Thursday, September 20, 2012

الصنم الدستوري

يمكن تفسير العجائب الموجودة في مشروع مواد الدستور المصري القادم بالتأمل في شعار حزب النور -السلفي- "هوية ودولة عصرية"، وفي تقديم "هوية" على دولة، طبعاً، ما يجري هو عملية تحويل الدولة إلى هوية، كتلك المواد التي تشترط حماية "الرموز الوطنية" و"ثقافة المجتمع" واللغة والآداب العامة والمقدسات، إلخ. لا حاجة لقول أن هذا الدستور، هذا النص سوف يتحول إلى مُجرد كلمات خُزعبلاتية على المدى الطويل، بل أنه كذلك حالياً، هو عبارة عن وثيقة ميتافيزيقية لا تمسّ الأرض، بل تلغي وجود الإنسان تماماً، بالطبع، كنا نقول أن مصر في العهد البائد كانت نكتة فلكلورية، حين كانت كياناً مُتخيّلاً من الفلكلور الميثولوجي الفرعوني، كي تقوم بوظيفتها كاملة كمقلب زبالة سياحي، كون بلداً ما نكتة فلكلورية بالطبع يلغي آدمية شعبه جزئياً: الشعب فعلاً هو تابلو سياحي جميل يحجب الرؤية عمّا وراءه من جموع كادحة.

والذي يحدث الآن هو الغاء كامل للإنسان. ويساعد على ذلك جو سياسات الهوية المستعر حول العالم، سياسات الهوية حول العالم ترسّخ لاحساس التهديد من خطر خارجي يستهدف الهوية المحلية، رغم أنه خطر وهمي، فاستهداف هوية شعب، أو طائفة، أو عرق، باستهداف رموزه ومقدساته ليس أخطر -بأي حال من الأحوال- من استهداف أفراد هذا الشعب أو الطائفة أو العرق، الأفراد من لحم ودم. لكن، بالطبع، تفخيم الهوية وتسليح الهوية يفيد السلطة، الهوية مُكوّن سلطوي، صنم غير مبال بالإنسان ولا معاناته، وما يجري في مواد الدستور هو تحطيم مفهوم الدولة الحديثة، الدولة التي تقدّم خدمات عامة للشعب من تعليم و صحة وطاقة و دعم اجتماعي أو عدالة اجتماعية، وحين تتحطم الدولة وتتحوّل إلى هوية لا تتلاشى حقا الغاية وراء وجودها، أي الحماية، بل تبقى، وتصير الهوية وحظيرة الهوية -هوية الصنم، البطريارك- هي الحامي والمأمن والراعي من الذئاب التي تتربص بالقطيع- إنها فكرة خزعبلاتية بالكامل حين يؤمن الغالبية أن من يحميهم هو مطابقة هويّتهم للنموذج المقترح في الدستور، وخروجهم عن النموذج سوف يعرّضهم للخطر.

حين يُستبدل كيان الدولة الخدماتية بالهوية لا تعود السلطة -ممثلة في الحكومة الحالية- مُطالبة بالتزامات تجاه الشعب، لا تعود مُطالبة بخدمات تعليم أو صحة أو تغذية أو عدالة، ولا تعود مُطالبة بميزانيات مُكلّفة -وعموماً، فإن سياسات الهوية مُفيدة للبِزنِس، ومفيدة لسوق السلاح. ويصير مقياس نجاح السلطة/الحكومة ميتافيزيقياً: هل تحمي "الهوية" أم لا؟

Wednesday, September 5, 2012

العاطفة والسلاح




يعطي هذا الاقتباس فكرة عن سوق العمل - العالمية- هذه الأيام، يفترضُ -بناء على دراسة مزعومة لـ"نفساني" اسمه والتر ميشِل، أن "عدد الثواني" التي يستغرقها طفل في الرابعة لمقاومة حلوى المارشمِللو، هي مقياس "موثوق" لمدى تفوّقه الآكاديمي والعملي في حياته المستقبلية. حسناً، أنا لا أتحدث بشكل خاص عن بجاحة استخدام كلمة "موثوق" إنما ما يروّج- في فضاءات الثقافة الشعبية- من خرافات تتعلق بسوق العمل/أو الدراسة، ومواصفات/مقاييس النجاح الإنساني. التي لم تعد إنسانية أبداً. 

يعتمد الاقتباس- سواء كانت دراسة حقيقية أم لا- على تحيّزات موجودة سلفاً في ذهن المتلقّي: منها احتقار ما يمكن تسميته بالـ"ضعف الانساني" أو كل ما يجعل المرء انساناً، بتعبير آخر، ومنه ما يتوقع من أي طفل في الرابعة لن يقاوم اغواء الحلوى، ولكي يُعطي انطباع وهمي بالوسطية وعدم المبالغة فهو يدّعي أنه مُجرد "مقياس/إندكس" يعتمد أساليب "علمية/رياضية/دقيقة" مثل "عدد الثواني". لكنه سيان، السؤال: مُذ متى كانت مقاييس النجاح العملي والدراسي بهذه "اللا-آدمية"؟  يفترض وجود "كائن" منيع على "الضعف الإنساني" يستطيع مقاومة الحلوى. 

اذن، الاستنتاج أن عدم تمكّن الفرد من الحصول على تعليم جيد/شهادة راقية/وظيفة جيدة هو خطأه بالكامل، بل أن الاقتباس يفترض نتائج أكثر ميتافيزيقية حين يُلغي كلياً عامل العنف المنزلي/البيئة/الظروف/الحالة الاقتصادية/الظلم الاجتماعي، ويُرجع أسباب الفشل إلى مصدر مجهول، غامض، فوق-واقعي، فلا أحد يعرف بدقة لماذا قد يقاوم طفلٌ المارشميللو ولا يقاومه آخر. خاصة أن السنّ المقترح صغير جداً على تكوين الشخصية -أربعة سنوات، أقل من اقتراح فرويد: خمسة سنوات- اذن هو لوم الضحية من جديد، لكن ما علاقة هذا بسياسات سوق العمل الحالية؟

نتيجة لتسيّد مبدأ الربح، الربح للربح، تقليل التكلفة - لدرجة أنه، قطاعات مؤسسية كاملة المفترض والمتوقع منها أن تهتم بالعامل البشري، تضمن ظروفا آدمية له، وتحرص على حقوقه داخل المُنشأة الرأسمالية - وأعني قطاع "الموارد البشرية"، بغض النظر عن أدبيات تنمية الموارد البشرية المعاصرة فإن دور هذا القطاع في أية شركة "خاصة" هو "تقليل التكلفة"، بينما يصبح دور بقية القطاعات "تعظيم الربح". إن قطاع الموارد البشرية الناجح - بحد تصوّر هؤلاء- هو الذي يؤدي عمليات Downsizing ناجحة، وذلك باقناع العاملين أن كثرتهم "تقلل الأرباح"، أي تؤدي لفشل الشركة عملياً. إنهم "غير مُنتجين"، مُهدرين للوقت والجهد والمال. خرافات الموارد البشرية (وتنميتها) لها أصلٌ متمثل في عمليات احلال الآلة محلّ الإنسان في المصنع. المفترض اذن أن العامل البشري - في الأصل - غير كفء. وبحاجة لتنمية، قطاعات الموارد البشرية هي المسؤولة عن لقاءات التوظيف وهي بالطبع المسؤولة (أو الحارس والحامي) لأفكار "التخصص وتقسيم العمل" لماكس فيبر واعادة تأكيد مبادئ الادارة العلمية.

وهذه الأفكار تنتمي للقرن العشرين، قبلها، في كتاب "الآيديولوجيا الألمانية"، اقترح كل من انغلز وماركس وجود طبقة تمتلك وسائل الانتاج المادية، وهذا يعني بطبيعة الحال امتلاكها لكل النتاج الفكري لمجتمع ما، كان هذا في القرن التاسع عشر وما قبله: وثمة طبقتين، طبقة مالكة وأخرى عاملة، في القرن العشرين -قرن الطبقة الوسطى- وأفكار ماركس وانغلز لا تزال وجيهة، بشكل خاص: "حين يكون هنالك فريقان من الأفراد داخل هذه الطبقة نفسها - أي الطبقة المالكة- إن فئة منهم ستضم مفكري هذه الطبقة، الآيديولوجيين الفعالين، القادرين على الارتفاع إلى مستوى النظرية، الذين يكسبون أود حياتهم الرئيسي من انشاء الوهم الذي تكونه هذه الطبقة عن نفسها، في حين أن الآخرين سيكون لهم موقف أكثر سلبية، موقف التلقي لهذه الأفكار وهذه الأوهام، لأنهم فعلا الأعضاء الفعالون في هذه الطبقة، وليس لديهم متسع من الوقت ليكونوا أوهاماً وأفكارا عن أشخاصهم."

قد تُفسّر هذه الفقرة كونها تقصد "الطبقة الوسطى" بتلك الفئة "السلبية فكرياً" والفعالة من الناحية العملية، لكن الملاحظات من الميول اللا-آدمية لسوق العمل الحالية أنها تروّج لخرافات عن وجود أفراد - ليس شرطا انتماءهم لطبقة معينة- بفعالية وكفاءة تامة، ليست الفكرة مُجرّد أن تحل الآلة محلّ الإنسان في المصنع، الإنسان غير الكفء، العامل مثير الشغب، كثير الانجاب، الهمجي، المهمش، المهاجر (immigrant)، العاجز فكرياً، الخ: إن الآلة اذن هي الذكاء الغبي -بحد تعبير جان بودريار- هي لم تصل بعد لمستوى الأفراد الذين يصفهم اقتباس ماركس وانغلز "الآيديولوجيين الفعالين"، بل أن الآلة في الواقع سوف تكون - أو صارت- العضو الفعّال في الطبقة المالكة، التي "تتلقى الأوهام" وتنفّذ.

العاطفة

نزع الآدمية عن الانسان العامل- لجعله أكثر كفاءة - يمهّد لهذه النتيجة ولو نظرياً (وفنيّاً)، في عصر الثورات فإن الطبقة العاملة هي التهديد وهي العدو، وهي الفوضى وهي نهاية الحضارة، وهذا ما توافق عليه هوليوود في أكثر أفلام الخيال العلمي ذيوعاً: أفلام الخيال العلمي التي تتخيل نهاية الحضارة الغربية -أو مرحلة مستقبلية متقدمة للغاية منها، مثل Terminator بأجزاءه، والماتركس، و District 9 و بروميثويس وغيرها، لا يعود ثمة تقسيم طبقي تقليدي: تختفي الطبقة العاملة، ويحلّ محلها -كأفراد عاملين/فعّالين، منفذين، خدميين: آلات من الذكاء الاصطناعي، إنها الطبقة "السلبية آيديولوجياً" بحسب اقتباس ماركس وانغلز، والتي تُقدّم حلاً نهائيا ومريحاً "لمشكلة" الطبقة العاملة، أخصّ بالذكر شخصية ديفيد من فيلم ريدلي سكُت الأخير، بروميثيوس، مذ ظهر الروبوت ديفيد على الشاشة كان يؤدي أعمالا متدنية- التي قد يقوم بها "الخدم" في منزل برجوازي تقليدي- لكنه في الوقت ذاته "يعلّم" نفسه ذاتياً، يتشرّب ويتشبع -يسجّل، من حيث كون الآلة كذلك ذاكرة ذات سعة تخزين مهولة- أفكار الطبقة العليا: التاريخ، اللغات، الموسيقى، الفنون، الأفلام - فيلم لورنس العرب بشكل خاص، ولا ندري لماذا اختير  لورنس العرب، إلا أنه شكل بدائي ومباشر للعلاقة "المثالية" في نظر الامبريالي، بينه وبين أهل المستعمرات -الأدنى منه "حضاريا" أو فكريا- المسألة أن ديفيد الإنسان الآلي يشاهد الفيلم، ويتأثر بشخصية لورنس و يحاول محاكاتها جسدياً، كمحاولة مؤكدة لمحاكاة و "حفظ" المبادئ الثقافية/الفكرية "للطبقة العليا"، الطبقة التي "صنعت" ديفيد. منذ ظهور ديفيد وهنالك تلميحات درامية "لإنسانيته"، صحيح أنه بلا مشاعر، إلا أن لديه "اهتمام" غريب بإليزابِث شو، المستكشفة والعالِمة التي كانت ضمن طاقم المركبة الفضائية "بروميثيوس"، إن إليزابِث تنتمي للطبقة العليا، طبقى أعلى من ديفيد الروبوت، إن ما يفرق بينهما أنها، إليزابث "فعّالة آيديولوجياً"، هي "مؤمنة" بأفكارها عن أصل الإنسان والحضارات - وكذلك مركزية الإنسان الغربي- إن ما تبدو رحلة فضائية استكشافية بريئة هي في الواقع محاكاة للارساليات الكولونيالية، خاصة مع تماثل "ايمان" إليزابِث وحبيبها/زميلها  بالإيمان "بأرض الميعاد" و"أقاليم العهد القديم" بحسب التعبير الانجيلي -في الفيلم، والد إليزابِث كان كاهناً في ارسالية - و ديفيد إنما - بوصفه العضو السلبي آيديولوجياً والفعّال عملياً- يحاكي الكولونيالي (لورنس العرب).

 حبيب إليزابِث - البشري- في الفيلم لا يتمتع بنفس "قوة إيمانها"، إلى جانب كونه شكوكي فهو "غير كفء"، في مشهد موحٍ كان فيه يعاقر الخمر، يتودد إليه ديفيد ويدس في كأسه الجرثومة التي سوف تقتله فيما بعد. في نهاية الفيلم، لا يبقى من أعضاء البعثة الفضائية إلا إليزابِث - التي رغم تعرّضها لامتحان لايمانها، لا تزال مُصرّة على تقصّي واكتشاف هذا الإيمان- و ديفيد الآلي، لقد تم تصفية كل البشر -غير الأكفّاء، سواء آيديولوجياً أو عملياً- على المركبة، ولم يبق إلا العضوين الأكثر تطرّفاً. ويشكّل إليزابِث و ديفيد "ثنائياً" ناجحاً، فهي الآيديولوجيا، وهو "التقنية": هو الوحيد الذي يُجيد التكنولوجيا اللازمة لاستكمال بعثتهما. صحيح أنه في فيلم سكُت ليس واضحاً كلياً كون "ديفيد" الآلة، في الواقع، أداة قتل شديدة الكفاءة، تماماً مثل طائرات درون. وأظن أن المُخرج تجنّب هذا المنحى الدرامي لأنه عولج في فيلم الترمينيتُر.



السلاح

 في ترمينيتُر - خاصة الجزء الثاني- تظهر الآلة التي كانت تحاول قتل سارة كونُر - والدة زعيم المقاومة المستقبلية ضد الآلات- وقد أصبحت في صفّ سارة وابنها. إنها نتيجة طبيعية، حين صارت الطبقة الحاكمة هي صاحبة الآيديولوجيا، ممثلة في زعيمها جون كونُر، بينما يصبح الترمينيتُر العضو السلبي آيديولوجياً الفعّال عملياً، هنالك تراتبية ملتبسة، فعملية اعادة برمجة الترمينتُر وارساله للماضي/الحاضر -رغم كونها نظرياً في المستقبل- صارت حدثا "سابقا" على أحداث الفيلم ذاتها:  سارة كونر وابنها، والمطاردات، والقتل. بينما صارت كونُر والابن هي المستقبل الذي يجب حمايته، مستقبل البشر - أو الحضارة الغربية، بشكل خاص- على لسانه في الفيلم، حين يسأله الطفل كونُر لماذا عليه أن يقتل أي شخص في طريقه، يجيب الآلة أن هذا مُبرر لأنه آداة "قتل/Terminator" بالمعنى الحرفي. بغض النظر عن تمجيد العنف في الفيلم وتصويره على أنه الشيء الوجيه الوحيد الذي يجب على طفل في الحادية عشر من عمره أن يتعلمه -في مشهد، يسخر جون كونُر الطفل من زملاءه من الصبية الذين لا يلعبون إلا النينتِندو (قد تُفسّر سخرية الطفل المُبالغ فيها كذلك كازدراء لكل ما هو غير أمريكي)- في نفس المشهد الذي يكتشف فيه مع الترمينيتُر كنزاً من السلاح - أعدّته سارة- بينما يتبادلان الابتسام والرضا. فيما بعد، تتأمل سارة ابنها و الترمينتُر وهم معاً متفاهمين، وتفكّر في أن الآلة هو البديل المثالي - الكفء- للأب أو الرجل في الأسرة، فهو لا يسكر ولا يضرب الطفل ولا يؤذيه وسوف يظل معه للأبد. (سوف يظل آلة القتل الخاصة به، طبعاً)، أجواء الفيلم تعكس تطرّفاً آيديولوجياً - حتى لو كان بلا معالم- فآيديولوجيا سارة كونُر واضحة: ابنها، جون كونُر، "أولوية"، ليس لأنه ابنها، بل لأنه زعيم المقاومة المستقبلية، الحب بين الأم والابن باهت وهامشي. واهتمام الأم بابنها ليس بسبب كلاسيكية العلاقة بين الأم والابن -في مشهد تلوم فيه سارة ابنها لأنه أتى لانقاذها وتخليصها من سجنها، وتخبره أنه لا أهمية لها حتى وهي أمّه، بينما له هو كل الأهمية لأنه "الزعيم"-  هذا يعني أن كثيرا من الأبرياء سقطوا قتلى -ضحايا- معارك بين طرفين فوق-واقعيين، خياليين كلية! الترمينتُر الخاص بكونُر، والآلة الأخرى - شرير الفيلم- الذي بعثته التقنية المتمرّدة. فكما أن بطل الفيلم الآلي هو خير مُتخيّل/خرافي، وغير آدمي، فإن الشرّ كذلك خرافي (غير آدمي). المهم أن شخص واحد - يمثّل، في الواقع، فكرة- هو الأولوية المُطلقة، ولا بأس ولا ضرر إن قُتل أو تأذّى كل ما عداه.
 يبلغ الفيلم منعطفا مخيفا حين يجلب مشهد كادت فيه سارة كونُر أن تقتل الرجل الذي اخترع التقنية المؤدية فيما بعد لأن تسود الآلات - وهو، أمريكي-أفريقي!- إن مشهد تعرّض رجل أسود للعنف، الأذى، الاصابة، والقتل، يُبرَّر على الشاشة، بمنطق الأولويات الذي يسوقه الفيلم. الآلة/الترمينتُر تُحافظ علي الأولويات الآيديولوجية ويكون دورها هو حمايتها دون تسامح، كما أنه يمثّل آلة حفظ/Hard Drive للحضارة الغربية، في مشهد تُعاد برمجته ليصبح أكثر استيعاباً لما يُمليه عليه الطفل كونُر من مبادئ ثقافية.



الوحش

فيلم ترمينيتُر -وغيره-  يقدم تخيّلاً مباشراً لهذا الشكل الطبقي المُفترض، حين صارت الآلات تمثّل الطبقة العاملة/العدو، التهديد الموجه للحضارة الغربية، إن التقنية، في أصلها، هي الجزء المادي/العملي من الجهد الإنساني، وهي شكل من أشكال الأنشطة الحِرفية التي احتقرها منظّرو الفلسفة الغربية في بداياتها الاغريقية، بطبيعة الحال: التقنية تثير الريبة، تُهدد الشقّ الفكري من الحضارة الغربية، صحيح أنها حالياً هي الجانب الكفء/الفعّال/المُدرّ للربح/والمقلل للتكلفة إلى أقصى حدّ، والذي يُروّج بوصفه المثال والنموذج للنجاح العملي: المفترض أن يقاوم الانسان نزعاته "الانسانية" مثل العواطف، الشوق لأكل الحلوى، إن هذا يجرّده ويجعله أكثر "أماناً" على مبادئ السيادة التي تسوقها الطبقة المالكة لوسائل الانتاج الفكري والمادي، ويجعله أكثر نفعاً فهو لا يكلّفها، ولا يخطئ في تخصصه العملي. لكن الآلات - والأشكال الآلية من العمّال والعتبة الهشة بين الآلة-والإنسان- تُسبب ذعراً داخل الخطاب الرسمي للمركزية الغربية، يكاد يُماثل الذعر من الهامش/العمالة المهاجرة قليلة الأجر/المخلوقات الفضائية القبيحة (كما يقدمّها فيلم District 9 ) إنها الكائنات التي تصنع التقنية/الأدوات، وتجيد استخدامها/لها دورها الحِرَفي، بل لا أحد -من الفعّالين آيديولوجياً-  يجيد التقنية غيرها (في مشهد موح، رجل عصابة يرغب في التحول لمخلوق فضائي خصيصا كي يتمكن من استخدام أسلحتهم).
 إن اعادة انتاج ومعالجة هذه الثيمات التي تصوّر آلات ثائرة على الحضارة الغربية أو مخلوقات فضائية شديدة البشاعة والتوحّش لكن تتمتع بذكاء تقني مُخيف - وربما هكذا كان يتصوّر آرسطو تفوّق المصريين القدماء في التشييد- يعكس ذعر المركز الغربي من طبقة جديدة هامشية هو من صَنَعَهَا، روّج لها بخرافاته، وبارَكَهَا.