Tuesday, May 24, 2011

#NoSCAF


التالي هو "قصّ ولزق" لتعليق كتبته رداً على تدوينة ما، سوف أضعه كما هو، بلا تعديلات، لأن لا طاقة لدي لكتابة شيء جديد أو تعديل القديم.
لماذا يبدي المجلس حزماً مع "الخارجين عن القانون" كما يصفهم من المتظاهرين بينما لا يبدي الحزم ذاته مع النخبة الفاسدة من مخلفات النظام، المعادية للثورة لأنها تهدد شبكة مصالحها المادية، لماذا المحاكمات العسكرية لمدنيين أبرياء ومحاكمات مدنية لمجرمين حقيقيين-سؤال طُرح ألف مرة وسوف يطرح لآلاف المرات الأخرى- لماذا يتعامل الجيش مع الثورة كأزمة ولا يراها كعملية اصلاح وطني؟ المجلس يفتقر إلى النية الثورية، حتى أغلبية النخب الحاكمة الحالية سواء في الوزارات أو غيرها من مخلفات النظام الفاسد.حتى الحياة الاقتصادية كان يسيّرها أمن الدولة (وأحيانا، يتدخل الجيش بالتملّك)، المجلس يتعامل مع الفترة الراهنة كأزمة اقتصادية مشابهة مثلا لما تمر به دول أخرى والأمر غير صحيح، وهو خطر لأنه يجعلها تبحث عن حلول تسكينية مثل الاقتراض من الخارج وخطط الانقاذ على طريقة صندوق النقد الدولي، والواقع أن البلد يحتاج لاستعادة رؤوس الأموال المنهوبة وللتعامل بحزم مع الفساد المالي، ومواجهة الملف الأمني بجدية، يدهشني تماما من يعاتبون المجلس على "طبطبته" على الشباب المتظاهرين بينما لا يعاتبه على "تهاونه وطبطبته" مع الشرطة، ان كان يؤلمكم هروب الاستثمارات فإنها تفعل بسبب الانفلات الأمني، لماذا لا تُنفذ خطة اكتفاء ذاتي جادة؟ لماذا لا يتم التوجه إلى الادخار الداخلي؟ لماذا لا تُحسن ظروف الائتمان المحلي؟ تحقيق الاكتفاء في الطاقة والسلع الاستراتيجية؟ لو أراد المجلس أن يتعامل مع الأزمة بابتكار ووفاء حقيقي لمبادئ الثورة لفعل، المشكلة أنه يتم قهقهرته -أو يتقهقر هو- بفعل أصحاب المصالح السابقين. شيء مضحك تماما أن بلداً بهذا الحجم الهائل من الطاقة البشرية وذا بنية تحتية صناعية وزراعية لا بأس بها وفي تعرضه لأزمة يتوجه للاقتراض من الخارج وكأنه دولة خدمية صغيرة بلا موارد. وبالنظر لحجم رؤوس الأموال المنهوبة بواسطة رموز النظام السابق يمكننا الحدس بأن المشكلة الحقيقية هي ترهل القطاع شبه الحكومي/شبه الخاص المكون من لصوص/عصابة تستغل مخصصات الدولة، لماذا لا ينتهج المجلس خطة تقشف خاصة بالمصالح الحكومية المترهلة كي يوفر دعماً للسلع الأساسية والطاقة؟

Saturday, May 14, 2011

أخبث صنيعة أبدعتها الطبيعة



تحذير: التالي يحتوي سبويلرز لرواية "الأبله"، لديستويفسكي.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"لا أتذكر مشهداً روائياً" أكثر ظلامية من ذاك الذي في نهاية رواية "الأبله" لديستويفسكي، حين يأخد روجوين بيد الأمير مشكين (المقصود بالأبله في الرواية)، إلى حجرة مظلمة في بيت الأول، ليطلعه على جثة ناستازيا فيليبوفنا، بطلة الرواية، وقد قتلها في السرير، بطعنة في الصدر.

وإن كانت الرواية تُطلعنا على الأسباب وراء الأذى النفسي الذي تعانيه ناستازيا فيليبوفنا، مفسراً "قوى الخراب" التي تدفع بها تجاه آخرين - تفسد زواج رجل ثري (لكن منحطّ) من شابة صغيرة، تثير الحرج لآخرين، لكنها، في الواقع، تعيد ترتيب المجتمع الروسي - في زمان الرواية- المزيف، المغلف بأصباغ وادعاءات.

لعل في ناستازيا الشخصية تقاطع مع ربّة الكراهية الاغريقية إريس، في الرواية، يتعرف القارئ لأول مرة على ناستازيا بسبب تدخلاتها لافساد زواج الشخص السابق ذكره، وهو ذاته الرجل الذي استغلّها في طفولتها، -وقد خُرّبت حياتها مذ ذاك- في حكاية إريس شبهاً طفيفاً، حين تبدأ بعدم دعوتها إلى عرس بليوس وثيتس -وتتوالى الأحداث في الأسطورة، مؤدية إلى حرب طروادة. في نواحي أخرى تتقاطع ناستازيا مع إريس، في أن الأولى تدعو بعض شخصيات المجتمع الروسي -في زمان الرواية-، لبيتها، وتحرجهم. ويأتي وصف لإريس مقارب لهذا الموقف، بحسب ويكي:

So, after all, she would invite them to her house turn them into pigs and eat them
ثم بعد ذاك، هي تدعوهم لبيتها لتحوّلهم إلى خنازير، ثم تأكلهم.

ليس غرض الكلام تبيان الأبعاد الميزوجينية الطفيفة هنا وهناك، اذ يبدو لي أن شخصية ناستازيا تتبع ارثاً درامياً أكثر عمقاً، فهي، اذ خُرّبت حياتها، ملأتها الكراهية (أو الحقد) تجاه الغير، ممن أفسدوا حياتها خصوصاً، وهي لا تريد السعادة (بل الانتقام). في الرواية، تبدو وكأنها تثير الفوضى، لكنها في الواقع، تعيد ترتيب المجتمع بالشكل الصحيح - في وجهة نظر ديستويفسكي، في مشاهد مثل حرقها المال المقدّم لها لكسب ودّها، يتناص مع مشهد آخر يحكي فيه قصة: (رجل يفسد علي آخر فرصته في كسب ود امرأة، حين يشتري كل ما تبقى من ورد الكاميليا، الذي ترغب به والذي يعدها به الثاني.)  ومشاهد أخرى توحي بالمعالجات السينيكية التي يقدمها ديستويفسكي لموضوعة العاطفة وكسب الود، والحب، لأنها في اطار المجتمع الفاسد، ذاته. ولأنها تسير بقواعده، فهي فاسدة كذلك، بالضرورة.

يبدو لنا أن ناستازيا أداة أناركية، فهي، ليستْ مثل شخصيات سبق تقديمها، راعية/قديسة/باعثة لطاقة ايجابية/تعطف على المنبوذين - (مارغاريتا، ازميرالدا، الخ) هي في الواقع تُفسد حياة كل هؤلاء - داخل العمل الدرامي- لمصلحتهم، كنوع من التنوير/التطهير الأناركي، كأداة درامية، لا يستخدمها الكاتب استخداماً تقليدياً (كما الحال مع شخصيات أنثوية أخرى، تظهر كشخص ملائكي يكرّس -في الواقع- للقيم المحافظة، باعادة الأمور الخيّرة إلى نصابها وازاحة الشر). بل تأتي ناستازيا إلى مجتمع محافظ، متفسخ، من الباطن، لتدمره وتعيد تشكيله من جديد. فالشر/الظلامية النفسية موجودة، وما السبيل لتطهيرها إلا المزيد من الظلامية المتطرفة/القصوى.


الأمير مشكين في لقاءه الأول معها يُحدث "شرخاً" في الآيدولوجية الظلامية الخاصة بأناستازيا، هو مستعد لأن يحبّها حباً غير مشروط. وأن يقبلها على ما هي عليه. وهي، تميّزه، عن الرجل الآخر الذي يحبها "روجوين"، ورغم أن روجوين ملطخ حتى رأسه بالمجتمع ذاته الذي تحتقره ناستازيا، إلا أنها تعتبره من نفس طينتها. روجوين هو أداتها في اتمام "الطقس التطهيري الأعظم" للرواية، والكاتب يفسّر لنا سبب ظلامية ناستازيا، ومصدر الطاقة السلبية التي تحرّكها، في حين لا يعطي تفسيراً بذات القوة لأجل شخصية روجوين، إلا اقتراح عابر، من الأمير مشكين: "أنه مهووس، ولو لم تظهر ناستازيا بحياته، لانشغل بهوس آخر، بجمع المال، مثل أبائه وأجداده."

الهوس (الوسواس القهري..اذن) بما تتضمنه الحالة من "طقوس" عصابية قهرية يتوازى مع الغائية التي تحرّك شخصية ناستازيا، هي تريد أن تموت مذ أول ظهور لها في الرواية، لا تريد أن تحيى، يُقدم لها خيار الحياة السعيدة، الهانئة، بما سوف يمنحه لها الأمير ميشكين من حب صادق، لكنها تهجره -بعد أن تسبب له حرجاً اجتماعياً- حين تهرب في ليلة عرسها عليه، مع روجوين. طقوسية روجوين تظهر في مشاهد مثل أنه: (بعد أن يضربها، يركع علي ركبتيه أمام باب حجرتها المغلق، طالبا غفرانها، وهي، تعلّق ساخرة على وضعيته الطقوسية، ضاربة مثل بحكاية عن رجل يطلب غفران البابا.)

رغم أن روجوين (بوصفه شخصية مهووسة، ولأنه اعادة انتاج لشخصيات أخرى=عطيل) تستبد به غيرة جنونية حين يعلم بالحب المتبادل -ظاهريا- بين مشكين وناستازيا، بل أنه يؤذي مشكين، ويتشاجر معه، ويبدي نية قتله، لكن قتل مشكين لا يتوافق مع "النموذج" الذي سوف تسيّره ناستازيا لأجل مشروعها التدميري، ترى ناستازيا أن مشكين لا يجب أن يتواجد في مثل ذاك المجتمع، وأنها، لو تزوّجته، سوف تفسد حياته، فهو برئ، هي ترى هذا، لكن ديستويفسكي لا يريد ببساطة أن يتزوج مشكين بناستازيا، بعد أن ورث مالاً وفيراً، وهو سوف يوفر لكليها حياة رغدة (وفقاً لقواعد المجتمع) سوف يُدّجن كل من مشكين وناستازيا (الشخصيتين الأكثر تفردا واختلافا عن المجتمع حولهما، والأكثر مساءلة أو اتهاماً لهذا المجتمع).
ورغم أن الزواج كان ميسراً، وأن روجوين انسحب - لماذا انسحب؟ هذا ما نجيب عليه، قد وصل روجوين إلى الطمأنينة، لأنه نال تنويراً مبدئياً، أو لأنه فهم أخيراً ناستازيا، التي عجز عن أن يفهمها غيره، بمن فيهم مشكين، روجوين يعرف ما تريد، بالضبط، الخراب.

في حين أن الطمأنينة لم تدرك ناستازيا بعد، لكن، من ناحية أخرى، هي في طريقها للزواج بمشكين، وعيش حياة سعيدة ظاهرياً، وها هو روجوين ينسحب للأبد، لكنها، تقول: "أشعر بعينيه تحدقان بي وسط الناس."(تقصد روجوين). بل هي تعرف بوجوده بين الحشد، في عرسها، وتقفز إليه طالبة منه أن يأخذها بعيدا.

يكتمل الطقس الأناركي الخاص بناستازيا، حين يحقق لها روجوين ما تريد: يقتلها، أما مشكين، فيصاب بالصدمة، التي تعيده أبلهاً، فقد بدأت الرواية، بتعافيه ظاهرياً، وعودته من مقر علاجه بسويسرا، إلى روسيا، كي ينال ارثاً وفيراً. فالنظرة الأولى للرواية توحي أن غرضها عرض "عاهات" المجتمع الروسي في ذاك الحين، الذي يتحلق حول مشكين ذي المال، بعد أن نبذه في البداية، يجن مشكين من جديد، وبطبيعة الحال يفقد ارثه، ويعود مريضا في مصحاً عقلياً. وناستازيا، بعد أن ماتت، لم تك لتحلم في حياتها بأن خطتها الأناركية-التطهيرية سوف تتحقق بهذا الكمال: حتى آغلايا، الفتاة الحلوة، ذات النسب، والتربية المحافظة، التي رغبت ناستازيا في أن يتزوجها مشكين بدلاً منها، "تتحرر" من القبضة السخيفة للمجتمع ولعائلتها، وتهرب مع رجل بولندي، بل تنخرط في نشاط سياسي مشبوه.

من حين لآخر يدور حديث مكبوت في الرواية عن "قضية المرأة". ويبدو أن ديستويفسكي أراد أن يقدم نموذجا فيمنيزمياً مبكراً، وإن كانت ناستازيا هي الُمصلِح الأخلاقي الخاص به. وهي سيئة السمعة، فإن النموذج الأناركي لها يكتمل حين تهرب آغلايا (بذلك، حلمها في الهروب من عائلتها، الذي تتحدث مع مشكين عنه، هو الحلم الوحيد الذي يتحقق داخل الرواية). وتعيش حياة فوضوية. مقوّضة المجتمع. على الجانب الآخر، تحمي ناستازيا مشكين من أن يفسد المجتمع روحه النقية، بأن تسبب له جنوناً، فيعود منعزلاً في مصح. أما روجوين، فهي تقدم له الشيء الذي يشترك معها فيه.  الـ"todestrieb"، يتحول مجرماً، ويواجه حكماً بالاعدام.

لعل العلاقة العجيبة بين ناستازيا وروجوين هي ما تدور حوله الرواية فعلاً. "الخراب المتبادل". كلاهما يرضي الآخر، عاطفياً، لأنه يضمن له الدمار الذي يرغب به، إنها ليست حتى علاقة سادو-مازوخية، بل أكثر ظلاماً، لأن أبعادها طقوسية، وديوستويفسكي بهذا النموذج يعطي ايحاء بـ"التأثير السحري، الأسود للعاطفة.." ولعل في هذا تناص مع أفكار نيتشيه عن الديونيزية، فالعاطفة، طاقة ظلامية (شبه شامانية)، قوى طبيعية تحرّك الشخصيات، مثل سحر، فلا ناستازيا تكبح جماح نزعاتها التدميرية، ولا روجوين يكبح هوسه الجنوني بناستازيا، الذي يؤدي به إلى قتلها (غيرة؟ حباً؟) ولا شك أن ديستويفسكي يستقي عناصر من حكاية عطيل. ولا أجد اقتراباً درامياً معاصراً أفضل، من رواية ارنستو ساباتو "النفق"، عن رسّام، يقتل حبيبته، والرسام في الرواية ميزآنثروبي مهووس، أما الحبيبة، فهي تحيى حياة عجيبة -يصعب على البطل الرسام فهمها- إنها متزوجة من رجل أعمى، تقيم علاقات مع غيره، بل أن رجلاً - قبل الرسام- ينتحر بسببها، ويبدو أن الحبيبة البطلة تمارس طقسا تنويريا/تطهرياً على طريقة ناستازيا، حين تستمر مع رجل مهووس- وهي تعرف بمرضه، وحين - في مشهد النهاية- تستقبل طعنته لها بالسكين، في السرير كذلك، (كما الحال مع عطيل الذي يخنق ديدمونة في السرير - أو، روجوين كما وُضّح من قبل). لعل أحسن ما بالأمر هو عنوان الرواية "النفق"، يذهب النقاد إلى اسقاط مفهوم النفق -سيكولوجياً- على الطريق الظلامي، المهووس، الذي يؤدي برجل عاشق إلى قتل حبيبته، لكنا نرى أن النفق يحمل معناً ميتافيزيقيا (الضوء في آخر النفق..) ورغم أن الرواية، بالمقاييس المبدئية، مثلها مثل رواية الأبله: في مسألة أن "آخر النفق" هو المشهد الأكثر ظلامية على الاطلاق بالنسبة للقارئ، لكنه في الواقع، التنوير/التطهير الخاص بالشخصيات، شخصيات تحركها نزعة الموت، تحقق خلاصها الشخصي، بطريقة مؤلمة. 


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان من ترجمة ممتازة لفقرة يوجّه بها عطيل كلامه لديدمونة، قبيل قتلها، في مسرحية "عطيل" لشكسبير