Sunday, August 1, 2010

ابن الإنسان



إننا نظن أن القسوة والعنف والعبودية، والخطر في الزقاق، والقلب، والسرية والرواقية، وفن التجريب والتعويذ على أنواعه، وكل شر مرعب ومستبد، وكل ما يشبه الأفاعي والضواري في الإنسان، يصلح جيداً، شأنه شأن ضده، لإعلاء النوع المسمّى : إنسان 
نيتشه - ما وراء الخير والشر

رفض نيتشه (جرمانيته)، وبرّأ نفسه من أية دماء "سيئة"، يقصد بها، الدماء الجرمانية خصوصاً، ثم ربط اسم عائلته بنبلاء بولنديين، في مواضع أخرى يشدد نيتشه، بفخر، على أصوله البولندية، وقد تخلّى عن جنسيته (البروسية) حين ذهب للعيش والدراسة والتدريس ببازل. وبقى إلى آخر حياته (بلا جنسية).

في مواضع أخرى يعارض نيتشه (الوطنية الألمانية)، ويقف موقف الرفض تجاه النزعات (المعادية للسامية) والتي وصلت إلى مداها (هي والوطنية الألمانية) في عصره. وفي هذا يؤدي دوره الأخلاقي كمنارة فكرية وفنية، حين يكون بوصلة بشرية للخير أو الصواب العام. 

هنالك شبه اتفاق أن نيتشه فضّل الثقافة الفرنسية على الألمانية.
لكن لماذا ؟
من الناحية الفلسفية فإن الثقافة الألمانية تُظهر تنوعاً وعمقاً وثراء فلسفي أو عقلاني أكثر من غيرها، بينما كانت فرنسا تجنح تحت نوع من (الموضة) الجمالية/الصحافية/الأدبية، وإن تكلم نيتشه عن الجميع بسوء (من بينهم، كانط، جون ميل، وسبينوزا)، فهو يظل معجباً بأشخاص غير (جرمانيين) أمثال ديستويفسكي الروسي (السلافي)، وبروير الفرنسي.


نيتشه يرفض ألمانيته لكنه في الحقيقة (بوق- مثل البوق الكبير في الأساطير النوردية) للثقافة الجرمانية، بل يفرد أكثر من ٣٠ صفحة في كتابه (أفول الأصنام) لبيان الفضائل الجرمانية القديمة والتحسّر على الحال (الألماني) الجديد، الخائر المرتكن إلى الجماليات الموسيقية. وفي الواقع، ينتقد نيتشه الوطنية الألمانية في عصره أو ذوبان الأفراد الألمان في الدولة، على حد قوله (الثقافة كانت دائماً نقيض للسياسة)، ولهذا يثني على فرنسا فردية شعبها، وهناك كل فرد مهتم بثقافته الذاتية. لكن مشكلة نيتشه أنه لا يخرج من قفص الخطاب الشعبوي الألماني، مثل من سبقوه، فهو يبدأ قائلاً: الألمان كانوا وكانوا، وبهذا الشكل يضطر الفرد الألماني دائماً أن يكتسب فردانية هي بالأساس مستمدة من صفات قومه، وتصير الفردانية وقتها محل شكّ.

الأساسي في فلسفة نيتشه أنه كان يبحث عن الإنسان ولا شيء غيره. الإنسان الذي لا امتداد له ولا مرجعية. نيتشه، فيلسوف بلا أي تبطينات صوفية أو رومانتيكية أو وطنية أو سياسية  هو ظاهرة فريدة في حد ذاتها إلى درجة اخراجه تماماً من تصنيف فيلسوف، ومعاملته كأديب أو مثقف.

لكن رؤية نيتشه الأخلاقية (اللا-أخلاقية) ترمي به في أحضان الفلسفة مجدداً، والأصيل في فلسفة نيتشه اعادة تعريفه للخير والشر في حدود إنسانية متطرفة، وحين نقول إنسانية متطرفة فنحن نقصد الشكل الإنساني المُحرر من التاريخ، الماضي، الدنيا، الآخرة، المجتمع، الوطن، الطبيعة، الأرض، الكون، حين نتأمل نيتشه ونرفض كونه فيلسوفاً فهذا لأنه (فيلسوف تائه) أو (الابن الضال للإنسان)، خلاف الشكل المعتاد للتنظيرات الفلسفية نيتشه لا يتناول الأصوال/الجذور، لا يحلل التاريخ والأخلاق، لا يخرج من الأرض إلى الحجارة، أو (من الكهف إلى المجتمع)، بل يبدأ كتابه (هكذا تكلم زرادشت) بإنسان على قمة جبل. أو نسر محلق.

حسب نيتشه، هنالك نوعين من الأخلاق، أخلاق أسياد وأخلاق عبيد، ومن هذا أتي الخير والشر، الخير بالنسبة للأسياد : المجد، المكانة، القوة، الثراء، الصحة، الجمال، الخ. وما عداه فقط هو الشر. بالنسبة للمرجعية الفردية للإنسان الواحد (الفرد).

حين يتلبّس العبيد الحضارة الإنسانية الحديثة تصبح أخلاق مثل : الزهد- التواضع- الفقر- الشفقة- التضحية- رعاية المرضى- احترام الكبار، الخ الخ. هي الخير، يريد نيتشه أن يقول: هي أخلاق عبيد، لأن العبيد الضعفاء، شديدي الضعة، عجزة ومرضى، جعلوا منها خيراً مطلقاً.

في كلامه هجوم على الثقافة المسيحية - اليهودية، التي شكّلت أوروبا مذ القرن الثاني بعد الميلاد وحتى الآن. الثقافة المسيحية -الرومانية أصلاً خرجت من روما في شكل بعثات تبشيرية إلى الأراضي الشمالية، وما كان يفصلها عن بربر الشمال هؤلاء (الجرمان) هو حدود خط (ليماس)، أو خط السيادة الرومانية القديم، وتقف أوروبا في القرون الميلادية الأولى، كأرض شاسعة بلا هوية واحدة (لا أوروبا)، إنما روما في مواجهة بربر الشمال. والطريف أنه بعد الاصلاح البروتستانتي، يُعاد تشكيل الثقافة الدينية في هذه القارة ليصبح من جديد، كل ما هو خارج خط ليماس بروتستانتي، ويبقى العالم الروماني القديم كاثوليكياً.

الاصلاح البروتستانتي حرر البشر من الأخلاق-الثقافة الكاثوليكية الرومية، والتي تختلف حتماً عن الثقافات الجرمانية ـالقديم منها والوثني)، وحتى القبائل البربرية (من قوط وجرمان وهون وآنغلو-ساكسون) قبل الاتحاد النهائي مع روما كانت تدين بالآريوسية (التي يصنّفها الفاتيكان كهرطقة). الأجزاء العليا من أوروبا واجهت صعوبات أبدية في التوحد مع الجنوب الروماني-الاغريقي. حتى الاغريق واجهوا صعوبة في التوحد مع الجنوب الروماني-الآيبيري، وهناك من المؤرخين من يعلق ساخراً، أن القسطنطينية قبلت السقوط في يد الأتراك. على ألا تتحد مع الكنيسة الرومانية.

وحين نقول أن المشكلة مبدئياً هي اللغة، فنحن من جديد نقول أن المشكلة هي الثقافة، أولاً وأخيراً. خرجت أول شرارة اصلاح بروتستانتي رسمي حين أعلن مارتن لوثر أنه سيترجم الإنجيل إلى الجرمانية. إن جرمانيا والآنغلو-ساسكون لديهم من العقد القديمة تجاه روما ما لديهم، إلى جانب الحرب الدائمة، موجات النهب من البربر التي توالت على روما ودمّرتها، ثم محاولات روما للغزو النظامي للشمال. إن نيتشه في كتاب (ما وراء الخير والشر) يشير بالفعل إلى الكاثوليكية كأصل أو روح (عِرْقية)، فهي متأصلة في الجنوب الآيبيري أو الشمال الفرنسي مهما تنصّل منها مفكرو هذه الأراضي، بينما الشمال البربري (ويؤكد نيتشه- نعم، الألمان بربر بلا شك)، كل تلك الكثلثكة غريبة عليه. وأي محاولة للهرطقة (آكا: الخروج عن الكثلكة)، هي بلا شك عودة للأصل البربري. (المجيد؟).

ترجمة الإنجيل للجرمانية ربما تعد محاولة غير واعية لاستعادة إرث وطني. تحولت هذه إلى سياسة وعنف حين اندلعت حرب الثلاثين عام، وحين تبنى ملوك الشمال، والكلت (الإنجليز) البروتستانتية.

حين تحاول ألمانيا النازية استعادة الإرث النوردي، فإنها تعادي اليهود خصوصاً، ألمانيا النازية بتوجهاتها الفاشية، والوثنية أحياناً، وبغض النظر عن الأصول العِرْقية التطهيرية لمعاداة اليهود، فإن اليهود يمثلون للشمال النوردي شعب غريب قدم من أراض بعيدة، كما أن ديانته هي الأساس للمسيحية، التي كانت غريبة تماماً على الشمال البربري النوردي في القرون الأولى للميلاد.


الأفكار البروتستاتنتية (سواء لوثرية أو كالفينية) تسير جنباً إلى جنب مع التوجهات الجرمانية في القرن التاسع عشر. ومارتن لوثر حين ينفي القداسة عن القديسين، ويلغي القداسة عمّن يساعد الفقراء. أو المتسوّلين. أو يلغي مفهوم الخطيئة الأصلية، إلى جانب أفكار كالفين في هذا الشأن (الأخير ينفي حرية الاختيار، فكل خطيئة تُرتكب قد قُدّرتْ سلفاً- على حد كلامه، وفي هذا يوافقه نيتشه، الذي يدافع بهذه الحجّة عن الصيرورة الهيراقليطية)، إنما كان يمهد إلى عصر من التحرر أو التسامح الأوروبي، أو عصر تنويري يتبعه عصر وطني.

في هذه الأثناء كانت أوروبا (فكرياً) ممزقة بين اتجاهين، الاتجاه الفلسفي الروماني (الأفلاطونية المسيحية - الأفلاطونية الجديدة- التصوفية)، و الاتجاه الطبيعي، المادي، أو اعادة ارث الفلاسفة الاغريق ومن بينهم أبيقور.

خطورة الفكر الأبيقوري أنه يحرر معتقنيه من الخوف من الموت. فأبيقور، كان يرى أنه- بما أن الإنسان سيموت حتماً- فلا داعي للقلق، لأننا لن نكون موجودين حين نموت. إذن فليستمتع المرء بحياته.
حين نجد هجوم نيتشه على العالم الكاثوليكي غير مبرر، لأن الثقافة الرومانية (أو، الحضارة) لم تصل إلى ألمانيا فعلاً إلا كاثوليكية، والأبجدية الألمانية تستخدم الأحرف اللاتينية، إن الإرث الطويل من الروحانية - العقلانية التقشفية، إنما وضعت الأساس الفلسفي للرومانتيكية، ثم العقلانية الألمانية -فيما بعد- بلا شك. قد نبالغ لو قلنا أن روما (سواء وثنية أو كاثوليكية) قدّ أرادت أن تعلّم أوروبا التفكير. إلا أن أوروبا بلا شك بدأت تفكّر -مستقلة- في ظل الموجات التبشيرية.
نيتشه متأثر بعمق بالإرث الاغريقي، بل أن ميوله وتوجهه الفلسفي محدد تماماً برؤى هيراقليطس والفلاسفة الآخرين ما قبل السقراطيين- نيتشه لا ينتهج الرواقية الأبيقورية فحسب، إنما كذلك يرفض الإرث الأخلاقي الذي تمت كثلكته لكل من (أرسطو - أفلاطون - أفلوطين)، ويعود إلى فلاسفة جسدوا الفردية أو المجد الاغريقي الهومري أمثال: فيثاغورث، إمبيدوقليس، هيراقليطس. الخ.

الآثار الهومرية واضحة في نيتشه، حين يرفض فكرة ميل الإنسان إلى (غريزة البقاء)، أو أن غريزة البقاء والحفاظ على الحياة ولو في أدنى صورها هي الهدف الأول للإنسان، بل يرى أن الإنسان، يبحث عن القوة. متكئاً في هذا على الصورة الهومرية للأبطال الإغريق، ويقول أن أحياناً، يضحي هؤلاء بحياتهم، لأجل أن يموتوا بمجد.

ومثلما رفض نيتشه التاريخ الأوروبي الكاثوليكي (١٢ قرن) من الضعة والتقشف والزهد، مثلما رفضه اللوثريون والكالفينيون.

يرفض نيتشه كذلك التصور المعتاد أن البشر يميليون إلى البحث عن السعادة والرضا، ملقياً بذلك أفكار (المنفعية) لتوماس ميل وراء ظهره. يمجد نيتشه الفردية، ويمجد التصور العام للخير بمقاييس فردية، أو : الأفراد الاستثنائيون، الرائعون، المثاليون، الأقوياء، الحسان، المفترض أن يتبعوا منهجاً أخلاقياً يحقق مصلحتهم، الخير هو مصلحة القوي. أو : هو القوة، المجد.

نيتشه شخصية فلكلورية جرمانية، والتاريخ النوردي (باحتفائه بمخلوقات عجيبة، واصراره على أن العالم قبل الإنسان كان يعيش به إما عماليق أو أقزام). يحمل نيتشه معه الرؤى التعسفية الجرمانية للعالم والتاريخ، ويطعّم بها التاريخ الاغريقي الذي هو أعمق بكثر من كلمة (المجد المجد المجد). الاغريق بعواطفهم القوية، الدراما، الشعر، المسرح، الرومانتيكية، الحب، الصداقة، التضحية، الزهد، تصوفية (أورفيوس)، ضعة ديوجين وتقشف الفيثاغورثيين. تاريخ أعمق بكثير من الرؤية النيتشوية. وإن كان نيتشه يرى نفسه اغريقياً مثالياً، فهو (فيلسوف - صلف - ومنفي للأبد مثل عوليس). إن الاستقراء التاريخي المتأخر للاغريق جاء مغلوطاً ومبنياً على هلاوس وضلالات هيللنستية، فالمرحلة الهيللنستية، حين صار الإنسان هو المرجعية الوحيدة (المرحلة التي تلت الإسكندر الأكبر، والإسكندر الأكبر - كأنه شخصية فلكلورية اغريقية، قد يجسد بالنسبة لنيتشه أفكاره عن السوبر-مان). أو، مجرد ترديد كلمة : المجد، المجد، بهوس محموم (إنما هذه أيضاً عادة رومانية يوليوسية- أوغسطية).

يتوازى نيتشه مع شخصيات فلكلورية جرمانية أخرى مثل فاوست، وهذا التقارب أفضل ما يكون، في هذا الجزء من الدراما الفاوستية (لغوته)، حين يطلب فاوست من الشيطان أن يقتله مباشرة إن هو أحس (بالرضا : السعادة البشرية الضعّة -طمأنينة النفس على حد تعبير نيتشه) في أية فترة من حياته.
فاوت، العالم، اللاهوتي والخيميائي الذي سلّم حياته كاملة للعقل والمنطق والعلم، إنما يصل إلى حائط سدّ معرفي، فهو يفقد المعنى في كل هذا، ويذكرني هذا بدعاوي نيتشه ضد العقلانية السقراطية أو الفضيلة المعرفية، التي -بحسب المسيحيين الطومائيين، وغيرهم- درب السعادة، فاوست يسقط في سعادات غرائزية، تماماً مثلما يخلص نيتشه في كتابه (أفول الأصنام) إلى رفض الطبيعة (السامية) للسعادة الروحانية النورانية في الفكر الطومائي، ويقول أن الغرائز هي السعادة.
نيتشه- ممزقاً بين القمة الإنسانية للنسر المجيد، وبين (هاويته) التي يخاف التحديق بها، إنما يتيه، التيه النيتشوي ينتهي بعودة الفيلسوف إلى الكهف، حين ظل الفيلسوف يمشي- زاحفاً، خارجاً من الكهف إلى المجتمع، مذ أفلاطون. يترك نيتشه (الأخلاق بمعناها المعتاد) للمجتمع، ويعود للكهف بارادته. وكتب نيتشه الفلسفية تفتقر تماماً إلى أي تصور إنساني جماعي، وأوضح هذه الكتب هي عبارة عن محاورات بين فردين (رزادشت يحاور نيتشه). رغم ملحوظته في بداية الكتاب: هذا الكتاب للمجتمع لا للفرد.
نيتشه بدعوته إلى الفردية (الذاتية) الأخلاقية إنما يجسّد التصوّر الفرويدي للشخصية (الطفولية)، فيقول فرويد، كما يقتبسه (كولن ولسن) في كتاب (التاريخ الاجرامي للجنس البشري): اعط لطفل ما القوة، وسوف يدمر العالم. 


والعبارة اشارة لأنانية الطفل، يستخدم ولسن هذا الاستشهاد ليرمي به شخصيات الزعماء أو الاستبداديين (ولا بد أنه يلمّح لهتلر مثلاً). 
نقطة أخرى بخصوص العقلية أو السيكولوجية الطفولية هي أنها سيكولوجية الإنسان البدائي أو البربري، فهذا إنما يرى كل العالم امتداد لذاته، وفي الفكر البدائي يختلط الواقع بالخيال أو الأحلام، كما لا يتخيل هذا الإنسان البدائي أنه سيموت. والموت بالنسبة له شيء يحدث لغيره من المخلوقات. 
إن أطروحة نيتشه في الفردية والإنسان الأعلى (السوبر-مان)، رغم ما توحي به من الميل للتفوق (آكا: الحضارة، التمدن، نبذ العبيد)، هي في باطنها ميول بربرية أو بدائية بما تعنيه من الغاء الغير، حتى لو بحجة أنه ضعيف - دع حجة أن مصلحة الغير تتعارض مع مصلحة الأنا، ويساوي في ذلك اشاراته في كتاب (أفول الأصنام) إلى عملية (تدجين) الحيوان الأشقر الجميل، يقصد الجرماني، من قبل الكنيسة القروسطية



No comments: