Monday, July 29, 2013

الفاشية المحضة، أو ١٤ طريقة للنظر إلى قميص أسود - أمبرتو إكو


 


[UR- FASCISM]
أو الفاشية المحضة*

 أمبرتو إكو


نُشرتْ  هذه المقالة لأول مرة بالانكليزية في 
بتاريخ ٢٢ يونيو، ١٩٩٥





عام 1942، كنت في العاشرة، أتسلّم جائزة "شبيبة لودي" الاقليمية الأولى  (مسابقة تطوعية - إلزامية لشبيبة إيطاليا من الفاشيين – أي الشباب الايطالي كله). انطلقتُ بطلاقة خطابية أتحدث حول مسألة "هل يتحتم علينا أن نموت جميعاً لأجل مجد موسوليني وخلود إيطاليا؟" وقد رددتُ على السؤال السابق بالايجاب، كنت  فتى ذكياً.
 

أمضيتُ إثنتين من سنواتي المبكرة بين إس.إس [S.S]، فاشيين، جمهوريين، ومقاومين غير نظاميين، يتبادلون إطلاق النار على بعضهم البعض، وعلّمني هذا أن أتفادى الرصاص، كان تدريباً جيداً.
 

في إبريل 1945، سيطر مقاتلو المقاومة على ميلانو، وبعد يومين وصلوا إلى البلدة الصغيرة حيث كنت أعيش، كانت لحظة نشوة، احتشد الناس في الميدان الرئيسي ينشدون ويلوحون بالأعلام، يهتفون لأجل "ميمو" قائد المقاومة في هذه المنطقة، في السابق كان يحمل رتبة مشير في الكارابينييري، ميمو انضم لمؤيدي الجنرال بادوليو، خَلَف موسوليني، وفقد ساقه في أولى الاشتباكات مع فلول موسوليني. ظهر لنا ميمو في شرفة مجلس المدينة، شاحبا يميل على عكاز، وبإحدى يديه حاول تهدئة الحشود، كنتُ أنتظر خطابه لأني طوال طفولتي عُجنت بخطابات موسوليني التاريخية، في المدرسة كنا نحفظ المقاطع المؤثرة منها عن ظهر قلب. صمت الجمهور، ليتحدث ميمو بصوت أجش، مسموع بالكاد، قائلاً: "أيها المواطنون! الأصحاب! بعد كل هذه التضحيات المريرة ، نحن هنا، المجد لهؤلاء الذين سقطوا من أجل الحرية!"، وكان هذا كل شيء. عاد ميمو للداخل. تصايحت الجموع، وأطلق  البارتيزان رصاصات احتفالية في الهواء، و هرعنا نحن الأطفال لنلتقط فوارغ الطلقات، غنائم ثمينة! لكنني تعلمتُ أيضاً أن حرية التعبير تعني الانعتاق من الخطابة.
 

بعد ذلك بأيام قليلة رأيت جنود أمريكان لأول مرة، كانوا أمريكان أفارقة. أول يانكي التقيته كان رجلًا أسود، جوزِف. وقد عرّفني على مغامرات دِك تريسي وليل آبِنر، كتب مصوّرة زاهية الألوان، زكية الرائحة.

أحد هؤلاء الضباط (النقيب أو الرائد "مَدِي") نزل ضيفاً في فيلا عائلة اثنتين من بناتها كانتا زميلتين لي في المدرسة. التقيته في حديقتهم، حيث أحاطت السيدات بالكابتن "مدي"، يتلعثمن بالفرنسية. الكابتن كان يعرف بعض الفرنسية كذلك، وهكذا تكوّن انطباعي الأول عن المحررين الأمريكان – بعدما اعتدت رؤية الكثير من الوجوه الشاحبة المتشحة بالقمصان السوداء: رجل أسود مثقف يرتدي زياً أصفر ويرطن: "وي! ميغسي بوكو! مدام!، موا أوسي جَم لو شامبنيْ..." للأسف، لم يك ثمة شمبانيا، لكن الكابتن "مَدِي" منحني أول قطعة تذوقتها من علكة ريغلي بنكهة النعناع  وقد أخذت أمضغ اليوم بطوله.  في الليل وضعتها في كوب ماء زجاجي كي تحتفظ بطراوتها لليوم التالي.
 

في مايو سمعنا أن الحرب قد انتهت. منحني السلام احساساً عجيباً. لقد لقنونني أن الحرب الدائمة حالة طبيعية ووضع أمثل لكل إيطالي شاب، في الأشهر التي تلت اكتشفتُ أن المقاومة لم تك ظاهرة محلية بل أوروبية. تعلمتُ كلمات جديدة مثيرة مثل: ريزو، ماكي، أرميه سُكريت، رُوت كابيلله، و غيتو وارسو. رأيت الصور الأولى للهولوكوست، هكذا فهمت معنى الكلمة قبل أن أعرفها. أدركت ماهية هذا الذي حررونا منه.
 

في بلدي اليوم، ثمة أناس يتسائلون إن كان للمقاومة أثراً عسكرياً على سير الحرب، بالنسبة لجيلي هذا السؤال لم يك مهماً: لقد فهمنا على الفور المعنى النفساني والأخلاقي للمقاومة، بالنسبة لنا كانت تعني الشرف، فنحن الأوروبيون لم نقعد مستسلمين ننتظر منقذنا. وبالنسبة للشباب الأمريكان الذين سالت دمائهم ثمناً لحريتنا المستردة، كان وجودنا كأوروبيين خلف خطوط النار نسدد ديوننا مقدماً، له معنى قوي.
 

اليوم في بلدي هنالك من يقولون أن خرافة المقاومة كانت كذبة شيوعية. صحيح أن الشيوعيين استغلوا المقاومة كأنها كانت ملكيتهم الخاصة. بسبب دورهم الرئيسي فيها. لكنني أذكر مقاتلي مقاومة بأوشحة من كل لون، أمضيتُ لياليّ ملتصقاً بالمذياع – والنوافذ مقفلة، والإظلام يجعل المساحة الصغيرة حول الجهاز مثل هالة مشعة – أستمع الى رسائل يذيعها "صوت لندن" موجهة للمقاومة. كانت مشفّرة و شاعرية في الآن ذاته (الشمس أيضاً تشرق، الورود سوف تتفتح) وأغلبها كانت "messaggi per la Franchi"  (رسائل للفرنك)، أحدهم همس لي أن فرانتشي كان قائدا لأكثر شبكات المقاومة قوة وسرية في جنوب غرب ايطاليا. رجل بشجاعة أسطورية. صار فرانتشي بطلي، فرانتشي (واسمه الحقيقي ادغاردو سونيو) كان ملكياً، ومتهّم بالتآمر وتدبير  انقلاب عسكري. من يهتم؟ سونيو ظل بطل طفولتي، والتحرير كان قضية مشتركة بين الناس على اختلاف مشاربهم. 
 

في بلدي اليوم هنالك من يقولون أن حرب التحرير كانت فترة انقسام مأساوية، وأن كل ما نحتاجه هو وفاق وطني. ذكرى تلكم السنوات الرهيبة يجب أن تُكبتْ، refoulée ،verdrängt لكن الكبت الفرويدي يسبب العصاب. ولو كان الوفاق يقصد به تعاطفا واحتراما لكل هؤلاء الذين خاضوا حربهم الخاصة مدفوعين بقناعاتهم، فإن التسامح لا يعني فقدان الذاكرة. يمكنني أن أجزم أن إيخمان قد آمن ايمانا صادقا بمهمته، لكنني لن أقول له أبدا: "حسنا، عُد وافعلها مجددا". نحن هنا لنتذكر ما حدث ولأجل أن نقول رسمياً  أننا لن نسمح لـ "هم"  أن يفعلوها مجدداً.
 

  • لكن من "هم"؟

حين ننظر للأنظمة الشمولية التي حكمت في أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية، يمكننا الجزم بصعوبة ظهور هذه الحكومات بالشكل نفسه لو اختلفت الظروف التاريخية. لو أن فاشية موسوليني كانت قائمة على فكرة وجود زعيم كاريزماتي، على هيمنة الشركات الرأسمالية، على يوتوبيا المصير الامبريالي لروما، والارادة الاستعمارية الشبقة لاجتياح أراض جديدة، والوطنية المتفاقمة، ونموذج لأمة محتشدة كلها بقمصان سوداء، ورفض الديموقراطية النيابية، ومعاداة السامية، اذن يمكنني القول أن، اليوم، حزب التحالف القومي الايطالي، الذي نشأ على أنقاض الحزب الفاشي لفترة ما بعد الحرب، الحركة الايطالية الاشتراكية، وهو بلا شك حزب يميني، ليس له ، الآن، إلا القليل جداً من السمات  المشتركة مع الفاشية القديمة. في السياق نفسه، رغم قلقي الشديد من الحركات شبه النازية التي تظهر هنا وهناك في أوروبا وروسيا. لا أظن أن النازية، في شكلها الأصلي، سوف تنبعث مجددا كحركة وطنية.

لكن، برغم أن اسقاط الأنظمة السياسية صار ممكناً، وكذلك انتقاد الآيديولوجيات، خلف كل نظام وآيديولوجية هنالك دوماً طرق في التفكير والشعور، حزمة عادات ثقافية، وغرائز دفينة ونزعات لا يمكن سبر أغوارها. هل ثمة شبح لا يزال متربصاً بأوروبا (دعك من بقية أنحاء العالم) ؟


 يونسكو قال مرة أن "الكلمات فقط هي المهمة وما دونها مجرد ثرثرة". العادات اللغوية عَرَض مهم ودال على المشاعر الباطنية. لذا من الضروري أن نسأل أنفسنا، لم ليست المقاومة فقط بل الحرب العالمية الثانية كلها يُنظر إليها عموماً كصراع ضد الفاشية. إذا أعدت قراءة رواية هيمنغواي "لمن تُقرع الأجراس" سوف تكتشف أن روبرت جوردان يصف أعدائه كلهم بالفاشيين، ويمتد هذا حتى للفلانخي الإسبانية،  وبالنسبة لتيودر روزفلت، "انتصار الشعب الأمريكي وحلفائه سوف يكون هزيمة للفاشية و الذراع الميت للطغيان الذي تمثله."



أثناء الحرب العالمية الثانية، كان يُطلق على الأمريكان الذين شاركوا في الحرب الاسبانية "مقاومو الفاشية غير الناضجين"، هذا يعني أن محاربة هتلر في الأربعينيات كانت واجبا أخلاقيا على كل أمريكي صالح، لكن محاربة فرانكو في الثلاثينيات كانت "مبكرة جداً"، وتنزّ برائحة مريبة لأن أغلبية من شارك فيها شيوعيون ويساريون آخرون. . . لماذا اذن استخدم الثوريون الأمريكان - بعد تلك الحرب بثلاثين عام- تعبير مثل "خنزير فاشي"  لوصف أي شرطي لا تعجبه عاداتهم في التدخين؟ لماذا لا يقولون: خنزير كاغولاري، خنزير فلانخي، خنزير أوستاشي، خنزير كزلينغي، أو خنزير نازي؟


كتاب كفاحي يعدّ مانفستو لبرنامج سياسي متكامل. النازية لديها نظرية في العرق وفي تفوق الشعب الآري، ومفهوم محدد للفنون المنحطة، وفلسفة في ارادة القوة، والسوبر مان. النازية معادية للمسيحية  وأقرب للوثنية الجديدة، في حين كانت النسخة الرسمية للماركسية السوفيتية الخاصة بستالين، الديامات، أو الديالكتية المادية، إلحادية بالكامل. إن كان المقصود بالشمولية نظاماً توجّه فيه الدولة وآيديولوجيتها كل أفعال الفرد، فإن  النازية والستالينية كانتا نظماً شمولية أصيلة.


 الفاشية الايطالية دكتاتورية بلا شك، لكنها لم تك شمولية بالكامل، ليس بسبب اعتدالها ولكن لضعفها الآيديولوجي و الفلسفي. بعكس الرأي الشائع، الفاشية في إيطاليا لم تملك فلسفة خاصة بها. المقالة في الفاشية التي تحمل توقيع موسوليني والموجودة في تريتشاني إنسايكلوبديا كتبها جيوفاني جِنتيل أو كانت مستوحاة من أفكاره، وهي بدورها انعكاس للمفهوم الهيغلي المتأخر عن الدولة الأخلاقية المطلقة. والتي لم يفلح موسوليني قط في تطبيقها. موسوليني لم يملك أية فلسفة: امتلك بلاغة فحسب. كان عسكريا ملحدا في بداياته وبعد ذلك وقّع ميثاقا مع الكنيسة ورحّب بالأساقفة الذي باركوا شعارات الفاشية. في سنواته المبكرة المعادية للكهنوت، وفقا لخرافة على الأغلب، سأل الرب مرة أن يوجه إليه ضربة فيعرف أنه موجود، فيما بعد، صار موسوليني يذكر اسم الرب في خطاباته دوماً، ولم يمانع أن يُطلق عليه "رجل العناية الإلهية". 

الفاشية الايطالية كانت أول ديكتاتورية يمينية تستولي على السلطة في دولة أوروبية، كل الحركات المشابهة فيما بعد اعتبرت نظام موسوليني نموذجا لها. الفاشية الايطالية كانت أول من أسس طقوسا عسكرية مقدسة، وفلكلور، ونمط لباس، أكثر تأثيراً بقمصانها السوداء من آرماني وبينيتون وفرساس. فقط في الثلاثينيات بدأت الحركات الفاشية في الظهور، موزلي في انكلترا، ولاتفيا، وإستونيا وليتوانيا وبولندة والمجر ورومانيا وبلغاريا واليونان ويوغوسلافيا وأسبانيا والبرتغال والنرويج وحتى في أمريكا اللاتينية. بفضل الفاشية الايطالية اقتنع كثير من الليبراليين الأوروبيين أن النظام الجديد يحمل اصلاحا اجتماعيا مثيرا للاهتمام، ويوفر بديلاً ثورياً براغماتيا و"معتدلاً" يطمس التهديد الشيوعي.

رغم ذلك، فإن الأولوية التاريخية ليست كافية لتفسير لم صارت كلمة "فاشية" مجازاً لوصف كافة الحركات الشمولية. وليس هذا لأنه، من الناحية الجوهرية، الفاشية احتوت على كل المكونات التي ميزت أي شكل تلاها من الشمولية. على النقيض، لم تحتو الفاشية على أي جوهر. الفاشية كانت شمولية ضبابية، قص ولصق لأفكار فلسفية وسياسية مختلفة، خلية من التناقضات. هل يمكن تخيل حركة شمولية حقيقية قادرة على الدمج بين الملكية والثورية، الجيش الملكي وميليشيات موسوليني الخاصة، الامتيازات الممنوحة للكنيسة مع التعليم الحكومي المحرض على العنف، والسلطة الشاملة للدولة، مع سوق حر؟ الحزب الفاشي كان يتبجح بالنظام الثوري الجديد الذي جلبه، لكنه كان مدعوماً من ملاك الأراضي الأكثر محافظة، الذين انتظروا منه ثورة مضادة.

في بداياتها كانت الفاشية جمهورية. لكنها ظلّت عشرين سنة تؤكد على ولائها للعائلة المالكة، كان الدوتشي (الزعيم المفدّى) يمشي متأبطا ذراع الملك،  يعرض عليه لقب امبراطور. لكن حينما طرد الملك موسوليني في ١٩٤٣، عاود الحزب الظهور بعد شهرين، بدعم ألماني، تحت راية الجمهورية الاشتراكية، يعيد تدوير نصوصه الثورية القديمة، تثريه نبرات يعقوبية.

ثمة معمار نازي وحيد، وفن نازي وحيد. لو أن المهندس النازي كان آلبرت سبير، فإنه ليس ثمة مكان لمايز فان دير روهه. وبالمثل، أثناء حكم ستالين، لو أن لامارك كان موجودا فليس ثمة مكان لدارون. في ايطاليا كان هنالك بالتأكيد مهندسين فاشيين ولكن بجانب نماذجهم المزيفة للكولوسيوم قامت مبان جديدة متأثرة بالعقلانية الحداثية لغروبيوس.

لم يكن هنالك جدانوف فاشياً يخط حدّاً ثقافياً صارماً. في ايطاليا هناك جائزتين فنيتين مهمتين، البريميو كريمونا كان يتحكم بها فاشي متعصب وجاهل، هو روبرتو فاريناتشي، والذي شجع الفن فقط كوسيلة للبروباغندا. (يمكنني أن أتذكر لوحات بعناوين مثل "الاستماع إلى خطاب الدوتشي" أو "حالات مزاجية فاشية".) والبريميو بيرغامو كان يرعاها فاشياً أكثر تسامحاً وثقافة وعقلانية هو غيوزيبّي بوطاي، والذي حمى مفهوم الفن لأجل الفن وأنماط أخرى من الآفان-غارد، كانت قد حُظرت في ألمانيا لـ"انحطاطها" ومضامينها الشيوعية.

الشاعر القومي كان دانّوتزيو، غندور لو تواجد في ألمانيا أو روسيا لأرسلوه إلى كتيبة الاعدام. عُيّن كشاعر للنظام بسبب وطنيته وعقيدته البطولية. والتي خالطتها الكثير من الشوائب الفرنسية المتأثرة بمشاعر تداعي "نهاية القرن". 


خذ المستقبلية مثالاً. قد يظن المرء أنها تعتبر نمطاً من الفن المنحطّ، جنباً إلى جنب مع التعبيرية، والتكعيبية، والسوريالية. لكن المستقبليين الإيطاليين الأوائل كانوا قوميون. لقد شجّعوا مشاركة ايطاليا في الحرب العالمية الأولى لأسباب جمالية، كانوا متحمسون للسرعة، العنف والخطر، وكل هذه المشاعر كانت وثيقة الصلة بالعقيدة الفاشية الشبابية. بينما تماهت الفاشية مع الامبراطورية الرومانية وأعادت اكتشاف عادات ريفية، مارينيتّي (الذي اعتبر السيارة أكثر جمالاً من  منحوتة "نصر ساموتريسي"، حتى أنه أراد أن يقتل ضوء قمر) قد عُين برغم ذلك عضواً في الآكاديميا الايطالية، والتي بالطبع عاملت ضوء القمر باكبار شديد.


كثير من محاربي المقاومة ومثقفي الحزب الشيوعي قد تتلمذوا ضمن اتحاد الطلبة الجامعيين الفاشيين، والمفترض أنه كان مهداً للثقافة الفاشية الجديدة. هذه النوادي صارت ضرباً من البوتقة الثقافية حيث تم تدوير أفكار جديدة دون أي سيطرة آيديولوجية فعلية. وليس هذا لأن رجال الحزب كانوا  متسامحون أو ذوو فكر ثوري، ولكن قلة منهم كانت لديها القدرة أو الاستعداد الثقافي لفرض السيطرة.

في العشرين عاماً تلك، صار شعر مونتالي وكتّاب آخرين لهم علاقة بالمجموعة المسماة "إرميتيتشي" رد فعل على الطابع الطنان للنظام، وهؤلاء الشعراء كان مسموحاً لهم بنمط من المقاومة الأدبية طالما ظلّوا سجناء  "برجهم العاجي". كان مزاج شعراء إرميتيتشي نقيضاً للعقيدة الفاشية المفعمة بالبطولة والتفاؤل. تسامح النظام مع معارضتهم الفاضحة، رغم كونها غير مسموعة اجتماعياً، وذلك لأن الفاشيين ببساطة لا يهتمون بهذه الرطانة الغامضة. 

وهذا كله لا يعني أن الفاشية الايطالية كانت متساهلة. لقد ظل غرامتشي سجيناً حتى موته، قادة المعارضة جياكومو ماتيوتي والأخوة روزيليني  تم اغتيالهم، الصحافة الحرة ألغيت، فُككت الاتحادات العمالية، وتم نفي المقاومين السياسيين لجزر معزولة. أمست القوة التشريعية مجرد خيال، والقوة التنفيذية (التي تحكمت في القضاء والاعلام) أصدرت مباشرة القوانين، ومن ضمنها قوانين دعت لحماية العرق، (لفتة الدعم الايطالية الرسمية للهولوكوست).

الصورة المتناقضة التي أصفها لم تك بسبب التسامح ولكن نتيجة للا-تمازج السياسي والآيديولوجي. كان  لا-تمازج صارماً، ارتباك منظّم. الفاشية كانت  فلسفياً غير متناسقة، لكنها من النواحي العاطفية مربوطة بحزم إلى أسس طرازية متشددة.


وهكذا نأتي للمرحلة الثانية من هذا الجدل، كان ثمة نازية واحدة فقط. لا يمكننا أن نصف فلانخية فرانكو المفرطة في كاثوليكيتها بالنازية، بما أن النازية وثنية بالأساس، معادية للمسيحية. ولكن اللعبة الفاشية يمكن أن تمارس بأشكال عدة، واسم اللعبة لا يتغير. مفهوم الفاشية لا يختلف كثيراً عن مفهوم فيتغنشتاين للعبة. اللعبة إما أن تكون تنافسية أو لا تكون، قد تتطلب مهارات خاصة أو لا تتطلب، يمكنها أن تتضمن مالاً أو غير ذلك. الألعاب أنشطة مختلفة تُظهر بعض الشبه  بالأسرة، كما يصف فيتغنشتاين. إليك التسلسل الآتي:


١          ٢          ٣           ٤
أ ب ت    ب ت ث    ت ث ج     ث ج ح


لنفترض أنه ثمة سلسلة من الجماعات السياسية والأولى منها تتميز بالصفات (أ ب ت)، والجماعة الثانية بالصفات ( ب ت ث)، الخ. الجماعة الثانية مشابهة للأولى بما أن لديهما صفتان مشتركتان، لنفس الأسباب الجماعة الثالثة تتشابه مع الثانية والرابعة تتشابه مع الثالثة. لاحظ أن الثالثة تشبه الأولى كذلك ( لديهم الصفة ث مشتركة بينهما). الحالة الأكثر عجباً تلك المتمثلة في الجماعة الرابعة، من الواضح أنها شبيهة باثنين وثلاثة، دون أية صفة مشتركة مع الأولى. ولكن، وفقاً للتناقص المتدرّج للتماثلات من الأولى حتى الرابعة، يظل هنالك شبهاً أو صلة عائلية بين الرابعة والأولى.

الفاشية صارت مصطلحاً لجميع الأغراض لأنه من الممكن نزع سمة أو أكثر من النظام الفاشي، دون أن يفقد صفته الفاشية. خذ الامبريالية من الفاشية وسوف يظل لديك فرانكو وسالازار. خذ الكولونيالية  وسيبقى لديك الفاشية البلقانية للأوستاشيين. أضف للفاشية الايطالية معاداة جذرية للرأسمالية (تلك التي لم ترق كثيرا لموسوليني) وستحصل على إزرا باوند. أضف عقيدة ميثولوجية كلتية ودروشة حول الكأس المقدسة (وهذه صفات غريبة تماماً عن الفاشية الرسمية) وستجد لديك أكثر غوروهات الفاشية احتراماً، يوليوس إفولا. 

ورغم كل هذا التشوش، أعتقد أنه من الممكن رصد قائمة من الصفات النموذجية لما أحب أن أسميه "الفاشية المحضة"* أو "الفاشية الأبدية". هذه الصفات لا يمكن أن تجتمع في نظام واحد، كثير منها يناقض بعضه، وكثير منها يميز ضروب أخرى من الطغيان أو التعصّب. ولكن يكفي أن يتواجد أي منها ليسمح للفاشية بأن تتجلّط حوله.

١. أول سمة للفاشية المحضة هي عبادة التقاليد. التقليدية/الأصالة بالطبع أقدم كثيرا من الفاشية. لم تك فحسب عنصرا مميزا لفكر الثورة المضادة الكاثوليكية التي أعقبت الثورة الفرنسية، بل قبل ذلك بكثير، التقليدية نشأت في الحقبة الهيللينية المتأخرة، كرد فعل رجعي على العقلانية الاغريقية الكلاسيكية. في حوض البحر المتوسط، أناس من أديان مختلفة ( أكثرهم كان البانثيون الروماني متسامحاً معه) أخذوا يحلمون بوحي كان قد نزل في فجر التاريخ الإنساني. هذا الوحي، وفقاً للتصوف التقليدي، قد ظل لزمان طويل مخفياً وراء حجاب اللغات المنسية- في الهيروغليفيات المصرية، وفي الرون الكلتي، وفي مخطوطات أديان آسيوية مجهولة.

هذه الثقافة الجديدة يجب أن تكون توفيقية، التوفيقية لا تعني فحسب، كما يقول القاموس، "دمج أشكال مختلفة من الممارسات والعقائد"، هذا الدمج لابد وأن يتساهل مع التناقضات. كل من الرسالات الأصلية تحتوي على قبس من الحكمة، وكلما بدت واحدة منها متناقضة أو توحي بأشياء غير متكافئة، فذاك لأنها كلها تشير مجازياً لنفس الحقيقة الأوليّة.

ونتيجة لهذا يتعرقل التقدم العلمي.  فالحقيقة قد نُطق بها بالفعل، من قبل، وليس ثمة جديد، وكل ما يمكننا فعله هو تفسير رسائلها المبهمة.

يمكن للمرء أن يتأمل مناهج كل حركة فاشية وسوف يجد مفكرين تقليديين عظام. الغنوصية النازية تم تغذيتها بعناصر تقليدية، توفيقية وسرّانية. المصادر النظرية الأكثر تأثيراً لسرديات اليمين الايطالي الجديد، يوليوس إفولا، مزجت الكأس المقدسة مع "بروتوكولات حكماء صهيون"، الخيمياء مع الامبراطورية الرومانية والجرمانية المقدسة. والدليل الدامغ على الطبيعة التوفيقية لليمين الايطالي الجديد هو "تفتحه الذهني" واستيعابه في المنهج نفسه أعمال  دي ميستر، غينون، وغرامتشي.

إذا بحثت في أرفف المكتبات الأمريكية المعنونة بـ"العصر الجديد"، سوف تجد سان أغسطين، والذي لم يك، على حد علمي، فاشياً. لكن الدمج بين سان أغسطين وستونهنِج - هذا يعتبر عرضاً من أعراض الفاشية المحضة.




٢. التقليدية تعني رفضاً للحداثة. الفاشيون والنازيون على حد سواء يعبدون التقنية، في حين يرفضها المفكرون التقليديون لأنها انحراف عن القيم الروحانية التقليدية. لكن، رغم فخر النازية بمنجزاتها الصناعية، تمجيدها للحداثة كان القشرة السطحية لآيديولوجية قائمة على الدم والأرض (Blut und Boden). رفض العالم الحديث جاء متنكراً  في شكل استنكار لأسلوب الحياة الرأسمالي، الذي هو  بالأساس رفض لروح عام ١٧٨٩ ( وكذلك ١٧٧٦، بالطبع). أي رفض التنوير، فعصر العقل، ينظر إليه كبداية للفسوق الحداثي. وهكذا يمكننا تعريف "الفاشية الأزلية" بأنها لاعقلانية. 



٣. اللاعقلانية أيضا تعتمد على عقيدة "الفعل لأجل الفعل". الفعل بوصفه جميلاً في ذاته، يجب أن يُتّخذ قبل -أو دون -أي تفكير مسبق. التفكير يعتبر نوعا من الاخصاء. هكذا فإن الثقافة مصدر ريبة لارتباطها بالمواقف النقدية. عدم الثقة في عالم المثقفين سمة دائمة للفاشية المحضة، مذ تصريح غورينغ الشهير "حين أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي"، إلى الاستخدام المتكرر لتعبيرات من قبيل "مثقفون منحطّون" "شمّامين كُلّة"، "مخنثون  متكبرون" و"الجامعات معقل الحُمر". مثقفو الفاشية الرسميون كانوا مكلّفين فقط بالهجوم على الثقافة الحديثة والإنتليجينسيا الليبرالية لأنها خانت العادات والتقاليد. 



٤. لا يمكن للعقائد التوفيقية أن تصمد أمام النقد التحليلي. الروح النقدية يمكنها التفريق بين هذا وذاك، وهذا علامة على الحداثة. في الثقافة الحديثة المجتمعات العلمية تشجع الخلاف كوسيلة للتقدم المعرفي. بالنسبة للفاشية المحضة، الاختلاف في الرأي يعتبر خيانة.



٥. كما أن الاختلاف في الرأي دلالة على التنوع. الفاشية المحضة تقوم على الاجماع، وتستقوى باستغلال الخوف الطبيعي من المختلفين. كل الحركات الفاشية تستمد جاذبيتها من التحريض ضد الدخلاء والغرباء والآخر والأجنبي. الفاشية المحضة عنصرية.



٦. الفاشية المحضة تنشأ من الاحباط الفردي أو الاجتماعي. لهذا أحد أهم مميزات الفاشية التاريخية جاذبيتها للطبقة الوسطى المحبطة، طبقة تعاني من أزمة اقتصادية أو احساس بالاهانة السياسية، ومذعورة من ضغط الطبقات الأدنى منها. في عصرنا، حينما يصبح البروليتاريون القدماء برجوازيين صغار (والمهمشون يجري استبعادهم من المشهد السياسي) فإن فاشية الغد سوف تجد جمهورها بين تلك الأغلبية الجديدة.



٧. الفاشية المحضة تقدّم حلاً لأولئك الذين يشعرون أنهم بلا هوية اجتماعية واضحة، والهوية التي تقدمها لهم الفاشية هي الأكثر شيوعاً: كونهم وُلدوا في البلد ذاته. وذاك هو أصل القومية. إلى جانب أن الأعداء وحدهم من يمكنهم تشكيل هوية للأمّة. لذلك، الهوس بالمؤامرة يعدّ من جذور الفاشية المحضة، غالباً ما تكون مؤامرة عالمية. أتباعها يجب أن يشعروا بالحصار. والطريقة الأسهل لحلّ معضلة المؤامرة الكونية هو تشجيع الزينوفوبيا [كراهية الأجانب]، ولكن المؤامرة يجب أن تنبع من الداخل كذلك: اليهود عادة ما يكونوا هدفاً أمثل للزينوفوبيا لتمتعهم بمزية التواجد في الداخل والخارج في الوقت ذاته. المثال الأبرز في الولايات المتحدة الأمريكية للهوس بنظرية المؤامرة يتمثل في كتاب بات روبرتسون "النظام العالمي الجديد".



٨. أتباع الفاشية يجب أن يشعروا بالاهانة من مظاهر الثروة والقوة لأعدائهم. حين كنت صبياً، علّموني أن أتخيل الانكليز كأناس يأكلون خمس وجبات في اليوم. إنهم يأكلون أكثر من الطليان الفقراء والمعتدلين. اليهود أثرياء ويعاونون بعضهم من خلال شبكة سرية من الدعم المتبادل. ولكن الأتباع يجب أن يقتنعوا أنهم قادرين على هزيمة الأعداء، وذلك بتغيير ركائز الخطاب الفاشي باستمرار، الأعداء أقوياء جداً وضعفاء جداً في الوقت ذات. الحكومات الفاشية تخسر الحروب دوماً لأنها عاجزة عن تقدير قوة العدو بموضوعية.



٩. وفقاً للفاشية المحضة، ليس ثمة صراع للبقاء بل أن الحياة نفسها تعاش لأجل الصراع. هكذا فإن المبادئ السلمية تعني الخيانة. وهي مرفوضة لأن الحياة عبارة عن حالة حرب مستمرة. ولكن هذا يؤدي إلى عقدة هرماجدّون، فالأعداء يجب أن يهزموا، وعليه لابد من وجود معركة نهائية كبرى، بعدها تتمكن الحركة الفاشية من السيطرة على العالم. وهذا الحل بعيد الأمد يعني مجيء حقبة سلام و عصر ذهبي، وذلك يتناقض مع مبدأ الحرب الدائمة. لم يفلح أي قائد فاشي في حل هذه المعضلة حتى الآن.


١٠. النخبوية سمة نموذجية لأي آيديولوجية رجعية، هي في أصلها أرستوقراطية، والأرستقراطية والنخبوية العسكرية تفرخ احتقاراً قاسياً لمظاهر الفقر،  الضعف  والضعفاء. الفاشية المحضة تتبنّى فقط النخبوية الشعبية. كل مواطن ينتمي إلى أعظم شعب في العالم، أعضاء الحزب هم الأفضل بين المواطنين، كل مواطن يتحتم عليه أن يكون عضوا في الحزب. و حيث تجد نبلاء فلابد من وجود عوام. ولأن الزعيم يعرف أن سلطته لم تُفوّض إليه ديموقراطياً، بل أخذها غصباً، يعلم كذلك أن قوته مستمدة من ضعف الجماهير، بسبب ضعفهم يحتاجون ويستحقون قائداً. ولأن الجماعة منظمة هرمياً (طبقاً للنموذج العسكري)، كل قائد يحتقر من هم تحته، وكل منهم يحتقر بدوره من هم دونه. وهذا يؤجج حس النخبوية الجماهيرية. 

١١. كلٌ يتعلم لأجل أن يصبح بطلاً. في كل الميثولوجيات البطل كائن استثنائي، لكن وفقاً للفاشية المحضة، البطولة هي القاعدة. وعبادة البطولة مرتبطة بشدة بعبادة الموت. وليس من قبيل المصادفة أن يكون شعار الفلانخي الأسبان "Viva la Muerte/يحيى الموت!". في المجتمعات غير الفاشية  يقال للناس أن الموت سيء لكن يجب مواجهته بكرامة، يقال للمؤمنين أنه الطريق المؤلم للوصول إلى سعادة سماوية.  على النقيض، أبطال الفاشية المحضة يشتهون الموت البطولي، فهو المكافأة الأسمى لحياة بطولية. بطل الفاشية المحضة يرغب في الموت بنفاذ صبر. وهذا الجزع  يتسبب في موت غيره. 

١٢.الحرب والبطولة ألعاب صعبة، لهذا تحاول الفاشية المحضة أن تغير اتجاه ارادة القوة الكامنة في بلاغيات السلاح والحرب بحيث يمكن تفريغها جنسياً. وهذا هو أصل الماتشيزمو  (الذكوري المحتقر للنساء ولكل أنماط السلوك الجنسي المخالف لما يعتبره تقليديا/طبيعياً، من أول الترهبن وحتى المثلية). ولأن الجنس كذلك لعبة صعبة، تميل الفاشية المحضة للاستعاضة عنه باللعب بالأسلحة - الحل الأخير لهذه الشحنات العدوانية يكمن في تحويلها إلى ممارسة قضيبية اصطناعية


١٣. تقوم الفاشية المحضة على الشعوبية الانتقائية: شعوبية نوعية، لنقل، في الديموقراطيات، المواطنون يملكون حقوقا فردية، وهم  يصنعون تأثيراً سياسياً عاماً من ناحية كيفية فحسب- حين تُتبّع قرارات الأغلبية. وفي حالة الفاشية المحضة، ليس للأفراد حقوق كأفراد، والشعب يُعتبر صفة أو مفهوم ميتافيزيقي، كيان متآلف يجسّد "الارادة العامة" أو الارادة الجمعية أو الارادة القومية. ولأن امتلاك هذا الكم كله من البشر لارادة واحدة جامعة أمر مناف للمنطق، يدّعي الزعيم أنه وحده القادر على تفسير هذه الارادة الشعوبية. والمواطنون قد فقدوا قدرتهم على التفويض،  فلا يعود بمقدورهم الاتيان بأي فعل، بل يتم استدعائم فحسب للعب دور "الشعب". هكذا يصبح "الشعب" مجرد خيال مسرحي،  ولضرب مثل على الشعوبية النوعية، لسنا بحاجة للحديث عن البياتزا فينيتزيا في روما أو مدرّج نورمبرغ. هنالك التلفاز والشعوبية الانترنتية، حين يصبح رد فعل عاطفي لجماعة من المواطنين هو الممثل  والمعبر عن"صوت الشعب"، أو ارادته.

لهذا تعادي الفاشية المحضة الشكل البرلماني "المتعفن" للحكومة. كانت أول الجمل التي ينطق بها موسوليني في البرلمان الايطالي: "قد كان بمقدروي أن أحوّل هذا المكان الكئيب والأصم إلى ثكنة عسكرية". وعلى أية حال فقد وجد مكاناً أفضل لعساكره، ولكنه فيما بعد حلّ البرلمان. كلما أثار سياسي الشكوك حول السلطة التشريعية أو البرلمان بحجة أنه لم يعد يمثّل "صوت الشعب"، يمكننا أن نشمّ رائحة فاشية أبدية.

١٤. الفاشية المحضة تتحدث النيوزبيك [Newspeak].  المصطلح اخترعه أورويل في روايته ١٩٨٤ ويقصد به اللغة الرسمية للإنغسوك، الاشتراكية الانكليزية أو الحزب الفاشي الحاكم في عالم الرواية. عناصر الفاشية المحضة مألوفة وظاهرة في أشكال كثيرة من الديكتاتوريات. كل الكتب المدرسية النازية والفاشية استخدمت مفردات لغوية فقيرة، لتقيد أدوات التفكير النقدي الحر والمعقد. ولهذا يجب أن نتربّص لأنماط أخرى متنوعة ومختلفة للنيوزبيك، أحياناً تتّخذ الشكل البريء للبرامج الحوارية الشعبية.


في صباح السابع والعشرين من يوليو، ١٩٤٣، أخبروني أن، بحسب تقارير الراديو، الفاشية انهارت وأُلقي القبض على موسوليني. حين أرسلتني أمي لأبتاع الصحيفة، رأيت جرائد بعناوين متباينة. وبعد قراءتها، أدركت أن كل صحيفة تقول شيئا مختلفا. ابتعت واحدة منهن دون نظر، وقرأت رسالة في الصفحة الأولى وقّعها خمسة أو ستّة من الأحزاب السياسية، بينهم كان الديموكراتزيا كريستيانا، الحزب الشيوعي، الحزب الاشتراكي، والبارتيتو داتزيوني، والحزب الليبرالي. حتى ذلك الحين، كنت أعتقد أنه ثمة حزب واحد فقط في كل بلد، وذاك الذي في ايطاليا كان البارتيتو ناتزيونالي فاشيستا. والان أكتشف أنه في بلدي ثمة أحزاب أخرى يمكن أن تتواجد معا في نفس الوقت. ولأنني كنت صبيا ذكيا، أدركت في الحال أنه لا يعقل أن تنشأ كل هذه الأحزاب بين ليلة وضحاها، لابد وأنهم قد تواجدوا لفترة طويلة كتنظيمات سرية.

الرسالة في المقدمة احتفت بسقوط الديكتاتورية وعودة الحرية، حرية التعبير، حرية الصحافة، والممارسة السياسية. هاته الكلمات، "حرية"، "ديكتاتورية"، "استقلال"- الآن أقرأهم للمرة الأولى في حياتي. وساعتها وُلدت من جديد كرجل غربي حرّ بفضل هذه الكلمات. 

يجب أن ننتبه كيلا ننسى معاني هذه الكلمات مجدداً. الفاشية الأبدية لا تزال حولنا، أحياناً في ملابس مدنية. سيكون من السهل جداً علينا، إن ظهر شخصاً في المشهد العالمي يقول: "أريد أن أعاود فتح أوشفيتز، أريد أن أرى مواكب القمصان السود في ميادين ايطاليا مجدداً." الحياة ليست بهذه البساطة. الفاشية المحضة قد تعود متنكرة في أكثر الأردية براءة. مهمّتنا أن نكشفها ونصوّب أصابعنا على أي من تمثّلاتها الجديدة - كل يوم، في كل مكان من العالم. 

كلمات فرانكلن روزفلت في الرابع من نوفمبر ١٩٣٨، تستحق التذكّر: 

"إن توقفت الديموقراطية الأمريكية عن الحراك قدماً كقوّة حيوية، تسعى كل يوم وليلة بطرق سلمية لأجل تحسين حياة مواطنينا، سوف تطرح الفاشية في أراضينا."

الحرية والتحرر مهمة لا تنتهي. دعوني أختم كلامي بقصيدة لفرانكو فورتيني: 

على متراس الجسر
رؤوس المشنوقين
في الغدير المتدفق
بصاق المشنوقين

على الحصى في الأسواق
أظافر هؤلاء الذين اصطفوا
 ليُطلق عليهم الرصاص
 على العشب الجاف في الخلاء
الأسنان المحطمة لهؤلاء الذين 
اصطفوا ليستقبلوا الطلقات

من العضّ على الهواء، 
وعضّ الحجارة
لم يعد لحمنا آدمياً
من العضّ على آلهواء، 
والعضّ على الحجارة
لم تعد قلوبنا آدمية.

ولكننا قرأنا في عيون الموتى 
ولسوف نجلب الحرية على الأرض

في قبضات القتلى المضمومة
تكمن العدالة منتظرة أن تتحقق.


*تُرجمت عن الانكليزية من هذا النص.

---------------------
*نبّهتني هند هيثم إلى المُراد من البادئة اللغوية (UR-) ذات الأصل الجرماني، والذي كنتُ أجهله،  إن أُلحقتْ بكلمة فهي تعني -حرفياً- الصورة "الأولية - البدائية - الأصلية" منها، لو فرضنا أن هذه "الصورة" قد وُجدتْ بشكل ملموس قديماً وسابقاً على كل الأشكال اللاحقة، لكن هذا لا يصحّ مع غرض إكو من وصفه للـ(UR-Fascism) والتي هي نموذج صياغي "محض"، ونحن نميل لاستبدال كلمة "أبدية" بـ"محضة"، كانت في نيّتي كذلك استخدام "خالصة" ولكني وجدتُ تأثير "محضة" أقوى، وفي ذلك استندنا إلى حوار لغوته مع إكرمان يعرّف فيه الـURreligion أنه "طبيعة نقية [محضة] وعقل نقي [محض]، من أصل الهي".    فالنموذج الذي يصفه إكو هو نموذج عقلاني [محض] لم يوجد قط بشكله هذا ملموساً بل قياسياً.  آيات الشكر والامتنان "المحض" والخالص كله لا تفي  هند هيثم حقها، لم يك يمكنني بأي حال من الأحوال أن أصل للشكل الحالي -والمُرضي لي نسبياً- من هذه الترجمة دون عونها.

Sunday, July 14, 2013

الجنون في الجماعات - ١


حجّاج إلى سان إيزيدور - فرانتشسكو دي غويا


قد مرّ عليّ بعض المحتقرين "للدهماء" أو الخرفان* من منطلق أن الخرفان "يتّحدون" على فكرة يوهمهم بها "الراعي"، وفي هذا افتراض أن الجماهير من الدهماء تجتمع على "وجود فكرة" أو "حضور ايجابي" لها وليس على تخيّلهم لـ"غياب" أو افتقاد للشيء/الفكرة أو تعرض هذه الفكرة للتهديد والضياع- ما يشعرهم بالذعر. يفترض صاحب التعليق السابق أن التأثير المدمر للقوة المخرّبة الهائلة لجماعات أو حشد من الخرفان يمكن التحكم به اذا بثّ القائد بهم حالة الايمان المفترضة - الايمان حالة ايجابية بالمناسبة، وهي كذلك معقدة جداً، ما يجعل مسألة الحشد الفوري والحفاظ على كثافته صعبة. لتعميق الايمان بشيء/بفكرة ما، يلزم تعقيدها أكثر -كآيديولوجية، والبديل السهل هو التخويف. 

أجل، يمكن استخدام سلاح الخوف على عدة جبهات، تخويف الجماهير وتخويف الجماهير الأخرى من الجماهير، يمكن تقسيم الدهماء والخرفان لدهماء مختلفين عن غيرهم، و"خرفان عن خرفان تفرق" بتخويفهم من بعضهم بعضاً. وتتمثل الضربة القصوى والأذكى في تخويف الفرد المؤمن -الايجابي- من الدهماء الـcynic- وقد يكتشف صاحب التعليق أو من هم يوافقونه أن موقفهم الـcynic من الدهماء هو ذاته موقف الدهماء منهم ومن كل شيء آخر. الجماعات الهائجة /الهيجانة/المسعورة لا تحرّكها فكرة بل حالة فريدة من الكراهية المركزة والعدوانية والذعر، حتى لو كان مصدر الكراهية فكرة دينية أو ثقافية - الكراهية في كل حالاتها فكرة مضادة.

غالبا ما أرتاب في موقف الفرد/الأقلية المحتقر للغوغاء لأني أعرف أن الغوغاء تحتقره بالمقابل، وترتاب منه، وتكرهه، إنه يعمّق ويعزز استمرار هذه الدائرة العبثية، ويتخذ نفس موقفهم فلا يجعله هذا مختلفاً عنهم بشدة، هنالك حشود هائلة تخرج لتطالب بتحجيم وقمع حشود أخرى لأن كليهما يكره الآخر، وهؤلاء مثل من يخرجون في حشد ظاهره التأييد وباطنه الذعر أو الخوف من الموت المتمثل في فقدان "الهوية" دينية كانت أو قومية. كل هؤلاء لا يجدون حرجاً من استهداف الآخر أمنياً أو تصفيته، أصحاب موقف احتقار الدهماء والخرفان على أساس أن الخرفان تتبع راعياً هم كذلك سوف يجدون أنفسهم مؤيدين لراعٍ يملك قوة قمعية تتفوق على السابق، وتفسير هذا واضح لأن من ينزع آدمية الخرفان بتبعيتهم للراعي "الأولاني" سوف يبرر قمعهم على يد راعٍ أكثر كفاءة وقوة و"استنارة" بمنطق أن تلك الخرفان "آبقة" وخارجة عن السيطرة وجلبتْ الفوضى. الخلاصة أنه ليس ثمة موقفا مستنيرا من احتقار الغوغاء بل هو ردّ فعل مماثل على احتقارهم هم لمن يختلف عنهم، وهو ليس موقفا عقلانياً بحجّة أن هؤلاء يتبعون "قائد/راع/فرد" دون تفكير، فطالما تواجدت الكراهية/الرعب وُجدت الحاجة لحماية مُنقذ أو قائد يمارس قمعاً مقابلاً.

أجد أن الحالة المريعة لفرد يواجه بمفرده حشد معاد ومؤذ ومنتهِك -  كورتيز من رواية "قلب الظلام" يُعتبر ضحية بالمقياس ذاته- هي نتيجة الفخ الأخلاقي الذي يقع فيه من يدّعون موقفا عقلانياً في احتقارهم للغوغاء، بسبب مشكلة التوصيفات الميتافيزيقية، فطالما وُجد دهماء غوغائيون ومجرمون متعطشون للدماء في فعل كراهية جماعي كلّما تواجد ضحايا من الأفراد "المستنيرين" الذين وقفوا في مواجهة هذه الحشود - كما يحلو للكانُن الكنسي في قصص القديسين أو كما يحلو للمؤرخين تذكره بخصوص هيباتيا- فما حدث لا يمكن حلّه ولا صدّه وهو متوقع، أن تسقط قديسة أو قديس ضحية لهؤلاء الغوغاء لأن كل الحشود في الفضاء العام غوغائية ومغيّبة ولاعقلانية ومتعطشة للدم وتبحث عن فريسة - مثلما تكون الأسود في ساحة الكولسيوم وهي تهجم على المؤمنين المسيحيين- فهؤلاء "مسعورون" ومهتاجون وخرفان لكنهم مذعورون أو كارهون لوجود هذا الفرد في "فضائهم" مثلما هو مذعور وكاره لهم. ويبدو لي أن التشاؤم الايجابي أو الحل الوحيد لهذه الحالة هو اقصاء هذا عن ذاك. والاقصاء الناتج عن هذا التشاؤم فكرة تطيب لها نفوس النخبة المستنيرة أو المتمتعة بامتياز مادي أو طبقي. الاقصاء حل لطيف لكن معه سوف يستمر الضحايا في السقوط -بسبب الحدود والخطوط الحمراء- وردّ الفعل الوحيد على سقوطهم قد يكون التشاؤم السلبي، حتى لو لم يقع المبررون في نكسة "لوم الضحية"، فإنه يبدو من "الجنون" ادانة أو لوم جمع غفير من الحيوانات المسعورة، لأنه لا يمكن محاسبة الحيوانات، أو محاكمتها، أو ايجاد نظام لتحقيق العدالة، أو تجريمها أو الاقتصاص منها، "فأنا حزين عليكي يا مسر، لكن، إيه اللي ودّاكي هناك، ناحية الغوغاء؟" 


* لا أقصد بالخرفان في هذا السياق الإخوان. 
** «إن مرض الجنون نادر عند الأفراد، ولكنه هو القاعدة عند الجماعات والأمم وحقب التاريخ» - [نيتشه]