والتنين المتربص (وهو ،بالطبع، ليس تنيناً بالضبط، إنما إنسان).
الافتنان (الطليعي) بالشر، أمرٌ لاحظته في المنتجات الفنية القوطية للقرن التاسع عشر، في حين يُدخل لورد بايرون نموذج (الشخصية البايرونية)، الذي، يمكننا أن نصفه بأنه : البطل غير الخيّر تماماً، الذي قد يكون أنانياً، وقد يكون سيء النوايا، إلا أنه جذاب. وسوف نجد الشخصية البايرونية في أعمال روائية قوطية لهذه الفترة، مثل شخصية هيثكليف من مرتفعات ويذرينغ، و دوريان غراي من صورة دوريان غراي.

الاهتمام بالشر أو الافتنان الزائد به يكاد يتحول إلى أمر (طليعي)، أو مميز لكل حركة الـ(avant-garde)، والشر الذي يظهر في هذه الأعمال، يكون مدفوعاً بهواجس (مانوية) للمؤلف، ويكتسب قوة، وحضوراً، وأهمية، تساوي بالضبط قوة الخير وأهميته، إنه عالم مانوي تماماً، فالشر في رواية (الحالة الغريبة للد.جيكل ومستر هايد)، يلازم الخير، ومستر هايد يظهر كشخصية مكملة لجيكل، بل أنها كانت موجودة في روحه مذ الأبد، وقد أظهرتها (الوصفة) الكيميائية.

وعلى ذكر الكيمياء، بدا الشر الروائي الذي يظهر في هذه الأعمال مرتبطاً بشكل أو بآخر بالعلم المستقبلي، في رواية قد نعتبرها ( خيال علمي-قوطي)، كـ(د.فرانكشتاين)، الوحش يُستحضر نتيجة تجربة معملية، وقد يُقال الأمر ذاته في حالة رواية (جزيرة الدكتور مورو)، وبها، يقوم الدكتور مورو بعمليات تهجين ينتج عنها مخلوقات تجمع بين الصفات البشرية والحيوانية، وبالطبع، على جزيرته المعزولة حيث تُجرى هذه التجارب (الشيطانية)، يتحول كل شيء إلى فوضى.


علي المجال الرومانتيكي، يسقط نموذج الأمير الوسيم (prince charming)، في حين تحل محله نماذج تظهر في روايات الأخوات برونتي تحديداً، منها بالطبع، هيثكليف، الغجري الهمجي، عكر المزاج ذو العواطف الموحشة والمتأججة. أو هذه الشخصية في الرواية العجيبة (Ayesha)، للمؤلف رايدر هاغّارد، وفيه، الشخصية النسائية الرئيسية قد تكون (عفريتة) من مصر القديمة، أو مقابل لإيزيس. وهو كذلك عصر الافتنان بالشرق وغموضه وما يحمله من تيه، و شر، وبربرية حسّية.

الارتياع من الشرق، والارتياع من العلم، مشاعر كانت غالبة في نهايات القرن التاسع عشر، واستشراف القرن العشرين، إنها مشاعر تكاد تذكرنا بمشاعر الرعب (الألفي)، التي سادت في أوروبا كذلك بعد انقضاء الألف الأولى للتقويم المسيحي، وتعلقت بترقب ظهور الآنتي-كرايست، تقدم الأعمال الأدبية القوطية، لفترة  القرن التاسع عشر قراءة جديدة للشر، لكنها قراءة (إسكاتولوجية) له، والشر يكاد يرتبط باستشراف المستقبل، سواء بما يحمله من فتوحات في الشرق (بالنسبة للغرب الأوروبي)، أو التقدم العلمي، أو باقتراب زمان (الوحش/الآنتي-كرايست). وربما، هذه المشاعر الفنية مهّدت بالتدريج لعملية تفضيل، لشخصية (نقيض البطل)، بمقاييسنا الحديثة، فهو البطل المتسامح تماماً مع جانبه المظلم، والذي، قبل أن يراه في غيره، قد رأي الظلام، الشر، والروع، في نفسه. وفي هذا تطور للدراما السيكولوجية، فتعامل/معالجة نقيض البطل لظلاميته الشخصية يتزامن غالباً- في العمل الفني- مع معالجته للشر الخارجي.

Saturday, September 18, 2010

千と千尋の神隠し (2001)


أو Spirited away، ويمكن ترجمتها إلى: المخطوفة، ولو أردنا عنواناً أقل درامية، فليكن: رحلة تشيهيرو، فيلم ياباني شهير من انتاج ٢٠٠١، حقق نجاحاً جماهيرياً واسعاً، سواء علي المستوى الشعبي أو النقدي، فاز بأوسكار أفضل فيلم رسوم متحركة لعام انتاجه. وهو من اخراج الياباني هاياو ميازاكي.

 الحكاية
الفيلم يدور حول تشيهيرو، الطفلة التي يصحبها والديها إلى مكان يحوطه دغل، مساحة خضراء مهجورة تجاور مبنى قديم، رغم تخوف تشيهيرو المبدئي من المضي قدماً إلى هذا المكان، تصحب والديها، ويتوقف هؤلاء عند مطعم مهجور، وهناك يتناولا طعاما معدّا للتو (رغم عدم وجود أي طباخين أو قائمين على المحل)، تشيهيرو ترفض تناول الطعام، وتذهب لتتجول بعيداً، وتصعد جسراً مطلاً  على نهر ظهر لتوه وبحلول الليل، حيث تلتقي بفتى يكاد يماثلها عمراً، وهذا يحثها على المغادرة بسرعة قبل حلول الليل، تعود تشيهيرو إلى موضع المطعم، لتجد خنزيرين يأكلان، مكان والديها، وقد امتلأ المكان، والمطاعم التي تجاوره، بأطياف داكنة تتجول.

تركض تشيهيرو إلى حافة النهر، وقد وجدت أن جسدها أصبح (نفاذاً أو طيفياً)، وهناك تجد قارباً يقل عدد من المخلوقات الغريبة، تتطور الأحداث، وتكتشف تشيهيرو أن هذا المكان هو حمام عمومي مخصوص للأشباح، وكي تستعيد والديها مجدداً، عليها أولاً أن تعمل في هذا المكان، كي تتاح لها الحركة بحرية.

وبمساعدة الفتى، الذي التقته في البداية، واسمه (هاكو)، يطعمها أولاً بعض الكرز الذي يعيد إليها مادية جسدها، ثم تذهب تشيهيرو إلى (يوبابا)، الساحرة التي تدير المكان، وتوقع معها عقداً كي تعمل فيه. يقتضي العقد أن تسلب يابابا اسم تشيهيرو، فيصير ملكها، وهكذا تخدمها تشيهيرو للأبد، وتمنحها بدلاً منه اسماً آخر هو : سين.

وتكتشف بطلتنا أن الأمر ذاته قد حدث مع (هاكو)، فهو لا يذكر اسمه، ولو فعل، لتحرر من قبضة الساحرة يابابا، لكنه لسبب ما يتذكر اسم تشيهيرو كأنه يعرفها مذ الأبد، وينصحها أن تظل متمسكة بذكرى اسمها، ألا تنساه أبداً وإلا لن تخرج من هذا (المكان)، إلى عالم الأحياء/البشر مجدداً.

تشيهيرو الطفلة المدللة تجد صعوبة في مزاولة الأعمال التي يزاولها أصلاً عدد كبير جداً من (الأشباح/مخلوقات أخروية غير آدمية)، وفي البداية تجد رفضاً، وتقليلاً من قدراتها، كما أن هنالك (كيان) شبحي غريب، يقف وحيداً ويبدو أنه يتبعها إلى كل مكان، في أول ليلة لها للعمل في الحمام، تسمح له بالدخول.


يزور الحمام في هذه الليلة ما يبدو أنه، كما يسمونه في الفيلم، (روح نتنة الرائحة)، يتخذ شكلاً كريهاً ويرفض كل العاملين في الحمام مساعدته، إلا أن الساحرة يوبابا تسمح له بالدخول، فهو، في كل الأحوال، زبون آخر يجب معاملته باحترام ولطف. لكنها تكلف تشيهيرو (الآدمية وسط الأشباح)، بالقيام على خدمته، وهو ما تفعله على أكمل وجه بعد أن حصلت على (بطاقات) خاصة، كثيرة العدد، تستطيع بها جلب مياه (معطرة)، وهذه البطاقات كان قد منحها إياها (الكيان) الشبحي الغامض، بعد أن سمحت له بدخول الحمام.

تتطور الأحداث لنكتشف أن هذا الشبح ليس كما يبدو، إنما هو (كامي/روح طبيعية قوية)، روح النهر، وهو شبح قوي وثري وترك وراءه ذهباً لعمال الحمام، واختص تشيهيرو لصبرها واتقانها عملها بعشبة/نبتة كروية معالجة.

تظن تشيهيرو أن هذه النبتة سوف تمكنها من استعادة والديها، أو تحويلهما مجدداً إلى بشر بعد أن صارا خنزيرين، وبينما تكتشف أن (هاكو)، هو تنين متحول، وأنه مُطارد من مجموعة من الطيور التي آذته، تدعه تشيهيرو ليدخل إلى المبنى، ويحتمي من هذه المخلوقات، وتكتشف أن الطيور مجرد وريقات، إنما هي تحت تأثير الساحرة (زنيبا)، الأخت التوأم للساحرة يوبابا، والتي على علاقة سيئة معها. وقد سرق (هاكو) منها أداة سحرية قوية، وجزاء له، فإن السحر الحامي لهذه الأداة سوف يتسبب في قتله.

تبدي تشيهيرو اهتماماً عظيماً بـ(هاكو)، الذي ينزف الآن حتى الموت، وتقرر أن تذهب إلى بيت الساحرة (زنيبا)، لتعيد إليها أداتها السحرية وتعتذر عن هاكو، علّه يُشفى، والجدير بالذكر أن تشيهيرو تضحي بنصف العشبة المعالجة التي حصلت عليها، وتطعمها لـ(هاكو) كي يتعافى جزئياً، وإثر هذا فإنه يلفظ الأداة السحرية التي كان قد ابتلعها وهو في وضعية (التنين)، ومعها (دودة) سوداء، تظن تشيهيرو أن هذه هي التعويذة الحامية للأداة، وتدهسها.

في هذه الأثناء الحمام يعاني من تطورات خطيرة، فقد تحول الشبح عديم الوجه إلى وحش، وبدأ - بعدما تطبّع بجشع العاملين في الحمام- يسألهم الطعام الكثير، ويعرض على تشيهيرو بعض الذهب كي يكسب ودّها، لكنها ترفض وتتركه لتنقذ (هاكو). يُثار الوحش غاضباً ويأكل اثنين من خدم الحمام، ثم تستدعى هيشيرو مجدداً كي تخلصهم من هذه الورطة، (الوحش)، تتصرف تشيهيرو بذكاء، وتضحي بآخر ما تبقى من العشبة العلاجية بوضعها عنوة في فم الوحش، وهذا يلفظ كل ما ابتلعه، بما في هذا الأرواح التي التهمها.

يتبعها خارجاً من الحمام، وهنا، كما توقعت تشيهيرو، يعود إلى طبيعته الهادئة المسالمة من جديد، ويصحبها في رحلتها إلى الساحرة (زنيبا)، وهناك تكتشف تشيهيرو أنها شخصية معاكسة كلياً لأختها الجشعة، فهي تسكن منزل ريفي بسيط، وتعاملها بلطف (كجدّة)، وتخبرها أن، في الواقع، هذه الدودة التي خرجت من أحشاء (هاكو) إنما كانت السحر الذي سلطته عليه يابابا لتتحكم به، وأن هذا السحر تلاشى تحت تأثير قوة حب تشيهيرو لـ(هاكو).
 الفيلم ينتهي نهاية سعيدة لتشيهيرو، بعودتها مجدداً إلى والديها، بعد أن نجحت كذلك في آخر (اختبار) تضعها فيه الساحرة الشريرة (يابابا). وكذلك بعد أن تحرر (هاكو) للأبد من قبضتها، لأنها تذكرت اسمه الحقيقي، فـ(هاكو) هو (كامي/روح النهر)، وقد وقعت حادثة لتشيهيرو في طفولتها، اذ كادت تغرق في هذا النهر لكنها ارتفعت مجدداً إلى السطح لسبب مجهول. تقول لـ(هاكو)، ببراءة، معللة : أنت أنقذتني وقتئذ، كنت أعلم أنك شخص صالح.


الميتافور
في الفيلم معالجة رائعة للإرث الشنتوي الياباني، من التحليلات التي ذكرت أن الفيلم، ببطلته طفلة العشر سنوات تشيهيرو، تجسيد لمرحلة البلوغ، حيث تنتقل الطفلة من عالم الطفولة إلى عالم الراشدين، حين تفقد اسمها/هويتها الطفولية، عن طريق (عقد) توقعه مع (ربّة) عملها، الساحرة يوبابا، وربما لهذا اشارة إلى انخراط البالغ في (المجتمع) المنتج، ليعمل سعياً وراء الرزق، تاركاً وراءه أي أحلام أو لطف طفولي. وهنالك تحليل آخر، أن تشيهيرو هي ميتافور لليابان الحديثة، أو لنقل، ربما تشيهيرو هي ميتافور للجيل واي الياباني، المنفصل تماماً عن ماضيه/تراثه الياباني التقليدي والخائف منه، نذكر خوف تشيهيرو المبدئي وعزوفها عن المضي قدماً لاكتشاف الدارة القديمة. والواقع، رؤيتي قد تقترح أن المخرج يأمل في جيل ياباني ذو مستقبل أفضل، عن طريق تفهمه ومعاودته التواصل مع تراثه القديم، فنحن نلاحظ في الفيلم عدة اشارات ذات معنى، الأبوان لا يمانعان في تناول طعام دون اذن، فقط لأن الأب معه (بطاقات ائتمان) وسوف يدفع المستحقات فيما بعد، ونحن ندري أن (الأخلاق العائلية)، والتهذيب تجاه الغرباء، مباديء وأصول معنوية مهمة في اليابان، هنالك اشارة أخرى، إلى أن الجيل الجديد، أو الجيل واي، يفتقد كذلك للتهذيب، تشهيرو أكثر من مرة في الفيلم تغفل عن شكر من يقدم لها مساعدة، تبدو كمن غير معتاد أبداً على هذا، ونحن نشعر أن مسألة شكر الآخرين واظهار الاحترام لهم، مهمة جداً في هذا (العالم/الجانب الآخر) الذي تنتقل إليه تشيهيرو. وهنالك الخدم مهذبون تماماً مع الزبائن، والساحرة المديرة للمكان تستقبل (الروح المنتنة) رغم أذاها، فقط لأنه زبون آخر ويجب معاملته باحترام.

لكننا نلاحظ شيء غريب، هذا العالم الروحاني، أو الجانب الآخر المظلم، والذي ربما يمثل كل التراث الشنتوي، إرث الأجداد لدى اليابان، هو في الحقيقة عبارة عن مؤسسة رأسمالية، تدار بواسطة محتكر جشع وقاس وشرير ممثل في ساحرة عديمة الشفقة أو الرحمة، تستغل طفلة صغيرة في العاشرة فقط لأنها تجد الأمر مسلياً. والأرواح/المخلوقات التي تعمل لديها تفتقر إلى التراحم أو الطيبة فيما بينها، بل أنهم يحقدون على بعضهم بعضاً، ومتعطشون للذهب، وربما في هذا اشارة إلى عدائية تراث اليابان تجاه نفسه، في الثقافة اليابانية، الحمام هو مكان للتطهّر الطقوسي، لكننا نجد الأشباح تأتي إليه لتأكل بنهم، وتستحم وتحصل على ما تريد من رفاهية وخدمة، كأن القيم الرأسمالية النفعية بدأت تتسلل إلى التراث الياباني. والشبح/الوحش (عديم-الوجه) يتحول إلى كيان شرير وجشع، قادر علي تقديم الذهب، يأكل غيره من الأشباح، حين يدخل الحمام فقط، (وهذا ما تدركه الطفلة تشيهيرو وتصلحه)، في حين أنه يعود إلى طبيعته الهادئة المستكينة حين يخرج منه، وحين ينتقل إلى المكان الآخر عند الأخت التوأم لـ(يوبابا)، والتي تعيش في منزل هاديء، بينما يقتصر نشاطها الانتاجي على الحياكة (صورة تقليدية قديمة لجدّة طيبة)، واستقبال الضيوف ومعاملتهم بلطف وتقديم الشاي لهم. خلاف النشاط الرأسمالي الجشع الذي تمارسه أختها الأخرى.

ربما يشير الشبح (عديم-الوجه) إلى الخطر الأخلاقي المحدق بمجتمع على مشارف هاويته الثقافية، في حين يبدو في الفيلم - بلا تنظيرات تحليلية- في البداية كشبح هاديء لا يستطيع أن ينسى مساعدة تشيهيرو ولطفها معه، فيصبح مهووساً بها، يداوم على تقديم الهدايا لها، وحين يدخل إلى الحمام، ذلك المكان المتفسخ والُمكدّس بكل صنوف المباهج المادية، البعيد كل البعد عن أي طابع روحاني قد يميز التراث الياباني، يتحول إلى وحش، حتى في محاولته لكسب ودّ تشيهيرو، وهو لا يعود إلى طبيعته (المسالمة غير الخطرة) إلا حين تصطحبه تشيهيرو بنفسها على متن القطار إلى الجانب الآخر، وتدعه مع أخت يوبابا الطيبة، ليساعدها في الحياكة.

"لبارونة بلاد العجائب علاقاتها في اليابان"
من تعليق طريف في الـ(Imdb)

الفيلم بلا شك هو (fairy tale) بمقاييس ديزني-زمان، أيام بينوكيو، الجميلة والوحش، سندريلا وبيضاء الثلج، ويحمل  الكثير من المعاني الحالمة، مثل تلك الاشارة إلى انحلال التعويذة التي كانت تقيد (هاكو)، بسبب مشاعر تشيهيرو وعواطفها الطيبة نحوه، أو الاشارة حين يجتمع كل من، أخت يوبابا، الشبح عديم الوجه، وأصدقاء تشيهيرو الآخرين لحياكة ربطة شعر لتشيهيرو، والتي سوف تحميها لأن : أصدقائها صنعوها لها.

تشيهيرو في الفيلم تبدو كأنها (خير مطلق)، إنها منيعة على كل شيء، فهي التي تصد عن زملائها العاملين في الحمام بطش عديم الوجه، والجميع يتحول في النهاية إلى صديق لها، تشيهيرو، رغم أنها الآدمية، الطفلة، والغريبة تماما عن هذا العالم المشعوذ، هي الساحرة الحقيقية، حين تحوِّل الجميع ليصيروا في صفها، بطيبتها المطلقة، وحسن نيتها. وربما علينا أن نذكر أن معنى اسم تشيهيرو هو (ألف سؤال)، ربما لهذا اشارة إلى سن تشيهيرو (١٠ سنوات)، سن الأسئلة والرغبة في الفهم. أما (هاكو) فيعني أبيض أو نقي.

لاشك أن بالفيلم بعض مسحات (آليسية)، مما يجعل (تشيهيرو) تنضم إلى طاقم البراءة الخاص بي : آليس من بلاد العجائب، سكاوت فينتش من رواية أن تقتل طائراً محاكياً، آلكزندريا من فيلم السقطة.

Wednesday, September 15, 2010

Scientia potentia est

حين بدأت بالتدريج في قراءة سلسلة (ما وراء الطبيعة)، تدفعني نزعة، أو شهية (فوق طبيعية) للرعب. لم أرتح كثيراً لـ، د.رفعت اسماعيل، ساخر، عجوز، قبيح، مثقف، حاصل على الدكتوراة، رغم أنه يمثل الـ(Anti-Hero)، لكن كل هذا لم يجعل منه شخصية مفضلة لدي، سخريته مبالغ بها قد تصل للازدراء أحياناً، لديه حكم جاهز ومطلق ومتعسف على الشخصيات الأخرى، واثق من نفسه، وواثق كذلك من (وضاعة) الجنس البشري عموماً، باختصار، د.رفعت اسماعيل كان بحق ابن عصره، وتركيبته السيكولوجية كانت مزيجاً من التعالي النيتشوي والتشاؤم الشوبنهاوري، والنيهيلستية، ورغم أن (رفعت) ليس (سوبر.مان)، إلا أن هاجس السوبر.مان، (الأوبرمِنش) ساكن تماماً في نفسيته، المقارنات لا تتوقف بينه وبين (رجال خارقين) آخرين في السلسلة، أذكر منهم ذاك الذي أثار اعجاب ماغي ماكيلوب (في رواية لوخ نس ربما)؟)، وإن لم أكره رفعت اسماعيل، أبداً، عدم الارتياح تجاهه منبعه أنه من الشخصيات الروائية التي لن أرغب أبداً في الالتقاء بها، فهو، غالباً، سوف يزدريني.
ثم تجري عملية (تحويل) رفعت اسماعيل إلى سوبر.مان، عنوة، مع الوضع في الاعتبار كل ما لا يجعله كذلك : ضعفه الجسدي، صحته المعتلة، سنه المتقدمة، عصبيته، ملله، وفي الحقيقة، تميل السلسلة إلى جعل كل هاته الصفات، وكلها سلبي، الأسباب التي تجعله بالضبط (سوبر.مان)، في زمن ما بعد الحداثة، وفي السبعينيات، كل ما هو جميل، مثالي، منير أو أبيض : سَـقَـط، سواء فلسفياً، أخلاقياً أو فنياً. ونفسية القاريء/المتذوق صارت تميل إلى السلبي والمظلم لأنه، ربما، واقعي أو صريح أو غير خادع، وغير واعد، وغير (نصّاب)، رفعت اسماعيل عجوز، لهذا هو أحكم من كل الشباب جميلي الخلقة، وصحته معتلة مما يجعله ينسحب، (كناسك) عن كل نشاط انساني مرح، وفي هذا زيادة لحكمته، هو عصبي ولا يحتمل الهراء، عكس جميع البشر، وهو ملول ، وعليه، فهو (غير ممل) مثل جميع البشر، الخ.

نقطة أخرى هي القوة المعرفية*، في حين سادت مؤخراً موضة (الأبطال العارفين)، وفي هذا مثال (غيل غريسوم، من مسلسل سي.إس.آي، والذي يذكرني كذلك بويليام دا باسكرفيل من اسم الوردة)، والخط الرفيع الذي يربط بين ويليام وغيل هو شيرلوك هولمز، يعترف امبرتو ايكو أنه بنى شخصية وليام على شيرلوك هولمز، وغيل غريسوم في مسلسله البوليسي (لابد) له أن يكون خلفاً لشيرلوك هولمز بطريقة ما، وشيرلوك هولمز بوصفه الأساس لكل شخصية أتت من بعده تعمل في مجال (التحقيقات في ظواهر غامضة)، وكما يحقق رفعت اسماعيل في قضايا غامضة عموماً، سواء كان متورطاً بها أو مدعواً إليها، فنشاطه يتضمن التفكير، التحليل المنطقي، والتغلب على (الوحش/العفريت/الشيء) بالحذق أو الاستنتاج، إن رفعت اسماعيل واقع تحت عباءة شيرلوك هولمز، ولعل المؤلف رسم الخطوط الرئيسية لشخصيته واضعاً في ذهنه هولمز.
وهولمز كشخصية، ربما، أدخل به آرثر كونان دويل لأول مرة، أدبياً، بطل قصص التشويق المتفوق عقلياً والعدائي تجاه المجتمعات. والتي في الوقت ذاته، رغم حذقها تملك جانباً سلبياً، بالنسبة لهولمز، هو كذلك كان مدمناً على السجائر، وأحياناً المخدرات.
إن (عدوى) شيرلوك هولمز سوف تمتد لتشمل موضوعنا الرئيسي، شخصية (د.هاوس) من مسلسل هاوس، بدأ الأمر بملاحظة أو إحساس بلا أساس منطقي، بالشبه الغريب بين هاوس ورفعت اسماعيل، كلاهما دكتور، وكلاهما سلبي جداً، معتل الصحة، ملول، عصبي، مزدرٍ للآخر، محتقر للبشر، عدائي، رفعت اسماعيل مدمن على السجائر، د.هاوس مدمن على المسكنات، وكلاهما يقع في فئة (البطل العالم)، وكل بطولة المسلسل، كما هي كل بطولة رفعت في السلسلة، تتمحور حول قدرة (رفعت، أو هاوس) على (معرفة) السبب والوسيلة قبل الآخرين وبسرعة، إن عامل (الادراك، الملاحظة الحذقة والمعرفة بسرعة) مشترك تقريباً بين مسلسل هاوس الذي يدور حول عمليات انقاذ متتالية لمرضى ذوي حالات مستعصية، وسلسلة ما وراء الطبيعة التي تتمحور حول (النجاة) بسرعة، وبشكل متتالي، من البعبع.
والظريف، كما يُرسم رفعت اسماعيل عادة وفي فمه السيجارة، يُصور د.هاوس (غارقاً) في عُلب مسكانته.

الآنتي.هيرو لا يجب أن يكون سلبياً ، غيل غريسوم ليس سلبياً رغم أنه آنتي.هيرو، وديكستر مورغان، القاتل المتسلسل وبطل مسلسل (ديكستر) آنتي.هيرو، رغم أنه لا يملك ذات المقدار من السلبية والازدراء للبشر والعجرفة، وديكستر كشخصية (هي كذلك خليط من النيتشوية، الشوبنهاورية والنيهيلستية) أعمق درامياً وعاطفياً، وكذلك سيكولوجياً من شخصيات كـ. د.هاوس، أو حتى رفعت اسماعيل، وما يقدمه المسلسل (ديكستر) من مسحة (فرويدية، اشارة إلى الصدمة التي يتعرض لها ديكستر في طفولته وتجعل منه مسخاً)، بالإضافة إلى الميل المهووس والظلامي للقتل لدى ديكستر، والعواطف غير المفهومة التي تضطرم داخله، يشكل شخصية قد تثير اعجاب المتذوق أكثر من مجرد شخص يتمحور كل العمق الدرامي لشخصيته، لدى المشاهد، في انتظار المشهد التالي الذي سوف تظهر به مسحة حنان أو عاطفة أو ضعف حسّي، وساعتها يحس المشاهد بنوع من الراحة النفسية، والرضا الرومانتيكي، حين يتحول وحش صلف ، دائم العجرفة وتوجيه الاهانات للغير إلى وحش وديع أو رومانسي في لحظة عابرة قد تكون غير ملحوظة.
مما يجعلهما (رفعت، وهاوس) نوعا من العزاء العجيب لإنسان/قارىء/مشاهد، فقد ثقته في البشرية. 



* شكر خاص لهذه التدوينة، بلفتها الانتباه إلى كل  (المفاتيح) الرئيسة في شخصية رفعت اسماعيل

Sunday, September 12, 2010

ليه يا بنفسج/٢

لعل أكثر ما تشتهر به لوحة (مدرسة أثينة) هو الثنائي : أرسطو وأفلاطون، ووضعية كلا منهما، فبينما يشير أفلاطون إلى الأعلى، إلى السماء، الجنة، أو عالم المُثُل. يتوجه أرسطو باشارته إلى (الأمام)، فهو لا ينكس يده كثيراً لكنه كذلك يدعو إلى الالتفات إلى هذا العالم، والنظر إليه.

اشارة اليد (إلي الأعلى) كانت شائعة عموماً في لوحات عصر النهضة، ويستخدمها مثلاً ليوناردو دافنشي في لوحته (يوحنا المعمدان).

وقد يكون للأمر علاقة بورقة التاروت (الساحر)، وما لهذه الورقة من معان خيميائية، حين سادت موضة الخيمياء في عصر النهضة، وما يعده هذا العلم من العثور على حجر الفلاسفة، صناعة الذهب، المعرفة القصوى، الرقي العقلاني، الخ.

غويا، رسام القرن الثامن عشر/التاسع عشر، فنان من جيل مختلف تماماً وإن كان يحمل كل ثقافة أعلام الفن الذين سبقوه، يستخدم كذلك اشارة اليد في بعض لوحاته، لكن، اليد تشير للأسفل.

في لوحته (دوقة ألبا)، سواء الأولى، ترتدي فيها الدوقة ثياب سوداء، أو الثانية التي ترتدي بها حلتها البيضاء، تشير يدها للأسفل، واليد ليست كـ يد أرسطو، بل هي منكسة تماماً بحيث تشير إلى الأرض. الأسفل، التراب، الطبيعة، الحواس. الخ.

مذ رامبرانت وحتى غويا بدأ الاهتمام بالألوان، وللألوان في الأعمال الفنية قضية، في عصر النهضة كان الاهتمام ينصب على الرسم، الخطوط، أو كما يدعونه التصوير، فمثلاً، يقول دافنشي في كتابه (مبحث في التصوير) أن التصوير (الرسم) يتفوق على سائر الفنون الأخرى، ومنها النحت، النحات يستخدم مجهوده الجسدي، بينما يستخدم الرسام مجهوده الثقافي.
ثم، نُظر للتلوين خصوصاً، في عصر النهضة، نظرة دنيا، فالتلوين حرفة عمال المصابغ، بينما الرسم، والخطوط، هي حرفة الفنان المثقف.

وللألوان طابع حسّي، مقابل الطابع العقلاني للرسم، على حد تعبير أحد نقاد الفن: الألوان تغري العين.
في لوحات دافنشي مثلاً نجد اهتماماً متطرفاً بالمقاييس الجمالية، التي تكاد تقترب من الدقة الرياضية القصوى، فالوجوه، والملامح، والأجساد، يتم تصويرها بحرص وبلا أدنى (عاطفة)، أو حسّ. إنه تصوير رياضي صارم.

يخف تأثير النهضة بمجيء كارافاجيو ثم رامبرانت، حين تكتسب الألوان الاهتمام الأكبر، استخدام رامبرانت للألوان مبهر، في مقابل اهتمام أقل بخطوط الرسم، أو دقة الملامح الجسدية.

الأمر يصل إلى أقصاه تقريباً عند غويا، فبينما نجد له لوحات تكاد تكون ملامح الوجوه فيها مبهمة تماماً (آخر لوحاته، مجموعته السوداء)، لكن للألوان تقريباً الحضور الأقوى.


الاتجاه الحسي يتزايد عند غويا، ويتحول إلى نوع من (المانيفستو)، حين يرسم لوحة دوقة ألبا، في أحدهما نكاد ننبهر باللون الأبيض الجميل لردائها، وهي تقف، منتصبة الجذع، رافعة ذقنها للأعلى (بخلاف الوضعية المنكسة للرؤوس في لوحات دافنشي مثلاً). وفي هيئتها شبه بالهيئة المتخيلة للـ(مايناد)، المخلوقات/النسوة اللاتي يعشن في الغابة أو البرية، ويشكّلن الجماعة الدينية لـ(دينونيسوس) راعي الخمر الاغريقي. فإن كانت النظرة الاغريقية لهؤلاء، أنهن مجنونات خارجات عن المجتمع، لكن الحكم الأدبي عموماً يربط بينهن وبين القوة أو الشجاعة، وكذلك : الخطر، حين يمزقن كل من يعترض طريقهن. ولعل هذا - إن بالغنا في التنظير- قد يتقاطع مع سيرة حياة دوقة آلبا، فهي قوية، عنيدة، ولم تأبه حتى بالملكة، حين وقفت هذه في طريقها.

لعل في هيئة دوقة آلبا نوع من الاحتفاء بالحياة، في اللوحة ورائها تمتد مساحات برية شاسعة، وهي في كامل حلتها، ثائرة الشعر، تقف وتشير بيدها إلى ما ترغب به.

Friday, September 3, 2010

سخط معرفي

في كتابه، (تاريخ موجز للزمان)، يعلّق ستيفن هاوكينغ تعليقاً - يحسبه ظريفاً- أن : الكشف الفيزيائي/أو العلمي، في عصرنا الآن، صار عصياً، إن لم تكن تتربع على عرش قمة الفيزياء.

وقد أبالغ إن حسبت تعليقه (شوفيني) إلى حد ما، عموماً، ليس هذا ما يزعجني بقدر ما يزعجني : كرسي لوكاس في الرياضيات، التابع لجامعة كيمبريدج، والذي أسسه الملك تشارلز الثاني في القرن السابع عشر. اسحق نيوتن أحد الأوائل ممن شغلوا هذا الكرسي. وفي كتابه- ستيفن هاوكينغ يستعرض من حين لآخر معلومة أنه شغل الكرسي لفترة من الزمن، ثم تركه عندما استقال، وحتى الآن، مذ تأسيسه في القرن السابع عشر وحتى القرن الواحد والعشرين، شغله ١٨ أستاذاً فقط، كلهم إنجليز.

وهو يذكرني نوعاً بمنصب (شاعر البلاط)، وهو كرسي تعسّفي شبه تبجيلي يصنع هالة من (قداسة) حول شاغله، خاصة أن راعيه ملك، في القرون الوسطى وما بعدها كان لزاماً على أساتذة الطبيعة الانتماء إلى الكنيسة، هذا يعني أن يأخذوا على أنفسهم النذور الإكليركية، تدخل الملك شارلز الثاني لأجل عيون اسحق نيوتن، كي يشغل الكرسي ويظل يتمتع بحريّته الدنيوية.

الكرسي شيء ظريف، وهو ليس الطامة أو العكارة القصوى في هذه الدنيا كي نفرد له نقداً واستهجاناً خصوصياً، إلا أني يزعجني جداً هذه الشوفينية العلمية، التي تكاد تقترب من السلوك العدائي العلمي، شاغلي الكرسي كلهم من الإنجليز، تقريباً يتم اختيارهم (بالفرّازة). ثم لماذا اذن يُمنح لشاغله كل هذا الاحترام والمرجعية العلمية؟

إن جمهورية العلماء أكثر عدائية (للأغيار). من جمهورية الأدباء مثلاً. يفتقر ممارسو العلم النظري أو التجريبي إلى الذهن المتفتح إنسانياً، الذي يتمتع به غالباً الفنانون.ربما لأن مجالهم (حر)، يرحب بالاختلاف والآخر. حرية الفن هي ما تجلب عليه الانتقاد غالباً، بينما بلا شكّ سوف تتمتع العلوم الطبيعية خاصة في العصر الحديث بكل الاحترام، فقد صار الفن (هزاراً). والعلم (جَدّاً).وبالتدريج يكتسب العلم سلطة عقلانية -في هذا العصر- تقرّبه من (الدوغما)، وكل دوغما تؤدي غالباً إلى أن يتعامل معتنقها بازدراء، وفي أسوأ الأحوال (بعدائية) مع من يقع خارجها.

دُهشت حين تابعت قصّ ستيفن هاوكينغ الشخصي للمشاحنات والخلافات التي يتعرض لها كثير من أساتذة العلوم في الجامعات المختلفة، من هارفارد إلى كيمبريدج، سواء من الطلبة صغار السنّ الذين يكنون عدائاً قِبْلياً -وقد عادوا لتوّهم من الحرب- لهؤلاء الأستاذة من كبار السن، أو الأستاذ الذي ينال نوبل ثم حين يمارس مهنة في قسم من أقسام العلوم يواجه بالجفاء والعداء المهني. ولعلنا نذكر ما تعرضت له ماري كوري من عدائية حين مارست عملها.


لماذا يغيظني الأمر ؟ هل لأن العلوم حالياً صارت حكراً على كيمبريدج وهارفارد، من جامعة ملكية إلى جامعة امبريالية، وهذا يذكرني باعتراض الولايات المتحدة الأمريكية الدائم على مسألة نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية، وهو البند من اتفاقية منظمة التجارة العالمية الذي رفضته أمريكا رفضاً قاطعاً، معللة هذا بأنه يعتبر اهدارا لمجهود علمي ومالي بُذل في جامعات (غربية؟) للوصول إلى هذا السبق التكنولوجي، والجامعات من كيمبريدج وهارفارد وماساشوسيتس، وما يمارس بها من علم على ارتباط وثيق بكل المؤسسات الاحتكارية، من شركات عابرة للقارات (مايكروسوفت- آبل، الخ)، ومن هذه لتلك يتطبّع العلماء أكثر فأكثر بأخلاق عدائية. برغم انجازاتهم التنويرية.ولهذا عوارض، ساغان، بوبر، وغيرهم من الفلاسفة العلميين، يوجّهون خطابهم -للعامة- عادة، في مؤلفاتهم، بنبرة من التعالي، وإن كان لا يشعر بها الأغلبية، فقد لاحظتها، وقد تكون مبالغة مني. فهؤلاء، دائماً، وأبداً يعتبرون العامة جمع غفير من المخرّفين.

Wednesday, August 18, 2010

إرم

[ĕrēmīta] : كلمة لاتينية مشتقة من مثيلتها اليونانية [erēmitēs] والتي تعني غالباً "صحرائي" وهذه بدورها مشتقة من الجذر اليوناني [erēmos] الذي يعني غالباً: صحراء، أو مُقفر. ومن هذه الأصول تُشتق الكلمة الإنجليزية [Hermit]، بمعنى: الناسك.
 الناسك الذي يعتزل الناس إلى الصحراء غالباً، وهي عادة مصرية قديمة ، اعتقد المصريون القدماء أن سيث (الشر) يسكن الصحراء، والناسك الصالح إنما بتنسكه في الصحراء هو في مواجهة مباشرة مع الشيطان.
أجد في تلك الجذور اليونانية شبهاً قوياً بكلمة (إرم)، وهذا الأصل السامي بالأساس لم أجد له معنى موثوقاً عدا بعض المصادر الأجنبية التي تدّعي أنه اسم تركي، أو حتى عربي، ويعني (جنّة في السماء). الحقيقة أن إرم، الجنة المقصودة هي غالباً الجنة الأرضية التي كانت عليها إرم ذات العماد.  
الظريف هو، النظرية التي سوف نفترضها لو قلنا أن الكلمات اليونانية واللاتينية جاءت بعد الكلمة السامية، والتي تصف الحالة التي صارت إليها إرم بعد حين
لكن وجهة النظر الواقعية تميل إلى أن إرم هو اسم القبيلة، أو هي قبيلة من قوم عاد، سكنت صحراء شبه الجزيرة، ويبدو لي أن القبيلة كانت من الأهمية والشهرة (أو القوة)، أو الهيمنة في أرض شبه الجزيرة في الأزمنة السامية القديمة، أنه ارتبط اسمهم بالصحراء. 

Saturday, August 7, 2010

Låt den rätte komma in (2008)

هو  فيلم سويدي من انتاج عام ٢٠٠٨، يدور باختصار حول الفتى (أوسكار - ١٢ عاماً) الذي يحيى مع أمه في بلدة سويدية، حين يسكن جيران جدد الشقة المجاورة له، فتاة في مثل عمره مع من يبدو أنه والدها. والفيلم مبني على رواية بنفس العنوان للكاتب السويدي جون آفيد لينكيست.
تتطور الأحداث ليعرف أوسكار أن الفتاة  مصاصة دماء، وطبعاً، قد كان لها زمان طويل وهي في الـ١٢ عام. ومن يرافقها ليس والدها بل (حارسها)، وهو  -بحسب الرواية، فهذه النقطة لم تتضح في الفيلم- شخص يرافق مصاص الدماء كي يهيّء له الحياة الآمنة في النهار. وربما يساعده علي التأقلم أو التفاعل مع المجتمع البشري دون اثارة للشكوك.


الفيلم يبدأ بكلمة، اصرخ. اصرخ مثل خنزير.
أوسكار الفتى في بداية الفيلم يمثّل مشهداً عنيفاً، يعبث بسكينه (ونحن نراه من خلف زجاج حجرته)، ويتظاهر أنه يهاجم شخصاً ما، ويجبره : اصرخ، اصرخ مثل خنزير. في هذه اللحظة بالذات تتوقف أسفل نافذته السيارة التي تقل (إيلي)، مصاصة الدماء الصغيرة. وحارسها.

الفيلم بأجواءه الكالحة، السوداوية، والجو المقبض للبلاد السويدية، المثلجة، يحمل روح غامضة، وقد سمحت لنفسي بربط هذه الروح، النكهة الغامضة التي يحملها الفيلم بالرسام النرويجي (اسكندنافي أيضاً)، إدفارد مونك.

ربما المميز بشأن هذا الفيلم أنه اسكندنافي، في الفيلم أجد احالات كثيرة للوحات مونك، منها أول كلمة في السيناريو، والتي تذكرني مباشرة بلوحة الصرخة.

أو العلاقة بين أوسكار وإيلي، والتي تذكرني كذلك بتصور مونك لـ(آلام الحب)، على حد تعبيره، في لوحة مصاصة الدماء.

والفيلم ليس خيالياً بالكامل، خلاف أفلام أخرى عالجت نفس الموضوع (توايلايت)، لا يمكنني إلا أن أعلق على (الفوضى) أو الجلافة الفنية التي عولج بها هذا الفيلم (أو الرواية)، وهي ذاتها الجلافة الفنية والمعنوية التي سوف يُعالج بها الفيلم السويدي حين اعادة انتاجه هوليودياً :  (دعني أدخل).

تميل السينما الأمريكية دائماً إلى (انضاج) المراهقين أو (من هم على عتبة البلوغ). وتسخيفهم. المعالجات الفنية الأمريكية تتناول هذه الفترة بجلافة، ولا أنسى الجلافة التي عالج بها فيلم العظام الجميلة حياة (طفلة) المفترض أنها في هذا السن. ربما يكون السبب المجتمع الأمريكي ذاته المختلف عن المجتمع الأوروبي.

لكني أعود وأقول، إن أشهر المعالجات الفنية على الاطلاق لهذه الفترة العمرية كانت أمريكية، أعني، سلسلة (قشعريرة) والتي تم تعريبها تحت عنوان (صرخة الرعب).

إن سبب اختيار مؤلف السلسلة للمرحلة العمرية (١١ سنة - ١٢ سنة - ١٣سنة) ليضع بها أبطاله ليس فقط أنها موجهة لقراء من نفس السن، بل لمناسبتها أصلاًِ لمعايشة كافة التجارب (القاسية - المرعبة)، فمن في هذه المرحلة ليس طفلاً وليس بالغاً كذلك. هي فترة يتخللها الكثير من القلق، الاضطراب، التشوش، الخ. كما أن روايات السلسلة غالباً تدور حول التجربة المرعبة التي يمر بها الطفل ويبقى بها للأبد: البقاء للأبد في منزل مسكون - البقاء للأبد في قلعة دراكيولا فوق جبل فوق هوة - البقاء للأبد في عالم بالأبيض والأسود -الخ .
 الشيء الآخر هو مصطلح (ساعة الذئب)، وقرّاء سلسلة (ما وراء الطبيعة) المصرية، يألفونه، يستخدمه مؤلف السلسلة غالباً لوصف المرحلة العمرية التي تكون فيها الفتيات معرضات للمسّ الشيطاني. المصطلح أصلاً من الفلكلور السويدي، بالأصل يصف مرحلة (السَحَر)، المرحلة في آخر الليل وقبل الفجر بقليل، في السويد يبدو أن الذئاب تتجول بحرية في هذه الساعة خارج أبواب الناس، وتهاجمهم.

المصطلح ذاته اُستخدم في فيلم رعب بنفس الاسم (ساعة الذئب) للمخرج السويدي انغمار بيرغمان، وتوصف الحالة في السطر الترويجي الآتي:

"The Hour of the Wolf is the hour between night and dawn. It is the hour when most people die, when sleep is deepest, when nightmares are most real. It is the hour when the sleepless are haunted by their deepest fear, when ghosts and demons are most powerful. The Hour of the Wolf is also the hour when most children are born."

قد يُعامل المصطلح، والذي لاحظنا أنه ذاته عميق الأثر في الذهن الفلكلوري السويدي، كـ(ميتافور) للمرحلة العمرية لما قبل البلوغ، إن هذا يدفعني للاشارة لحساسية وذكاء المعالجة سواء الروائية أو السينمائية لقصة أوسكار، في حين تختار سيتفاني مايار لأبطالها (مراهقون جشعون للعواطف)، كي تُعاش قصة حب سخيفة بملامح رومانتيكية كلاسية، إن قصة فيلمنا (دع الشخص المناسب يدخل) ليست قصة رعب، خيال، أو خلافه، بل هي قصة عن (رعب) الحياة وما تثيره في الأنفس من اضطرابات.
أوسكار فتى منطوٍ ووحيد، يتعرض للمضايقات من قبل زملائه (البلطجية) في مدرسته، في هذه المرحلة العمرية حين -غالباً- تتكون لدى الإنسان أغلب عقده النفسية، أو يعيش أغلب التجارب القاسية المميزة للتنوير المفاجيء على الحياة أو، ربما، (الاظلام) المفاجيء، حين يخرج المرء من جنة طفولته ويُجابه بالـ: الفهم. فالمرء حينها يفهم الحياة قليلاً ولا يفهمها في الوقت ذاته، إن فلاديمير نابوكوف في روايته (لوليتا) يستخدم مصطلحاً (وإن كان يستخدمه في الرواية لأغراض منحرفة)، لوصف (مخلوقات) هذه السن، كـ(حوريات) أو (عفاريت). يحاول بطل فلاديمير نابوكوف في الرواية أن يدلل علي الطبيعة (العفاريتية - الما-ورائية) لهذه السن، وإن كان بشكل غير مباشر أو بشكل مختلف عن المفهوم الذي سوف أستدرجه في موضوعي هنا. وبشكل آخر، إن المصطلحات التي يستخدمها نابوكوف تُجسد  (الاغتراب) العام عن الانسانية الذي يعيشه طفل هذه السن. فهو (مخلوق)، وليس طفلاً وليس بالغاً كما أسلفنا.

وإن كانت قصة أوسكار وإيلي لا تجسد قصة حب فعلاً أو كما هو الأمر في فيلم (توايلايت)، لهذا قد أُلحق بـ(ايلي) معان أخرى، لو عدت للوحات مونك كمرجع فني، فإن إيلي هي الجنون، أو الاضطراب، أو بمصطلحات أكثر مهنية : المرض النفسي، عودة لرواية لوليتا، البطل همبرت همبرت يعيش (مرضاً نفسياً) طويل الأمد بسبب لقاءه في سن ما قبل البلوغ بفتاة في مثل عمره، ثم موتها بعد ذلك بقليل. إن أوسكار الولد الضعيف، المعرض للايذاء الجسدي والنفسي على الدوام، قبيل نهاية الفيلم  كان على وشك أن يُقتل , لكن إيلي مصاصة الدماء تنقذه ممن كان سيؤذيه. صحيح أن قبل هذه الحادثة كانت إيلي ستغادر نهائياً، وقد ودّعت أوسكار وتركته لـ(يعاني من قلب محطم- على حد التعبير الانجليزي)، لكنها تعود إليه لانقاذه، هذا الحادث يجعل أوسكار يحل محل حارسها النهاري الذي (مات كذلك في موضع آخر من الفيلم - دفاعاً عنها)، الفيلم يُختتم بمشهد، أوسكار يجلس في عربة قطار، بينما يستقر تحته الصندوق الكبير الذي يحوى (إيلي) النائمة في النهار. قصة الفيلم هي عن (البلوغ- النضوج - مغادرة الطفولة)، لكن بأقسى الطرق على الاطلاق، إن أوسكار سوف يظل كل حياته الباقية مرتبطاً بإيلي، وربما يموت بسببها مثل حارسها السابق، إنها إيلي، المخلوق الذي التقاه في فترة اضطراب البلوغ، (العفريتة)، أو، مرضه النفسي الخاص، الذي نشأ من المواقف القاسية والاغتراب الذي عاشه، التي ظهرت له في تلك الأوقات حين كان يجلس وحيداً في الليل في العراء. والتي كذلك سوف ترافقه لبقية حياته. لكنها في الوقت ذاته مرتبطة بتغلّب أوسكار على مصاعب البلوغ أو على العنف والازدراء الذي كان يعانيه، وكذلك إيلي هي الكيفية التي يتغلب بها أوسكار على وحدته واغترابه الذي رافق سنين بلوغه، وإن كانت هي الخدش/الجرح الذي سيظل يصمه طوال حياته. أو كما يقول نيتشه : ما لا يقتلك، يجعلك أقوى. 


Monday, August 2, 2010

ليه يا بنفسج



 لماذا، هيباشيا السكندرية، هي الفيلسوف الوحيد في لوحة (مدرسة أثينة) الذي ينظر للمُشاهِد مباشرة ؟
لا أعرف.
هنالك شخصية أخرى تنظر لنا مباشرة حين مطالعة هذه اللوحة، وهي الرسام نفسه، رافايل في أقصى اليمين. وكلاهما له الوضعية ذاتها، والنظرة ذاتها، يقفان متقابلين، رافايل أقصى يمين الناظر، وهيباشيا أقصى يساره، والناظر من بُعد سوف يحسّ أن الاثنين معاً متحالفان على شيء ما.  عدا ذاك، كل الفلاسفة تقريباً، وكلهم من الرجال، لا ينظرون لنا.

باعتبار هيباشيا (شهيدة) للفلسفة، أو، بتعبير آخر، للمنطق والعقلانية. ولو أخذنا لفظة شهيد/ شاهد، وهي بنفس المعنى كذلك في أصلها اليوناني (mártys)، هيباشيا في اللوحة (شاهدة) على المنظر، على مدرسة أثينا، وعلى الفلسفة الغربية عموماً.
تختلف شهادة هيباشيا عن شهادة سقراط، سقراط حوكم محاكمة شرعية، وقد تُعتبر عادلة، ولأن المحاكمة كانت قانونية، شرعية وعادلة وتتفق مع الارادة الشعبية، في نظر سقراط، فقط أذعن لقرارها وشرب السمّ بنفسه. الملابسات والوقائع (المتحضرة/المتمدينة) لاستشهاد سقراط تختلف عن وقائع استشهاد هيباشيا التي كانت حادثة شديدة البربرية، في مدينة بربرية، أثينا التي تقع في قلب العالم الاغريقي، قلب السكولائية، العقلانية والمنطق. والغرب، في مقابل الاسكندرية، المدينة المحدثة، في أثينة هنالك الديموقراطية، بينما يحكم اسكندرية ملوك متوارثون، وفي الاسكندرية هنالك التيه والتخالط والتخبط الثقافي، والضحالة الفلسفية. في حين مثلت أثينة للعالم الغربي ذروة الانتاج الفلسفي وتناغم الغرب.


دم سقراط لم يُهدر، ومن بعده أتى أفلاطون، الذي، بحسب روايته لمحاكمة سقراط، تلقى منه الحكمة همساً، وسار على النهج السقراطي في محاوراته المنطقية، ومن بعد أفلاطون أتى أرسطو الذي أرسى بشكل نهائي وكامل العادة المنطقية السقراطية، ومن بعد أرسطو هنالك ديوجين وزينون وأبيقور وغيرهم.
بالنسبة لهيباشيا، فإن حادثة موتها سجّلت تقريباً (نهاية التنوير الهيللينستي)، وفي القرن ذاته يصدر مرسوم امبراطوري بتأثير من الكنيسة وبابا روما باغلاق كافة مدارس الفلسفة. ويمكننا أن نقول: هيباشيا هي آخر فيلسوف غربي. قبل العصور المظلمة.

دم هيباشيا الذي أهُدر في مدينة موحشة وبربرية ربما يعدّ تفسيراً لنظرتها (الدائنة)، رافايل، كي يتمكن من اقحام هذه الشخصية التي لم تزل الكنيسة في أيامه تعتبرها وثنية، وخارج نطاق (المسموح) به فلسفياً، فهو يعطيها وجه فرانسيسكو ماريا ديللا روفير، وإن كان رافايل يقصد بهذه الحركة اتقاء شر الرقيب الديني. ففي طريقته لرسمها، مواجهة للناظر مباشرة، نظرة قوية ودائنة، ربما كان يقصد ادانة مباشرة لمن يعتبرهم ملطخين بدم هيباشيا.


والنظرة العارفة أو الحكيمة التي لوجهها قد تذكرنا بنظرة الموناليزا، وهنا قد نذكر التأثيرات النهضوية، في حين كان لدانتي بياتريس الملهمة، والموناليزا لدافنشي. لا يغفل رافايل عن جعل تصويره لهيباشيا كذلك يقع في اطار (الملهمة) التي هيمنت على الذوق والفن النهضوي الذي أراد استعادة جماليات الإغريق. مثلما ذكرنا بشأن وضعيّتهما كمتقابلين، فإن هيباشيا هي الوحيدة التي تنظر للمشاهد، وكأنها تعرف بوجوده، مثلما يعرف الرسّام بوجود من سيشاهد عمله، وهي في هذا، في وجودها وتصويرها هكذا كأنما تعرف شيئاً لا يعرفه بقية الفلاسفة باللوحة.

Sunday, August 1, 2010

ابن الإنسان



إننا نظن أن القسوة والعنف والعبودية، والخطر في الزقاق، والقلب، والسرية والرواقية، وفن التجريب والتعويذ على أنواعه، وكل شر مرعب ومستبد، وكل ما يشبه الأفاعي والضواري في الإنسان، يصلح جيداً، شأنه شأن ضده، لإعلاء النوع المسمّى : إنسان 
نيتشه - ما وراء الخير والشر

رفض نيتشه (جرمانيته)، وبرّأ نفسه من أية دماء "سيئة"، يقصد بها، الدماء الجرمانية خصوصاً، ثم ربط اسم عائلته بنبلاء بولنديين، في مواضع أخرى يشدد نيتشه، بفخر، على أصوله البولندية، وقد تخلّى عن جنسيته (البروسية) حين ذهب للعيش والدراسة والتدريس ببازل. وبقى إلى آخر حياته (بلا جنسية).

في مواضع أخرى يعارض نيتشه (الوطنية الألمانية)، ويقف موقف الرفض تجاه النزعات (المعادية للسامية) والتي وصلت إلى مداها (هي والوطنية الألمانية) في عصره. وفي هذا يؤدي دوره الأخلاقي كمنارة فكرية وفنية، حين يكون بوصلة بشرية للخير أو الصواب العام. 

هنالك شبه اتفاق أن نيتشه فضّل الثقافة الفرنسية على الألمانية.
لكن لماذا ؟
من الناحية الفلسفية فإن الثقافة الألمانية تُظهر تنوعاً وعمقاً وثراء فلسفي أو عقلاني أكثر من غيرها، بينما كانت فرنسا تجنح تحت نوع من (الموضة) الجمالية/الصحافية/الأدبية، وإن تكلم نيتشه عن الجميع بسوء (من بينهم، كانط، جون ميل، وسبينوزا)، فهو يظل معجباً بأشخاص غير (جرمانيين) أمثال ديستويفسكي الروسي (السلافي)، وبروير الفرنسي.


نيتشه يرفض ألمانيته لكنه في الحقيقة (بوق- مثل البوق الكبير في الأساطير النوردية) للثقافة الجرمانية، بل يفرد أكثر من ٣٠ صفحة في كتابه (أفول الأصنام) لبيان الفضائل الجرمانية القديمة والتحسّر على الحال (الألماني) الجديد، الخائر المرتكن إلى الجماليات الموسيقية. وفي الواقع، ينتقد نيتشه الوطنية الألمانية في عصره أو ذوبان الأفراد الألمان في الدولة، على حد قوله (الثقافة كانت دائماً نقيض للسياسة)، ولهذا يثني على فرنسا فردية شعبها، وهناك كل فرد مهتم بثقافته الذاتية. لكن مشكلة نيتشه أنه لا يخرج من قفص الخطاب الشعبوي الألماني، مثل من سبقوه، فهو يبدأ قائلاً: الألمان كانوا وكانوا، وبهذا الشكل يضطر الفرد الألماني دائماً أن يكتسب فردانية هي بالأساس مستمدة من صفات قومه، وتصير الفردانية وقتها محل شكّ.

الأساسي في فلسفة نيتشه أنه كان يبحث عن الإنسان ولا شيء غيره. الإنسان الذي لا امتداد له ولا مرجعية. نيتشه، فيلسوف بلا أي تبطينات صوفية أو رومانتيكية أو وطنية أو سياسية  هو ظاهرة فريدة في حد ذاتها إلى درجة اخراجه تماماً من تصنيف فيلسوف، ومعاملته كأديب أو مثقف.

لكن رؤية نيتشه الأخلاقية (اللا-أخلاقية) ترمي به في أحضان الفلسفة مجدداً، والأصيل في فلسفة نيتشه اعادة تعريفه للخير والشر في حدود إنسانية متطرفة، وحين نقول إنسانية متطرفة فنحن نقصد الشكل الإنساني المُحرر من التاريخ، الماضي، الدنيا، الآخرة، المجتمع، الوطن، الطبيعة، الأرض، الكون، حين نتأمل نيتشه ونرفض كونه فيلسوفاً فهذا لأنه (فيلسوف تائه) أو (الابن الضال للإنسان)، خلاف الشكل المعتاد للتنظيرات الفلسفية نيتشه لا يتناول الأصوال/الجذور، لا يحلل التاريخ والأخلاق، لا يخرج من الأرض إلى الحجارة، أو (من الكهف إلى المجتمع)، بل يبدأ كتابه (هكذا تكلم زرادشت) بإنسان على قمة جبل. أو نسر محلق.

حسب نيتشه، هنالك نوعين من الأخلاق، أخلاق أسياد وأخلاق عبيد، ومن هذا أتي الخير والشر، الخير بالنسبة للأسياد : المجد، المكانة، القوة، الثراء، الصحة، الجمال، الخ. وما عداه فقط هو الشر. بالنسبة للمرجعية الفردية للإنسان الواحد (الفرد).

حين يتلبّس العبيد الحضارة الإنسانية الحديثة تصبح أخلاق مثل : الزهد- التواضع- الفقر- الشفقة- التضحية- رعاية المرضى- احترام الكبار، الخ الخ. هي الخير، يريد نيتشه أن يقول: هي أخلاق عبيد، لأن العبيد الضعفاء، شديدي الضعة، عجزة ومرضى، جعلوا منها خيراً مطلقاً.

في كلامه هجوم على الثقافة المسيحية - اليهودية، التي شكّلت أوروبا مذ القرن الثاني بعد الميلاد وحتى الآن. الثقافة المسيحية -الرومانية أصلاً خرجت من روما في شكل بعثات تبشيرية إلى الأراضي الشمالية، وما كان يفصلها عن بربر الشمال هؤلاء (الجرمان) هو حدود خط (ليماس)، أو خط السيادة الرومانية القديم، وتقف أوروبا في القرون الميلادية الأولى، كأرض شاسعة بلا هوية واحدة (لا أوروبا)، إنما روما في مواجهة بربر الشمال. والطريف أنه بعد الاصلاح البروتستانتي، يُعاد تشكيل الثقافة الدينية في هذه القارة ليصبح من جديد، كل ما هو خارج خط ليماس بروتستانتي، ويبقى العالم الروماني القديم كاثوليكياً.

الاصلاح البروتستانتي حرر البشر من الأخلاق-الثقافة الكاثوليكية الرومية، والتي تختلف حتماً عن الثقافات الجرمانية ـالقديم منها والوثني)، وحتى القبائل البربرية (من قوط وجرمان وهون وآنغلو-ساكسون) قبل الاتحاد النهائي مع روما كانت تدين بالآريوسية (التي يصنّفها الفاتيكان كهرطقة). الأجزاء العليا من أوروبا واجهت صعوبات أبدية في التوحد مع الجنوب الروماني-الاغريقي. حتى الاغريق واجهوا صعوبة في التوحد مع الجنوب الروماني-الآيبيري، وهناك من المؤرخين من يعلق ساخراً، أن القسطنطينية قبلت السقوط في يد الأتراك. على ألا تتحد مع الكنيسة الرومانية.

وحين نقول أن المشكلة مبدئياً هي اللغة، فنحن من جديد نقول أن المشكلة هي الثقافة، أولاً وأخيراً. خرجت أول شرارة اصلاح بروتستانتي رسمي حين أعلن مارتن لوثر أنه سيترجم الإنجيل إلى الجرمانية. إن جرمانيا والآنغلو-ساسكون لديهم من العقد القديمة تجاه روما ما لديهم، إلى جانب الحرب الدائمة، موجات النهب من البربر التي توالت على روما ودمّرتها، ثم محاولات روما للغزو النظامي للشمال. إن نيتشه في كتاب (ما وراء الخير والشر) يشير بالفعل إلى الكاثوليكية كأصل أو روح (عِرْقية)، فهي متأصلة في الجنوب الآيبيري أو الشمال الفرنسي مهما تنصّل منها مفكرو هذه الأراضي، بينما الشمال البربري (ويؤكد نيتشه- نعم، الألمان بربر بلا شك)، كل تلك الكثلثكة غريبة عليه. وأي محاولة للهرطقة (آكا: الخروج عن الكثلكة)، هي بلا شك عودة للأصل البربري. (المجيد؟).

ترجمة الإنجيل للجرمانية ربما تعد محاولة غير واعية لاستعادة إرث وطني. تحولت هذه إلى سياسة وعنف حين اندلعت حرب الثلاثين عام، وحين تبنى ملوك الشمال، والكلت (الإنجليز) البروتستانتية.

حين تحاول ألمانيا النازية استعادة الإرث النوردي، فإنها تعادي اليهود خصوصاً، ألمانيا النازية بتوجهاتها الفاشية، والوثنية أحياناً، وبغض النظر عن الأصول العِرْقية التطهيرية لمعاداة اليهود، فإن اليهود يمثلون للشمال النوردي شعب غريب قدم من أراض بعيدة، كما أن ديانته هي الأساس للمسيحية، التي كانت غريبة تماماً على الشمال البربري النوردي في القرون الأولى للميلاد.


الأفكار البروتستاتنتية (سواء لوثرية أو كالفينية) تسير جنباً إلى جنب مع التوجهات الجرمانية في القرن التاسع عشر. ومارتن لوثر حين ينفي القداسة عن القديسين، ويلغي القداسة عمّن يساعد الفقراء. أو المتسوّلين. أو يلغي مفهوم الخطيئة الأصلية، إلى جانب أفكار كالفين في هذا الشأن (الأخير ينفي حرية الاختيار، فكل خطيئة تُرتكب قد قُدّرتْ سلفاً- على حد كلامه، وفي هذا يوافقه نيتشه، الذي يدافع بهذه الحجّة عن الصيرورة الهيراقليطية)، إنما كان يمهد إلى عصر من التحرر أو التسامح الأوروبي، أو عصر تنويري يتبعه عصر وطني.

في هذه الأثناء كانت أوروبا (فكرياً) ممزقة بين اتجاهين، الاتجاه الفلسفي الروماني (الأفلاطونية المسيحية - الأفلاطونية الجديدة- التصوفية)، و الاتجاه الطبيعي، المادي، أو اعادة ارث الفلاسفة الاغريق ومن بينهم أبيقور.

خطورة الفكر الأبيقوري أنه يحرر معتقنيه من الخوف من الموت. فأبيقور، كان يرى أنه- بما أن الإنسان سيموت حتماً- فلا داعي للقلق، لأننا لن نكون موجودين حين نموت. إذن فليستمتع المرء بحياته.
حين نجد هجوم نيتشه على العالم الكاثوليكي غير مبرر، لأن الثقافة الرومانية (أو، الحضارة) لم تصل إلى ألمانيا فعلاً إلا كاثوليكية، والأبجدية الألمانية تستخدم الأحرف اللاتينية، إن الإرث الطويل من الروحانية - العقلانية التقشفية، إنما وضعت الأساس الفلسفي للرومانتيكية، ثم العقلانية الألمانية -فيما بعد- بلا شك. قد نبالغ لو قلنا أن روما (سواء وثنية أو كاثوليكية) قدّ أرادت أن تعلّم أوروبا التفكير. إلا أن أوروبا بلا شك بدأت تفكّر -مستقلة- في ظل الموجات التبشيرية.
نيتشه متأثر بعمق بالإرث الاغريقي، بل أن ميوله وتوجهه الفلسفي محدد تماماً برؤى هيراقليطس والفلاسفة الآخرين ما قبل السقراطيين- نيتشه لا ينتهج الرواقية الأبيقورية فحسب، إنما كذلك يرفض الإرث الأخلاقي الذي تمت كثلكته لكل من (أرسطو - أفلاطون - أفلوطين)، ويعود إلى فلاسفة جسدوا الفردية أو المجد الاغريقي الهومري أمثال: فيثاغورث، إمبيدوقليس، هيراقليطس. الخ.

الآثار الهومرية واضحة في نيتشه، حين يرفض فكرة ميل الإنسان إلى (غريزة البقاء)، أو أن غريزة البقاء والحفاظ على الحياة ولو في أدنى صورها هي الهدف الأول للإنسان، بل يرى أن الإنسان، يبحث عن القوة. متكئاً في هذا على الصورة الهومرية للأبطال الإغريق، ويقول أن أحياناً، يضحي هؤلاء بحياتهم، لأجل أن يموتوا بمجد.

ومثلما رفض نيتشه التاريخ الأوروبي الكاثوليكي (١٢ قرن) من الضعة والتقشف والزهد، مثلما رفضه اللوثريون والكالفينيون.

يرفض نيتشه كذلك التصور المعتاد أن البشر يميليون إلى البحث عن السعادة والرضا، ملقياً بذلك أفكار (المنفعية) لتوماس ميل وراء ظهره. يمجد نيتشه الفردية، ويمجد التصور العام للخير بمقاييس فردية، أو : الأفراد الاستثنائيون، الرائعون، المثاليون، الأقوياء، الحسان، المفترض أن يتبعوا منهجاً أخلاقياً يحقق مصلحتهم، الخير هو مصلحة القوي. أو : هو القوة، المجد.

نيتشه شخصية فلكلورية جرمانية، والتاريخ النوردي (باحتفائه بمخلوقات عجيبة، واصراره على أن العالم قبل الإنسان كان يعيش به إما عماليق أو أقزام). يحمل نيتشه معه الرؤى التعسفية الجرمانية للعالم والتاريخ، ويطعّم بها التاريخ الاغريقي الذي هو أعمق بكثر من كلمة (المجد المجد المجد). الاغريق بعواطفهم القوية، الدراما، الشعر، المسرح، الرومانتيكية، الحب، الصداقة، التضحية، الزهد، تصوفية (أورفيوس)، ضعة ديوجين وتقشف الفيثاغورثيين. تاريخ أعمق بكثير من الرؤية النيتشوية. وإن كان نيتشه يرى نفسه اغريقياً مثالياً، فهو (فيلسوف - صلف - ومنفي للأبد مثل عوليس). إن الاستقراء التاريخي المتأخر للاغريق جاء مغلوطاً ومبنياً على هلاوس وضلالات هيللنستية، فالمرحلة الهيللنستية، حين صار الإنسان هو المرجعية الوحيدة (المرحلة التي تلت الإسكندر الأكبر، والإسكندر الأكبر - كأنه شخصية فلكلورية اغريقية، قد يجسد بالنسبة لنيتشه أفكاره عن السوبر-مان). أو، مجرد ترديد كلمة : المجد، المجد، بهوس محموم (إنما هذه أيضاً عادة رومانية يوليوسية- أوغسطية).

يتوازى نيتشه مع شخصيات فلكلورية جرمانية أخرى مثل فاوست، وهذا التقارب أفضل ما يكون، في هذا الجزء من الدراما الفاوستية (لغوته)، حين يطلب فاوست من الشيطان أن يقتله مباشرة إن هو أحس (بالرضا : السعادة البشرية الضعّة -طمأنينة النفس على حد تعبير نيتشه) في أية فترة من حياته.
فاوت، العالم، اللاهوتي والخيميائي الذي سلّم حياته كاملة للعقل والمنطق والعلم، إنما يصل إلى حائط سدّ معرفي، فهو يفقد المعنى في كل هذا، ويذكرني هذا بدعاوي نيتشه ضد العقلانية السقراطية أو الفضيلة المعرفية، التي -بحسب المسيحيين الطومائيين، وغيرهم- درب السعادة، فاوست يسقط في سعادات غرائزية، تماماً مثلما يخلص نيتشه في كتابه (أفول الأصنام) إلى رفض الطبيعة (السامية) للسعادة الروحانية النورانية في الفكر الطومائي، ويقول أن الغرائز هي السعادة.
نيتشه- ممزقاً بين القمة الإنسانية للنسر المجيد، وبين (هاويته) التي يخاف التحديق بها، إنما يتيه، التيه النيتشوي ينتهي بعودة الفيلسوف إلى الكهف، حين ظل الفيلسوف يمشي- زاحفاً، خارجاً من الكهف إلى المجتمع، مذ أفلاطون. يترك نيتشه (الأخلاق بمعناها المعتاد) للمجتمع، ويعود للكهف بارادته. وكتب نيتشه الفلسفية تفتقر تماماً إلى أي تصور إنساني جماعي، وأوضح هذه الكتب هي عبارة عن محاورات بين فردين (رزادشت يحاور نيتشه). رغم ملحوظته في بداية الكتاب: هذا الكتاب للمجتمع لا للفرد.
نيتشه بدعوته إلى الفردية (الذاتية) الأخلاقية إنما يجسّد التصوّر الفرويدي للشخصية (الطفولية)، فيقول فرويد، كما يقتبسه (كولن ولسن) في كتاب (التاريخ الاجرامي للجنس البشري): اعط لطفل ما القوة، وسوف يدمر العالم. 


والعبارة اشارة لأنانية الطفل، يستخدم ولسن هذا الاستشهاد ليرمي به شخصيات الزعماء أو الاستبداديين (ولا بد أنه يلمّح لهتلر مثلاً). 
نقطة أخرى بخصوص العقلية أو السيكولوجية الطفولية هي أنها سيكولوجية الإنسان البدائي أو البربري، فهذا إنما يرى كل العالم امتداد لذاته، وفي الفكر البدائي يختلط الواقع بالخيال أو الأحلام، كما لا يتخيل هذا الإنسان البدائي أنه سيموت. والموت بالنسبة له شيء يحدث لغيره من المخلوقات. 
إن أطروحة نيتشه في الفردية والإنسان الأعلى (السوبر-مان)، رغم ما توحي به من الميل للتفوق (آكا: الحضارة، التمدن، نبذ العبيد)، هي في باطنها ميول بربرية أو بدائية بما تعنيه من الغاء الغير، حتى لو بحجة أنه ضعيف - دع حجة أن مصلحة الغير تتعارض مع مصلحة الأنا، ويساوي في ذلك اشاراته في كتاب (أفول الأصنام) إلى عملية (تدجين) الحيوان الأشقر الجميل، يقصد الجرماني، من قبل الكنيسة القروسطية



Saturday, July 24, 2010

Inception (2010)


 
بدا أن عاميّ (٢٠٠٩ -٢٠١٠) شهدا ظاهرة سينمائية فريدة، (مشاريع العشر سنوات)، لعدد من المخرجين الكبار، مشروع كينتين تارانتينو , مشروع جيمس كاميرون (آفاتار)، مشروع كريستوفر نولان (موضوع حديثنا). الخ 
حكاية مشاريع العشر سنوات هذه بها شيء، الفيلم غالباً، وإن كان آية في الابهار البصري، يخرج أجوف وسطحياً علي المستوى الدرامي أو العاطفي، فلا يوجد أي كثافة أو (شدة) في أداء الممثلين، خلاف أفلام التسعينيات حين كان يجاهد المخرج والممثل لابهار المشاهد بلا تأثيرات بصرية، كان هنالك ابداع غرائبي في السيناريو (مثل، نادي القتال)، أو في لعبة الظلال والنور وأداء الممثل (من منا لا يذكر طريقة حديث د.ليكتر، في صمت الحملان). وأظن أن هذا ما سيذهب إليه الجميع، حين الحديث عن سطحية الأفلام الألفينية.

هنالك ظاهرة أخرى تهمنا، وهي حمّي نولان الصيفية، الحمى لاحظتها أول مرة من سنتين مع فيلم (دارك نايت) الذي نزل في الوقت نفسه من العام، ثم تصدر قائمة
(آي.إم.دي.بي) المبجلة، ينزل فيلم (إنسبشن) بدور العرض في ١٦ يوليو ليتصدر القائمة في غضون يومين، كما حدث بالضبط مع فيلم نولان السابق, قصة الفيلم باختصار عن (كوب - ليوناردو دي-كابريو)، الذي تم استئجاره من قبل منظمة منافسة، ليحصل على معلومات يحتفظ بها سايتو (كين واتانابي)، رجل الأعمال الثري، عن طريق ميكانيزم متطور، هو ورفيقه آرثر (جوزيف-غوردن ليفيت). في موضع آخر من الفيلم يُقال أن الجيش الأمريكي طوّر هذه الخاصية (الأحلام المشتركة)، وهو أن ينام عدد من الأشخاص المتصلين بجهاز يزوّدهم بمنومات من نوع خاص طوال فترة السبات، وفي أثنائها يمكن لهؤلاء أن يعبروا إلى أحلام بعضهم بعضاً، ويشاركوا في أحداثها، مهنة (كوب) تعتمد على ما يتيحه هذا الجهاز، فـ(كوب) خبير متمرس بعملية (الاستخلاص)، فهو يعدّ بيئة (مشاركة أحلام)، ثم يدخل إلى العقل الباطن للشخص المعني ليستخلص منه ما يرغب من معلومات مخفية، (سايتو)، الذي يأتي إليه (كوب) بغرض سرقة معلومات منه، يعرف أغراض كوب الحقيقية لكن يدعه لينفذ عملية استخلاص الأحلام، وهو ما يحدث خلال النصف ساعة الأولى من الفيلم، ونعرف أن كوب محترف تماماً لأنه يقوم بميكانيزم (الحلم داخل الحلم)، فهو، ينفذ عملية المشاركة في الأحلام على مستويين، أول مستوي في العقل الباطن لرفيقه (آرثر)، ثم المستوى الثاني في العقل الباطن لمهندس المجموعة، بهذه الطريقة يضمن كوب الترحال علي مستويات عميقة داخل العقل الباطن للشخص المستهدف (سايتو)، كما يضمن حالات الطواريء، لأن، الموت داخل الحلم يؤدي إلى الاستيقاظ. هكذا حين تطلق (مال -زوجة كوب المتوفية، والتي تظهر في عقله الباطن رغماً عنه لتفسد عليه الأحلام). النار على (آرثر) ليستيقظ من الحلم الأول، نجد أنفسنا في حلم شخص آخر من الفريق، دون أن نلاحظ في البدء، مع وهم أننا (استيقظنا)، لنكتشف أننا في حلم داخل حلم.

سايتو يُعجب بمهارة كوب ويسأله فيما بعد أن يقوم بمهمة، ليست استخلاص معلومات، إنما (زرع أفكار) داخل العقل الباطن لشخص ما، هو فيشر الابن، الوريث لسلسلة شركات تشتغل بقطاع الطاقة، وعمّا قريب سوف تتحول إلى وحش رأسمالي، وكي يحول (سايتو) دون هذا، يطلب من كوب أن يزرع داخل فيشر الابن فكرة : أن يفكك امبراطورية والده.

يكوّن كوب فريقه الخاص، من المهندسة (آرينداتي - إلين بيج)، والتي تقوم باعداد مشاهد وبناء الأحلام، إيمز (توم هاردي) ويبدو أن لهذا موهبة خاصة في التقمص والخداع، فهو قادر على تقمص شخصية (براوننغ- الأب الروحي لفيشر الابن، وعن طريقه ينجحون في زرع ما يرغبون من أفكار). ثم يوسف الكيميائي الذي يزودهم بمنوم قوي، يضمن أن يظل فيشر الابن مخدراً لعشر ساعات، ومشكلة هذا المخدر أن، في هذه الحالة، الموت داخل الحلم لا يعني الاستيقاظ، مثل الأحوال العادية، انما الدخول في حالة (ليمبو)، وهي الشبيهة بغيبوبة ملونة مليئة بالأحلام، وحين يستيقظ منها المرء، يفقد عقله.
(آرينداتي)، بوصفها مبتدئة، يساعدها (آرثر)، حين تعاني من عدم التفرقة بين الواقع والحلم، يقترح عليها آرثر أن تحتفظ بتميمة خاصة بها، تمسكها معها داخل الحلم، كما تمسكها في الواقع، وتكون هي الوحيدة العارفة بأبعادها، درجة لونها وصفاتها الفيزيقة، كيلا يخدعها أحد في حلم ما. تصنع (آرينداتي) بنفسها تميمة على شكل قطعة شطرنج، بينما ترافق تميمة (كوب) المميزة، النحلة الدوارة، كوب والمشاهدين بطول الفيلم.
نجاح كوب في الأمر يعني أن يضمن له سايتو أن يعود للولايات المتحدة الأمريكية، وفي بداية الفيلم نعرف أنه مهدد بالقبض عليه ومحاكمته هناك، ونظن أن السبب هو النشاط غير الشرعي لعملية (استخلاص المعلومات من أحلام الآخرين)، لكننا نعرف فيما بعد أنه متهم بقتل زوجته.

الفريق - بعد كثير من مشاهد العنف والآكشن، والصعوبات التي يواجهها داخل عقل فيشر الابن (الفريق- على غير المعتاد، سوف ينّفذ بيئة مشاركة أحلام ثلاثية المستوى)، ينجح في مهمته، ويعود كوب إلى وطنه.

الفيلم على مستوى من التعقيد لا بأس به، مما يجعلني أندهش، من مسألة الحمّى التي تدور حوله، كيف أعجب كل هذا العدد من الأشخاص؟ الذين غالباً لا تعجبهم أعمال أخرى على نفس الدرجة من التعقيد، أو أقل منها. الفيلم ليس أيقونياً. وأنت تشاهد الفيلم تشعر أن هذه اللعبة قد لُعبت عليك من قبل، وهذا صحيح، فمشهد (مجموعة من الأفراد النائمين، بينما عقولهم تلعب وتدور في مكان آخر، وهم يتشاركون في الأمر)، حدثت من قبل في فيلم (ماتريكس)، وماتريكس، بالنسبة لي، كلاسيكياً أكثر من (إنسبشن) ولا شك، والمشهد الدرامي الأيقوني الذي فيه يظهر مورفيوس بينما يعرض على نيو الاختيار بين الحبة الزرقاء و الحبة الحمراء، والكثير من الثيمات الأخرى الانسانية داخل الفيلم رغم تقشفه العاطفي، وابتعاده عن العالم المعتاد. أما فكرة الدوران داخل عقل أحدهم، ربما تم التعرض لها لكن بمعالجة مختلفة تماماً في فيلم (التجلّي الأزلي للعقل الماحي)، وبه بطلا الفيلم يركضان داخل عقل أحدهما (بينما هو نائم)، لانقاذ ذكرياته من الضياع. والفكرة ذاتها (الدوران داخل العقل) ربما ظهرت كذلك في أفلام أحدث، مثل (سيرك الدكتور برناسوس)، وفيها، الدكتور برناسوس ذو المخيلة الخارقة، يُدخل الناس إلى عالمه العقلي الخيالي الباهر، كي يحصل الشيطان على أرواحهم فيما بعد.


التالي هو محاولة لتقصّي أسباب نجاح فيلم نولان (إلى جانب العامل الرئيسي، الآكشن أو الاثارة الحركية)، رغم تعقيده -في رأيي- وعدم مناسبته لذوق الأغلبية، أو، يمكن اعتبارها، (روشتة) للمخرجين المتحمسين.

 
الموسيقى:

أول محاسن الفيلم هي الموسيقى، مذ المقطوعة التي تُعزف في الـ(دعاية المحمسة) أول ظهورها ديسمبر ٢٠٠٩. ثم الساوندتراك بأكمله الذي يشترك في صناعته هانز زيمر وآخرون، هذه اللعبة مكررة، بدأها كريستوفر نولان في أفلام باتمان، في فيلم (دارك نايت) أكثر ما حرّك حماسي وعواطفي أثناء المشاهدة كانت الموسيقى.

براعة نولان كـ(مخرج) تهيّئه ليستغل الموسيقى إلى أقصى درجة، الألحان السيمفونية التي صاحبت المشاهد كانت مختارة بعناية لشدّ المتلقي إلى حالة من التفاعل مع المشاهد، سواء كانت معقدة، سريعة الخطى، شديدة العنف، ولأن المخرج ،اذا كانت لديه قصة معقدة ومعالجة سينمائية أكثر تعقيداً، فهو يخاطر بفقدان المُشاهد في منتصف الفيلم، وعليه أن يلعب على وتر الموسيقى، والفيلم لن يقدم أي شيء يعجب المتلقي العادي، القصة معقدة، الفيلم خال من نواحي التفاعل أو التورط العاطفي المعتادة، فهي ليست قصة رومانسية، ليست كوميديا، وليست دراما عائلية. والحكاية ليس بها شيء يمكن أن يتماهى معه المتلقي،  كيف يمكن لهذا الفيلم أن يصعد إلى قمة التقييمات؟  الموسيقى كانت أحد العوامل.


الشلة :

ثلاثة أمريكان، إثنان انجليز، ياباني، عربي، وفرنسية. هنالك تباين وتنوع في الشخصيات، الأمر الذي جعل لهؤلاء صحبة ظريفة ومستحبة بطول الفيلم، والحوار/المواقف بينهم لم تخل من الطرافة، أفلام (الفريق)، خاصة حين تكون آكشن، تضمن عنصراً لا بأس به من تعاطف الجمهور، من قبيل التنوع والثراء الدرامي والسيكولوجي الذي يتيحه عدد كبير من الأشخاص يعملون معاً كفريق، هنالك أفلام آكشن تعتمد بشكل كامل على فكرة الفريق وما تبعثه من إثارة في نفوس المشاهدين، لأن الفريق، ولأنه يحوى عدداً من الشخصيات المتنافرة، المختلفة، المتصارعة، ولأن غالباً سوف تنشأ علاقات وحوارات من التفاهم بين هؤلاء، تضمن نجاحها، مثال: الرجال إكس، إتحاد السادة الخارقين، الخ. حين يرى المشاهد تطور علاقات التفاهم في الفريق (وغالباً، في هذه الأفلام، هنالك أعضاء في الفريق يجب اقناعهم بالانضمام- أعضاء عنيدون- أعضاء عدائيون-الخ)، وفي ذروة الفيلم تكون هنالك لحظة من التفاهم الجماعي بين كل العناصر المتصارعة، غالباً، لأجل الهدف السامي داخل الفيلم. هذا الشحن النفسي يهيّء المتلقي لتقبل أحداث الفيلم وغالباً- يشعر المتلقي أنه عضو في الفريق. وهي برأيي- أفلام تتيح للمتلقي أن يكون عضواً في الأحداث.


الحوار:

الحوار كان متواضعاً، وليس به عبارات رنانة كما كان الأمر في فيلم نولان السابق (ذا دارك نايت)، لكن, مع هذا, الحوار لا يخلو من الذكاء والبراعة، إلا في بعض الأحيان حين يتدخل الحوار ليشرح (ما يحدث)، في أول مشهد بالفيلم نحن ندرك أنهم (في حلم داخل حلم) لأننا نرى أعضاء الفريق نائمين في مكان آخر. (قطار). لكن الحوار لا يبخل على المشاهد بهذا التنوير، على لسان أحد الشخصيات: إنه حلم داخل حلم، رغم أن هذه الجملة خطرت لي (من قصيدة مستر. بو)، قبل أن تقال، واذا خطرت لي، فهي سوف تخطر لآخرين وبنفس التأثيرات الشعرية، ومستر.نولان يحرص بشدة على مشاهده (ضيق الخُلق- سريع الملل) لذا فهو يقدم اجابات جاهزة طول الوقت لمن يبحث عنها، والفيلم عموماً هو فيلم (اجابات)، ولأني أرى الأفلام غالباً نوعين، أفلام (أسئلة)، وأفلام (اجابات)، فيلمنا هذا من النوعية الثانية. هنالك في الحوار جُمل اعتبرتها (هُراء) أو حشو، بلا أي فائدة أو ذكاء، مثل ذاك الذي يُكرره كوب من وراء مال، (أنت في قطار، سوف تركب القطار رغم عدم معرفتك بوجهته، لأنك...الخ)، الغرض الوحيد من هذا الوصف هو الذريعة لمشهد المقطورة التي تقتحم الحلم الأول من الأحلام الثلاثة، (يعني، بيان إلى أي مدى مال خطرة).

الشر :

الفيلم بأبعاده الفكرية يركز على مسألة العاطفة المحرّكة للأحلام، والأحلام في الفيلم هي أكوان مبهرة ومحكمة جداً، لكن صناع الفيلم لا ينسون الجانب التحليلي/السيكولوجي، ويؤكدون علي أن ما يحرك العقل الباطن هو العاطفة، والسلاح الذي يستخدمه الفريق البطل، لزرع الفكرة المرغوبة في ذهن (فيشر الابن)، والتي تستند إلى عاطفة الابن تجاه الأب، هي ذاتها ما يهدد نجاح المهمة لأن هنالك (عاطفة) مدمرة ومؤلمة تجوس وتلهو في العقل الباطن لـ كوب (ليوناردو دي-كابريو)، وهي شعوره بالذنب تجاه زوجته المتوفية. والفيلم رغم (هيلمانه) البصري واعتماده بشكل مكثف علي الحركة/الآكشن. هنالك جانب سيكولوجي أو درامي ليس سيئاً، بطل الفيلم تمتصه وترهقه عاطفة سلبية، وهي تقريباً سبب دماره، رغم أن الفيلم لم يركز على الأمر، وغالباً، لن يلاحظ أغلب المشاهدين هذا.
تظهر العاطفة الخطرة لـ(كوب) كتجسيد لزوجته المنتحرة (مال)، لعبت دورها الفرنسية (ماريون كوتّيار)، ويمكننا اعتبارها (شرير) الفيلم، رغم أنها ليست شريراً بالمعنى المتعارف، ورغم أنه ليس هناك شرير بالفيلم بالمعنى المتعارف، مرة ثانية الفيلم مبني بشكل كبير على صخرة زاوية هي (العاطفة)، وليس الأخلاق، أو الصراع. (كوب) يرغب في العودة إلى وطنه ليشاهد ولديه، ولأجل هذا هو سيفعل أي شيء، سوف يخاطر بحياته وحياة الفريق في مهمة غير محمودة العواقب. مسألة الأساس العاطفي للفيلم تتيح للشخصيات كافة التحولات (الديستويفسكية)، (سايتو)، الثري الياباني الذي دخل في صراع مع الأبطال في بداية الفيلم يصبح ضمن الفريق، (فيشر الابن) رغم أنه الموجه له العنف (الفكري)، بتطور الفيلم، نكتشف أن هذا العنف الفكري قد يكون في مصلحته، في الواقع. أما (مال)، فهي حبيبة (كوب)، وليس الذنب فقط ما يبقيها كـ(عفريتة) داخل عقل (كوب)،إنما رغبته في أن يكون معها للأبد رغم أنها ميتة.
أداء (ماريون كوتيلارد) كان في المدى المقبول، وإن لم نر موهبة درامية عاتية (لأن الفيلم لم يتح لها هذا)، إلا أنها جعلت من الشخصية (فام فاتال)، بطراز خاص.

 
الدروس المستفادة:

يلعب الفيلم دوراً (تعليمياً) لا بأس به، خاصة بتقديمه لمسألة (الفكرة هي أخطر الطفيليات على الاطلاق، فهي تتكاثر كسرطان، قد تحدد هوية الشخص أو تدمره). إلى جانب تحليله لطبيعة الأحلام- ذاك العالم الغامض، هنالك معلومات ظريفة عن العقل الباطن، مثل مسألة العاطفة، والمشاهد التي يمشي بها اثنان، (في عقل) أحدهما، والحلم يدور في شارع، ثم
فجأة ينظر جميع المارة، الغرباء، في الشارع، داخل الحلم، إليهما، ومبرر هذا أن الأمر وسيلة دفاعية من عقل المستضيف، ضد الحالم الدخيل. أو، مسألة تأثير انعدام الجاذبية، بسبب السقوط الحر (ولنقل، مجموعة الحالمين حين يكونون داخل سيارة تسقط من جسر)، سوف تنعدم الجاذبية داخل أحلام هؤلاء، ويطيرون في الفراغ. وهذه المعلومات التي يتيحها الفيلم، رغم أن معظمها قد يُعتبر نوعاً من الهراء أو العلم الظريف، تُشعر المشاهد أن الفيلم في مستوى أعلى، بينما هو في مستوى منخفض، قد يمد المشاهد رأسه أكثر ليتماهى مع الفيلم، لكن هنالك فئة من المشاهدين، من اعتاد على الحصول على اجابات بطرق أسهل، سوف يغادر في منتصف الفيلم


تنوير/ذروة

في الفيلم، لحظة التنوير هي لحظة ذروة الأحداث، وفيها، بعدما يصاب (سايتو) بعيار ناري، ويصبح مهدداً بالموت داخل الحلم، اذن مهدد بالغيبوبة الأبدية خارجه، ينتقل الجميع إلى مستوى ثالث من الأحلام، وهناك يصاب كذلك (فيشر الابن)، ثم يموت،  يضطر الفريق إلى الدخول في مستوى رابع هو العقل الباطن لـ(كوب)، هناك سوف يلتقي بـ(مال)، التي قتلت (فيشر الابن)، ويجد فيشر حيّاً لديها، ومن هناك تجري عملية انعاشه بالصدمة الكهربية، والفكرة معقدة وهاوية اذا لم تُرى بصرياً، لكن حين يلتقي كوب بمال، نكتشف أن سبب شعوره بالذنب ليس وهمياً، فهما، مذ سنوات عديدة، اختارا أن يعيشا معاً كحالمين مشتركين، وهكذا، سوف يتقدمان في السن ضامنين حياة سعيدة أبدية، لكن داخل حلم، كل تفاصيله، مبانيه وعوالمه من صنع خيالهما، لكن (كوب) لم يستطع أن يكمل حياته بهذه الطريقة، لذا، (زرع) فكرة داخل عقل (مال)، (ومن هنا أتته خبرة زراعة الأفكار)، أن هذا العالم الذي تعيشه ليس حقيقياً وعليها أن تستيقظ بقتل نفسها، المؤسف أن هذه الفكرة تظل معها حتى بعد الاستيقاظ، مما يؤدي بها إلى الاعتقاد بأن العالم الحقيقي كذلك مزيف، وأن عليها الاستيقاظ بالانتحار.
وبعد أن يصفي كوب حساباته مع مال، ويعيد (فيشر) إلى الحياة، ينتقل إلى مستوى خامس، حيث ينقذ (سايتو)، حين يصير إلى حلم، يظهر به كغريق على شاطيء اليابان، وهناك يأخذوه إلى (سايتو) الذي يظهر عجوزاً جداً، ويبدو أن كوب يمارس معه في هذه اللحظة عملية زرع أفكار ولكن بطريقة ايجابية، فهو انما (يذكره) داخل عقله الباطن أنه ليس عجوزاً إنما لا يزال شاباً، وأنه يجب أن يستيقظ حالاً، وألا يتسرب إلى حالة الليمبو. وهو ما يحدث فعلاً في نهاية الفيلم السعيدة 

  

 لمسة نولان، أو سبّ الجمهور 
ما أقصده بلمسة نولان، هو الشيء الذي لم أجده في أفلامه الأخرى، عدا (ميمينتو)، وهو : مواجهة المشاهد لنفسه، في نهاية الفيلم غالباً، في فيلم ميمينتو نكتشف في النهاية أن البطل قد اختار الحقيقة التي يريد أن يؤمن بها، وألقى وراءه كل ما عداها، لأنه لن يستطيع التعايش مع ما عداها، (وذلك، اعتماداً على حالته من فقدان الذاكرة)، وطوال الفيلم نحن نتعايش مع سؤال الحقيقة، وما الحقيقة، وما الذي يجب أن يصدقه البطل. 
في (إنسبشن)، الفكرة المزعجة التي أدت بـ(مال، زوجة كوب) إلى الانتحار، هي أنها لم تعد تفرق بين الواقع والحلم، فهي صارت تؤمن أن ما تعيشه (الواقع، الذي نعيشه)، هو الحلم، وأنها يجب أن تستيقظ منه بقتل نفسها. في نهاية الفيلم، وبعد نجاح المهمة، وعودة كوب إلى دياره وولديه، تتوقف الكاميرا طويلاً على (تميمته) (النحلة الدوارة)، هذا المشهد يجعل المشاهدين في قاعة السينما يقولون : أوووووووه. لأنهم ظنوا أن - هكذا- كل ما مر كان حلماً. لكني لا أعتقد هذا، فهذه الفكرة حمقاء تماماً ومبالغ فيها. إنما المشاهد المعتاد على (قلبات) الأفلام الأمريكية يرغب في هذا لأنه يظن أنه (يا سلام- يا حلاوة) هذه هي قمة الروعة، أن نكتشف أننا انضحك علينا. في الحقيقة أنا لو اكتشفت أن فيلماً ما (يستهبل) معي إلى هذه الدرجة، ثم يكشف لي في النهاية أن كل ما فات كان حلماً، فسوف يسقط من نظري. لقد مشيت مع احتمال أن الفيلم بالفعل انتهى نهاية سعيدة بالنسبة لـ كوب، ونهاية غير سعيدة بالنسبة للمشاهدين، فقد تسرّبت لهم عدوى (مال)، ولم يعودوا يفرقون بين الواقع والحلم.