Monday, December 27, 2010

Black Swan (2010)

 مشروع ١٠ سنوات آخر، هذه المرة مع دارِن آرنوفسكي، مخرج أفلام أخرى مشهورة شعبيا ونقدياً، مثل مرثية حلم. المصارع، وغيرها. أجد أن المعضلة السيكولوجية الرئيسة للفيلم، ليست فكرة "القرين". بل الكمال. فيلمي البجعة السوداء، والمصارع، يكمّلان بعضهما- بحسب قول آرنوفسكي- في استكشاف الهوس المُرهق، والمُهلك، للإنسان، سواء نحو المجد أو الكمال. في حين أن فيلمه المصارع يلعب على وتر المجد العابر لبطل مصارعة يتقدم في السن، يفقد قوته بالتدريج وكذلك شعبيته، رأيي أن فيلم البجعة السوداء أكثر ثقلاً من الناحية الدرامية، السيكولوجية والفلسفية، فيلم المصارع يتناول موضوع العاطفة، والوحدة، والعلاقة بين الأب والابنة. ومسائل "انسانية" أخرى أكثر لطفاً، حتى أحداثه تدور أغلب الوقت في "العالم السفلي" للمصارعين المأجورين، في الكابينة التي يسكن بها بطل الفيلم، في الحانة التي تعمل بها حبيبته، كلها أماكن "متواضعة". قبيحة، في حين يُثقل فيلم البجعة السوداء باعتبارات الجمال الحادة والمتطرفة، يُحسب لآرنوفسكي محاولاته الناجحة في اسكتشاف عوالم أناس مرهقين دوماً ومُستنزفين حتى الموت بسبب مهنتهم المتطلبة، عاطفيا ونفسيا وجسدياً. وأكاد أحسّ أن آرنوفسكي يتفق معي لو قلنا أن حياة راقصة الباليه الأولى (باليرينا) أشدّ عنفاً وايلاما من حياة مصارع حرّ.

في طفولتي شاهدتُ فيلما يحكي قصة باليرينا تتدهور نفسياً، وتقع في هوّة الهوس الجنوني بوزنها، حتى ينال المرض كذلك جسدها، إنها في طريقها لبلوغ الكمال تُدمّر نفسها.

تأثرتُ بالفيلم، وبفضله صرتُ أرى أوضح، راقصة الباليه ليست مؤديّة فن، كمغنية الأوبرا، وليست منتجة له. ككاتبة أو رسّامة أو عازفة. هي ذاتها عملٌ فني.

حبكة الفيلم الخلفية تدور حول هوس نينا -البطلة- بالكمال. لكن هل هوس كلمة صحيحة؟ نعرف من الفيلم أن مهنتها الحالية كراقصة باليه إنما وُرّثتْ لها من أمّها. راقصة باليه قديمة لم تفلح في اكمال مسيرة الشهرة لأنها اضطرّت لتربية ابنتها. العلاقة السايكوباتية بين الأم والابنة جليّة تماما. الأم تحاول "تحويل" ابنتها إلى راقصة باليه كاملة/مثالية. كنوع من التعويض، العلاقة مُكهربة ومشدودة نفسياً. آرنوفسكي ينجح في تبيان "الظلام" الذي يسود الشقة التي تحيى بها الأم مع ابنتها لدرجة تجلب الاختناق للمشاهد. والأم تعامل نينا كطفلة، فهي متحكّمة تماماً بكل مناطق حياتها لدرجة أنها أحيانا تُلبسها وتخلع لها ملابسها. حجرة نينا مليئة "بالدباديب". كل شيء "وردي". "هوس الجمال/الكمال" الذي "يسكن" منزلهما يكاد يكون خانقا للمشاهد، في أول مشهد للفيلم تستيقظ نينا على الافطار الذي تعدّه لها أمها، ثمرة جريب وردية، تقول نينا بمرح : وردي!، جميل، جميل. ثم تردد الأم من ورائها : جميل.


علاقة أم/ابنة غير سوية، فنحن لا نجد في حياة نينا شيئا آخر غير الباليه، ونجد أمّها متحكّمة في كل عنصر بحياتها، لقد حوّلتها أمّها إلى الشيء الذي لم تستطع هي أن تكونه، ولم تسمح لها أن تكون شيئا آخر غيره.

في بداية الفيلم، حيث حلم نينا، نجدها تؤدي عرضاً للباليه، ويظهر معها رجل/ يراقصها ويتحول إلى هيئة موحشة/شيطانية. ولعل حلمها هذا محاولة من آرنوفسكي للعب - استاطيقياً- على مسألة الكمال، فهي لم تر "قرينتها" مهددة، إياها، في الأمر احالات فاوستية. وبعد الحلم في طريق نينا لمحل عملها تشاهد في المترو فتاة أخرى تكاد تماثلها شكلا.

هناك نشاهد للمرة الأولى "توما" مخرج العرض، يعدّ لعرض جديد للباليت الأزلي "بحيرة البجع". هذه المرّة يقدم معالجة جديدة للقصّة للتحوّل إلى "البجعة السوداء". تعديلات توما على القصة تتضمن ادخال شخصية البجعة السوداء. أخت توأم للبجعة البيضاء- البطلة الأصلية للأسطورة، أوديت، التي يسحرها  فون روثبارت، تتحول إلى بجعة محصورة اقامتها في بحيرة تخلّفت عن دموع أمها حزناً عليها، أوديت تعود انسانة فقط في الليل- وفي الأسطورة الأصلية هنالك أوديل، ابنة روثبارت التي تحاول خداع الأمير سيغفريد وايقاعه في حبائلها. الحبكة الأصلية أن سيغفريد يترك أوديت لأجل أوديل، هكذا تضيع فرصة أوديت للأبد في العودة بشرية من جديد، لأن "الحب الأبدي" الذي يجب أن يُررها ضاع منها. يعرف سيغفريد هذا ويعود محاولا كسب غفران أوديت من جديد، تسامحه لكنها تُغرق نفسها في البحيرة، لأن الموت هو الطريق الوحيد كي تستعيد حريّتها مجددا، خارج جسد البجعة. سيغفريد ينتحر معها تعبيرا عن حبه. تُختتم الباليته ببقائهما معاً، للأبد، في الجنة.

معالجة "توما" تدور حول ادخال "قرينة" لأوديت، الملكة البجعة، هي بجعة سوداء، المفترض أنها شريرة، مؤذية وجشعة تسعى للاستحواذ على الأمير. وحين تعرف أوديت بضياع الأمير منها تنتحر كذلك. ويبدو أنها تفعل هذا، هذه المرة، وحيدة دون الأمير.

في الفيلم "توما" يلعب ألعاب سيكولوجية مع نينا، ففي البداية يعطيها فكرة أنه اختار راقصة أخرى للدور الرئيسي، معللا هذا بضحالة نينا - دراميا- فهي لا تستطيع إلا أن تؤدي البجعة البيضاء، إنها هشّة، بريئة، متحفظة، تفتقر إلى الانطلاقة والحرارة العاطفية، كل حركاتها مُتحكم بها، منضبطة جداً.

تكتشف نينا فيما بعد أنها هي صاحبة الدور الرئيس. منذ هذه اللحظة بالضبط يبدأ مرضها النفسي. توما زرع داخل نينا - عن غير قصد- قلق أنها غير كفء لأداء الدور المزدوج. (بجعة بيضاء، وبجعة سوداء). تتربص نينا بنفسها، يستمر الفيلم مع مشاهد لتدريبات نينا أمام توما، العابث، ثم مشهد الاعلان الرئيسي لنينا بطلة العرض الجديد، وتوديع للملكة البجعة السابقة - بيث/تؤدي دورها وينونا رايدر- بعد الحفلة تنشب مشادة كلامية بين بيث ونينا، تعرف نينا بعد ذاك أن بيث حاولت الانتحار - صدمتها سيارة. ويعزز هذا لدى نينا المزيد من المشاعر السوداء والذنب.
النصف الثاني من الفيلم يشهد تقرّب ليلي/ميلا كونيس. من نينا، ليلي راقصة باليه كذلك لكنها أكثر انطلاقا وحرارة، و"عبثا" من نينا الملتزمة المتحفظة. في أحد المشاهد المهمة يعلّق توما على رقص ليلي : أنها لا تصطنع، حركاتها غير مضبوطة لكنها تنم عن عاطفة حقيقية. يؤجج هذا المزيد من المشاعر السيئة لدى نينا، البارانويا والهوس يجعلان نينا تقتنع أن ليلي هي المؤدية المثالية للبجعة السوداء. في حين أنها هي -نينا- لا يمكنها مهما حاولت أن تؤدي شيئا غير البجعة البيضاء. ليلي القوية المنطلقة، غير العابئة بالقوانين، حين تدخّن في قاعة الرقص. تشهد بكاء وذعر نينا الهشّة حين تصاب هذه بالتشوش من محاولات توما المستهترة للعبث معها واثارتها، وتعبر عن عجزها عن المواصلة. ثم تعرف نينا فيما بعد أن ليلي أخبرت توما بمدى الاستياء والبؤس الذي وصلت إليه نينا. وهذا يُظهر بمظهر أكثر ضعفا أمامه.

تستاء نينا من ليلي. لكن فيما بعد تذهب الأخيرة لبيتها لتعتذر. وتدعوها للخروج معها متأخر للشراب. أم نينا تعرب عن رفضها، وفي هذه اللحظة نشهد أول محاولة من نينا للتمرّد على حياتها السابقة، المنضبطة للغاية، كراقصة باليه ليس في حياتها شيئا آخر غير الباليه. وتذهب للسهر والقصف مع ليلي رغم تدريباتها المبكرة في اليوم التالي.


تتعقّد الأمور سيكولوجيا أكثر، لدى نينا، حين تزداد هلاوسها وحشية، إنها الآن صارت ترى وجهها في وجه ليلي - في اللحظات الأكثر عبثا وانحلالا للأخيرة. في اليوم التالي تذهب متأخرة للتدريب، وتجد ليلي ترتدي ملابس البجعة السوداء وقد حلّت محلّها في التدريب. تشرح لها الأخيرة أن توما جعلها بديلة.

المشهد التالي هو المشهد الأكثر جنونا وسوريالية. تعود نينا غاضبة لمنزلها، وهناك تهاجمها المزيد من الهلاوس المرعبة، جروح ظهرها التي كانت تظهر من حين لآخر - والتي نعرف أن علّتها الهوس المرضي لديها بخدش نفسها- تزداد توّرما وقد برز في ظهرها "ريش أسود". تحاول أمّها الدخول لحجرتها، تمنعها نينا بعنف مغلقة الباب على يدها.

نينا تستيقظ في مساء اليوم التالي - ليلة الحفل الكبير- وتجد أمها بجانبها، وقد اتصلت هذه بالشركة وأخبرت أن نينا لن تحضر لأنها - مريضة-. يجن جنون نينا، ولعلها في هذه اللحظة تدرك أن أمها كذلك تغار منها، ولا تريد لها النجاح، تريدها أن تفشل مثلها. تصل بارانويا ووحشة نينا لذروتها حين تجد الجميع عدائيين تجاهها، زميلاتها الراقصات يحقدن عليها، ليلي تحاول سلب الدور منها، توما يعبث بها. الخ.

تذهب نينا للعرض، وتنتزع من ليلي الدور من جديد، بعد أن آل للأخيرة حين علموا أنها لن تأتي للأداء. يدخل توما لحجرة تبديل الملابس ويخبرها أن ليلي صارت المؤدية الرئيسة بالفعل، وهناك يشهد "تحولا" لنينا، حين تخبره هذه بخبث إن كان قد أعلن ذاك، وأنه ربما لا يرغب في المزيد من الجدل بعد حادثة بيث.

أثناء العرض تتعثر نينا - بسبب المزيد من الهلاوس. يصب توما جمّ غضبه، وتعود هذه لحجرتها وتجد هناك ليلي، تغيظها هذه بشأن خطئها معبّرة عن "قلقها؛ من أن نينا غالبا لن تستطيع أداء الحركة التالية (تقصد، البجعة السوداء). ذروة الفيلم في هذه المشهد حين تجن نينا من جديد وتدفع ليلي إلى المرآة، - مع مزيد من الهلاوس، بتحوّل ليلي من حين لآخر للتتخذ شكل نينا- ثم تطعن نينا ليلي، وقد ظنت أنها قتلتها، تسحبها إلى الحمام.

لقد اكتمل "التحول الظلامي" لنينا، وهي الآن تنظر لنفسها في المرآة، تضع ماكياج البجعة السوداء، الشريرة، وعينيها محمرتان حمرة شيطانية. إنها حتى لا تهتم بالقتيلة ليلي، وتصعد نينا إلى خشبة المسرح مؤدية دور البجعة السوداء بامتياز، يصفق الجمهور بحرارة، وتنتشي هذه - لدرجة جنونية - بالمجد والتألق. نينا وصلت أخيراً للكمال حين صارت تنتقل - بلا أي صعوبة - من بجعة طيبة/فتاة بريئة وبيضاء، إلى بجعة سوداء/فتاة مغوية شريرة. 
المشهد الختامي حين تعود نينا لحجرة الملابس. وتغطي دماء ليلي المتسربة من باب الحمام بمنشفة، ثم تعود إلى المرآة، متأملة نفسها بزهو تكمل زينتها بلا أي شعور بالذنب. يُطرق بابها فتجد ليلي بالخارج تشيد بدورها، تُذهل نينا، وتفتح باب الحمام فلا تجد هنالك أية جثة. تنظر فتجد أن الطعنة المدماة إنما في معدتها هي. لقد قتلت نينا نفسها في نوبة هلوسة.
تصعد رغم ذلك لتؤدي مشهد ختام الباليت. وتلقي بنفسها -كما هو السيناريو- لكن حين تسقط، ووسط تصفيق الجمهور. نجد زيّها وقد أُدمي بالكامل. لعلها تحتضر، يُختتم الفيلم بتوما يستدعي اسعافا طبيا، ويسأل نينا عمّا فعلته، تقول هذه : لقد شعرتُ به. شعرتُ بالكمال
لعل آرنوفسكي يحاول تقديم قصة "تدمير ذات"، بمسحات فاوستية، حين تحاول نينا السعي للكمال، الكمال في دورها بالذات - بجعة بيضاء/بجعة سوداء- هوسها وكراهيتها لعجزها عن أداء الدور بشكل الصحيح يدفعانها لنوع من العنف تجاه النفس - هو الفيلم مرضها النفسي أو البارانويا- الجزء الرمزي هو قتل نينا لنفسها، هل قتلت نينا شخصية الفتاة الحلوة -بحد تعبير أمها- البريئة، البيضاء؟ كي تصل للكمال وتتمكن من أداء دور البجعة السوداء الشريرة؟ إن أفضل الأفلام في نظري - رغم اعجابي بالرمزية - هي التي تقدم رموزاً مضطربة، فوضوية، غير مصنوعة بالمسطرة. لا أريد فيلما أتمكن من القبض على رمزه بوضوح شديد ودقّة. أفضل ما بأفلام آرنوفسكي هو "روح العبث" التي تحوم بها. لا أظن أن آرنوفسكي كمخرج يهتم كثيرا بالرموز. غالبا يهتم باظهار التمزق العاطفي والنفسي لأرواح أبطاله، وأجسادهم.

No comments: