Monday, November 21, 2011

العار

يتعلّق العار بالآخر. يحيّد الإنسان نفسه عن الآخر كي يتجنّب العار. والعار مرتبطٌ بالفناء، وهو أقرب للموت من الحياة، العار البدائي، عار الأخ القاتل وهو يدفن أخاه لمداراة سوءة كليهما، العار المتعلق بحرمة الموتى المنتهكة، العار الذي يؤخّر الفارّ عن الفرار ليتقهقر ويدفن موتاه. 
وكي يتجنبه سوف يرتكن الإنسان لنفسه ركناً بعيدا عن أخيه وسوف يولول على الحجارة التي تتهدم والممتلكات التي تضيع منه وسوف يرتكن لصنمه ويبكي على صنم يتهدّم ولن يبكي على تمزّق اللحم الحي وسفك الدمّ ومقتل الآخر -الأخ - الشريك في الإنسانية، فالإنسانية تتطلّب قدرا ليس قليلا من المشاركة، والانسانية في جوهرها فكرة/معنى التحلّي بروابط مع الغير، والمشاعية. وحين يغرق الفرد أكثر فأكثر في عالم من حدوده الشخصية المكللة بممتلكات، وأشياء ليس مستعداً لفقدها، سوف يبتعد عن الإنسانية في صفائها، وسوف يتولّد لديه احتقار تجاه "هؤلاء الذين لا يملكون شيئا ليخسروه" أو "هؤلاء المنفتحون على الآخر" أو "المستعدون للتنازل عن ملكية شخصية في سبيل حق جماعي.." فهؤلاء هم "المجانين" أو "المجذومون"، والعداوة تجاههم تبلغ مبلغاً "وحشياً" فـ: "ليموتوا جميعاً"، "لتذهب سفينة الحمقى إلى الجحيم"، "اضربوهم بالنار.."

العار هو العتبة الأخيرة قبل أن نصير مسوخاً وقبل الفقدان التام للإنسانية، وما يفعله الفرد إلا محاولة لتجنّب الإحساس به نهائيا بتخديره وقتله، برفض الاعتراف بمشاركة الآخر- بمصير مشترك، بقيمة حياة، لقد تخدرنا ولا أدري إن كنّا تخطينا العتبة الأخيرة قبل ألا نعود بشراً، وأنا أشعر بالعار ولكني في مرحلة متأخرة منه، فلم أعد بشراً، مثل كل المسوخ لن أموت ولو بالرصاص، سوف أشعر بدرجات لونيّة متعددة من العار.

لقد فُرّغت الإنسانية من معناها، فلن أطلب من أحد أن يفكّر أو ينظر أو يسمع أو يعقل أو يفعل أو ينزل أو يطلع أو يذهب أو يجئ أو يقول أو يصمت، لن أطلب أكثر من أن يشعروا جميعا، أن نشعر جميعنا بالعار لآخر مرة.

Monday, September 19, 2011

Fish Tank (2009)







منذ سنوات قليلة، منع مجلس مدينة منزا الإيطالية ملاك الحيوانات الأليفة من وضع السمكة الذهبية في أحواض مقوسة. راعي القرار وهو يشرح القرار قال أنه من القسوة وضع السمكة في حوض ذو جوانب مقوسة لأن السمكة سيكون لديها فكرة مشوهة عن الواقع.
ستيفن هاوكنغ - التصميم العظيم

يبدأ الفيلم ببطلته، مِيا، تتفقد فرسة بيضاء، ثم تحاول سرقتها، وتفشل، ينتقل المشهد إلى حياة ميا داخل بيت ضيق بمقاطعة "إسكس" الفقيرة، بلندن، وكما يقترح مُلخص الفلم، تتغير حياة المراهقة، ذات الخمسة عشر عاماً، حين تستيقظ ذات صباح لتجد صديق أمّها لديهم بالبيت. يراقبها بينما تمارس هوايتها -موهبتها- في الرقص على أغان  الراب. يخبرها: ترقصين مثل السود، وهذا مديح. في كثير من المشاهد لها ترقص في حجرة بنافذة زجاجية ضخمة تطل على الخارج، وهي لا تسمع شيئا ولا ترى شيئا من الخارج تحت تأثير الموسيقى والحركة السريعة أثناء الرقص، مثل سمكة -في حوض- منفصلة عن الواقع، ولابد أن مِيا ترى الواقع مشوهاً، وتجد صعوبة في التأقلم مع البيئة حولها.
وبالنتيجة، نعرف أن ميا عدوانية تبادر بالأذى، طُردت من مدرستها، دائمة الشجار مع والدتها العزباء، التي يمكننا القول أنها تُهمل في شؤون ابنتيها، ميا، والصغرى تيلر، عنوان الفيلم Fish Tank يعكس الكثير، ويبدو لنا أن البيت الضيق الذي يعشن به -غالباً، بدعم حكومي للأم العزباء- يبدو كحوض سمك، على الجانب الآخر، كونر الصديق يمد يده إلى الحوض ليمسك ما يشاء، من السمكات الثلاثة، فهو في البداية يحظى بالأم، ثم بثقة الصغيرة تيلر، ويتّخذ مكانة أبوية، تتيح له في النهاية أن يستغل ميا - التي لم تبلغ بعد سناً قانونية- ،في مشهد موحٍ ، ببداية القصة، وقبل أن تتعقد، يأخذهن في سيارته إلى نزهة، ويسأل: لو أتيح لكن العودة للحياة كحيوان، ماذا سيكون، يختار كونور النسر، وتيلر القرد، وميا، النمر الأبيض. يعلل كونور: لكن النسر طائر، ألا تودون الطيران، ترد ميا: ثم يصاب الطائر بطلق ناري.

بعدها يذهب كونور إلى جدول مائي صغير، كي يصطاد سمكة بيديه العاريتين، وفي حين ترفض الأم أو الإبنة الصغرى الاقتراب، تنزل مِيا معه إلى الماء، ويمسك السمكة، وهي تجرح قدمها.

كان تصرفا عبثياً، لأن السمكة لم يأكلها أحد، وبعد أن تغادر ميا غاضبة، إلى المنزل، لوحدها، بعد أن سخرت أمها من الرقصة التي تؤديها، في اليوم التالي مشهد مؤثر للسمكة ملقاة على الأرض، يأكلها كلب العائلة. 

في رغبة كونور للعودة في الحياة التالية كنسر، وفي التلميح الرمزي لكون مِيا، وعائلتها، سمك في حوض، اشارة إلى القصص الخرافية من نوعية "حب بين طائر وسمكة"، في الفيلم، يكتسب الأمر أبعاد طبقية، فـ كونور يملك سيارة فاخرة، أتى من مقاطعة لندنية أكثر ثراء، يتكلم بلهجة مختلفة عن "الكوكني" التي يتكلمن بها، وربما كذلك أبعاد بيدوفايلية، لأن مِيا "سمكة" من بيئة مختلفة كلياً عن بيئته، وهو ثلاثيني وهي في الخامسة عشر. من ناحيته، موقعه في الطبقة الاجتماعية يتيح له أن يستغل الطبقات الأقل، في حين كانت مِيا بحاجة للحب الذي افتقدته، سواء كان حباً من الأب الغائب في حياتها، أو حتى من أمها، فلا يعاملها أحد بلطف طوال الفيلم إلا كونور، الذي استغل هذا جيداً مثل predator أمسك السمكة بيديه العاريتين، وحملها بين ذراعيه -في مشهد آخر، أول احتكاك حميم بين كونور ومِيا كان حمله لها وهي نائمة إلى حجرتها- ثم بعد ذاك، يستغلها كونور، ويهجر والدتها، بعد أن يحذر مِيا من أن تذكر الأمر لأحد. يُعيدنا هذا لمشهد الكلب الذي يلتهم سمكة ميتة.

حين تذهب ميا لاختبار أداء كي تؤدي رقصة - على موسيقى أغنية كونور المفضلة- تعيش خروجاً رمزياً آخر من حوض السمك (حجرتها الخاصة، التي مارست بها الرقص كما يحلو لها بلا وجل، ونادراً ما مارسته هكذا خارجها)، حين تكتشف أن لجنة التحكيم تريد منها أن تُظهر جسدها أكثر، وترتدي ملابس كاشفة، غير تلك التي ترتديها عادة، يتدمّر طعم الأغنية للأبد، أكثر مما كان عليه بعد استغلال وهجران كونور لها، حين تعيش ميا من جديد عملية اخراجها عنوة من حوض السمك، واختناقها: كأنما تُعاد تجربتها مع كونور على أنغام هذه الأغنية.

قبيل النهاية، تعرف مِيا أن مالكي الفرسة ضربوها بالرصاص، لأنها كانت مريضة، يُعلق الولد الذي يعتني بها "لقد بلغت السادسة عشر، كان هذا هو أجلها". تبكي مِيا، في اشارة أخرى من المخرج لخروج مِيا من الحوض، من الماء، نهائياً، والموت "السيكولوجي" المتخلّف عن الألم النفسي الذي أصابها بعد تجربة كونور. في النهاية، تغادر مِيا مع صديق إلى "ويلز"، تترك بيت أمها "حوض السمك"، وفي الوقت ذاته قد يشير الأمر إلى "مجيئها إلى الحياة" من جديد، بعد موتها الأول وخروجها من الحوض. كإحالة على المفهوم البوذي الذي نوقش سلفاً.

Tuesday, May 24, 2011

#NoSCAF


التالي هو "قصّ ولزق" لتعليق كتبته رداً على تدوينة ما، سوف أضعه كما هو، بلا تعديلات، لأن لا طاقة لدي لكتابة شيء جديد أو تعديل القديم.
لماذا يبدي المجلس حزماً مع "الخارجين عن القانون" كما يصفهم من المتظاهرين بينما لا يبدي الحزم ذاته مع النخبة الفاسدة من مخلفات النظام، المعادية للثورة لأنها تهدد شبكة مصالحها المادية، لماذا المحاكمات العسكرية لمدنيين أبرياء ومحاكمات مدنية لمجرمين حقيقيين-سؤال طُرح ألف مرة وسوف يطرح لآلاف المرات الأخرى- لماذا يتعامل الجيش مع الثورة كأزمة ولا يراها كعملية اصلاح وطني؟ المجلس يفتقر إلى النية الثورية، حتى أغلبية النخب الحاكمة الحالية سواء في الوزارات أو غيرها من مخلفات النظام الفاسد.حتى الحياة الاقتصادية كان يسيّرها أمن الدولة (وأحيانا، يتدخل الجيش بالتملّك)، المجلس يتعامل مع الفترة الراهنة كأزمة اقتصادية مشابهة مثلا لما تمر به دول أخرى والأمر غير صحيح، وهو خطر لأنه يجعلها تبحث عن حلول تسكينية مثل الاقتراض من الخارج وخطط الانقاذ على طريقة صندوق النقد الدولي، والواقع أن البلد يحتاج لاستعادة رؤوس الأموال المنهوبة وللتعامل بحزم مع الفساد المالي، ومواجهة الملف الأمني بجدية، يدهشني تماما من يعاتبون المجلس على "طبطبته" على الشباب المتظاهرين بينما لا يعاتبه على "تهاونه وطبطبته" مع الشرطة، ان كان يؤلمكم هروب الاستثمارات فإنها تفعل بسبب الانفلات الأمني، لماذا لا تُنفذ خطة اكتفاء ذاتي جادة؟ لماذا لا يتم التوجه إلى الادخار الداخلي؟ لماذا لا تُحسن ظروف الائتمان المحلي؟ تحقيق الاكتفاء في الطاقة والسلع الاستراتيجية؟ لو أراد المجلس أن يتعامل مع الأزمة بابتكار ووفاء حقيقي لمبادئ الثورة لفعل، المشكلة أنه يتم قهقهرته -أو يتقهقر هو- بفعل أصحاب المصالح السابقين. شيء مضحك تماما أن بلداً بهذا الحجم الهائل من الطاقة البشرية وذا بنية تحتية صناعية وزراعية لا بأس بها وفي تعرضه لأزمة يتوجه للاقتراض من الخارج وكأنه دولة خدمية صغيرة بلا موارد. وبالنظر لحجم رؤوس الأموال المنهوبة بواسطة رموز النظام السابق يمكننا الحدس بأن المشكلة الحقيقية هي ترهل القطاع شبه الحكومي/شبه الخاص المكون من لصوص/عصابة تستغل مخصصات الدولة، لماذا لا ينتهج المجلس خطة تقشف خاصة بالمصالح الحكومية المترهلة كي يوفر دعماً للسلع الأساسية والطاقة؟

Saturday, May 14, 2011

أخبث صنيعة أبدعتها الطبيعة



تحذير: التالي يحتوي سبويلرز لرواية "الأبله"، لديستويفسكي.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"لا أتذكر مشهداً روائياً" أكثر ظلامية من ذاك الذي في نهاية رواية "الأبله" لديستويفسكي، حين يأخد روجوين بيد الأمير مشكين (المقصود بالأبله في الرواية)، إلى حجرة مظلمة في بيت الأول، ليطلعه على جثة ناستازيا فيليبوفنا، بطلة الرواية، وقد قتلها في السرير، بطعنة في الصدر.

وإن كانت الرواية تُطلعنا على الأسباب وراء الأذى النفسي الذي تعانيه ناستازيا فيليبوفنا، مفسراً "قوى الخراب" التي تدفع بها تجاه آخرين - تفسد زواج رجل ثري (لكن منحطّ) من شابة صغيرة، تثير الحرج لآخرين، لكنها، في الواقع، تعيد ترتيب المجتمع الروسي - في زمان الرواية- المزيف، المغلف بأصباغ وادعاءات.

لعل في ناستازيا الشخصية تقاطع مع ربّة الكراهية الاغريقية إريس، في الرواية، يتعرف القارئ لأول مرة على ناستازيا بسبب تدخلاتها لافساد زواج الشخص السابق ذكره، وهو ذاته الرجل الذي استغلّها في طفولتها، -وقد خُرّبت حياتها مذ ذاك- في حكاية إريس شبهاً طفيفاً، حين تبدأ بعدم دعوتها إلى عرس بليوس وثيتس -وتتوالى الأحداث في الأسطورة، مؤدية إلى حرب طروادة. في نواحي أخرى تتقاطع ناستازيا مع إريس، في أن الأولى تدعو بعض شخصيات المجتمع الروسي -في زمان الرواية-، لبيتها، وتحرجهم. ويأتي وصف لإريس مقارب لهذا الموقف، بحسب ويكي:

So, after all, she would invite them to her house turn them into pigs and eat them
ثم بعد ذاك، هي تدعوهم لبيتها لتحوّلهم إلى خنازير، ثم تأكلهم.

ليس غرض الكلام تبيان الأبعاد الميزوجينية الطفيفة هنا وهناك، اذ يبدو لي أن شخصية ناستازيا تتبع ارثاً درامياً أكثر عمقاً، فهي، اذ خُرّبت حياتها، ملأتها الكراهية (أو الحقد) تجاه الغير، ممن أفسدوا حياتها خصوصاً، وهي لا تريد السعادة (بل الانتقام). في الرواية، تبدو وكأنها تثير الفوضى، لكنها في الواقع، تعيد ترتيب المجتمع بالشكل الصحيح - في وجهة نظر ديستويفسكي، في مشاهد مثل حرقها المال المقدّم لها لكسب ودّها، يتناص مع مشهد آخر يحكي فيه قصة: (رجل يفسد علي آخر فرصته في كسب ود امرأة، حين يشتري كل ما تبقى من ورد الكاميليا، الذي ترغب به والذي يعدها به الثاني.)  ومشاهد أخرى توحي بالمعالجات السينيكية التي يقدمها ديستويفسكي لموضوعة العاطفة وكسب الود، والحب، لأنها في اطار المجتمع الفاسد، ذاته. ولأنها تسير بقواعده، فهي فاسدة كذلك، بالضرورة.

يبدو لنا أن ناستازيا أداة أناركية، فهي، ليستْ مثل شخصيات سبق تقديمها، راعية/قديسة/باعثة لطاقة ايجابية/تعطف على المنبوذين - (مارغاريتا، ازميرالدا، الخ) هي في الواقع تُفسد حياة كل هؤلاء - داخل العمل الدرامي- لمصلحتهم، كنوع من التنوير/التطهير الأناركي، كأداة درامية، لا يستخدمها الكاتب استخداماً تقليدياً (كما الحال مع شخصيات أنثوية أخرى، تظهر كشخص ملائكي يكرّس -في الواقع- للقيم المحافظة، باعادة الأمور الخيّرة إلى نصابها وازاحة الشر). بل تأتي ناستازيا إلى مجتمع محافظ، متفسخ، من الباطن، لتدمره وتعيد تشكيله من جديد. فالشر/الظلامية النفسية موجودة، وما السبيل لتطهيرها إلا المزيد من الظلامية المتطرفة/القصوى.


الأمير مشكين في لقاءه الأول معها يُحدث "شرخاً" في الآيدولوجية الظلامية الخاصة بأناستازيا، هو مستعد لأن يحبّها حباً غير مشروط. وأن يقبلها على ما هي عليه. وهي، تميّزه، عن الرجل الآخر الذي يحبها "روجوين"، ورغم أن روجوين ملطخ حتى رأسه بالمجتمع ذاته الذي تحتقره ناستازيا، إلا أنها تعتبره من نفس طينتها. روجوين هو أداتها في اتمام "الطقس التطهيري الأعظم" للرواية، والكاتب يفسّر لنا سبب ظلامية ناستازيا، ومصدر الطاقة السلبية التي تحرّكها، في حين لا يعطي تفسيراً بذات القوة لأجل شخصية روجوين، إلا اقتراح عابر، من الأمير مشكين: "أنه مهووس، ولو لم تظهر ناستازيا بحياته، لانشغل بهوس آخر، بجمع المال، مثل أبائه وأجداده."

الهوس (الوسواس القهري..اذن) بما تتضمنه الحالة من "طقوس" عصابية قهرية يتوازى مع الغائية التي تحرّك شخصية ناستازيا، هي تريد أن تموت مذ أول ظهور لها في الرواية، لا تريد أن تحيى، يُقدم لها خيار الحياة السعيدة، الهانئة، بما سوف يمنحه لها الأمير ميشكين من حب صادق، لكنها تهجره -بعد أن تسبب له حرجاً اجتماعياً- حين تهرب في ليلة عرسها عليه، مع روجوين. طقوسية روجوين تظهر في مشاهد مثل أنه: (بعد أن يضربها، يركع علي ركبتيه أمام باب حجرتها المغلق، طالبا غفرانها، وهي، تعلّق ساخرة على وضعيته الطقوسية، ضاربة مثل بحكاية عن رجل يطلب غفران البابا.)

رغم أن روجوين (بوصفه شخصية مهووسة، ولأنه اعادة انتاج لشخصيات أخرى=عطيل) تستبد به غيرة جنونية حين يعلم بالحب المتبادل -ظاهريا- بين مشكين وناستازيا، بل أنه يؤذي مشكين، ويتشاجر معه، ويبدي نية قتله، لكن قتل مشكين لا يتوافق مع "النموذج" الذي سوف تسيّره ناستازيا لأجل مشروعها التدميري، ترى ناستازيا أن مشكين لا يجب أن يتواجد في مثل ذاك المجتمع، وأنها، لو تزوّجته، سوف تفسد حياته، فهو برئ، هي ترى هذا، لكن ديستويفسكي لا يريد ببساطة أن يتزوج مشكين بناستازيا، بعد أن ورث مالاً وفيراً، وهو سوف يوفر لكليها حياة رغدة (وفقاً لقواعد المجتمع) سوف يُدّجن كل من مشكين وناستازيا (الشخصيتين الأكثر تفردا واختلافا عن المجتمع حولهما، والأكثر مساءلة أو اتهاماً لهذا المجتمع).
ورغم أن الزواج كان ميسراً، وأن روجوين انسحب - لماذا انسحب؟ هذا ما نجيب عليه، قد وصل روجوين إلى الطمأنينة، لأنه نال تنويراً مبدئياً، أو لأنه فهم أخيراً ناستازيا، التي عجز عن أن يفهمها غيره، بمن فيهم مشكين، روجوين يعرف ما تريد، بالضبط، الخراب.

في حين أن الطمأنينة لم تدرك ناستازيا بعد، لكن، من ناحية أخرى، هي في طريقها للزواج بمشكين، وعيش حياة سعيدة ظاهرياً، وها هو روجوين ينسحب للأبد، لكنها، تقول: "أشعر بعينيه تحدقان بي وسط الناس."(تقصد روجوين). بل هي تعرف بوجوده بين الحشد، في عرسها، وتقفز إليه طالبة منه أن يأخذها بعيدا.

يكتمل الطقس الأناركي الخاص بناستازيا، حين يحقق لها روجوين ما تريد: يقتلها، أما مشكين، فيصاب بالصدمة، التي تعيده أبلهاً، فقد بدأت الرواية، بتعافيه ظاهرياً، وعودته من مقر علاجه بسويسرا، إلى روسيا، كي ينال ارثاً وفيراً. فالنظرة الأولى للرواية توحي أن غرضها عرض "عاهات" المجتمع الروسي في ذاك الحين، الذي يتحلق حول مشكين ذي المال، بعد أن نبذه في البداية، يجن مشكين من جديد، وبطبيعة الحال يفقد ارثه، ويعود مريضا في مصحاً عقلياً. وناستازيا، بعد أن ماتت، لم تك لتحلم في حياتها بأن خطتها الأناركية-التطهيرية سوف تتحقق بهذا الكمال: حتى آغلايا، الفتاة الحلوة، ذات النسب، والتربية المحافظة، التي رغبت ناستازيا في أن يتزوجها مشكين بدلاً منها، "تتحرر" من القبضة السخيفة للمجتمع ولعائلتها، وتهرب مع رجل بولندي، بل تنخرط في نشاط سياسي مشبوه.

من حين لآخر يدور حديث مكبوت في الرواية عن "قضية المرأة". ويبدو أن ديستويفسكي أراد أن يقدم نموذجا فيمنيزمياً مبكراً، وإن كانت ناستازيا هي الُمصلِح الأخلاقي الخاص به. وهي سيئة السمعة، فإن النموذج الأناركي لها يكتمل حين تهرب آغلايا (بذلك، حلمها في الهروب من عائلتها، الذي تتحدث مع مشكين عنه، هو الحلم الوحيد الذي يتحقق داخل الرواية). وتعيش حياة فوضوية. مقوّضة المجتمع. على الجانب الآخر، تحمي ناستازيا مشكين من أن يفسد المجتمع روحه النقية، بأن تسبب له جنوناً، فيعود منعزلاً في مصح. أما روجوين، فهي تقدم له الشيء الذي يشترك معها فيه.  الـ"todestrieb"، يتحول مجرماً، ويواجه حكماً بالاعدام.

لعل العلاقة العجيبة بين ناستازيا وروجوين هي ما تدور حوله الرواية فعلاً. "الخراب المتبادل". كلاهما يرضي الآخر، عاطفياً، لأنه يضمن له الدمار الذي يرغب به، إنها ليست حتى علاقة سادو-مازوخية، بل أكثر ظلاماً، لأن أبعادها طقوسية، وديوستويفسكي بهذا النموذج يعطي ايحاء بـ"التأثير السحري، الأسود للعاطفة.." ولعل في هذا تناص مع أفكار نيتشيه عن الديونيزية، فالعاطفة، طاقة ظلامية (شبه شامانية)، قوى طبيعية تحرّك الشخصيات، مثل سحر، فلا ناستازيا تكبح جماح نزعاتها التدميرية، ولا روجوين يكبح هوسه الجنوني بناستازيا، الذي يؤدي به إلى قتلها (غيرة؟ حباً؟) ولا شك أن ديستويفسكي يستقي عناصر من حكاية عطيل. ولا أجد اقتراباً درامياً معاصراً أفضل، من رواية ارنستو ساباتو "النفق"، عن رسّام، يقتل حبيبته، والرسام في الرواية ميزآنثروبي مهووس، أما الحبيبة، فهي تحيى حياة عجيبة -يصعب على البطل الرسام فهمها- إنها متزوجة من رجل أعمى، تقيم علاقات مع غيره، بل أن رجلاً - قبل الرسام- ينتحر بسببها، ويبدو أن الحبيبة البطلة تمارس طقسا تنويريا/تطهرياً على طريقة ناستازيا، حين تستمر مع رجل مهووس- وهي تعرف بمرضه، وحين - في مشهد النهاية- تستقبل طعنته لها بالسكين، في السرير كذلك، (كما الحال مع عطيل الذي يخنق ديدمونة في السرير - أو، روجوين كما وُضّح من قبل). لعل أحسن ما بالأمر هو عنوان الرواية "النفق"، يذهب النقاد إلى اسقاط مفهوم النفق -سيكولوجياً- على الطريق الظلامي، المهووس، الذي يؤدي برجل عاشق إلى قتل حبيبته، لكنا نرى أن النفق يحمل معناً ميتافيزيقيا (الضوء في آخر النفق..) ورغم أن الرواية، بالمقاييس المبدئية، مثلها مثل رواية الأبله: في مسألة أن "آخر النفق" هو المشهد الأكثر ظلامية على الاطلاق بالنسبة للقارئ، لكنه في الواقع، التنوير/التطهير الخاص بالشخصيات، شخصيات تحركها نزعة الموت، تحقق خلاصها الشخصي، بطريقة مؤلمة. 


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان من ترجمة ممتازة لفقرة يوجّه بها عطيل كلامه لديدمونة، قبيل قتلها، في مسرحية "عطيل" لشكسبير

Friday, April 8, 2011

اختصار مُخلّ للدوغما

يعاني دارسو الاقتصاد من ارتياب تجاه الظاهرة العلمية، مردّه تجربتهم المؤسفة مع علمنة حقل الاقتصاد، أي تحويله من مجال معرفي إلى علم جامد يسير في نهج/خط مستقيم يكاد يقترب من العلوم الرياضية أو الطبيعية، وهو في الواقع، هكذا، يتحول إلى مجرد دوغما/ تيار معبرٌ عن رأي معين لا يسمح كثيراً بأن يحيد عنه باحثون آخرون.


لا مشكلة مع العلم كظاهرة، أو ترقي الاقتصاد إلى "مرتبة" علم -يا سلام!- لكن المشكلة أن "علم الاقتصاد" كان عليه أن "ينتقد" الظاهرة الإنسانية، التاريخية، الاجتماعية، بدلاً من ذاك، علم الاقتصاد بشكله الكلاسيكي الذى تأسس على كتابات انكليز - آدم سميث و ديفيد ريكاردو- قد وضع وظيفته النقدية جانباً - بعد أن شبع سميث نقداً في المركنتليين- وتفرّغ ليكرّس اتجاهاً/تياراً/رأياً متصلباً رافضاً لأي تصورات، أو نظريات أخرى تفسّر الظاهرة الاقتصادية. ورغم أن سميث وريكاردو وستيوارت ميل، وغيرهم، لم يقصدوا التشدد الفكري، لكن هذا ما تتبناه الكلاسيكية الجديدة، والليبرالية الجديدة، التي نحيى بها الآن، والتي تصاعدت -منتصرة- بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي عومل كأنه اعداماً نهائياً لأي أفكار اقتصادية اشتراكية.


تتمحور كلاسيكية آدم سميث، أولاً، حول ايمان عميق بمبدأ حرية السوق، لدي رأي أن الاقتصاد كحقل دراسي مسكون دوماً بروح -اليسار، طبعاً، لو أنه فقط استمر في النقد التاريخي/الاجتماعي لظاهرة السوق- وقد يجد البعض هذا تطرفاً، لكن أفكار سميث في القرن الثامن عشر كانت يساراً في مواجهة أفكار المركنتليين - التي لم تك قد ارتقت لعلم- وفي مقابل النزعة الامبريالية التي تسكن الخطاب المركنتلي، والتي تتلخص ببساطة في أن تبذل الدولة - اللوياثان بطبيعة الحال- كل جهد في حماية صناعاتها المحلية، والتصدير، والامتناع التام عن استيراد أي شيء، ولو تطلب الأمر استعمار الدول الأخرى- ليس لأجل المواد الخام بشكل خاص، لظروف العصر غير-الصناعية، إنما لأجل الذهب، وهو ما راحت المملكة الأسبانية تنفّذه باخلاص تام- يقول سميث أن هذا كله هراء، وأن الفائدة سوف تعود علي الدول لو فتحت أسواقها بين بعضها البعض، سواء أمام الصادرات أو الواردات، وأن هذا، في المدى الزمني القصير أو الطويل، سوف يؤدى إلى رفاهية الأمم.
"يسارية" سميث المزعومة تكمن في ايمانه بأنه لا قيمة حقيقية للنقد-الذهب- إنما ثروة الأمم هي في ما تصّنعه من منتوجات للتصدير، وهذا يعني، بالضرورة، أن القيمة الحقيقية لأي سلعة هي مقدار ما تحويه من عمل. تساير نظريات سميث "روح العصر" التنويرية من اضمحلال الاقطاع، وظهور الآلة البخارية وتحسّن ظروف وسائل النقل، أي بطبيعة الحال انتقال الأيدي العاملة بشكل أكثر كثافة، من الريف إلى المراكز الحضرية.


في القرن التاسع عشر تظهر أفكار ماركس لتنتقد النظرية الرأسمالية التي يكرْس لها سميث، وغيره، حجتها الأساسية هي الاستغلال الواقع على العمال، فهؤلاء يزدادون فقراً بينما يزداد الرأسمالي ثراءاً بسبب ما يحصل عليه من "فائض القيمة" وهو الفرق بين تكلفة انتاج السلعة وسعر بيعها.


كساد الثلاثينيات يمنح فرصة لظهور نقد حقيقي - ليس للرأسمالية بشكل خاص- انما لمبدأ حرية الأسواق، متمثل في النظرية الكينزية، وبها يحث كينز الدولة/الحكومة على التدخل من حين لآخر لاعادة الاستقرار إلى نظام السوق، إما بالوصول إلى التشغيل الكامل (القضاء على البطالة) أو بسياسات مالية ونقدية أخرى.


لكن الكلاسيكية الجديدة لا تلبث أن تظهر، في شكل أكثر طرافة يتمثل في أزمة أسعار الصرف- السبعينيات- ثم انهاء نظام بريتن وودز - فكّ ربط الدولار بالذهب- تلخيصاً: صارت أسعار العملات تتحدد بناء على العرض والطلب. أي صارت العملة كأنما هي سلعة. يزداد الايمان بمبدأ حرية السوق، ويتحول التخصص الاقتصادي الآكاديمي إلى عقيدة رأسمالية، مع الوضع في الاعتبار بعض التعبيرات الموحية لآدم سميث مثل " اليد الخفية" التي تسارع في اعادة السوق للتوازن اذا اختلّ. وافتراضاته أن المصالح الفردية للرأسماليين تتوافق بالضرورة مع المصلحة الجماعية. (مع الفقراء؟).


نظريات التنمية - التابعة للتيار الفكري الرئيس/الرأسمالي- تضع حلاً لمشكلة الدول النامية/الخارجة من تجارب الاستعمار، في انفتاح أكثر على الأسواق العالمية، وانهاء أي حماية وطنية للمنتج المحلي، يمكن تأمل مباديء البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، بشكل أوضح، في برنامج التثبيت والتكيف الهيكلي المفروض على مصر، مذ أوائل التسيعينيات، لحل مشكلة المديونية، باختصار: يجب على مصر أن تقلّص الطلب الداخلي، فمشكلة مصر مع المديونية هي -فقط، برأي الصندوق- أن الطلب الداخلي أكبر من اللازم، ويسبب عجزاً يجعل الحكومة تستدين من الخارج، وعليه يجب الغاء الدعم -على مراحل- ويجب تخفيض سعر العملة، وفتح الأسواق على الخارج، وتشجيع منتجات التصدير - ولا كلمة عن تشجيع قطاعات صناعية تحقق اكتفاء محلي- والمتأمل في البرنامج، ولو كان طفلاً غرّاً، يدرك ما به من تناقضات، وهو عموما نكتة أخرى من نكات النظام السابق- إلى جانب حادثة توقيع البرلمان على اتفاقية الجات ١٩٩٤ دون أن تُقرأ!- صحيح، قد يبدو البرنامج وجيهاً من النظرة الأولى، لكن الاقتصاد المصري له خصوصيته، وهو يشترك في هذه الخصوصية مع حزمة كبيرة من الدول النامية الخارجة من تجربة الاستعمار، والتي في الواقع لا تعود عليها تطبيقات فتح الأسواق على العالم والخصخصة و "يد آدم سميث" الخفية بأي فائدة.




لماذا لا يُنظر في نظريات اقتصادية تناقش مشكلة التنمية في الدول النامية، والتبعية؟ مثلاً، في الجامعات ينصب الاهتمام على نظرية "هكشر-أولن" في التجارة الخارجية " أن ما يخلق التجارة بين الدول هو الاختلاف في أسعار عوامل الانتاج". حتى الآن جيد، كان يجب أن ننتقل لنظرية التبادل اللامتكافئ للفرنسي لارغري ايمانويل، وقد نجلب مثالاً بسيطاً قائماً عليها: أسعار الأيدي العاملة -مثلاً- أي الأجور، في الدول النامية، منخفضة جداً بالمقارنة بمستويات الأجور في الدول الصناعية الكبرى-الغرب. ما الذي يترتب على هذا؟ أن حتى برامج صندوق النقد التي تبدو حسنة النية مشجْعة على التصدير هي في الحقيقة تكرس أكثر فأكثر للافقار المستمر والمنهجي للدول النامية، لأن أسعار وسائل الانتاج كلها داخل الدولة النامية منخفضة، فيحصل المواطن الأمريكي-مثلاً- على السلعة المستوردة من البلد النامي بسعر بخس، بينما يحصل المواطن في البلد النامي على السلع الغربية بأثمان خرافية. اتفاقية الجات في تحرير التجارة وتقليص الممارسات الحمائية - رسوم جمركية، دعم للمنتج المحلي- تسهّل أكثر على الدول الكبرى استغلال الدول النامية، للحصول على المواد الخام بأبخس الأسعار، أو حتى الأيدي العاملة، هكذا، استفادت الدول الغربية من نقطة القوة الوحيدة التي يتمتع بها العالم الثالث- أعني، الأعداد الهائلة من السكان- التي، بحسب قوانين الاقتصاد البسيطة (العرض والطلب) تسهّل مناخاً تقل فيه أجور العمال في العالم النامي أكثر فأكثر، ويزداد الفقر والبطالة، في ظل عالم "مفتوح على الأسواق الرأسمالية" وبدول نامية ذات اقتصادات مشوهة استعمارياً، هشة سوقياً أمام غزو الواردات، تتحول القوة العمالية الهائلة في دول معينة - مصر على سبيل المثال- إلى اعاقة كابوسية للاقتصاد، في حين أن -بالمنطق- المفترض العكس.




يفتقد الاقتصاد المصري لمشروع وطني، وليس مشروعاً قومياً أو شمولياً مرعباً، بالضرورة، و عالم اقتصاد مُعتد به كـ سمير أمين، يشيد -على استحياء- بالتجربة الناصرية لأنها كرّستْ لمشروعاً اقتصادياً وطنيا، قائما على "فك الارتباط" بالسوق العالمي وبكل آثاره السلبية المحتملة على اقتصاد وليد، وليس بالضرورة "الانعزال عن العالم ومخاصمته"، والتجارب الوطنية تذكرنا دائماً - بالصين، بطبيعة الحال- وهناك يتحول "العبء السكاني" إلى ميزة ثمينة، حين يتوجه للداخل، وحين تُطبق خطط لتوجيه الاقتصاد - من جهاز وطني مختص- ولو أن الصين في فترة من تاريخها فتحت سوقها للخارج - على طريقة صندوق النقد الدولي- كانت ستتحول ميزتها السكانية إلى كارثة انسانية وبنسب تقترب من ٤٠٪ تحت خط الفقر، مثلاً!




يرى سمير أمين أن "الديمقراطية" هامة لأي تجربة وطنية تسعى للتحرر من مساوىء الرأسمالية المُستغلة، عالمياً، وربما أقول، هذه الفكرة رغم غرابتها -حيث ترتبط الديمقراطية بالسوق الحر، والرأسمالية، وتتعارض مع كلمة وطنية التي تذكر القاريء بكل التجارب الشمولية في التاريخ- تكمن أهمية الديمقراطية -الفترة الحالية- في أنها سوف تمنح المواطنين حقاً في الرقابة على الأجهزة التنفيذية، والثروات الوطنية، وأزمة مصر مع الدين الخارجي وصندوق النقد سببها الأساسي شحّ الاحتياطي الداخلي من السيولة أو النقد الأجنبي - الذي عرفنا مؤخراً أنه طار مع فساد يزيد عمره عن ٣٠ سنة- والديمقراطية لا تتعارض عموماً مع مشروع وطني يهدف للتنمية، والعدالة الاجتماعية، وليس المزيد من "فتح الأسواق"، وهذه ليست هرطقة لأن عددا من البلدان الأوروبية -العالم الأول- يطبّق ما يسمى "دولة الرفاه" التي تجمع بين أدوات اقتصادية اشتراكية، ورعاية اجتماعية، وسوق حر، في مرحلة تالية. وقد يفيد الاقتصادات النامية أكثر التوجه بالتجارة إلى دول أخرى متعثرة، فهذا سيقلل الفاقد الحاصل سابقاً، بحسب نظرية التبادل اللامتكافئ، نتيجة للاتجار مع دول ترتفع فيها مستويات الأجور وأسعار وسائل الانتاج، كي تستقل الأولى عن دائرتها المفرغة في فلك الاستعمار الجديد.

Tuesday, March 8, 2011

نقطة ومن أول السطر

تمر المناهج المدرسية في مصر بالتاريخ القبطي، وعصر الشهداء، وما يليه، مرور الكرام. المُضحك أن واضعي المناهج لا يجدون حرجاً من الحديث عن آمون ورع وأوزر وبقية "الأصنام"، إنما مسائل كانشقاق كنيسة الاسكندرية عن مثيلتها البيزنطية، ثم الرومية، وتصاعد نفوذ الأولى، وتاريخ تأصّل واستقرار ديانة ابراهيمية، في الأرض والثقافة والهوية المصرية، لا يُتبحّر بها بما فيه الكفاية.
إن "دراسة" أي موضوع، بشكل صحيح، متوازن ومحايد، "تُنضج" أي تعامل مستقبلي للدارس مع الموضوع محل الدراسة، الدراسة تضع أساسا للفهم و"التفهّم".

الفترة من ٦٠ ميلادية إلى القرن الرابع-الخامس الميلادي تكاد تساوي في الأهمية كل التاريخ الفرعوني لمصر الممتد على فترة ٧ آلاف عام. وفي رأيي، هي تزيده أهمية، فالتركيز على فرعونية مصر، كما قلت من قبل، يقع ضمن ميل "استشراقي" لازاحة مصر عن الواقع والحاضر والمستقبل و"فَلْكرتها"، أي تحويلها لنكتة فلكلورية، هكذا يهتم الدارسون التاريخيون بمصر الفرعونية ويهملون مصر القبطية وغيرها من الفترات. فالتاريخ الفرعوني "لا يمس" أي فرد "على قيد الحياة، حالياً" بشكل مباشر. بينما، إن أراد شخص أن "يتواصل" مع جذوره الشخصية فسوف يلجأ غالباً لمصادر "خارج المنهج."

فيكتور هيغو، "غير المتدين"، ينتابه في القرن التاسع عشر قلق كبير تجاه الحال المتردية لكاتدرائية نوتردام، في فرنسا القرن التاسع عشر التي صارت، بحكم الزمن، غير ودودة تجاه الأديان. بلاشك. لا يحرك قلق هيغو أي مسحة تدينية. يؤلف رواية "نوتردام دو باريس" مدفوعا بهذا القلق، محاولا، من خلال الرواية، تنبيه الناس إلى "ترميم" الكاتدرائية وحفظها لأنها تراث، أي جزء من هوية وتاريخ البلد بطبيعة الحال. الرقيب الديني المتشدد -في أوروبا- لا ينتبه للـ"نوايا الحسنة" لهيغو فيضع روايته ضمن القائمة السوداء للكتب الممنوعة بحسب الفاتيكان.

التاريخ الكاثوليكي حقل معرفي هام جداً داخل جامعات كل بلد أوروبي، وغربي كذلك. إنه حقل معرفي وكفى، بعض النظر عن هويات دارسيه، وتوجّهات الدول الأوروبية وشعوبها/مواطنيها. مبادرة هيغو، في القرن التاسع عشر، كانت مبادرة لكاتب/مثقف أوروبي يُعتبر دارساً متبحراً في التاريخ، كتب واحدة من أهم الروايات التاريخية، بغض النظر عن مرجعيّته، يكن احتراماً للتاريخ. ومن يدرس التاريخ سوف يحترم تمثّلاته على الأرض.

Tuesday, February 8, 2011

مشاهد قروسطية معاصرة/٢

يحلو للعرب تكذيب "المحرقة النازية لليهود"، في كل مناسبة، بنيّة حسنة هي مهاجمة الجانب الصهيوني في ادعاءاته أو فيما يُمنح له عالمياً من تأييد وتهاونات. لكن المؤسف حين نلاحظ أن الميل لتكذيب المحرقة في الثقافة العربية مردّها "استهتار" عام متغلغل في هذه الثقافة أو نوع من "الخيبة الأخلاقية" أمام أي نوع من الالتزام -الجماعي، الاجتماعي، الشعبي- أمام جرائم نظام من النظم. ربما هذا ما يُضعف الجانب العربي -أخلاقيا، لأنه في موقع الضحية- في مواجهة الجانب الصهيوني المجرم على الدوام. نعاود الاقتباس لادوارد سعيد، في مقالة له : "الحرب الأهلية اللبنانية التي أودت بـ١٥٠ ألف ضحية، وكانت لها آثار اجتماعية وبيئية ونفسية تفوق الحصر، وها هو لبنان يعود اليوم {تاريخ المقالة ١٩٩٥} وكأن شيئا لم يكن، مع الأشخاص أنفسهم في السلطة، أو ما يتاح لهم منها."

سواء اتّفق البعض أم لم يتفق مع رحيل رأس النظام المصري الحالي، بتصعيد الثورة ضده، سواء كان سبب الرحيل الشأن الداخلي {فساد- فقر - قمع للحريات - وغيره كثير}، يجب أن تتمسك كل القوى الشعبية بالأسباب "الانسانية،العالمية في طبعها"، أي جرائم النظام، ولا نعني بجرائمه الـ ما يزيد عن ٤٠٠ شهيد على مدى ١٥ يوم من الثورة الشعبية فحسب، الدائرة سوف تتسع لتشمل كل الشهداء، بمن فيهم ضحايا أعمال القمع والتعذيب لأنظمة رجال سابقين على الرجل الحالي. فالنظام يجب أن يرحل ليس لفساده وفشله فقط بل لأنه ملطخ بالدماء، وأي محاولات من جانبه للترقيع لن تمسح الدماء. ويجب أن يُعامل النظام بكل أفراده كمجرم ضد الإنسانية.

هذه الحركة الثورية تكتسب نجاحها الشعبي وناصيتها الأخلاقية، ربما، لأن أول مكان اشتعلت به كان صفحة فيسبوك للشهيد خالد سعيد،  هذا يعني نشوء تحوّر أخلاقي في الثقافة المحلية، المصرية أو العربية، واتجاه هذه لادانة الجرائم "ضد الانسانية".

أن يفهم الشارع العربي أخيرا معنى الـ"جرائم ضد الإنسانية" يعني الطريق نحو ثقافة مدنية تُعلي شأن الإنسان، فهذه مهدّت للنهضة الأوروبية وعصر التنوير، الظريف أنها في الحالة الأوروبية كانت اعلاء الإنسان الأوروبي في مواجهة غير الأوروبي، والإنسان الأوروبي نتيجة لهذه الثقافة تلطخت يده بدماء وبجرائم ضد الإنسانية، نحن نريد أن تنشأ ثقافة عربية انسانية تملك "تفوقا أخلاقيا" في مواجهة الجميع بلا استثناء، بعكس الحالة الأوروبية، ما يؤكد هذا البنية والشكل الذي اتخذته التظاهرات، أي الطابع السلمي على طول الخط الذي لم يدهش الشارع العربي فحسب بل العالم.

يبدو أن التسرع للتساوم وتناسي دماء الشهداء "متلازمة عربية"، في هذا احالة لانتقادات سعيد للقيادات الفلسطينية في معاهدات أوسلو وغير أوسلو، يجب أن تسير الثقافة العربية نحو "أرشفة" جرائم الأنظمة كافة، سواء كانت استعمارية أم وطنية، ليس في هذا بناء راسخ للتاريخ العربي فحسب، ولا حفظا للحقوق، بل كذلك تمهيد الطريق لاعلاء الإنسان العربي، الذي يظن المستعمرون من الغرب (أو من حكوماته الوطنية المستبدة) أن ليس له وجود، وأن الانسان موجود فحسب هناك، في الجانب الآخر من المعمورة، المنطقة العربية، وما حولها، من افريقيا ومناطق من آسيا، ربما أكثر منطقة في العالم دفعت غاليا واُستبد بها استعماريا وسالت دماء أبنائها، ربما يعادلها في هذا فقط البشاعات المقترفة في حق سكان أمريكا الأصليين من الهنود. والأخلاق الغربية مجرد لعبة سخيفة، في يد القوي - كالعادة، ويذكرنا هذا بتصريح كورتيز لوماي: "لو لم ينتصر الحلفاء لحُوكمت بتهم جرائم حرب."

لعل تلك هي متلازمة الاستعمار السيكولوجية كما يقترحها فرانتز فانون في كتابه " المعذبون في الأرض". فلا تزال الأيدي الاستعمارية تعبث كما تشاء، خاصة، في هذا النظام ذاته المُهدد الآن بثورة من الشعب، أصدق تسمية لها هي "انسانية مائة في المائة"، النظام الذي صار يرأسه الآن قيادات يدها ملطخة بالتعذيب والقمع وانتهاك الانسان. الإنسان العربي الذي لم يك أحدا يراه، ويُمارس ضده ما قد تمارسه قوى استعمارية متعالية، قد نهض، فالاستعمار والاستغلال والفساد والاستبداد والعنف - وكلها مشتقات استعمارية متأصلة في الثقافة الغربية، تجاه ما ليس غربياً، التي جعلتنا نصدّق أن الأخلاق القبلية للعرب، والشرق، هي أساس العنف، وأن العرب وثقافاتهم ودياناتهم تروج للعنف، في حين أن أكثر ضحايا العنف من المناطق الشرقية من العالم، وأكثر مجرميه من غربه، ومع هذا يتبجح أمثال هنتنغتون بخرافات نيو-ليبرالية.

لا تضع هذه الثورة حداً للاستبداد السياسي وأسسا للديمقراطية العربية فحسب، بل كذلك حداً للاستعمار الذي لم يزل مستمرا للآن. ومكاسبها الأخلاقية والثقافية سوف تفوق مكاسبها السياسية، ولا حجّة أو عذر لكل من يعارض تصعيداتها بدعوى - اعطاء فرصة للنظام الحالي- النظام الحالي، المجرم، ذو الأدوات الاستعمارية؟ أي فرصة تُعطى له إن لم تك فرصة للمزيد من القتل.

Saturday, January 1, 2011

مشاهد قروسطية معاصرة

أهم ما يميز المسيرة النقدية لادوارد سعيد، الى جانب كتابه الاستشراق، وأطروحة الاستشراق بشكل عام، وتيار النقد للخطاب الكولونيالي، والكتابات ما بعد الكولونيالية، هو انتقاده لأطروحة هنتنغتون بخصوص صراع الحضارات.

يقول سعيد، أن كلام هنتنغتون هراء. لأنه يستند إلى فرضية تماسك أو وضوح الحدود الدقيق لكل معالم/مميزات وخصائص الحضارة الغربية. أو الإرث اليهودي-مسيحي. في مقابل  الثقافات الشرقية العربية أو الكونفيوشوسية.

سعيد يؤمن - وأكاد أوافقه- أن أي حضارة أو ثقافة هي نتاج تفاعل وتمازج طويل الأمد. الدلائل التاريخية تقف مع كلامه: فمثلاً النسك الرهباني، والتراتيل الكنسية، التي ميّزت الحضارة الأوروبية ما-قبل-النهضة ترجع أصولها للشرق. مصر تحديداً في المثال الأول، وبيزنطة للمثال الثاني. وهنالك من يذهب للقول أن الفكر الأخلاقي - مقابل الفكر الميتافيزيقي، الذي ميّز عهد الأنوار، ترجع أصوله لتأثّر مفكري أوروبا بابن رشد، وابن سينا، وابن خلدون، واخوان الصفا، مقابل أفكار توماس أكويناس الميتافيزيقية.
في هذا تعميم جارح، لكنه مجرد محاولة شخصية لتبيان خطوط التمازج سواء الخفية أو العريضة. في أفكار سعيد براكتيكية سياسية جيّدة. لأن هراء هنتنغتون وفوكوياما - اللذان يسميهما سعيد بالأصوليين الجدد- تتم معاملته في مراكز صنع القرار بالغرب كآجندة عسكرية-سياسية. وطريقة تعامل عصرية مع الشرق، في هذا تقاطع مع أفكار سعيد بشأن الاستشراق، كأداة سياسية وطريقة لاستقبال الشرق ومعاملته وليس مجرد اهتمام ابيستمولوجي.

للأسف. أطروحات هنتنغتون زادت سُعار العصر ما بعد العام ٢٠٠١ وتفجيرات سبتمبر. سُعار : القطبية. قد تقطّب العالم، يميل المفكّرون السياسيون إلى اعتبار فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فترة الصراعات الاقليمية، والقطبية التي أرعبت العالم مذ الحرب الثانية حتى التسعينيات تم استبدالها بمعارك اقليمية لصالح القوّة الوحيدة المتبقية. المؤسف أن القطبية صارت أسوأ، ليست آيديولوجية، بل عقائدية.


في محاولات سعيد لاقتراح حلّ للمسألة الفلسطينية، ينادي بالدولة المزدوجة، وليس الدولتين المنفصلتين، هذا يعني تمازج هويات الفلسطينيين والاسرائيليين للعيش جنباً إلى جنب في دولة واحدة.طبعاً، وبحد تعبير صفحة ويكي، هذا كابوس بالنسبة للكيان الصهيوني ذي الهوية المسعورة. بينما تبدو لي بشكل شخصي. أطروحة سعيد طوباوية لدرجة تكاد تكون كوميدية. ولعلها تبدو للجميع "خاطئة" ربما لأنها التخيل الأقرب للجنة.

عموما. أصل الفكر السياسي هو محاولات دنيوية لتخيل جنة. يتخيلها دانتي كنظام عالمي موحد يحكمه ملك واحد. ويتخيلها ماركس كعودة لمرحلة الشيوعية الأولى/البدائية. يتخيلها سعيد كتعايش سلمي لكل الهويات/الجنسيات معاً. ويستمر سعيد في أطروحته لرفض كل أشكال "الهوية/القومجية" المتطرفة. وبرأي سعيد -اليساري - أي نوع من القومجية أو اشتعال الهوية يؤدي لنتائج مؤسفة. يسمّي سعيد تعصّب الهويات/كما يعبّر عنه كذلك أمين معلوف في "هويّاته القاتلة" : المأساة الأسوأ في العالم الثالث. بدا هذا الكلام مذ سنوات عصيّاً على التسامح - ربما بالنسبة للقاريء العربي بالذات- لكنه بدا لي الآن - ٢٠١٠، ٢٠١١- بعيد النظر.  عموماً، وإن كانت تخيلات سعيد طوباوية، فهذا يفسّر ابتعاد الحال العالمي الآن عنها، وأي سير تجاه المزيد من التحزّب/القطبية/العصبية، يعني السير إلى مراحل غير-طوباوية، أو ظلامية.
مُدخل ادوارد سعيد لانتقاد النزعات العصبية تجاه الهويات ربما مصدره نقده للاستعمار/الامبريالية الغربية المشحونة لأجل تصدير الوهم الميتافيزيقي/الطوباوي للهوية الغربية المثالية. لذا فلا أظنّ أن "الهوية" أزمة العالم الثالث وحده، هذا العام.
 هذا العام وسابقه خيم عليه نوع من سعار الهويات، في أماكن متعددة، وتزداد نتائج استطلاعات الرأي في أوروبا تطرفاً، تجاه العرب، بشأن موضوع "الهوية الأوروبية". بينما تتطرف الهويات تجاه بعضها بعضا في أماكن متفرقة من الشرق الأوسط (وهذا التطرف كذلك واقع في بركة من الوهم). يشدد ساركوزي، في خطابه الرئاسي بمناسبة العام الجديد، على "سذاجة" دعاوي من يقترح على فرنسا الانسحاب من اليورو. مشدداً-من جديد- على مسألة: هوية فرنسا المرتبطة بهوية أوروبا، وهوية أوروبا، وحمايتها، الخ. تتكرر كلمة هوية أكثر من مرة في خطابه بشكل يجعلي أتذكر كلام سعيد. ولا أعرف إن كان يعني كلامه بشأن الهوية الأوروبية المزيد من المطاردات للغجر.