Thursday, January 24, 2013

جانغو طليقاً، أو خصخصة العدالة.

بوستر فيلم تارانتينو الجديد، جانغو طليقاً



رغم أن الطابع العام للقصة يوحي أنها عن "تحرير العبيد"، أو تتبنّى خطاب "العدالة والمساواة والإخاء" الفرنكو-أوروبي، فإنها على العكس تماما، ترسّخ لخطاب السلطة المؤسس للممارسات العرقية المعادية للسود وللمهمشين اجتماعيا بشكل عام. 


جانغو، جايمي فوكس، ضمن طابور العبيد، بينما يتفحّصه د.شولتز

هي قصة عن طبيب ألماني "كينغ شولتز" يأتي إلى ولايات الجنوب الأمريكي، متخليا عن مهنته الأصلية لأجل صيد الجوائز، فهذه تحقق له ثروة أكبر.  يبدأ الفيلم بمشهد طويل لشولتز يعترض فيه طريق أخوين من تجّار العبيد، في الليل، يجرّون ورائهم صفاً من الأفارقة الأمريكان، بعد أن يقتل شولتز أحدهما ويجرح الآخر، "يحرر" جانغو  لغرض، فهذا يعرف شكل ثلاثة من المطلوبين "أحياء أو أموات"، وهؤلاء يطاردهم شولتز.

حبكة الفيلم مباشرة وساذجة، وهنالك عدة أسئلة تثيرها، منها:




جانغو، أو جايمي فوكس، إلى اليمين، كريستوف فالتز (كينغ شولتز) يساراً
١. لماذا "جانغو"؟

لأن جانغو "فعّال" اقتصاديا للسيّد الألماني، الطبيب، المثقف وذي البرستيج الاجتماعي. رغم أن فعل تحريره لم يكن دافعه الفعالية السياسية لجانغو: مثله مثل قومه من الأفارقة قد تعرض جانغو لظلم بشع، لكن منطق الفيلم لا يعمل بهذه الطريقة، ليس ثمة منطق حقوقي "لصعود" جانغو، جانغو لم يصبح بطلاً لأنه قرر أن يقاوم الظلم، بل أصبح كذلك لأنه "فعّال" لنظام أكثر استنارة، أيا كان هذا النظام، النظام السائد والقديم في الجنوب قد أهدر امكانات جانغو العملية، وهذا "رأس مال" مُهدر، الدولة المركزية لم تستطع استغلاله، فيأتي ممثلا لها يعيد النظام إلى الفوضى "الادارية"، لقد صار جانغو ذراعا أمنياً للنظام المركزي في الشمال، إن الجنوب "مغضوب عليه" والشمال "المركزي" لا يرى فائدة في تنمية الهامش الجنوبي، فليُترك كما هو، بلا قانون، لكنه "يُنتج" أفراد مُجرمين يعكرون صفو المركز الشمالي. ولأن أغلبهم أو كلّهم ممّن يسمّيهم الشمال "white trash" ولذا يجب استخدام جانغو، العدو "السياسي" للحثالة البيضاء، لأجل خلق نظام أمني مركزي "أكثر كفاءة" وأقل تكلفة.  إن جانغو يفقد "حريّته" وتميزه إذا لم يعد مفيدا أو فعالا اقتصاديا للمركز. إنه "الزنجي الواحد من بين ألف زنجي" على حدّ قول الاقطاعي كالفِن كاندي، الذي هو فعّال بما فيه الكفاية ليجسّد "بطشا أمنيا" لسلطة الاقطاعيين في الجنوب، الذين يستخدمون قوّتهم لتسيير قانونهم الخاص، مُتحدين بذلك قانون الدولة المركزية. 


٢. لماذا يأتي ألماني إلى الجنوب؟
جانغو منفذا حكم الاعدام، في الأخوين شافِر، بالنيابة عن شولتز

إن الألماني مُهمش بطبيعة الحال في البيئة الأمريكية - بسبب صراع ثقافي بين ثقافته الأوروبية/الجرمانية، وبين الثقافة الأمريكية- وقد ذهب للجنوب متخليا عن مهنته الأساسية، بشكل ما، هذا يتطابق مع النمط الأمريكي عن الصعود وتحقيق النجاح/الثروة. لقد اختار "شولتز" الجنوب لأنه هامشي، بلا قانون، إنه خارج اهتمام المركز الشمالي، ليس ثمة تغلغلا أمنيا في الجنوب، العدالة لا تأخذ مجراها، أفراد النظام الأمني  غير قادرين على تنفيذ أحكام قضائه. إن العمل في الجنوب بالنسبة لذلك الطبيب الألماني هو وسيلة أخرى للإثراء، بما يتيحه مبدأ تكافؤ الفرص، لو ظل يعمل كطبيب لما حقق كل هذه الثروة، هذا النمط المهني قد ينجح في "المركز"، في الشمال، وهذا ما يعيه الطبيب، في مشهد البداية، بعدما يعطي مجموعة السود مفاتيح قيودهم، يخبرهم "ذاك هو نجم الشمال، ولكم الخيار في الذهاب لولاية أكثر استنارة." إن هذا المشهد هو ما أثار تساؤلي: لماذا لا تذهب أنت إلى ولاية أكثر استنارة؟ إن مهنته كطبيب تتطلب وجود دولة ونظام ضمان اجتماعي وقوانين رعاية صحية ـإلى حدٍ ما، كما أنها مهنة خدمية إلى حد كبير - رغم أن الطبيب، بطبيعة الحال، هو رمز من رموز السلطة- إلا أنه كي يمارس عمله فهو بحاجة لوجود الدولة بشكلها الخدمي، لا دولة الحد الأدنى، أو الدولة الحارسة. وهذا هو شكل المؤسسات في الجنوب، عدا الذراع الأمني، فإن الفقر هو السائد، "الحكومة" تتضاءل أمام مُلاك الأراضي والمزارع والاقطاعيين. الذين ينفذون قانونهم الخاص. لأنهم أصحاب رأس المال، وليس الدولة. وكما يقول بوردريار " إن رأس المال لم يرتبط أبدا بعقد مع المجتمع الذي يهمين عليه."

و تارانتينو في الفيلم لا يطرح خطابا مضادا لخطاب رأس المال، بالعكس، ولا يطالب بشكل من أشكال العقد الاجتماعي، بل يقدم لنا "عركة بلطجية" في قمة السذاجة، بين طرفين يقول كل منهما للآخر "هذا نسبي، وهذا حسبي" مشيرين للسلاح والمال.
شكل المقاومة الذي يقترحه - أولا، في شخص كينغ شولتز، ثم في جانغو- لا يكون مستعدا بالكامل "للتفاوض" مع سلطة الاقطاع إلا على أساس رأس المال. ورأس المال الذي يراكمه شولتز وجانغو إنما يأتي من حالة "غياب الدولة" مثل أي شكل من أشكال الليبرتانيانِزم، فعملية صيد الجوائز تصبح "فعّالة" وأقل كلفة للحكومة المركزية، من تدخلها المباشر لفرض القانون ومطاردة المجرمين، وهي كذلك تصبح مصدر للاثراء السريع لصيادي الجوائز بسبب غياب الدولة الكامل وافساحها المجال "اقتصادياً" لهؤلاء للتكسّب من هذه المهنة. فما يحدث، يمكن وصفه بمصطلح طريف هو "خصخصة العدالة"!



٣.  لماذا يخفق الفيلم في تقديم رسالته "الحقوقية" ؟

حوار حضاري مستنير بين شولتز وبرومهيلدا


أول الأسباب هو تمجيده للبطرياركية، إن جانغو ليس إلا قصة "فيجيلانتي" أو "بطل خارق" مثل "العسس" أو باتمان، أو غيرهم. بل حتى محاولة تارنتينو لصنع بطل شعبي منه تفشل فشلا ذريعاً، إن قصة بطولة جانغو لا تنبع مباشرة من أصالة التجربة السوداء أو المعاناة أو الفقر أو بيئة الجنوب الأمريكي الشرس، فهي لا تعدو قصة "دامزِل إن دسترس" أو قصة تحرير الأميرة الحبيسة، وهذه الأميرة هي زوجة جانغو "برومهيلدا" التي يحتفظ بها كالفِن كاندي. اقطاعي ومالك لثالث أكبر مزرعة قطن في ولاية الميسيسبي. وشولتز وجانغو لا يذهبان إلا بممارسة الحيلة ومنطق "رأس المال" لأجل تحرير برومهيلدا. وسوف أتغاضى عن السقطات المنطقية في الحبكة وسوف أكتفي بالاشارة للسقطات الحقوقية، لا يثار اهتمام البطريارك الألماني المستنير - شولتز- لشأن جانغو وزوجته إلا حين يعرف باسمها الجرماني، ففي الأسطورة الجرمانية، برومهيلدا هي أميرة حبسها أبيها على قمة جبل وجعل تنينا يحرسها. ولا تتحرر إلا حين يأتي إليها "البطل" الجرماني سيغفريد. هذه قصة يحكيها السيد الجرماني الرومانتيكي إلى الزنجي جانغو حول النيران في الليل، وكلاهما تشتعل فيه نزعات بطرياركية رومانتيكية، وفي حين كان تحرير برومهيلدا "السوداء" هو غرض جانغو منذ القدم. فإن هذا يصير هدفا "سامياً" في نفس شولتز، مثيرا لديه نزعات "الرومانتيكية الجرمانية"، برومهيلدا وتحريرها لا يداعب فقط نزعات "عبء الرجل الأبيض" لدى الألماني، وكذلك قناعته بأن النساء السوداوات -الملونات، بحد تعبير غاياتري سبيفاك- بحاجة لرجل أبيض يحررهن. بل أن برومهيلدا "فعّالة" اقتصاديا- مثلها مثل جانغو- بالنسبة للألماني، وتمثل رأس مالاً ثقافياً لديه لأنها تجيد لغته الألمانية! ولكن الأخطر من ذلك كله أن جانغو لا يصير بطلاً شعبيا، أو لا يصير بطلا على الاطلاق إلا حين يعيد انتاج خرافات الغرب الأبيض/الأوروبي الاستعماري، وأساطيره، وسردياته الكبرى. جانغو يحصل على مباركة الجرماني الأبيض لأنه سوف "يلعب" دور سيغفريد  (البطل الأبيض) في خرافة أوروبية!


٤. الكوكلوكس كلان كانت نُكتة؟ 
معالجة مُحبطة وسطحية للكوكلوكس-كلان

كما أن الفيلم يسفّه الجنوب، ويسفه التنظيمات الارهابية التي أنتجها، مثل الكوكلوكس كلان، ويسفه مسألة استهدافها للزنوج أو المهمشين اجتماعيا، وقد حوّلها إلى مشهد "كوميدي" لمجموعة من الجنوبيين الفلاحين البلهاء، الذين بتحريض من مالك المزرعة الذين يعملون فيها، يذهبون بنيّة قتل جانغو، وهذا يشترك في قتلهم بمساعدة شولتز. المشهد تافه وبه حوار طويل يُبرز هؤلاء الجنوبيين كمجموعة من الحمقى، يرتدون أقنعة لا يدرون سبب ارتدائهم لها (رغم الغرض الرمزي القوي لأقنعة الكوكلوكس كلان البيضاء)، لقد اكتفى المخرج بالسخرية من هذه الأقنعة دون معالجة أكثر عمقاً للمعنى الديني أو الطقوسي أو الرمزي. وكأن هذه الجماعة كانت نتيجة "هلوسة" ليلية جماعية أو مُجرد طفح أدرينالين لمجموعة من المراهقين، متجاهلاً الأسس العرقية، والثقافية، والسياسية والتاريخية والدينية. ما يثير التساؤل لماذا ضيّع تارانتينو على نفسه هذه الفرصة الدرامية؟ هل تقديم مشهد درامي مُحترم بحجم "الكوكلوكس كلان" ودورهم في الجنوب وفي السياسة الأمريكية "كيتش" سينمائي مثلاً؟

٥. لماذا برومهيلدا؟

كانت ثمة نساء أخريات لدى السيد الاقطاعي كالفن كاندي، بغض النظر عن تمثال نفرتيتي - يماثل ذلك الموجود في متحف برلين- القابع في مدخل منزله، ثمة امرأة سوداء اسمها "شيبا"، لكن على أية حال، السيد شولتز رجل ألماني مستنير، والاجابة عن سؤال "لماذا برومهيلدا؟" يجري في نفس سياق الاجابة عن سؤال غايتري سبيفاك، "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" وبينما يتكلم جانغو الحرّ بلغة السلاح، وهي لغة البطريارك/المستعمر، وهي اللغة التي علّمه اياها شولتز، فإن "برومهيلدا" كذلك تتحدث بلغة البطريارك، لذلك هي أهم من النساء الملونات الأخريات أو "ذات قيمة" أكبر! في كلتا الحالتين، جانغو وبرومهيلدا، لا يتحرر التابع، بمنطق سبيفاك، لا يمتلك دفة الحديث عن نفسه، بلغته، لأنه يستخدم "لوغوس" المركز/الاستعماري/البطريارك. لكن ما الدليل على أن كليهما لم يتحرر؟ حسنا، بالنسبة لبرومهيلدا فإن تحررها يبدأ أولا بتحررها من وصاية البطريارك، فهي لا تحتاج لانقاذ جانغو، أو انقاذ شولتز، بل تحتاج لخطاب مضاد لكل هذه الوصاية.


٦.  هل صار جانغو ندّاً؟
مسيو كاندي، أو ليوناردو ديكابريو على اليمين، يهدد شولتز بحياة برومهيلدا

كلا. لقد خلق تارنتينو مشهداً ساذجا للندية، بين الرومانتيكية الجرمانية والجلافة الأمريكية الجنوبية. قبل الحوار الأخير بين شولتز وكاندي. كان ثمة مشهدا درامياً: فبعد أن تفشل خطة شولتز وجانغو في خداع كاندي/اغراؤه بالمال، لأجل صفقة شراء عبد "مصارع" مزيفة، وسلب كاندي مالهما منهما. مقابل تحرير برومهيلدا. يجلس شولتز "مهزوما"، فرقيّه الأوروبي ومركزه العلمي/الثقافي، وذكاؤه وحيلته ودهاؤه قد فشلوا جميعا أمام همجية كاندي المباشرة. يجلس شولتز مكروباً بينما تعزف امرأة لحن Ode to joy لبيتهوفن، ينهض ذلك ويصرخ فيها أن تكفّ عن "عزف بيتهوفن"، كأنه فعل من أفعال "الشجب والتنديد" بشكل كاريكاتوري للغاية. أو كأن عزف بيتهوفن في "بيت كاندي" يعدّ عملاً نشاز ثقافياً.
في الحوار الأخير بين شولتز وكاندي، يعيد الأول جلب سيرة "دارتانيان" الزنجي الذي رماه كاندي للكلاب، ويسأل كاندي إن كان يعرف أنه شخصية في رواية دوما "الفرنسان الثلاثة"، كاندي يدّعي الفرنكفونية لكنه "جنوبي جاهل" من أجلاف حُمر الرقاب، كما يصوره الفيلم، بعد التساؤل عمّا اذا كان هذا الفعل سوف يرضي آلكسندر دوما. يخبره شولتز أن "دوما" كان زنجياً. وبينما يغادر الثلاثة، جانغو وشولتز وبرومهيلدا، يبتز كاندي شولتز ويجبره أن يصافحه، شولتز الجرماني، السيد الأبيض، الأوروبي المستنير، هو من يقتل كاندي. لا جانغو. إن دور جانغو في هذه القصة هو في التخلص من العمالة الزائدة، الرخوة، غير الكفء. الفاسدة، المسببة للشغب، إن لم يكونوا من الحثالة البيضاء، فهم كذلك من الزنوج الذين ينتحلون نموذج العم توم. إن جانغو يترقّى اجتماعيا وسلطويا لكن "بحدود"، وهو لا يجتاز هذه الحدود، ولا يقتص من "الرجل الكبير" أو السيد الأبيض المُحترم، بل إن هذا يجب أن يقتص منه سيد أبيض آخر "أكثر تحضرا" منه، بطبيعة الحال، هذا هو عبء الرجل الأبيض الأوروبي، شولتز.

٧. هل ستيفن هو العم توم، حقاَ؟

تجري شيطنة ستيفن/صامويل إل.جاسكون بجعله يمثل كل ظلامية وجهل الجنوب، كأنه هو السبب الأول والأخير للعنصرية وليس اقطاعيين مثل كاندي


 صحيح أنه نموذج بغيض، وقد تعاطف المشاهدون مع جانغو حين عاد ليقتص من "ستيفن" العجوز، رئيس الخدم في منزل كاندي، فهو من حرّض "سيده" كاندي على شولتز وجانغو. لكن، رغم هذا، ستيفن نفسه ضحية أسوأ حالاً بكثير من جانغو، وليس في الأمر مجالا للمزايدة، لكن ستيفن عجوز، وبحسب منطق الفيلم، كان جانغو في معركته الأخيرة يمثل قوة "تنظيف" لكل "الحثالة" في النظام الذين يعرقلونه والذين يهدرون موارده الثمينة، ستيفن صار عجوزا غير نافعاً "صلب الرأس" تقليدي وجاهل ومتأخر. فهو أكثر من ضحك على نكتة كاندي حين قال أنه لا يستطيع أن يحتمل المكوث أكثر من يومين في بوسطن، صحيح أن ستيفن مهمش لكنه الوجه القبيح للجنوب المهمش مثير المشاكل، إنه مبالغ في خنوعه ومقاومته "للحراك" الاجتماعي، إنه معاد "للنظام الجديد الشجاع" وللطموح الرأسمالي والطبقي. هو والحثالة البيضاء يجب تصفيتهم لأنهم غير فعالين لا سياسيا ولا اقتصادياً، وغير مفيدين "للمركز" الشمالي. وولاءهم يكون للاقطاع الجنوبي فحسب.

٨. ما هذا الهراء؟ 

وهو السؤال الذي ينتاب المرء في نهاية الفيلم، فمشهد حرق منزل كاندي ثم تفجيره ثم هذه الحركات السخيفة التي تقوم بها برومهيلدا مستقبلة جانغو  البطل بعد "غزوته" كأنما سوف تهتف له "يا سبعي!"، لكن الاعتراض الأقوى كان على الهراء المنطقي في الفيلم، وخلاصته أن "الجنوب دا فيه ناس وحشين التنين" رغم أنه مظلوم بشكل أو بآخر، معرض للتهميش والتجاهل من الحكومة المركزية، التي أخلت كل مسؤولية تجاهه.