Wednesday, August 18, 2010

إرم

[ĕrēmīta] : كلمة لاتينية مشتقة من مثيلتها اليونانية [erēmitēs] والتي تعني غالباً "صحرائي" وهذه بدورها مشتقة من الجذر اليوناني [erēmos] الذي يعني غالباً: صحراء، أو مُقفر. ومن هذه الأصول تُشتق الكلمة الإنجليزية [Hermit]، بمعنى: الناسك.
 الناسك الذي يعتزل الناس إلى الصحراء غالباً، وهي عادة مصرية قديمة ، اعتقد المصريون القدماء أن سيث (الشر) يسكن الصحراء، والناسك الصالح إنما بتنسكه في الصحراء هو في مواجهة مباشرة مع الشيطان.
أجد في تلك الجذور اليونانية شبهاً قوياً بكلمة (إرم)، وهذا الأصل السامي بالأساس لم أجد له معنى موثوقاً عدا بعض المصادر الأجنبية التي تدّعي أنه اسم تركي، أو حتى عربي، ويعني (جنّة في السماء). الحقيقة أن إرم، الجنة المقصودة هي غالباً الجنة الأرضية التي كانت عليها إرم ذات العماد.  
الظريف هو، النظرية التي سوف نفترضها لو قلنا أن الكلمات اليونانية واللاتينية جاءت بعد الكلمة السامية، والتي تصف الحالة التي صارت إليها إرم بعد حين
لكن وجهة النظر الواقعية تميل إلى أن إرم هو اسم القبيلة، أو هي قبيلة من قوم عاد، سكنت صحراء شبه الجزيرة، ويبدو لي أن القبيلة كانت من الأهمية والشهرة (أو القوة)، أو الهيمنة في أرض شبه الجزيرة في الأزمنة السامية القديمة، أنه ارتبط اسمهم بالصحراء. 

Saturday, August 7, 2010

Låt den rätte komma in (2008)

هو  فيلم سويدي من انتاج عام ٢٠٠٨، يدور باختصار حول الفتى (أوسكار - ١٢ عاماً) الذي يحيى مع أمه في بلدة سويدية، حين يسكن جيران جدد الشقة المجاورة له، فتاة في مثل عمره مع من يبدو أنه والدها. والفيلم مبني على رواية بنفس العنوان للكاتب السويدي جون آفيد لينكيست.
تتطور الأحداث ليعرف أوسكار أن الفتاة  مصاصة دماء، وطبعاً، قد كان لها زمان طويل وهي في الـ١٢ عام. ومن يرافقها ليس والدها بل (حارسها)، وهو  -بحسب الرواية، فهذه النقطة لم تتضح في الفيلم- شخص يرافق مصاص الدماء كي يهيّء له الحياة الآمنة في النهار. وربما يساعده علي التأقلم أو التفاعل مع المجتمع البشري دون اثارة للشكوك.


الفيلم يبدأ بكلمة، اصرخ. اصرخ مثل خنزير.
أوسكار الفتى في بداية الفيلم يمثّل مشهداً عنيفاً، يعبث بسكينه (ونحن نراه من خلف زجاج حجرته)، ويتظاهر أنه يهاجم شخصاً ما، ويجبره : اصرخ، اصرخ مثل خنزير. في هذه اللحظة بالذات تتوقف أسفل نافذته السيارة التي تقل (إيلي)، مصاصة الدماء الصغيرة. وحارسها.

الفيلم بأجواءه الكالحة، السوداوية، والجو المقبض للبلاد السويدية، المثلجة، يحمل روح غامضة، وقد سمحت لنفسي بربط هذه الروح، النكهة الغامضة التي يحملها الفيلم بالرسام النرويجي (اسكندنافي أيضاً)، إدفارد مونك.

ربما المميز بشأن هذا الفيلم أنه اسكندنافي، في الفيلم أجد احالات كثيرة للوحات مونك، منها أول كلمة في السيناريو، والتي تذكرني مباشرة بلوحة الصرخة.

أو العلاقة بين أوسكار وإيلي، والتي تذكرني كذلك بتصور مونك لـ(آلام الحب)، على حد تعبيره، في لوحة مصاصة الدماء.

والفيلم ليس خيالياً بالكامل، خلاف أفلام أخرى عالجت نفس الموضوع (توايلايت)، لا يمكنني إلا أن أعلق على (الفوضى) أو الجلافة الفنية التي عولج بها هذا الفيلم (أو الرواية)، وهي ذاتها الجلافة الفنية والمعنوية التي سوف يُعالج بها الفيلم السويدي حين اعادة انتاجه هوليودياً :  (دعني أدخل).

تميل السينما الأمريكية دائماً إلى (انضاج) المراهقين أو (من هم على عتبة البلوغ). وتسخيفهم. المعالجات الفنية الأمريكية تتناول هذه الفترة بجلافة، ولا أنسى الجلافة التي عالج بها فيلم العظام الجميلة حياة (طفلة) المفترض أنها في هذا السن. ربما يكون السبب المجتمع الأمريكي ذاته المختلف عن المجتمع الأوروبي.

لكني أعود وأقول، إن أشهر المعالجات الفنية على الاطلاق لهذه الفترة العمرية كانت أمريكية، أعني، سلسلة (قشعريرة) والتي تم تعريبها تحت عنوان (صرخة الرعب).

إن سبب اختيار مؤلف السلسلة للمرحلة العمرية (١١ سنة - ١٢ سنة - ١٣سنة) ليضع بها أبطاله ليس فقط أنها موجهة لقراء من نفس السن، بل لمناسبتها أصلاًِ لمعايشة كافة التجارب (القاسية - المرعبة)، فمن في هذه المرحلة ليس طفلاً وليس بالغاً كذلك. هي فترة يتخللها الكثير من القلق، الاضطراب، التشوش، الخ. كما أن روايات السلسلة غالباً تدور حول التجربة المرعبة التي يمر بها الطفل ويبقى بها للأبد: البقاء للأبد في منزل مسكون - البقاء للأبد في قلعة دراكيولا فوق جبل فوق هوة - البقاء للأبد في عالم بالأبيض والأسود -الخ .
 الشيء الآخر هو مصطلح (ساعة الذئب)، وقرّاء سلسلة (ما وراء الطبيعة) المصرية، يألفونه، يستخدمه مؤلف السلسلة غالباً لوصف المرحلة العمرية التي تكون فيها الفتيات معرضات للمسّ الشيطاني. المصطلح أصلاً من الفلكلور السويدي، بالأصل يصف مرحلة (السَحَر)، المرحلة في آخر الليل وقبل الفجر بقليل، في السويد يبدو أن الذئاب تتجول بحرية في هذه الساعة خارج أبواب الناس، وتهاجمهم.

المصطلح ذاته اُستخدم في فيلم رعب بنفس الاسم (ساعة الذئب) للمخرج السويدي انغمار بيرغمان، وتوصف الحالة في السطر الترويجي الآتي:

"The Hour of the Wolf is the hour between night and dawn. It is the hour when most people die, when sleep is deepest, when nightmares are most real. It is the hour when the sleepless are haunted by their deepest fear, when ghosts and demons are most powerful. The Hour of the Wolf is also the hour when most children are born."

قد يُعامل المصطلح، والذي لاحظنا أنه ذاته عميق الأثر في الذهن الفلكلوري السويدي، كـ(ميتافور) للمرحلة العمرية لما قبل البلوغ، إن هذا يدفعني للاشارة لحساسية وذكاء المعالجة سواء الروائية أو السينمائية لقصة أوسكار، في حين تختار سيتفاني مايار لأبطالها (مراهقون جشعون للعواطف)، كي تُعاش قصة حب سخيفة بملامح رومانتيكية كلاسية، إن قصة فيلمنا (دع الشخص المناسب يدخل) ليست قصة رعب، خيال، أو خلافه، بل هي قصة عن (رعب) الحياة وما تثيره في الأنفس من اضطرابات.
أوسكار فتى منطوٍ ووحيد، يتعرض للمضايقات من قبل زملائه (البلطجية) في مدرسته، في هذه المرحلة العمرية حين -غالباً- تتكون لدى الإنسان أغلب عقده النفسية، أو يعيش أغلب التجارب القاسية المميزة للتنوير المفاجيء على الحياة أو، ربما، (الاظلام) المفاجيء، حين يخرج المرء من جنة طفولته ويُجابه بالـ: الفهم. فالمرء حينها يفهم الحياة قليلاً ولا يفهمها في الوقت ذاته، إن فلاديمير نابوكوف في روايته (لوليتا) يستخدم مصطلحاً (وإن كان يستخدمه في الرواية لأغراض منحرفة)، لوصف (مخلوقات) هذه السن، كـ(حوريات) أو (عفاريت). يحاول بطل فلاديمير نابوكوف في الرواية أن يدلل علي الطبيعة (العفاريتية - الما-ورائية) لهذه السن، وإن كان بشكل غير مباشر أو بشكل مختلف عن المفهوم الذي سوف أستدرجه في موضوعي هنا. وبشكل آخر، إن المصطلحات التي يستخدمها نابوكوف تُجسد  (الاغتراب) العام عن الانسانية الذي يعيشه طفل هذه السن. فهو (مخلوق)، وليس طفلاً وليس بالغاً كما أسلفنا.

وإن كانت قصة أوسكار وإيلي لا تجسد قصة حب فعلاً أو كما هو الأمر في فيلم (توايلايت)، لهذا قد أُلحق بـ(ايلي) معان أخرى، لو عدت للوحات مونك كمرجع فني، فإن إيلي هي الجنون، أو الاضطراب، أو بمصطلحات أكثر مهنية : المرض النفسي، عودة لرواية لوليتا، البطل همبرت همبرت يعيش (مرضاً نفسياً) طويل الأمد بسبب لقاءه في سن ما قبل البلوغ بفتاة في مثل عمره، ثم موتها بعد ذلك بقليل. إن أوسكار الولد الضعيف، المعرض للايذاء الجسدي والنفسي على الدوام، قبيل نهاية الفيلم  كان على وشك أن يُقتل , لكن إيلي مصاصة الدماء تنقذه ممن كان سيؤذيه. صحيح أن قبل هذه الحادثة كانت إيلي ستغادر نهائياً، وقد ودّعت أوسكار وتركته لـ(يعاني من قلب محطم- على حد التعبير الانجليزي)، لكنها تعود إليه لانقاذه، هذا الحادث يجعل أوسكار يحل محل حارسها النهاري الذي (مات كذلك في موضع آخر من الفيلم - دفاعاً عنها)، الفيلم يُختتم بمشهد، أوسكار يجلس في عربة قطار، بينما يستقر تحته الصندوق الكبير الذي يحوى (إيلي) النائمة في النهار. قصة الفيلم هي عن (البلوغ- النضوج - مغادرة الطفولة)، لكن بأقسى الطرق على الاطلاق، إن أوسكار سوف يظل كل حياته الباقية مرتبطاً بإيلي، وربما يموت بسببها مثل حارسها السابق، إنها إيلي، المخلوق الذي التقاه في فترة اضطراب البلوغ، (العفريتة)، أو، مرضه النفسي الخاص، الذي نشأ من المواقف القاسية والاغتراب الذي عاشه، التي ظهرت له في تلك الأوقات حين كان يجلس وحيداً في الليل في العراء. والتي كذلك سوف ترافقه لبقية حياته. لكنها في الوقت ذاته مرتبطة بتغلّب أوسكار على مصاعب البلوغ أو على العنف والازدراء الذي كان يعانيه، وكذلك إيلي هي الكيفية التي يتغلب بها أوسكار على وحدته واغترابه الذي رافق سنين بلوغه، وإن كانت هي الخدش/الجرح الذي سيظل يصمه طوال حياته. أو كما يقول نيتشه : ما لا يقتلك، يجعلك أقوى. 


Monday, August 2, 2010

ليه يا بنفسج



 لماذا، هيباشيا السكندرية، هي الفيلسوف الوحيد في لوحة (مدرسة أثينة) الذي ينظر للمُشاهِد مباشرة ؟
لا أعرف.
هنالك شخصية أخرى تنظر لنا مباشرة حين مطالعة هذه اللوحة، وهي الرسام نفسه، رافايل في أقصى اليمين. وكلاهما له الوضعية ذاتها، والنظرة ذاتها، يقفان متقابلين، رافايل أقصى يمين الناظر، وهيباشيا أقصى يساره، والناظر من بُعد سوف يحسّ أن الاثنين معاً متحالفان على شيء ما.  عدا ذاك، كل الفلاسفة تقريباً، وكلهم من الرجال، لا ينظرون لنا.

باعتبار هيباشيا (شهيدة) للفلسفة، أو، بتعبير آخر، للمنطق والعقلانية. ولو أخذنا لفظة شهيد/ شاهد، وهي بنفس المعنى كذلك في أصلها اليوناني (mártys)، هيباشيا في اللوحة (شاهدة) على المنظر، على مدرسة أثينا، وعلى الفلسفة الغربية عموماً.
تختلف شهادة هيباشيا عن شهادة سقراط، سقراط حوكم محاكمة شرعية، وقد تُعتبر عادلة، ولأن المحاكمة كانت قانونية، شرعية وعادلة وتتفق مع الارادة الشعبية، في نظر سقراط، فقط أذعن لقرارها وشرب السمّ بنفسه. الملابسات والوقائع (المتحضرة/المتمدينة) لاستشهاد سقراط تختلف عن وقائع استشهاد هيباشيا التي كانت حادثة شديدة البربرية، في مدينة بربرية، أثينا التي تقع في قلب العالم الاغريقي، قلب السكولائية، العقلانية والمنطق. والغرب، في مقابل الاسكندرية، المدينة المحدثة، في أثينة هنالك الديموقراطية، بينما يحكم اسكندرية ملوك متوارثون، وفي الاسكندرية هنالك التيه والتخالط والتخبط الثقافي، والضحالة الفلسفية. في حين مثلت أثينة للعالم الغربي ذروة الانتاج الفلسفي وتناغم الغرب.


دم سقراط لم يُهدر، ومن بعده أتى أفلاطون، الذي، بحسب روايته لمحاكمة سقراط، تلقى منه الحكمة همساً، وسار على النهج السقراطي في محاوراته المنطقية، ومن بعد أفلاطون أتى أرسطو الذي أرسى بشكل نهائي وكامل العادة المنطقية السقراطية، ومن بعد أرسطو هنالك ديوجين وزينون وأبيقور وغيرهم.
بالنسبة لهيباشيا، فإن حادثة موتها سجّلت تقريباً (نهاية التنوير الهيللينستي)، وفي القرن ذاته يصدر مرسوم امبراطوري بتأثير من الكنيسة وبابا روما باغلاق كافة مدارس الفلسفة. ويمكننا أن نقول: هيباشيا هي آخر فيلسوف غربي. قبل العصور المظلمة.

دم هيباشيا الذي أهُدر في مدينة موحشة وبربرية ربما يعدّ تفسيراً لنظرتها (الدائنة)، رافايل، كي يتمكن من اقحام هذه الشخصية التي لم تزل الكنيسة في أيامه تعتبرها وثنية، وخارج نطاق (المسموح) به فلسفياً، فهو يعطيها وجه فرانسيسكو ماريا ديللا روفير، وإن كان رافايل يقصد بهذه الحركة اتقاء شر الرقيب الديني. ففي طريقته لرسمها، مواجهة للناظر مباشرة، نظرة قوية ودائنة، ربما كان يقصد ادانة مباشرة لمن يعتبرهم ملطخين بدم هيباشيا.


والنظرة العارفة أو الحكيمة التي لوجهها قد تذكرنا بنظرة الموناليزا، وهنا قد نذكر التأثيرات النهضوية، في حين كان لدانتي بياتريس الملهمة، والموناليزا لدافنشي. لا يغفل رافايل عن جعل تصويره لهيباشيا كذلك يقع في اطار (الملهمة) التي هيمنت على الذوق والفن النهضوي الذي أراد استعادة جماليات الإغريق. مثلما ذكرنا بشأن وضعيّتهما كمتقابلين، فإن هيباشيا هي الوحيدة التي تنظر للمشاهد، وكأنها تعرف بوجوده، مثلما يعرف الرسّام بوجود من سيشاهد عمله، وهي في هذا، في وجودها وتصويرها هكذا كأنما تعرف شيئاً لا يعرفه بقية الفلاسفة باللوحة.

Sunday, August 1, 2010

ابن الإنسان



إننا نظن أن القسوة والعنف والعبودية، والخطر في الزقاق، والقلب، والسرية والرواقية، وفن التجريب والتعويذ على أنواعه، وكل شر مرعب ومستبد، وكل ما يشبه الأفاعي والضواري في الإنسان، يصلح جيداً، شأنه شأن ضده، لإعلاء النوع المسمّى : إنسان 
نيتشه - ما وراء الخير والشر

رفض نيتشه (جرمانيته)، وبرّأ نفسه من أية دماء "سيئة"، يقصد بها، الدماء الجرمانية خصوصاً، ثم ربط اسم عائلته بنبلاء بولنديين، في مواضع أخرى يشدد نيتشه، بفخر، على أصوله البولندية، وقد تخلّى عن جنسيته (البروسية) حين ذهب للعيش والدراسة والتدريس ببازل. وبقى إلى آخر حياته (بلا جنسية).

في مواضع أخرى يعارض نيتشه (الوطنية الألمانية)، ويقف موقف الرفض تجاه النزعات (المعادية للسامية) والتي وصلت إلى مداها (هي والوطنية الألمانية) في عصره. وفي هذا يؤدي دوره الأخلاقي كمنارة فكرية وفنية، حين يكون بوصلة بشرية للخير أو الصواب العام. 

هنالك شبه اتفاق أن نيتشه فضّل الثقافة الفرنسية على الألمانية.
لكن لماذا ؟
من الناحية الفلسفية فإن الثقافة الألمانية تُظهر تنوعاً وعمقاً وثراء فلسفي أو عقلاني أكثر من غيرها، بينما كانت فرنسا تجنح تحت نوع من (الموضة) الجمالية/الصحافية/الأدبية، وإن تكلم نيتشه عن الجميع بسوء (من بينهم، كانط، جون ميل، وسبينوزا)، فهو يظل معجباً بأشخاص غير (جرمانيين) أمثال ديستويفسكي الروسي (السلافي)، وبروير الفرنسي.


نيتشه يرفض ألمانيته لكنه في الحقيقة (بوق- مثل البوق الكبير في الأساطير النوردية) للثقافة الجرمانية، بل يفرد أكثر من ٣٠ صفحة في كتابه (أفول الأصنام) لبيان الفضائل الجرمانية القديمة والتحسّر على الحال (الألماني) الجديد، الخائر المرتكن إلى الجماليات الموسيقية. وفي الواقع، ينتقد نيتشه الوطنية الألمانية في عصره أو ذوبان الأفراد الألمان في الدولة، على حد قوله (الثقافة كانت دائماً نقيض للسياسة)، ولهذا يثني على فرنسا فردية شعبها، وهناك كل فرد مهتم بثقافته الذاتية. لكن مشكلة نيتشه أنه لا يخرج من قفص الخطاب الشعبوي الألماني، مثل من سبقوه، فهو يبدأ قائلاً: الألمان كانوا وكانوا، وبهذا الشكل يضطر الفرد الألماني دائماً أن يكتسب فردانية هي بالأساس مستمدة من صفات قومه، وتصير الفردانية وقتها محل شكّ.

الأساسي في فلسفة نيتشه أنه كان يبحث عن الإنسان ولا شيء غيره. الإنسان الذي لا امتداد له ولا مرجعية. نيتشه، فيلسوف بلا أي تبطينات صوفية أو رومانتيكية أو وطنية أو سياسية  هو ظاهرة فريدة في حد ذاتها إلى درجة اخراجه تماماً من تصنيف فيلسوف، ومعاملته كأديب أو مثقف.

لكن رؤية نيتشه الأخلاقية (اللا-أخلاقية) ترمي به في أحضان الفلسفة مجدداً، والأصيل في فلسفة نيتشه اعادة تعريفه للخير والشر في حدود إنسانية متطرفة، وحين نقول إنسانية متطرفة فنحن نقصد الشكل الإنساني المُحرر من التاريخ، الماضي، الدنيا، الآخرة، المجتمع، الوطن، الطبيعة، الأرض، الكون، حين نتأمل نيتشه ونرفض كونه فيلسوفاً فهذا لأنه (فيلسوف تائه) أو (الابن الضال للإنسان)، خلاف الشكل المعتاد للتنظيرات الفلسفية نيتشه لا يتناول الأصوال/الجذور، لا يحلل التاريخ والأخلاق، لا يخرج من الأرض إلى الحجارة، أو (من الكهف إلى المجتمع)، بل يبدأ كتابه (هكذا تكلم زرادشت) بإنسان على قمة جبل. أو نسر محلق.

حسب نيتشه، هنالك نوعين من الأخلاق، أخلاق أسياد وأخلاق عبيد، ومن هذا أتي الخير والشر، الخير بالنسبة للأسياد : المجد، المكانة، القوة، الثراء، الصحة، الجمال، الخ. وما عداه فقط هو الشر. بالنسبة للمرجعية الفردية للإنسان الواحد (الفرد).

حين يتلبّس العبيد الحضارة الإنسانية الحديثة تصبح أخلاق مثل : الزهد- التواضع- الفقر- الشفقة- التضحية- رعاية المرضى- احترام الكبار، الخ الخ. هي الخير، يريد نيتشه أن يقول: هي أخلاق عبيد، لأن العبيد الضعفاء، شديدي الضعة، عجزة ومرضى، جعلوا منها خيراً مطلقاً.

في كلامه هجوم على الثقافة المسيحية - اليهودية، التي شكّلت أوروبا مذ القرن الثاني بعد الميلاد وحتى الآن. الثقافة المسيحية -الرومانية أصلاً خرجت من روما في شكل بعثات تبشيرية إلى الأراضي الشمالية، وما كان يفصلها عن بربر الشمال هؤلاء (الجرمان) هو حدود خط (ليماس)، أو خط السيادة الرومانية القديم، وتقف أوروبا في القرون الميلادية الأولى، كأرض شاسعة بلا هوية واحدة (لا أوروبا)، إنما روما في مواجهة بربر الشمال. والطريف أنه بعد الاصلاح البروتستانتي، يُعاد تشكيل الثقافة الدينية في هذه القارة ليصبح من جديد، كل ما هو خارج خط ليماس بروتستانتي، ويبقى العالم الروماني القديم كاثوليكياً.

الاصلاح البروتستانتي حرر البشر من الأخلاق-الثقافة الكاثوليكية الرومية، والتي تختلف حتماً عن الثقافات الجرمانية ـالقديم منها والوثني)، وحتى القبائل البربرية (من قوط وجرمان وهون وآنغلو-ساكسون) قبل الاتحاد النهائي مع روما كانت تدين بالآريوسية (التي يصنّفها الفاتيكان كهرطقة). الأجزاء العليا من أوروبا واجهت صعوبات أبدية في التوحد مع الجنوب الروماني-الاغريقي. حتى الاغريق واجهوا صعوبة في التوحد مع الجنوب الروماني-الآيبيري، وهناك من المؤرخين من يعلق ساخراً، أن القسطنطينية قبلت السقوط في يد الأتراك. على ألا تتحد مع الكنيسة الرومانية.

وحين نقول أن المشكلة مبدئياً هي اللغة، فنحن من جديد نقول أن المشكلة هي الثقافة، أولاً وأخيراً. خرجت أول شرارة اصلاح بروتستانتي رسمي حين أعلن مارتن لوثر أنه سيترجم الإنجيل إلى الجرمانية. إن جرمانيا والآنغلو-ساسكون لديهم من العقد القديمة تجاه روما ما لديهم، إلى جانب الحرب الدائمة، موجات النهب من البربر التي توالت على روما ودمّرتها، ثم محاولات روما للغزو النظامي للشمال. إن نيتشه في كتاب (ما وراء الخير والشر) يشير بالفعل إلى الكاثوليكية كأصل أو روح (عِرْقية)، فهي متأصلة في الجنوب الآيبيري أو الشمال الفرنسي مهما تنصّل منها مفكرو هذه الأراضي، بينما الشمال البربري (ويؤكد نيتشه- نعم، الألمان بربر بلا شك)، كل تلك الكثلثكة غريبة عليه. وأي محاولة للهرطقة (آكا: الخروج عن الكثلكة)، هي بلا شك عودة للأصل البربري. (المجيد؟).

ترجمة الإنجيل للجرمانية ربما تعد محاولة غير واعية لاستعادة إرث وطني. تحولت هذه إلى سياسة وعنف حين اندلعت حرب الثلاثين عام، وحين تبنى ملوك الشمال، والكلت (الإنجليز) البروتستانتية.

حين تحاول ألمانيا النازية استعادة الإرث النوردي، فإنها تعادي اليهود خصوصاً، ألمانيا النازية بتوجهاتها الفاشية، والوثنية أحياناً، وبغض النظر عن الأصول العِرْقية التطهيرية لمعاداة اليهود، فإن اليهود يمثلون للشمال النوردي شعب غريب قدم من أراض بعيدة، كما أن ديانته هي الأساس للمسيحية، التي كانت غريبة تماماً على الشمال البربري النوردي في القرون الأولى للميلاد.


الأفكار البروتستاتنتية (سواء لوثرية أو كالفينية) تسير جنباً إلى جنب مع التوجهات الجرمانية في القرن التاسع عشر. ومارتن لوثر حين ينفي القداسة عن القديسين، ويلغي القداسة عمّن يساعد الفقراء. أو المتسوّلين. أو يلغي مفهوم الخطيئة الأصلية، إلى جانب أفكار كالفين في هذا الشأن (الأخير ينفي حرية الاختيار، فكل خطيئة تُرتكب قد قُدّرتْ سلفاً- على حد كلامه، وفي هذا يوافقه نيتشه، الذي يدافع بهذه الحجّة عن الصيرورة الهيراقليطية)، إنما كان يمهد إلى عصر من التحرر أو التسامح الأوروبي، أو عصر تنويري يتبعه عصر وطني.

في هذه الأثناء كانت أوروبا (فكرياً) ممزقة بين اتجاهين، الاتجاه الفلسفي الروماني (الأفلاطونية المسيحية - الأفلاطونية الجديدة- التصوفية)، و الاتجاه الطبيعي، المادي، أو اعادة ارث الفلاسفة الاغريق ومن بينهم أبيقور.

خطورة الفكر الأبيقوري أنه يحرر معتقنيه من الخوف من الموت. فأبيقور، كان يرى أنه- بما أن الإنسان سيموت حتماً- فلا داعي للقلق، لأننا لن نكون موجودين حين نموت. إذن فليستمتع المرء بحياته.
حين نجد هجوم نيتشه على العالم الكاثوليكي غير مبرر، لأن الثقافة الرومانية (أو، الحضارة) لم تصل إلى ألمانيا فعلاً إلا كاثوليكية، والأبجدية الألمانية تستخدم الأحرف اللاتينية، إن الإرث الطويل من الروحانية - العقلانية التقشفية، إنما وضعت الأساس الفلسفي للرومانتيكية، ثم العقلانية الألمانية -فيما بعد- بلا شك. قد نبالغ لو قلنا أن روما (سواء وثنية أو كاثوليكية) قدّ أرادت أن تعلّم أوروبا التفكير. إلا أن أوروبا بلا شك بدأت تفكّر -مستقلة- في ظل الموجات التبشيرية.
نيتشه متأثر بعمق بالإرث الاغريقي، بل أن ميوله وتوجهه الفلسفي محدد تماماً برؤى هيراقليطس والفلاسفة الآخرين ما قبل السقراطيين- نيتشه لا ينتهج الرواقية الأبيقورية فحسب، إنما كذلك يرفض الإرث الأخلاقي الذي تمت كثلكته لكل من (أرسطو - أفلاطون - أفلوطين)، ويعود إلى فلاسفة جسدوا الفردية أو المجد الاغريقي الهومري أمثال: فيثاغورث، إمبيدوقليس، هيراقليطس. الخ.

الآثار الهومرية واضحة في نيتشه، حين يرفض فكرة ميل الإنسان إلى (غريزة البقاء)، أو أن غريزة البقاء والحفاظ على الحياة ولو في أدنى صورها هي الهدف الأول للإنسان، بل يرى أن الإنسان، يبحث عن القوة. متكئاً في هذا على الصورة الهومرية للأبطال الإغريق، ويقول أن أحياناً، يضحي هؤلاء بحياتهم، لأجل أن يموتوا بمجد.

ومثلما رفض نيتشه التاريخ الأوروبي الكاثوليكي (١٢ قرن) من الضعة والتقشف والزهد، مثلما رفضه اللوثريون والكالفينيون.

يرفض نيتشه كذلك التصور المعتاد أن البشر يميليون إلى البحث عن السعادة والرضا، ملقياً بذلك أفكار (المنفعية) لتوماس ميل وراء ظهره. يمجد نيتشه الفردية، ويمجد التصور العام للخير بمقاييس فردية، أو : الأفراد الاستثنائيون، الرائعون، المثاليون، الأقوياء، الحسان، المفترض أن يتبعوا منهجاً أخلاقياً يحقق مصلحتهم، الخير هو مصلحة القوي. أو : هو القوة، المجد.

نيتشه شخصية فلكلورية جرمانية، والتاريخ النوردي (باحتفائه بمخلوقات عجيبة، واصراره على أن العالم قبل الإنسان كان يعيش به إما عماليق أو أقزام). يحمل نيتشه معه الرؤى التعسفية الجرمانية للعالم والتاريخ، ويطعّم بها التاريخ الاغريقي الذي هو أعمق بكثر من كلمة (المجد المجد المجد). الاغريق بعواطفهم القوية، الدراما، الشعر، المسرح، الرومانتيكية، الحب، الصداقة، التضحية، الزهد، تصوفية (أورفيوس)، ضعة ديوجين وتقشف الفيثاغورثيين. تاريخ أعمق بكثير من الرؤية النيتشوية. وإن كان نيتشه يرى نفسه اغريقياً مثالياً، فهو (فيلسوف - صلف - ومنفي للأبد مثل عوليس). إن الاستقراء التاريخي المتأخر للاغريق جاء مغلوطاً ومبنياً على هلاوس وضلالات هيللنستية، فالمرحلة الهيللنستية، حين صار الإنسان هو المرجعية الوحيدة (المرحلة التي تلت الإسكندر الأكبر، والإسكندر الأكبر - كأنه شخصية فلكلورية اغريقية، قد يجسد بالنسبة لنيتشه أفكاره عن السوبر-مان). أو، مجرد ترديد كلمة : المجد، المجد، بهوس محموم (إنما هذه أيضاً عادة رومانية يوليوسية- أوغسطية).

يتوازى نيتشه مع شخصيات فلكلورية جرمانية أخرى مثل فاوست، وهذا التقارب أفضل ما يكون، في هذا الجزء من الدراما الفاوستية (لغوته)، حين يطلب فاوست من الشيطان أن يقتله مباشرة إن هو أحس (بالرضا : السعادة البشرية الضعّة -طمأنينة النفس على حد تعبير نيتشه) في أية فترة من حياته.
فاوت، العالم، اللاهوتي والخيميائي الذي سلّم حياته كاملة للعقل والمنطق والعلم، إنما يصل إلى حائط سدّ معرفي، فهو يفقد المعنى في كل هذا، ويذكرني هذا بدعاوي نيتشه ضد العقلانية السقراطية أو الفضيلة المعرفية، التي -بحسب المسيحيين الطومائيين، وغيرهم- درب السعادة، فاوست يسقط في سعادات غرائزية، تماماً مثلما يخلص نيتشه في كتابه (أفول الأصنام) إلى رفض الطبيعة (السامية) للسعادة الروحانية النورانية في الفكر الطومائي، ويقول أن الغرائز هي السعادة.
نيتشه- ممزقاً بين القمة الإنسانية للنسر المجيد، وبين (هاويته) التي يخاف التحديق بها، إنما يتيه، التيه النيتشوي ينتهي بعودة الفيلسوف إلى الكهف، حين ظل الفيلسوف يمشي- زاحفاً، خارجاً من الكهف إلى المجتمع، مذ أفلاطون. يترك نيتشه (الأخلاق بمعناها المعتاد) للمجتمع، ويعود للكهف بارادته. وكتب نيتشه الفلسفية تفتقر تماماً إلى أي تصور إنساني جماعي، وأوضح هذه الكتب هي عبارة عن محاورات بين فردين (رزادشت يحاور نيتشه). رغم ملحوظته في بداية الكتاب: هذا الكتاب للمجتمع لا للفرد.
نيتشه بدعوته إلى الفردية (الذاتية) الأخلاقية إنما يجسّد التصوّر الفرويدي للشخصية (الطفولية)، فيقول فرويد، كما يقتبسه (كولن ولسن) في كتاب (التاريخ الاجرامي للجنس البشري): اعط لطفل ما القوة، وسوف يدمر العالم. 


والعبارة اشارة لأنانية الطفل، يستخدم ولسن هذا الاستشهاد ليرمي به شخصيات الزعماء أو الاستبداديين (ولا بد أنه يلمّح لهتلر مثلاً). 
نقطة أخرى بخصوص العقلية أو السيكولوجية الطفولية هي أنها سيكولوجية الإنسان البدائي أو البربري، فهذا إنما يرى كل العالم امتداد لذاته، وفي الفكر البدائي يختلط الواقع بالخيال أو الأحلام، كما لا يتخيل هذا الإنسان البدائي أنه سيموت. والموت بالنسبة له شيء يحدث لغيره من المخلوقات. 
إن أطروحة نيتشه في الفردية والإنسان الأعلى (السوبر-مان)، رغم ما توحي به من الميل للتفوق (آكا: الحضارة، التمدن، نبذ العبيد)، هي في باطنها ميول بربرية أو بدائية بما تعنيه من الغاء الغير، حتى لو بحجة أنه ضعيف - دع حجة أن مصلحة الغير تتعارض مع مصلحة الأنا، ويساوي في ذلك اشاراته في كتاب (أفول الأصنام) إلى عملية (تدجين) الحيوان الأشقر الجميل، يقصد الجرماني، من قبل الكنيسة القروسطية