Thursday, September 23, 2010

عاطفة آخر الوحوش

مصطلح (avant-garde)، الذي يمكن ترجمته كـ(طليعي)، يصف عادة الأعمال الفنية، الأدبية، التجريبية، التي تتحدى مقاييس الجمال السائدة في العصر المعني، فهي (سابقة لأوانها)،  تصدم الغالبية من الذوق الشعبي، لكنها سوف تعجب قلّة من ذوي الذوق الطليعي.

الأمر يمكن ملاحظته لو دققنا النظر في الحداثة الفنية الفرنسية (القرن التاسع عشر)، وأعمال مثل (زهور الشر) لبودلير، أو أغاني مولدورر لـ(لوتريامون)، وبعض الروايات القوطية ، ورغم أن الأعمال الفنية القوطية، للقرن التاسع عشر، تحوي مفاهيم وتفضيلات رومانتيكية لا تعجبنا حالياً، مثل نموذج (Damsel in distress)، الذي قد يصف عدد من الشخصيات، مثل (ازميرالدا) في أحدب نوتردام، أو (كريستين) في شبح الأوبرا، إلا أن وجود هذا النموذج السخيف، يجب أن يقابله نموذج (التنين)، وقصة (الجميلة في الأزمة) هي قصة قوطية، من حيث مرجعيتها إلى عدد من الحكايات الخرافية التي سادت عصور الظلام/أو القرون الوسطى الأوروبية، من حين لآخر قد تنتمي هذه إلى قصص الفروسية وقد لا تفعل بالضرورة، أقرب مثال للأمر، حكاية (آندروميدا)، وهي تقريباً ما يُقتبس منها التسمية التصنيفية (damsel in distress).

أفسحت الروايات القوطية مجالاً أوسع للشر، الممثل في التنين، بما قد يحمله تنين آندروميدا من مقاربات مع التنين الإنجيلي (اللويثيان) الذي كذلك قد يمثل الشيطان أو الآنتي-كرايست، تقدم الروايات القوطية شحنة نفسية ودرامية، مغلفة باثارة غريبة وبربرية، حين تحدث المواجهة بين البراءة النائمة، البراءة الغافلة والتنين المتربص (وهو ،بالطبع، ليس تنيناً بالضبط، إنما إنسان).
الافتنان (الطليعي) بالشر، أمرٌ لاحظته في المنتجات الفنية القوطية للقرن التاسع عشر، في حين يُدخل لورد بايرون نموذج (الشخصية البايرونية)، الذي، يمكننا أن نصفه بأنه : البطل غير الخيّر تماماً، الذي قد يكون أنانياً، وقد يكون سيء النوايا، إلا أنه جذاب. وسوف نجد الشخصية البايرونية في أعمال روائية قوطية لهذه الفترة، مثل شخصية هيثكليف من مرتفعات ويذرينغ، و دوريان غراي من صورة دوريان غراي.

الاهتمام بالشر أو الافتنان الزائد به يكاد يتحول إلى أمر (طليعي)، أو مميز لكل حركة الـ(avant-garde)، والشر الذي يظهر في هذه الأعمال، يكون مدفوعاً بهواجس (مانوية) للمؤلف، ويكتسب قوة، وحضوراً، وأهمية، تساوي بالضبط قوة الخير وأهميته، إنه عالم مانوي تماماً، فالشر في رواية (الحالة الغريبة للد.جيكل ومستر هايد)، يلازم الخير، ومستر هايد يظهر كشخصية مكملة لجيكل، بل أنها كانت موجودة في روحه مذ الأبد، وقد أظهرتها (الوصفة) الكيميائية.

وعلى ذكر الكيمياء، بدا الشر الروائي الذي يظهر في هذه الأعمال مرتبطاً بشكل أو بآخر بالعلم المستقبلي، في رواية قد نعتبرها ( خيال علمي-قوطي)، كـ(د.فرانكشتاين)، الوحش يُستحضر نتيجة تجربة معملية، وقد يُقال الأمر ذاته في حالة رواية (جزيرة الدكتور مورو)، وبها، يقوم الدكتور مورو بعمليات تهجين ينتج عنها مخلوقات تجمع بين الصفات البشرية والحيوانية، وبالطبع، على جزيرته المعزولة حيث تُجرى هذه التجارب (الشيطانية)، يتحول كل شيء إلى فوضى.


علي المجال الرومانتيكي، يسقط نموذج الأمير الوسيم (prince charming)، في حين تحل محله نماذج تظهر في روايات الأخوات برونتي تحديداً، منها بالطبع، هيثكليف، الغجري الهمجي، عكر المزاج ذو العواطف الموحشة والمتأججة. أو هذه الشخصية في الرواية العجيبة (Ayesha)، للمؤلف رايدر هاغّارد، وفيه، الشخصية النسائية الرئيسية قد تكون (عفريتة) من مصر القديمة، أو مقابل لإيزيس. وهو كذلك عصر الافتنان بالشرق وغموضه وما يحمله من تيه، و شر، وبربرية حسّية.

الارتياع من الشرق، والارتياع من العلم، مشاعر كانت غالبة في نهايات القرن التاسع عشر، واستشراف القرن العشرين، إنها مشاعر تكاد تذكرنا بمشاعر الرعب (الألفي)، التي سادت في أوروبا كذلك بعد انقضاء الألف الأولى للتقويم المسيحي، وتعلقت بترقب ظهور الآنتي-كرايست، تقدم الأعمال الأدبية القوطية، لفترة  القرن التاسع عشر قراءة جديدة للشر، لكنها قراءة (إسكاتولوجية) له، والشر يكاد يرتبط باستشراف المستقبل، سواء بما يحمله من فتوحات في الشرق (بالنسبة للغرب الأوروبي)، أو التقدم العلمي، أو باقتراب زمان (الوحش/الآنتي-كرايست). وربما، هذه المشاعر الفنية مهّدت بالتدريج لعملية تفضيل، لشخصية (نقيض البطل)، بمقاييسنا الحديثة، فهو البطل المتسامح تماماً مع جانبه المظلم، والذي، قبل أن يراه في غيره، قد رأي الظلام، الشر، والروع، في نفسه. وفي هذا تطور للدراما السيكولوجية، فتعامل/معالجة نقيض البطل لظلاميته الشخصية يتزامن غالباً- في العمل الفني- مع معالجته للشر الخارجي.

Saturday, September 18, 2010

千と千尋の神隠し (2001)


أو Spirited away، ويمكن ترجمتها إلى: المخطوفة، ولو أردنا عنواناً أقل درامية، فليكن: رحلة تشيهيرو، فيلم ياباني شهير من انتاج ٢٠٠١، حقق نجاحاً جماهيرياً واسعاً، سواء علي المستوى الشعبي أو النقدي، فاز بأوسكار أفضل فيلم رسوم متحركة لعام انتاجه. وهو من اخراج الياباني هاياو ميازاكي.

 الحكاية
الفيلم يدور حول تشيهيرو، الطفلة التي يصحبها والديها إلى مكان يحوطه دغل، مساحة خضراء مهجورة تجاور مبنى قديم، رغم تخوف تشيهيرو المبدئي من المضي قدماً إلى هذا المكان، تصحب والديها، ويتوقف هؤلاء عند مطعم مهجور، وهناك يتناولا طعاما معدّا للتو (رغم عدم وجود أي طباخين أو قائمين على المحل)، تشيهيرو ترفض تناول الطعام، وتذهب لتتجول بعيداً، وتصعد جسراً مطلاً  على نهر ظهر لتوه وبحلول الليل، حيث تلتقي بفتى يكاد يماثلها عمراً، وهذا يحثها على المغادرة بسرعة قبل حلول الليل، تعود تشيهيرو إلى موضع المطعم، لتجد خنزيرين يأكلان، مكان والديها، وقد امتلأ المكان، والمطاعم التي تجاوره، بأطياف داكنة تتجول.

تركض تشيهيرو إلى حافة النهر، وقد وجدت أن جسدها أصبح (نفاذاً أو طيفياً)، وهناك تجد قارباً يقل عدد من المخلوقات الغريبة، تتطور الأحداث، وتكتشف تشيهيرو أن هذا المكان هو حمام عمومي مخصوص للأشباح، وكي تستعيد والديها مجدداً، عليها أولاً أن تعمل في هذا المكان، كي تتاح لها الحركة بحرية.

وبمساعدة الفتى، الذي التقته في البداية، واسمه (هاكو)، يطعمها أولاً بعض الكرز الذي يعيد إليها مادية جسدها، ثم تذهب تشيهيرو إلى (يوبابا)، الساحرة التي تدير المكان، وتوقع معها عقداً كي تعمل فيه. يقتضي العقد أن تسلب يابابا اسم تشيهيرو، فيصير ملكها، وهكذا تخدمها تشيهيرو للأبد، وتمنحها بدلاً منه اسماً آخر هو : سين.

وتكتشف بطلتنا أن الأمر ذاته قد حدث مع (هاكو)، فهو لا يذكر اسمه، ولو فعل، لتحرر من قبضة الساحرة يابابا، لكنه لسبب ما يتذكر اسم تشيهيرو كأنه يعرفها مذ الأبد، وينصحها أن تظل متمسكة بذكرى اسمها، ألا تنساه أبداً وإلا لن تخرج من هذا (المكان)، إلى عالم الأحياء/البشر مجدداً.

تشيهيرو الطفلة المدللة تجد صعوبة في مزاولة الأعمال التي يزاولها أصلاً عدد كبير جداً من (الأشباح/مخلوقات أخروية غير آدمية)، وفي البداية تجد رفضاً، وتقليلاً من قدراتها، كما أن هنالك (كيان) شبحي غريب، يقف وحيداً ويبدو أنه يتبعها إلى كل مكان، في أول ليلة لها للعمل في الحمام، تسمح له بالدخول.


يزور الحمام في هذه الليلة ما يبدو أنه، كما يسمونه في الفيلم، (روح نتنة الرائحة)، يتخذ شكلاً كريهاً ويرفض كل العاملين في الحمام مساعدته، إلا أن الساحرة يوبابا تسمح له بالدخول، فهو، في كل الأحوال، زبون آخر يجب معاملته باحترام ولطف. لكنها تكلف تشيهيرو (الآدمية وسط الأشباح)، بالقيام على خدمته، وهو ما تفعله على أكمل وجه بعد أن حصلت على (بطاقات) خاصة، كثيرة العدد، تستطيع بها جلب مياه (معطرة)، وهذه البطاقات كان قد منحها إياها (الكيان) الشبحي الغامض، بعد أن سمحت له بدخول الحمام.

تتطور الأحداث لنكتشف أن هذا الشبح ليس كما يبدو، إنما هو (كامي/روح طبيعية قوية)، روح النهر، وهو شبح قوي وثري وترك وراءه ذهباً لعمال الحمام، واختص تشيهيرو لصبرها واتقانها عملها بعشبة/نبتة كروية معالجة.

تظن تشيهيرو أن هذه النبتة سوف تمكنها من استعادة والديها، أو تحويلهما مجدداً إلى بشر بعد أن صارا خنزيرين، وبينما تكتشف أن (هاكو)، هو تنين متحول، وأنه مُطارد من مجموعة من الطيور التي آذته، تدعه تشيهيرو ليدخل إلى المبنى، ويحتمي من هذه المخلوقات، وتكتشف أن الطيور مجرد وريقات، إنما هي تحت تأثير الساحرة (زنيبا)، الأخت التوأم للساحرة يوبابا، والتي على علاقة سيئة معها. وقد سرق (هاكو) منها أداة سحرية قوية، وجزاء له، فإن السحر الحامي لهذه الأداة سوف يتسبب في قتله.

تبدي تشيهيرو اهتماماً عظيماً بـ(هاكو)، الذي ينزف الآن حتى الموت، وتقرر أن تذهب إلى بيت الساحرة (زنيبا)، لتعيد إليها أداتها السحرية وتعتذر عن هاكو، علّه يُشفى، والجدير بالذكر أن تشيهيرو تضحي بنصف العشبة المعالجة التي حصلت عليها، وتطعمها لـ(هاكو) كي يتعافى جزئياً، وإثر هذا فإنه يلفظ الأداة السحرية التي كان قد ابتلعها وهو في وضعية (التنين)، ومعها (دودة) سوداء، تظن تشيهيرو أن هذه هي التعويذة الحامية للأداة، وتدهسها.

في هذه الأثناء الحمام يعاني من تطورات خطيرة، فقد تحول الشبح عديم الوجه إلى وحش، وبدأ - بعدما تطبّع بجشع العاملين في الحمام- يسألهم الطعام الكثير، ويعرض على تشيهيرو بعض الذهب كي يكسب ودّها، لكنها ترفض وتتركه لتنقذ (هاكو). يُثار الوحش غاضباً ويأكل اثنين من خدم الحمام، ثم تستدعى هيشيرو مجدداً كي تخلصهم من هذه الورطة، (الوحش)، تتصرف تشيهيرو بذكاء، وتضحي بآخر ما تبقى من العشبة العلاجية بوضعها عنوة في فم الوحش، وهذا يلفظ كل ما ابتلعه، بما في هذا الأرواح التي التهمها.

يتبعها خارجاً من الحمام، وهنا، كما توقعت تشيهيرو، يعود إلى طبيعته الهادئة المسالمة من جديد، ويصحبها في رحلتها إلى الساحرة (زنيبا)، وهناك تكتشف تشيهيرو أنها شخصية معاكسة كلياً لأختها الجشعة، فهي تسكن منزل ريفي بسيط، وتعاملها بلطف (كجدّة)، وتخبرها أن، في الواقع، هذه الدودة التي خرجت من أحشاء (هاكو) إنما كانت السحر الذي سلطته عليه يابابا لتتحكم به، وأن هذا السحر تلاشى تحت تأثير قوة حب تشيهيرو لـ(هاكو).
 الفيلم ينتهي نهاية سعيدة لتشيهيرو، بعودتها مجدداً إلى والديها، بعد أن نجحت كذلك في آخر (اختبار) تضعها فيه الساحرة الشريرة (يابابا). وكذلك بعد أن تحرر (هاكو) للأبد من قبضتها، لأنها تذكرت اسمه الحقيقي، فـ(هاكو) هو (كامي/روح النهر)، وقد وقعت حادثة لتشيهيرو في طفولتها، اذ كادت تغرق في هذا النهر لكنها ارتفعت مجدداً إلى السطح لسبب مجهول. تقول لـ(هاكو)، ببراءة، معللة : أنت أنقذتني وقتئذ، كنت أعلم أنك شخص صالح.


الميتافور
في الفيلم معالجة رائعة للإرث الشنتوي الياباني، من التحليلات التي ذكرت أن الفيلم، ببطلته طفلة العشر سنوات تشيهيرو، تجسيد لمرحلة البلوغ، حيث تنتقل الطفلة من عالم الطفولة إلى عالم الراشدين، حين تفقد اسمها/هويتها الطفولية، عن طريق (عقد) توقعه مع (ربّة) عملها، الساحرة يوبابا، وربما لهذا اشارة إلى انخراط البالغ في (المجتمع) المنتج، ليعمل سعياً وراء الرزق، تاركاً وراءه أي أحلام أو لطف طفولي. وهنالك تحليل آخر، أن تشيهيرو هي ميتافور لليابان الحديثة، أو لنقل، ربما تشيهيرو هي ميتافور للجيل واي الياباني، المنفصل تماماً عن ماضيه/تراثه الياباني التقليدي والخائف منه، نذكر خوف تشيهيرو المبدئي وعزوفها عن المضي قدماً لاكتشاف الدارة القديمة. والواقع، رؤيتي قد تقترح أن المخرج يأمل في جيل ياباني ذو مستقبل أفضل، عن طريق تفهمه ومعاودته التواصل مع تراثه القديم، فنحن نلاحظ في الفيلم عدة اشارات ذات معنى، الأبوان لا يمانعان في تناول طعام دون اذن، فقط لأن الأب معه (بطاقات ائتمان) وسوف يدفع المستحقات فيما بعد، ونحن ندري أن (الأخلاق العائلية)، والتهذيب تجاه الغرباء، مباديء وأصول معنوية مهمة في اليابان، هنالك اشارة أخرى، إلى أن الجيل الجديد، أو الجيل واي، يفتقد كذلك للتهذيب، تشهيرو أكثر من مرة في الفيلم تغفل عن شكر من يقدم لها مساعدة، تبدو كمن غير معتاد أبداً على هذا، ونحن نشعر أن مسألة شكر الآخرين واظهار الاحترام لهم، مهمة جداً في هذا (العالم/الجانب الآخر) الذي تنتقل إليه تشيهيرو. وهنالك الخدم مهذبون تماماً مع الزبائن، والساحرة المديرة للمكان تستقبل (الروح المنتنة) رغم أذاها، فقط لأنه زبون آخر ويجب معاملته باحترام.

لكننا نلاحظ شيء غريب، هذا العالم الروحاني، أو الجانب الآخر المظلم، والذي ربما يمثل كل التراث الشنتوي، إرث الأجداد لدى اليابان، هو في الحقيقة عبارة عن مؤسسة رأسمالية، تدار بواسطة محتكر جشع وقاس وشرير ممثل في ساحرة عديمة الشفقة أو الرحمة، تستغل طفلة صغيرة في العاشرة فقط لأنها تجد الأمر مسلياً. والأرواح/المخلوقات التي تعمل لديها تفتقر إلى التراحم أو الطيبة فيما بينها، بل أنهم يحقدون على بعضهم بعضاً، ومتعطشون للذهب، وربما في هذا اشارة إلى عدائية تراث اليابان تجاه نفسه، في الثقافة اليابانية، الحمام هو مكان للتطهّر الطقوسي، لكننا نجد الأشباح تأتي إليه لتأكل بنهم، وتستحم وتحصل على ما تريد من رفاهية وخدمة، كأن القيم الرأسمالية النفعية بدأت تتسلل إلى التراث الياباني. والشبح/الوحش (عديم-الوجه) يتحول إلى كيان شرير وجشع، قادر علي تقديم الذهب، يأكل غيره من الأشباح، حين يدخل الحمام فقط، (وهذا ما تدركه الطفلة تشيهيرو وتصلحه)، في حين أنه يعود إلى طبيعته الهادئة المستكينة حين يخرج منه، وحين ينتقل إلى المكان الآخر عند الأخت التوأم لـ(يوبابا)، والتي تعيش في منزل هاديء، بينما يقتصر نشاطها الانتاجي على الحياكة (صورة تقليدية قديمة لجدّة طيبة)، واستقبال الضيوف ومعاملتهم بلطف وتقديم الشاي لهم. خلاف النشاط الرأسمالي الجشع الذي تمارسه أختها الأخرى.

ربما يشير الشبح (عديم-الوجه) إلى الخطر الأخلاقي المحدق بمجتمع على مشارف هاويته الثقافية، في حين يبدو في الفيلم - بلا تنظيرات تحليلية- في البداية كشبح هاديء لا يستطيع أن ينسى مساعدة تشيهيرو ولطفها معه، فيصبح مهووساً بها، يداوم على تقديم الهدايا لها، وحين يدخل إلى الحمام، ذلك المكان المتفسخ والُمكدّس بكل صنوف المباهج المادية، البعيد كل البعد عن أي طابع روحاني قد يميز التراث الياباني، يتحول إلى وحش، حتى في محاولته لكسب ودّ تشيهيرو، وهو لا يعود إلى طبيعته (المسالمة غير الخطرة) إلا حين تصطحبه تشيهيرو بنفسها على متن القطار إلى الجانب الآخر، وتدعه مع أخت يوبابا الطيبة، ليساعدها في الحياكة.

"لبارونة بلاد العجائب علاقاتها في اليابان"
من تعليق طريف في الـ(Imdb)

الفيلم بلا شك هو (fairy tale) بمقاييس ديزني-زمان، أيام بينوكيو، الجميلة والوحش، سندريلا وبيضاء الثلج، ويحمل  الكثير من المعاني الحالمة، مثل تلك الاشارة إلى انحلال التعويذة التي كانت تقيد (هاكو)، بسبب مشاعر تشيهيرو وعواطفها الطيبة نحوه، أو الاشارة حين يجتمع كل من، أخت يوبابا، الشبح عديم الوجه، وأصدقاء تشيهيرو الآخرين لحياكة ربطة شعر لتشيهيرو، والتي سوف تحميها لأن : أصدقائها صنعوها لها.

تشيهيرو في الفيلم تبدو كأنها (خير مطلق)، إنها منيعة على كل شيء، فهي التي تصد عن زملائها العاملين في الحمام بطش عديم الوجه، والجميع يتحول في النهاية إلى صديق لها، تشيهيرو، رغم أنها الآدمية، الطفلة، والغريبة تماما عن هذا العالم المشعوذ، هي الساحرة الحقيقية، حين تحوِّل الجميع ليصيروا في صفها، بطيبتها المطلقة، وحسن نيتها. وربما علينا أن نذكر أن معنى اسم تشيهيرو هو (ألف سؤال)، ربما لهذا اشارة إلى سن تشيهيرو (١٠ سنوات)، سن الأسئلة والرغبة في الفهم. أما (هاكو) فيعني أبيض أو نقي.

لاشك أن بالفيلم بعض مسحات (آليسية)، مما يجعل (تشيهيرو) تنضم إلى طاقم البراءة الخاص بي : آليس من بلاد العجائب، سكاوت فينتش من رواية أن تقتل طائراً محاكياً، آلكزندريا من فيلم السقطة.

Wednesday, September 15, 2010

Scientia potentia est

حين بدأت بالتدريج في قراءة سلسلة (ما وراء الطبيعة)، تدفعني نزعة، أو شهية (فوق طبيعية) للرعب. لم أرتح كثيراً لـ، د.رفعت اسماعيل، ساخر، عجوز، قبيح، مثقف، حاصل على الدكتوراة، رغم أنه يمثل الـ(Anti-Hero)، لكن كل هذا لم يجعل منه شخصية مفضلة لدي، سخريته مبالغ بها قد تصل للازدراء أحياناً، لديه حكم جاهز ومطلق ومتعسف على الشخصيات الأخرى، واثق من نفسه، وواثق كذلك من (وضاعة) الجنس البشري عموماً، باختصار، د.رفعت اسماعيل كان بحق ابن عصره، وتركيبته السيكولوجية كانت مزيجاً من التعالي النيتشوي والتشاؤم الشوبنهاوري، والنيهيلستية، ورغم أن (رفعت) ليس (سوبر.مان)، إلا أن هاجس السوبر.مان، (الأوبرمِنش) ساكن تماماً في نفسيته، المقارنات لا تتوقف بينه وبين (رجال خارقين) آخرين في السلسلة، أذكر منهم ذاك الذي أثار اعجاب ماغي ماكيلوب (في رواية لوخ نس ربما)؟)، وإن لم أكره رفعت اسماعيل، أبداً، عدم الارتياح تجاهه منبعه أنه من الشخصيات الروائية التي لن أرغب أبداً في الالتقاء بها، فهو، غالباً، سوف يزدريني.
ثم تجري عملية (تحويل) رفعت اسماعيل إلى سوبر.مان، عنوة، مع الوضع في الاعتبار كل ما لا يجعله كذلك : ضعفه الجسدي، صحته المعتلة، سنه المتقدمة، عصبيته، ملله، وفي الحقيقة، تميل السلسلة إلى جعل كل هاته الصفات، وكلها سلبي، الأسباب التي تجعله بالضبط (سوبر.مان)، في زمن ما بعد الحداثة، وفي السبعينيات، كل ما هو جميل، مثالي، منير أو أبيض : سَـقَـط، سواء فلسفياً، أخلاقياً أو فنياً. ونفسية القاريء/المتذوق صارت تميل إلى السلبي والمظلم لأنه، ربما، واقعي أو صريح أو غير خادع، وغير واعد، وغير (نصّاب)، رفعت اسماعيل عجوز، لهذا هو أحكم من كل الشباب جميلي الخلقة، وصحته معتلة مما يجعله ينسحب، (كناسك) عن كل نشاط انساني مرح، وفي هذا زيادة لحكمته، هو عصبي ولا يحتمل الهراء، عكس جميع البشر، وهو ملول ، وعليه، فهو (غير ممل) مثل جميع البشر، الخ.

نقطة أخرى هي القوة المعرفية*، في حين سادت مؤخراً موضة (الأبطال العارفين)، وفي هذا مثال (غيل غريسوم، من مسلسل سي.إس.آي، والذي يذكرني كذلك بويليام دا باسكرفيل من اسم الوردة)، والخط الرفيع الذي يربط بين ويليام وغيل هو شيرلوك هولمز، يعترف امبرتو ايكو أنه بنى شخصية وليام على شيرلوك هولمز، وغيل غريسوم في مسلسله البوليسي (لابد) له أن يكون خلفاً لشيرلوك هولمز بطريقة ما، وشيرلوك هولمز بوصفه الأساس لكل شخصية أتت من بعده تعمل في مجال (التحقيقات في ظواهر غامضة)، وكما يحقق رفعت اسماعيل في قضايا غامضة عموماً، سواء كان متورطاً بها أو مدعواً إليها، فنشاطه يتضمن التفكير، التحليل المنطقي، والتغلب على (الوحش/العفريت/الشيء) بالحذق أو الاستنتاج، إن رفعت اسماعيل واقع تحت عباءة شيرلوك هولمز، ولعل المؤلف رسم الخطوط الرئيسية لشخصيته واضعاً في ذهنه هولمز.
وهولمز كشخصية، ربما، أدخل به آرثر كونان دويل لأول مرة، أدبياً، بطل قصص التشويق المتفوق عقلياً والعدائي تجاه المجتمعات. والتي في الوقت ذاته، رغم حذقها تملك جانباً سلبياً، بالنسبة لهولمز، هو كذلك كان مدمناً على السجائر، وأحياناً المخدرات.
إن (عدوى) شيرلوك هولمز سوف تمتد لتشمل موضوعنا الرئيسي، شخصية (د.هاوس) من مسلسل هاوس، بدأ الأمر بملاحظة أو إحساس بلا أساس منطقي، بالشبه الغريب بين هاوس ورفعت اسماعيل، كلاهما دكتور، وكلاهما سلبي جداً، معتل الصحة، ملول، عصبي، مزدرٍ للآخر، محتقر للبشر، عدائي، رفعت اسماعيل مدمن على السجائر، د.هاوس مدمن على المسكنات، وكلاهما يقع في فئة (البطل العالم)، وكل بطولة المسلسل، كما هي كل بطولة رفعت في السلسلة، تتمحور حول قدرة (رفعت، أو هاوس) على (معرفة) السبب والوسيلة قبل الآخرين وبسرعة، إن عامل (الادراك، الملاحظة الحذقة والمعرفة بسرعة) مشترك تقريباً بين مسلسل هاوس الذي يدور حول عمليات انقاذ متتالية لمرضى ذوي حالات مستعصية، وسلسلة ما وراء الطبيعة التي تتمحور حول (النجاة) بسرعة، وبشكل متتالي، من البعبع.
والظريف، كما يُرسم رفعت اسماعيل عادة وفي فمه السيجارة، يُصور د.هاوس (غارقاً) في عُلب مسكانته.

الآنتي.هيرو لا يجب أن يكون سلبياً ، غيل غريسوم ليس سلبياً رغم أنه آنتي.هيرو، وديكستر مورغان، القاتل المتسلسل وبطل مسلسل (ديكستر) آنتي.هيرو، رغم أنه لا يملك ذات المقدار من السلبية والازدراء للبشر والعجرفة، وديكستر كشخصية (هي كذلك خليط من النيتشوية، الشوبنهاورية والنيهيلستية) أعمق درامياً وعاطفياً، وكذلك سيكولوجياً من شخصيات كـ. د.هاوس، أو حتى رفعت اسماعيل، وما يقدمه المسلسل (ديكستر) من مسحة (فرويدية، اشارة إلى الصدمة التي يتعرض لها ديكستر في طفولته وتجعل منه مسخاً)، بالإضافة إلى الميل المهووس والظلامي للقتل لدى ديكستر، والعواطف غير المفهومة التي تضطرم داخله، يشكل شخصية قد تثير اعجاب المتذوق أكثر من مجرد شخص يتمحور كل العمق الدرامي لشخصيته، لدى المشاهد، في انتظار المشهد التالي الذي سوف تظهر به مسحة حنان أو عاطفة أو ضعف حسّي، وساعتها يحس المشاهد بنوع من الراحة النفسية، والرضا الرومانتيكي، حين يتحول وحش صلف ، دائم العجرفة وتوجيه الاهانات للغير إلى وحش وديع أو رومانسي في لحظة عابرة قد تكون غير ملحوظة.
مما يجعلهما (رفعت، وهاوس) نوعا من العزاء العجيب لإنسان/قارىء/مشاهد، فقد ثقته في البشرية. 



* شكر خاص لهذه التدوينة، بلفتها الانتباه إلى كل  (المفاتيح) الرئيسة في شخصية رفعت اسماعيل

Sunday, September 12, 2010

ليه يا بنفسج/٢

لعل أكثر ما تشتهر به لوحة (مدرسة أثينة) هو الثنائي : أرسطو وأفلاطون، ووضعية كلا منهما، فبينما يشير أفلاطون إلى الأعلى، إلى السماء، الجنة، أو عالم المُثُل. يتوجه أرسطو باشارته إلى (الأمام)، فهو لا ينكس يده كثيراً لكنه كذلك يدعو إلى الالتفات إلى هذا العالم، والنظر إليه.

اشارة اليد (إلي الأعلى) كانت شائعة عموماً في لوحات عصر النهضة، ويستخدمها مثلاً ليوناردو دافنشي في لوحته (يوحنا المعمدان).

وقد يكون للأمر علاقة بورقة التاروت (الساحر)، وما لهذه الورقة من معان خيميائية، حين سادت موضة الخيمياء في عصر النهضة، وما يعده هذا العلم من العثور على حجر الفلاسفة، صناعة الذهب، المعرفة القصوى، الرقي العقلاني، الخ.

غويا، رسام القرن الثامن عشر/التاسع عشر، فنان من جيل مختلف تماماً وإن كان يحمل كل ثقافة أعلام الفن الذين سبقوه، يستخدم كذلك اشارة اليد في بعض لوحاته، لكن، اليد تشير للأسفل.

في لوحته (دوقة ألبا)، سواء الأولى، ترتدي فيها الدوقة ثياب سوداء، أو الثانية التي ترتدي بها حلتها البيضاء، تشير يدها للأسفل، واليد ليست كـ يد أرسطو، بل هي منكسة تماماً بحيث تشير إلى الأرض. الأسفل، التراب، الطبيعة، الحواس. الخ.

مذ رامبرانت وحتى غويا بدأ الاهتمام بالألوان، وللألوان في الأعمال الفنية قضية، في عصر النهضة كان الاهتمام ينصب على الرسم، الخطوط، أو كما يدعونه التصوير، فمثلاً، يقول دافنشي في كتابه (مبحث في التصوير) أن التصوير (الرسم) يتفوق على سائر الفنون الأخرى، ومنها النحت، النحات يستخدم مجهوده الجسدي، بينما يستخدم الرسام مجهوده الثقافي.
ثم، نُظر للتلوين خصوصاً، في عصر النهضة، نظرة دنيا، فالتلوين حرفة عمال المصابغ، بينما الرسم، والخطوط، هي حرفة الفنان المثقف.

وللألوان طابع حسّي، مقابل الطابع العقلاني للرسم، على حد تعبير أحد نقاد الفن: الألوان تغري العين.
في لوحات دافنشي مثلاً نجد اهتماماً متطرفاً بالمقاييس الجمالية، التي تكاد تقترب من الدقة الرياضية القصوى، فالوجوه، والملامح، والأجساد، يتم تصويرها بحرص وبلا أدنى (عاطفة)، أو حسّ. إنه تصوير رياضي صارم.

يخف تأثير النهضة بمجيء كارافاجيو ثم رامبرانت، حين تكتسب الألوان الاهتمام الأكبر، استخدام رامبرانت للألوان مبهر، في مقابل اهتمام أقل بخطوط الرسم، أو دقة الملامح الجسدية.

الأمر يصل إلى أقصاه تقريباً عند غويا، فبينما نجد له لوحات تكاد تكون ملامح الوجوه فيها مبهمة تماماً (آخر لوحاته، مجموعته السوداء)، لكن للألوان تقريباً الحضور الأقوى.


الاتجاه الحسي يتزايد عند غويا، ويتحول إلى نوع من (المانيفستو)، حين يرسم لوحة دوقة ألبا، في أحدهما نكاد ننبهر باللون الأبيض الجميل لردائها، وهي تقف، منتصبة الجذع، رافعة ذقنها للأعلى (بخلاف الوضعية المنكسة للرؤوس في لوحات دافنشي مثلاً). وفي هيئتها شبه بالهيئة المتخيلة للـ(مايناد)، المخلوقات/النسوة اللاتي يعشن في الغابة أو البرية، ويشكّلن الجماعة الدينية لـ(دينونيسوس) راعي الخمر الاغريقي. فإن كانت النظرة الاغريقية لهؤلاء، أنهن مجنونات خارجات عن المجتمع، لكن الحكم الأدبي عموماً يربط بينهن وبين القوة أو الشجاعة، وكذلك : الخطر، حين يمزقن كل من يعترض طريقهن. ولعل هذا - إن بالغنا في التنظير- قد يتقاطع مع سيرة حياة دوقة آلبا، فهي قوية، عنيدة، ولم تأبه حتى بالملكة، حين وقفت هذه في طريقها.

لعل في هيئة دوقة آلبا نوع من الاحتفاء بالحياة، في اللوحة ورائها تمتد مساحات برية شاسعة، وهي في كامل حلتها، ثائرة الشعر، تقف وتشير بيدها إلى ما ترغب به.

Friday, September 3, 2010

سخط معرفي

في كتابه، (تاريخ موجز للزمان)، يعلّق ستيفن هاوكينغ تعليقاً - يحسبه ظريفاً- أن : الكشف الفيزيائي/أو العلمي، في عصرنا الآن، صار عصياً، إن لم تكن تتربع على عرش قمة الفيزياء.

وقد أبالغ إن حسبت تعليقه (شوفيني) إلى حد ما، عموماً، ليس هذا ما يزعجني بقدر ما يزعجني : كرسي لوكاس في الرياضيات، التابع لجامعة كيمبريدج، والذي أسسه الملك تشارلز الثاني في القرن السابع عشر. اسحق نيوتن أحد الأوائل ممن شغلوا هذا الكرسي. وفي كتابه- ستيفن هاوكينغ يستعرض من حين لآخر معلومة أنه شغل الكرسي لفترة من الزمن، ثم تركه عندما استقال، وحتى الآن، مذ تأسيسه في القرن السابع عشر وحتى القرن الواحد والعشرين، شغله ١٨ أستاذاً فقط، كلهم إنجليز.

وهو يذكرني نوعاً بمنصب (شاعر البلاط)، وهو كرسي تعسّفي شبه تبجيلي يصنع هالة من (قداسة) حول شاغله، خاصة أن راعيه ملك، في القرون الوسطى وما بعدها كان لزاماً على أساتذة الطبيعة الانتماء إلى الكنيسة، هذا يعني أن يأخذوا على أنفسهم النذور الإكليركية، تدخل الملك شارلز الثاني لأجل عيون اسحق نيوتن، كي يشغل الكرسي ويظل يتمتع بحريّته الدنيوية.

الكرسي شيء ظريف، وهو ليس الطامة أو العكارة القصوى في هذه الدنيا كي نفرد له نقداً واستهجاناً خصوصياً، إلا أني يزعجني جداً هذه الشوفينية العلمية، التي تكاد تقترب من السلوك العدائي العلمي، شاغلي الكرسي كلهم من الإنجليز، تقريباً يتم اختيارهم (بالفرّازة). ثم لماذا اذن يُمنح لشاغله كل هذا الاحترام والمرجعية العلمية؟

إن جمهورية العلماء أكثر عدائية (للأغيار). من جمهورية الأدباء مثلاً. يفتقر ممارسو العلم النظري أو التجريبي إلى الذهن المتفتح إنسانياً، الذي يتمتع به غالباً الفنانون.ربما لأن مجالهم (حر)، يرحب بالاختلاف والآخر. حرية الفن هي ما تجلب عليه الانتقاد غالباً، بينما بلا شكّ سوف تتمتع العلوم الطبيعية خاصة في العصر الحديث بكل الاحترام، فقد صار الفن (هزاراً). والعلم (جَدّاً).وبالتدريج يكتسب العلم سلطة عقلانية -في هذا العصر- تقرّبه من (الدوغما)، وكل دوغما تؤدي غالباً إلى أن يتعامل معتنقها بازدراء، وفي أسوأ الأحوال (بعدائية) مع من يقع خارجها.

دُهشت حين تابعت قصّ ستيفن هاوكينغ الشخصي للمشاحنات والخلافات التي يتعرض لها كثير من أساتذة العلوم في الجامعات المختلفة، من هارفارد إلى كيمبريدج، سواء من الطلبة صغار السنّ الذين يكنون عدائاً قِبْلياً -وقد عادوا لتوّهم من الحرب- لهؤلاء الأستاذة من كبار السن، أو الأستاذ الذي ينال نوبل ثم حين يمارس مهنة في قسم من أقسام العلوم يواجه بالجفاء والعداء المهني. ولعلنا نذكر ما تعرضت له ماري كوري من عدائية حين مارست عملها.


لماذا يغيظني الأمر ؟ هل لأن العلوم حالياً صارت حكراً على كيمبريدج وهارفارد، من جامعة ملكية إلى جامعة امبريالية، وهذا يذكرني باعتراض الولايات المتحدة الأمريكية الدائم على مسألة نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية، وهو البند من اتفاقية منظمة التجارة العالمية الذي رفضته أمريكا رفضاً قاطعاً، معللة هذا بأنه يعتبر اهدارا لمجهود علمي ومالي بُذل في جامعات (غربية؟) للوصول إلى هذا السبق التكنولوجي، والجامعات من كيمبريدج وهارفارد وماساشوسيتس، وما يمارس بها من علم على ارتباط وثيق بكل المؤسسات الاحتكارية، من شركات عابرة للقارات (مايكروسوفت- آبل، الخ)، ومن هذه لتلك يتطبّع العلماء أكثر فأكثر بأخلاق عدائية. برغم انجازاتهم التنويرية.ولهذا عوارض، ساغان، بوبر، وغيرهم من الفلاسفة العلميين، يوجّهون خطابهم -للعامة- عادة، في مؤلفاتهم، بنبرة من التعالي، وإن كان لا يشعر بها الأغلبية، فقد لاحظتها، وقد تكون مبالغة مني. فهؤلاء، دائماً، وأبداً يعتبرون العامة جمع غفير من المخرّفين.