Thursday, September 23, 2010

عاطفة آخر الوحوش

مصطلح (avant-garde)، الذي يمكن ترجمته كـ(طليعي)، يصف عادة الأعمال الفنية، الأدبية، التجريبية، التي تتحدى مقاييس الجمال السائدة في العصر المعني، فهي (سابقة لأوانها)،  تصدم الغالبية من الذوق الشعبي، لكنها سوف تعجب قلّة من ذوي الذوق الطليعي.

الأمر يمكن ملاحظته لو دققنا النظر في الحداثة الفنية الفرنسية (القرن التاسع عشر)، وأعمال مثل (زهور الشر) لبودلير، أو أغاني مولدورر لـ(لوتريامون)، وبعض الروايات القوطية ، ورغم أن الأعمال الفنية القوطية، للقرن التاسع عشر، تحوي مفاهيم وتفضيلات رومانتيكية لا تعجبنا حالياً، مثل نموذج (Damsel in distress)، الذي قد يصف عدد من الشخصيات، مثل (ازميرالدا) في أحدب نوتردام، أو (كريستين) في شبح الأوبرا، إلا أن وجود هذا النموذج السخيف، يجب أن يقابله نموذج (التنين)، وقصة (الجميلة في الأزمة) هي قصة قوطية، من حيث مرجعيتها إلى عدد من الحكايات الخرافية التي سادت عصور الظلام/أو القرون الوسطى الأوروبية، من حين لآخر قد تنتمي هذه إلى قصص الفروسية وقد لا تفعل بالضرورة، أقرب مثال للأمر، حكاية (آندروميدا)، وهي تقريباً ما يُقتبس منها التسمية التصنيفية (damsel in distress).

أفسحت الروايات القوطية مجالاً أوسع للشر، الممثل في التنين، بما قد يحمله تنين آندروميدا من مقاربات مع التنين الإنجيلي (اللويثيان) الذي كذلك قد يمثل الشيطان أو الآنتي-كرايست، تقدم الروايات القوطية شحنة نفسية ودرامية، مغلفة باثارة غريبة وبربرية، حين تحدث المواجهة بين البراءة النائمة، البراءة الغافلة والتنين المتربص (وهو ،بالطبع، ليس تنيناً بالضبط، إنما إنسان).
الافتنان (الطليعي) بالشر، أمرٌ لاحظته في المنتجات الفنية القوطية للقرن التاسع عشر، في حين يُدخل لورد بايرون نموذج (الشخصية البايرونية)، الذي، يمكننا أن نصفه بأنه : البطل غير الخيّر تماماً، الذي قد يكون أنانياً، وقد يكون سيء النوايا، إلا أنه جذاب. وسوف نجد الشخصية البايرونية في أعمال روائية قوطية لهذه الفترة، مثل شخصية هيثكليف من مرتفعات ويذرينغ، و دوريان غراي من صورة دوريان غراي.

الاهتمام بالشر أو الافتنان الزائد به يكاد يتحول إلى أمر (طليعي)، أو مميز لكل حركة الـ(avant-garde)، والشر الذي يظهر في هذه الأعمال، يكون مدفوعاً بهواجس (مانوية) للمؤلف، ويكتسب قوة، وحضوراً، وأهمية، تساوي بالضبط قوة الخير وأهميته، إنه عالم مانوي تماماً، فالشر في رواية (الحالة الغريبة للد.جيكل ومستر هايد)، يلازم الخير، ومستر هايد يظهر كشخصية مكملة لجيكل، بل أنها كانت موجودة في روحه مذ الأبد، وقد أظهرتها (الوصفة) الكيميائية.

وعلى ذكر الكيمياء، بدا الشر الروائي الذي يظهر في هذه الأعمال مرتبطاً بشكل أو بآخر بالعلم المستقبلي، في رواية قد نعتبرها ( خيال علمي-قوطي)، كـ(د.فرانكشتاين)، الوحش يُستحضر نتيجة تجربة معملية، وقد يُقال الأمر ذاته في حالة رواية (جزيرة الدكتور مورو)، وبها، يقوم الدكتور مورو بعمليات تهجين ينتج عنها مخلوقات تجمع بين الصفات البشرية والحيوانية، وبالطبع، على جزيرته المعزولة حيث تُجرى هذه التجارب (الشيطانية)، يتحول كل شيء إلى فوضى.


علي المجال الرومانتيكي، يسقط نموذج الأمير الوسيم (prince charming)، في حين تحل محله نماذج تظهر في روايات الأخوات برونتي تحديداً، منها بالطبع، هيثكليف، الغجري الهمجي، عكر المزاج ذو العواطف الموحشة والمتأججة. أو هذه الشخصية في الرواية العجيبة (Ayesha)، للمؤلف رايدر هاغّارد، وفيه، الشخصية النسائية الرئيسية قد تكون (عفريتة) من مصر القديمة، أو مقابل لإيزيس. وهو كذلك عصر الافتنان بالشرق وغموضه وما يحمله من تيه، و شر، وبربرية حسّية.

الارتياع من الشرق، والارتياع من العلم، مشاعر كانت غالبة في نهايات القرن التاسع عشر، واستشراف القرن العشرين، إنها مشاعر تكاد تذكرنا بمشاعر الرعب (الألفي)، التي سادت في أوروبا كذلك بعد انقضاء الألف الأولى للتقويم المسيحي، وتعلقت بترقب ظهور الآنتي-كرايست، تقدم الأعمال الأدبية القوطية، لفترة  القرن التاسع عشر قراءة جديدة للشر، لكنها قراءة (إسكاتولوجية) له، والشر يكاد يرتبط باستشراف المستقبل، سواء بما يحمله من فتوحات في الشرق (بالنسبة للغرب الأوروبي)، أو التقدم العلمي، أو باقتراب زمان (الوحش/الآنتي-كرايست). وربما، هذه المشاعر الفنية مهّدت بالتدريج لعملية تفضيل، لشخصية (نقيض البطل)، بمقاييسنا الحديثة، فهو البطل المتسامح تماماً مع جانبه المظلم، والذي، قبل أن يراه في غيره، قد رأي الظلام، الشر، والروع، في نفسه. وفي هذا تطور للدراما السيكولوجية، فتعامل/معالجة نقيض البطل لظلاميته الشخصية يتزامن غالباً- في العمل الفني- مع معالجته للشر الخارجي.

No comments: