Friday, November 12, 2010

المخلوقة الجميلة في الرداء الأبيض/٢

لا أتذكر مشهدا روائيا أفضل من ذاك الفصل، في رواية المعلم ومارغريتا، للروسي بولغاكوف، حين راحت مرغريتا تحطم كل نوافد البناية، التي تحوي شقة رجل تسبب في ضياع المستقبل المهني لحبيبها. كأديب وروائي.
لكن كيف؟ على مقشّة سحرية، بعدما دهنت جسدها بمرهم أعطاها إياه "فولند"، أو الشيطان في الرواية، واستعادت شبابها، واكتسبت قوى ساحرة.

مارغاريتا، مثل "سوبر-غيرل/ليدي" كلاسيكية، روّعت الجميع، في البناية، في الشارع وفي موسكو، إلا طفلا صغيرا ينام وحده في البرد، في شقة ما من البناية المكروبة، إنها غير-مرئية، لكن الصبي أحس بوجود إنساني، وخاطبها على أنها عمّته. تهدئه مارغاريتا وتساعده على النوم.

اسم مارغارتيا مستقى من القصة الفلكلورية الجرمانية الأشهر، فاوست، وهو أصلاً لفتاة تدخل إلى "التابلو" المانوي بين فاوست وميفستوفيلس، المزاج الشعبي يجعلها ميتافور للخطيئة، وعقدة الذنب لدى فاوست، لكن غوته يخلع عليها أدوار أكثر قوة: الموازن.
إنها موازن لأن في نسخة غوته من فاوست، خلاص فاوست متمثل في حب مارغاريت/غريتشن له. يدخل الحب كعامل رومانتيكي، من شاعر ميوله رومانتيكية، في الصراع الصارم والكابوسي بين النور والظلام، الخير والشر، إلخ.

فولند وزمرته في رواية "المعلم ومارغاريتا" يشير صراحة إلى بحثه عن سيدة تحمل اسم مارغاريتا، في موسكو، لتأخذ دور "ملكة" وراعية لحفلته العجائبية. حفلة "في العالم السفلي" تضم أموات قادمين من الجحيم، لكن لماذا مارغاريتا، في الرواية اشارات مثل" لم نجد من هو أكثر مناسبة منها"، ويبدو أنهم يبحثون عن مواصفات معينة لهذه الراعية/الملكة، أن تكون عاشقة.

في الرواية كانت مارغاريتا على استعداد بالقيام بهذه المهمة العجيبة، والبغيضة، لأنها تتوقع أن تحصل على شيء، أن تجد حبيبها مجدداً، الذي فقدت الطريق إليه، ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وهذا ما يحدث.


تتقاطع "مارغاريتا" كشخصية استثنائية مع الإرث الميثولوجي المصري القديم، تحديدا في شخصية "ايزيس"، ايزيس ذاتها مرت بتحولات كثيرة، ولا يمكن وضع معالم، حدود واضحة أو صارمة ترسم أبعاد لا تُخطيء، لكننا نتحدث عن الصورة النهائية لها التي ترسخت خصوصا في المعابد التي شيدت على شرفها في روما. "ايزيس" بحسب بلوتارك ومؤرخين آخرين، هي ملكة العالم والراعية له. وكما هي راعية "للمخطئين"، فهي ترعى المرضى واليائسين، والفقراء والأغنياء، على حد سواء. ما يهمنا هو الجزء الفلكلوري من تاريخ ايزيس، كحبيبة لأوزر، إن ايزيس لا تكتسب أهمية واضحة إلا حين يُحوّل الخيال الفلكلوري "سيث"، راعي مصر العليا، إلى ممثل للشر، القصة تكتسب أبعاد مانوية فتدخل ايزيس كموازن، بل هي البطلة الوحيدة للحكاية الميثولوجية الأهم تقريبا في الديانة المصرية الوثنية القديمة، الأمر لن يختلف كثيرا عن مارغاريتا، ايزيس العاشقة تفعل كل عجيب لتنقذ أوزر، ولـ"ايزيس" علاقة وثيقة بالسحر، تختلف عن الدور "الابيستمولوجي" لـ تحوت مثلاً، حين يأخذ دور المُعلّم، ايزيس تملك القوة السحرية -بحسب المصري القديم- التي تعالج، تنقذ، وتفعل الأعاجيب لنصرة الخير.

و ايزيس تكتسب قواها السحرية حين تستخدم الثعبان "وادجيت" للدغ رع، والحصول منه على اسمه السرّي، مهددة اياه لأنها الوحيدة التي تعرف علاج سم وادجيت، ايزيس تلعب لعبة خطرة جداً في الميثولوجيا لكن، كل هذا لأجل اعادة أوزر إلى الحياة. ومن أوزر، ايزيس تكتسب علاقتها بالعالم السفلي.


دور ايزيس، يتمثل، كما هي الشروح الحديثة للميثولوجيا، في استعادة النظام لعالم وقع في فوضى اثر انتصار "سيث"، أو عالم فقد مبادئه، لأنه لم يعد يفرق بين الخير والشر، كلا منهما فقد معناه وتحول إلى مجرد صراع بين قوتين، بين جانبين مفرطي القوى، ولم يعد ذاك الصراع يهم الإنسان العادي، شديد الضعة والتعاسة في شيء. الحب، العاطفة والأمان الأمومي هو ما يكسب هذا الصراع المعنى الوحيد.

في رواية كـ"المعلم ومارغاريتا"، التي، بحسب النقاد، تعتبر تعبيرا عن استهجان وغضب انساني من ضياع القيم في وطن فاقد لهويته، روسيا الشيوعية، حين يقف المثقف، أو من هو، كما يفترض،  الشخص "المُمَيِّز"، يقف هذا المثقف وغيره بلا مبالاة أمام جرائم النظام الشيوعي ضد الأقليات، وضد الجميع تقريباً، في فترة تتميز بصراع بين القوى، شديد العبثية وخال من أي معنى انساني، (الشرق الشيوعي، الوسط الفاشي، والغرب الرأسمالي)، تأتي شخصية مارغاريتا كاستعادة للدور القديم، والمتجدد، لشخصية "راعية" ومتوازنة تصنع " النظام من الفوضى"، وفي الرواية، النهاية السعيدة إنما المحرك الرئيسي، والمسبب لها، هو مارغاريتا، إن النظر في دور مارغاريتا في الرواية كذلك يلقي بالضوء -بشكل ريتروسبيكتي- على سر اهتمام المجتمع الروماني، الغربي المفرض في غربيته وعقلانيته، المعادي للشرق بطبيعته، حين يحتضن شخصية كـ"ايزيس"، في عصر فوضوي، في ظل تصارع عبثي للقوى بين روما وبين كل ما عداها.

Friday, November 5, 2010

Au revoir les enfants (1987)

فيلم فرنسي من اخراج لويس مال، يحكي قصة بسيطة: مدرسة فرنسية كاثوليكية للصبيان، أيام الاحتلال النازي لفرنسا (الحرب العالمية الثانية)، تؤمّ ولداً يهودياً، بعيداً عن بطش العسكر الألماني.

والفيلم يسير بالقاعدة السينمائية الكلاسيكية: لو أردت، املأ الفيلم بما تشاء من التفاصيل المملة، لكن ادهش المشاهد بالنهاية، الفارق أن التفاصيل لم تك مملة، مذ البداية وحتى النصف ساعة الأخيرة من الفيلم يصوّر تفاصيل حياة الصبية داخل مدرسة مغلقة، صارمة وبعيدة في شتاء كئيب.
الفتى البطل، جوليان كينتان، فرنسي من عائلة برجوازية، ثرية، يفتتح الفيلم بمشهد توديع أمه له في محطة القطار، قبل أن يذهب للاقامة بالمدرسة. في ذات الوقت يصل الفتى الجديد، والذي يقدمه الرهبان إلى الصبية باسم : جان بونيه، جوليان فتى حذق، لكن متعجرف، ولأن الصبيان يتمتعان بذات المستوى من الذكاء والتميز الدراسي، تنشأ بينهما في البداية عداوة، ومنافسة، لكن هذه المشاعر تتحول إلى صداقة وتسامح بعدما يكتشفان نقاط تشارك أعمق لدى كلا منهما، مثلاً، حب القراءة.


تتعقد علاقتهما حين يكتشف جوليان بالصدفة الاسم الحقيقي لجان بونيه، وهو: جان كيبلشتاين، يدرك جوليان بالتدريج أن جان يهودي، فهو لا يتناول اليوخاريست، ولا يأكل من شطائر لحم الخنزير، ويتلو صلواته بوضعية غريبة بالنسبة لجوليان، والجو، كما قد يتوقع، عنصرياً داخل هذه المدرسة، التي تؤم صبيان من عائلات غنية جداً، ونحن نلاحظ مذ بداية الفيلم عدوانية الصبية تجاه من هم أقل، سواء تجاه الصبي العامل في المطبخ، جوزيف، أو تجاه الفتى الجديد والمنطوي جوليان اليهودي. في اشارة عابرة، حين يفسر جان بونيه اختلاف ممارساته الدينية، يقول أنه بروتستانتي، أحد الصبية ينعته مزحاً، أيها الهرطيق.
يواجه جوليان كينتان، صديقه جان بونيه/كيبلشتاين، بأمر أنه يهودي، مما يهدم تقريباً كل ودّ بينهما.

في مشهد يحوى عناصر شاعرية، كلاسيكية، يتيه جوليان كينتان في الغابة المجاورة للمدرسة، بعد أن يقطعها وحيداً، في لعبة صبيانية، بحثا عن كنز ما، يكتشف جوليان أنه وحيد، ويكتشف كذلك أن جان كيبلشتاين معه، يخرج الولدان ويجدا سيارة تقل عساكر ألمان، يركض كيبلشتاين فزعاً لكن أحدهما يمسك به. ويعيداهما إلى المدرسة.
لعل مشهد الضياع في الغابة، بحثا عن كنز، ثم الخروج منها، يرمز إلى التحول التنويري في رؤية جوليان تجاه الآخر، والمختلف والأقل، بالنسبة لفتى صلف، مدلل، يعامل حتى أمه بجفاء.

يتخذ الفيلم منعطفا دراميا حين تُكتشف سرقات الفتى جوزيف، ويُطرد من عمله بالمدرسة، فيشي ذاك للجشتابو بوجود فتية يهود داخل المدرسة، بل أنه يعطي الجشتابو أسماء هؤلاء، ربما، يريد الفيلم، بما أن الاطار والأحداث تجري في بيئة دينية، اعطاء تلميحات انجيلية لقصة اضطهاد المسيحين الأوائل، أو حتى لقصة خيانة يهوذا.

في مشهد الخاتمة يدخل ضابط الجشتابو على الأولاد، في قاعة الدرس، سائلا ان كان هنالك من يدعى كيبلشتاين، والمشهد يصوّر "الرعب من النازي"، حين يجعل الضابط قادرا على التعرف على اليهود، بدقة، من مجرد النظر لوجوههم.
يسلم الفتى كيبلشتاين نفسه، ويُقبض على صبيين آخرين. وكذلك على الراهب جان، المسؤول عن المدرسة، في الفيلم تُطرح مسألة التصارع في القوى، بين سلطتين -أصلاً- قامعتين، سلطة الكنيسة الأوروبية، وسلطة النازي/الجشتابو، لكن كعادة هذه الأفلام، تظهر جهة الكنيسة، هي الجهة الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه الدولة "اللويثيان"، (في اشارة ظريفة، في بداية الفيلم يأتي جندي ألماني يطلب الاعتراف لأحد الكهنة). والكنيسة في الفيلم تبدو كدولة داخل دولة، والرهبان وحدهم هم من يملكون القدرة على صدّ تدخل الجنود الألمان، والمطالبة باحترام الجهة الدينية وراء المدرسة، بل أن القس جان يخاطر بحياته، وبحياة الأطفال داخل المدرسة، أطفال الأعيان والبرجوازيين، ليؤم ولداً يهودياً فقيراً، من أصل متواضع "أبوه محاسب". في حركة تكاد تبدو راديكالية. هذا التمثيل يتكرر كذلك في أفلام أخرى عالجت مشكلة النازية، مثل فيلم "الكتاب الأسود"، فمن يجرؤ على ايواء يهودي؟ في بداية هذا الأخير تقيم الشابة راشيل شتاين، اليهودية، مع عائلة رجل دين بروتستانتي.
لا يمكننا أن ننسى الاحالة المفضلة لدى كثير من الفنانين، حين يظهر العسكر، الحرس، كهؤلاء الرومان الذي اضطهدوا المسيحيين الأوائل، ففي الذهنية الغربية، حين تقع احالات شبيهة، الأمر يبدو مثل البروباغاندا لتجريم سلطة الدولة، لا تزال تظهر اشارات مماثلة في تاريخ الفن عموماً، ففي لوحة غويا الأشهر، الثالث من مايو، لا يخفى علينا المظهر الاستشهادي للرجل ذي القميص الأبيض، موضوع اللوحة الرئيسي، رافعاً ذراعيه كصليب، الاشارة الأكثر مباشرة هي ذاك القس، الذي يجثو على ركبتيه بجانب ذي القميص، ضاماً كفيه في صلاة متوسلة. وأمام هذا الجمع من المضطهدين، يصطف عسكر نابليون (أو عسكر التنوير الفرنسي!) ببنادقهم. اللوحة باحالاتها تبدو صادمة حين تصدر من فنان طليعي مؤمن بالتنوير -سابقاً- مثل غويا، لهذا، بشكل شخصي أعتبر هذه اللوحة مهمة بسبب اشاراتها الإنجيلية ولأنها تجسد احباط وصدمة فنان تنويري في الأنوار.

كل هذه الأفكار عادت إلي في مشهد الخاتمة، المرعب، حين جعل الضابط النازي الأطفال يصطفون جميعاً، وحين بدا النازي مستعداً لاضطهاد جمعاً من الصبية، بحثا عن يهودي آخر، يُختتم الفيلم بينما يبدأ الضابط في المناداة على أسماء صبيان بعينهم، ولا نعرف هل لأنهم يهود، أم لأن أسماء عائلاتهم أقل تواضعاً من الآخرين، بينما يودع القس جان تلامذته، قائلا الجملة عنوان الفيلم : الوداع أيها الأطفال، يصطحبه الجنود الألمان ومعه الثلاثة أطفال اليهود، من بينهم كيبلشتاين، بينما يقف بطلنا متجمدا في البرد، جوليان، يودع القس جان، ويلوح بيده لصديقه كيبلشتاين، بعينين دامعتين.

هذا الفيلم يقع في دائرة اهتمامي لأنه قصة بلوغ (coming of age) في أوقات عصيبة، والمشهد الأخير يشرح عنوانه،  حين يودع جوليان كينتان طفولته، ممثلة في القس جان صاحب المباديء الصارمة "في الاحسان المسيحي"، جوليان يودع عالما مثاليا، حين كان يمكن أن تؤم مدرسة ما طفلاً مضطهدا، فقط لأن أخلاقيات الاحسان توجب ذاك، (وربما، يودع كذلك جوليان أحلام طفولته، فقد أعرب في وقت سابق من الفيلم عن رغبته في أن يصبح كاهناً). إن جوليان في مشهد النهاية إنما يلوح بيده مودعاً البراءة، والتسامح تجاه الآخر. (ممثلاً في صديقه كيبلشتاين). في حين ينضج هو، بينما يقف بين جماعة الأطفال الذين تبقوا لأنهم ينتمون للعائلات الأكثر ثراء، ونضجُ جوليان، أو مغادرته عالم الطفولة يتمثل في انتقاله، ولو قسراً، إلى العالم المادي حيث لا اعتبارات، ولا معنى، إلا للمال.