Friday, December 27, 2013

مَشَاهِدْ: لم يُصَبْ أي يهودي بالأذى أثناء تصوير هذا الفيلم -٢



السطر السابق ظهر بعد عناوين النهاية لفيلم رجل جاد، والذي تقترح مُراجعات كثيرة أنه يحاكي عدّة سرديات كبرى مستوحاة من التوراة، عن "الرجل اليهودي"، أو أخلاق العائلة اليهودية الأصيلة، أو هو "حدوتة يهودية" باختصار، وهذا يأخذنا إلى ما يهمنا من الفيلم كله - والفيلم يستحق المشاهدة. لكن المميز بشأنه هو مشهد الافتتاحية. 

الفيلم ذاته يدور في حقبة الستينيات حول رجل يهودي - جاد- بروفيسور في الرياضيات و"عقلاني"، يواجه عددا من المصائب والابتلاءات - شبه التوراتية- التي تقع على رأسه، يُختتم الفيلم بجائحة قادمة رأساً من العهد القديم - اعصار. و ما يتعرض له بطل الفيلم مألوف لمن قرأ الأسفار ولما يحدث  لآباء بني اسرائيل من انقلاب الأهل عليهم، والأبناء، والأشقاء، والجيران، والزوجات - خاصة الزوجات. في الفيلم احتفاء مميز للغاية بكل النماذج النسائية التوراتية، ثمة الزوجة التي تنقلب على زوجها وتدّيله المقلب، وثمة المغوية الشريرة وهنالك المرأة الدموية السفاحة، الخ. 

بالطبع، الفيلم يدخل في نطاق الكوميديا السوداء - ويقدم صنفاً من الكوميديا المُرعبة الذي يثير اهتمامنا بشكل خاص- لما فيه من مبالغات ثقافية وانجاز ظريف يمزج بين المأساة والملهاة، ولعل هذا ما يميل إليه الأخوة كوين، انجاز "نكتة فلكلورية" تمر في أغلب الأحوال على المشاهد دون أن يشعر أنها ثقيلة الظل أو مُشينة أو مُهينة ثقافياً/عرقياً، وهم ربما يفلتون من هذا بتنفيذ حيلة البطل المأساوي، مثلاً: يمكنهم الاستظراف حيال البيئة والثقافية الجنوبية الأمريكية -والافلات من اللوم- بجعل البطل تجسيد لعوليس شخصياً - في سياق الأوديسة الجنوبية. هذا يضيف قدر معقول من التعقيد للشخصيات - حيث بالطبع، إن لم تفعل، و سخرت من الستريوتايب أو قدّمت شخصية "الآخر" في سياق الأداة الدرامية المبتسرة دون أي تطور درامي وفي حدود خدمة الشخصيات الرئيسية - التي هي تقع في المركز، (الشخصية المركزية للبطل المعتاد غالبا ما تكون ذكر أبيض طيب قوي ...الخ) - هكذا تقع في الغلط.



١. القوطية اليهودية

المشهد الذي نتحدث عنه ويعجبنا لأنه يقدم نوعاً من الرعب - أو الكوميديا- أو الرعب الكوميدي النادر، نوعاً، وفي رأيي، لا يتحقق إلا إذا توافر عنصر المبالغة الثقافية، وأقرب وأبسط مثال له هو عائلة آدامز، رغم أن عائلة آدامز لا تمثل فئة ثقافية - أو جماعية وظيفية أو نوعية بحد تعبير المسيري- لكن، كما يذهب تعريف صفحة ويكي، عائلة آدمز هي "انحراف ساخر" عن نموذج العائلة الأمريكية المثالية، ليس فقط في كونهم جميعاً بشعر أسود أو شاحبي البشرة، هم أيضاً يرفلون في بيئة كئيبة مُقبضة مليئة بايحاءات الموت القوطية، لا يمكن وصف عائلة آدامز - الأمريكية الثرية- أنها تجسيد للآخر والغريب في وجهة النظر الأمريكية اليمينية، لكنها ربما تمثّل ذعراً أمريكيا قديما - من أيام الاحتلال، وحرب الاستقلال- بأن ينتهي الحال بأمريكا مُجدداً إلى مجرد مستعمرة أوروبية، (بالطبع، عائلة آدامز لديهم طباع أوروبية، بلا شك، مزيج من الدموية الفرنسية والوحوشية الجرمانية والكابوسية الأسبانية، الخ) وأن يتحول الأمريكيون لوحوش أوروبيون قوطيون يسكنون قلاع ولديهم عادات أوروبية قوطية، غريبة، ومقرفة، ومريعة، و ungodly. فوبيا العودة لحالة المستعمرة الأوروبية لا يتعلق فحسب بخوف الأمريكيين من أن يقعوا تحت وطئة احتلال ولكن، بشكل خاص، فقدان القيم المتعلقة بالحلم الأمريكي، والأرض الحُرّة العذرية، والديموقراطية المسيحية، وشكل التدين القويم، المعتدل، المستقيم، الخالي من شوائب الوثنية، أو التطرف، أو الخبال، أو الافتنان القوطي بالموت، أو الأيقونات المرعبة، والصلبان الضخمة، وجثامين القديسين، الخ.

القوطية - بأصولها وطبيعتها الأوروبية، التي تستقي أغلب رموزها وهواجسها من الكاثوليكية، غالباً - حاضرة في الثقافة الأمريكية بالطبع، لكن أغلب تجسّداتها- الأكثر شيوعاً- تقع في هامش جنوبي، إنها - في الأغلب- مُتعلقة ببيئات وأفراد وثقافات أخرى، بعيدة عن المُثل الأمريكية الحرّة، وعن أنماط التدين الأمريكي المعتدل، العقلاني، القويم، صحيح أن الجنوب بروتستانتي في أغلبه لكنه مُهدد بانحرافات دينية دموية، وقد رمى الشمال المتحضر القائم على التطوّر طوبة الجنوب القوطي منذ وقت طويل.

القوطية الجنوبية نمط درامي في الفن والأدب - أحد أمثلته لوحة القوطية الأمريكية - وأعتبرها شرحاً ممتازاً للجنرا الفنية السابقة، مثل عائلة آدامز، القوطية الجنوبية تحكي قصص عن عائلات - جنوبية - غريبة الأطوار وذات طباع مريعة ومفزعة، أحيانا دموية، في الغالب مزعجة ومعيوبة وبعيدة عن النمط المقبول والطبيعي لما قد يتخيّله المشاهد والمتابع والفرد العادي عن العائلة الأمريكية الأصيلة. وأخلاق العائلة الأمريكية الأصيلة. في اللوحة، يقف أب حاملاً مقشّته مُهدداً أياً كان من يفكر في الاقتراب من ابنته (عانس تعيسة حبيسة أو دامزل إن دسترس)- أو هكذا تخيلتُ القصة بناء على عنوان اللوحة. الذي يفترض "تصرفات" عائلية متطرفة لأفراد - آباء- مهووسين دينياً أو ذوي تقاليد صارمة نابعة من تلك البيئات الهامشية والمنسية في الجنوب الأمريكي الشرس. هذا مماثل لما قد تتخيله ثقافة المركز عن أي ثقافة هامشية أخرى، فتخترع النكات بشأنها، والأمثلة على ذلك كثيرة .. "مرة واحد صعيدي..مرة واحد أحمر الرقبة، مرة واحد يهودي... الخ)

ويتضح لنا أن هذا كله وثيق الصلة بموضوعنا - فيلم رجل جاد- حين ننظر إلى الموضوع المفضّل في أفلام الأخوة كوين - تقديم تلك النماذج الجنوبية الأمريكية المفزعة، غريبة الأطوار، أو المنفرة- هذا لا يعني بالضرورة "شكل من التخصص" في النكات الفلكلورية، بل يفسّر وجهة نظر الأخوة كوين حين حاولوا معالجة "المسألة اليهودية"، وقد اتّبعوا نفس الأسلوب في معالجة النكتة الفلكلورية الجنوبية، بتقديم نموذج شديد الانحراف، والمبالغة، والمأساوية، لعائلة "الآخر"، كون الأخوة كوين يهود لا يعني أنهم لن يقدّموا معالجة فلكلورية لليهود، بل ربما أراد الأخوان تقديم "النكتة اليهودية الكبرى"، (تحريف للسردية الكبرى)، فيلم رجل جاد عن هذه النكتة اليهودية الكبرى حيث أراد مخرجوه أن يؤكدّوا أنه - بعد كل تلك النكات، والسخريات من اليهود عبر التاريخ- بالطبع فإن أفضل نكتة عن اليهود هي تلك التي سوف يصنعها اليهود أنفسهم، ولن يتغلب عليهم أحد في السخرية من أنفسهم. 


٢. الدين والأفيون

رغم أن اليهودية كدين لا تُعامل معاملة الهرطقة - كما قد تُعامل طوائف مسيحية كثيرة كالمورمونية- ولا تُعامل معاملة زوجة الأب - أي الكاثوليكية- وهي بطبيعة الحال لا تدخل في تنميط الأمريكان عن تلك الديانات المرعبة والمخبولة والدموية كالاسلام. بالعكس، وجهة النظر الرسمية تُلحق المسيحية - أو المسيحية الأمريكية - بالتراث اليهودي، في تعبير الجودايو-كريشتيانيتي، كما توضح إحدى حلقات راديو هند. 
لكن ما هو "المانوال" حقاً إذا أردنا صنع "قوطية يهودية"؟ أظن أن الخطوة الأولى هي استعادة الثقل المُقبض والمنفر للديانة، أتخيل أن الأخوة كوين وقفوا طويلاً حيارى تجاه ذلك أو كيف يمكنهم البدء في هذه النكتة، ولأنهم أرادوا صنع نكتة يهودية كبرى، لا ينافسهم فيها أي نكّات آخر. لأن اليهودية واليهود ليس لديهم setting أو أساس بيئي جغرافي راسخ - بعيد، هامشي- يسهّل اختراع نكتة طريفة بشأنهم، فهم لا يتركزون في الجنوب، بل في المركز الشمالي، نيويورك، وول-ستريت، والغرب الثري، وهوليوود، لا ننسى أن الأخوة كوين يحاولون صنع نكتة يهودية -أمريكية، والوجود اليهودي في أمريكا مركزي للغاية، والوظائف النمطية لليهود الأمريكان تصعّب المسألة أكثر فأكثر، هنالك إرث مستمر وراسخ ويفرض نفسه بشأن اليهود، وبشأن انجازاتهم المالية، والعلمية، والعقلانية، إنهم في الآكاديميا، وفي السينما، وفي البورصة، وفي جوائز نوبل، إنهم - في الذهنية الأمريكية- بعيدين كل البعد عن الظلامية، والبربرية، والتعصب، إنهم ليسوا أميين، ونسائهم لسن "دامزلز إن دسترس"، ولسن حبيسات منازل كولونيالية في الجنوب، وعلى صعيد آخر، تاريخهم في أمريكا لم يرتبط باستعباد الآخرين، أو تقطيعهم ارباً في الشوارع، أو قتل النساء، أو أي من هذه الانحرافات، بل أنهم كانوا دوما ضحايا، شهداء، كما تُشاع الصورة النمطية. كيف يمكن صنع نكتة فلكلورية-قوطية من هذا؟ المفترض أن يكون الأفراد دمويين، أو غرباء الأطوار، أو مثيري الذعر.

الحل المبدئي ببساطة يكمن - كما قلنا- في اخراج كل الغسيل الوسخ بشأن الديانة أو بشأن خرافاتها، لهذا جاء مشهد الافتتاحية، ووفقا للمخرجين أنفسهم، المشهد لا يمت بصلة مباشرة للفيلم ذاته، وحين تم السؤال عن ذلك، يقول إيثان وجويل كوين أن مشهد الافتتاحية يقترح أن لاري- بطل الفيلم، الرجل الجاد- يحمل "ثقل التاريخ" فوق كتفيه، حيث، على حد تعبير إيثان كوين- (من الصعب أن يكون المرء يهودياً) ويشرح جويل أنه يمكن النظر للافتتاحية على أنها تمهّد للفيلم كقصة يهودية، أو قصة عن "الشعب اليهودي"، حسناً، في رأيي، الافتتاحية تمهّد للفيلم كنكتة يهودية -قوطية- أمريكية، مع الأسف، لم يستطع المخرجان أن يقيما السياق على الأراضي الأمريكية، فجاء المشهد، أولاً، باللغة اليديشية، ولاشك أن هذا قد أزعج المشاهد الأمريكي العادي، ثانياً، كان المشهد يدور في القرن التاسع عشر، في بلد بشرق أوروبا، ونحن نعرف أن الفيلم نفسه يدور في الستينيات في وسط-غرب أمريكا. هذا يحل مشكلة الصورة النمطية المعاصرة عن يهود أمريكا، في المشهد، نجد زوجين يهوديين، الزوج يعود من الخارج في ليلة عاصفة بالثلوج، والأدوار الجندرية نمطية في مكانها - كما قد يكون الحال في جنوب أمريكي - والزوجة تطحن شيئا لأجل العشاء، وصحيح أن اليهوديات الأمريكيات -نمطياً - لسن زوجات متطيّرات مهووسات دينياً كما قد يكون الحال في الجنوب- لكن هذه المرأة كذلك، وثمة بونص يهودي خاص، هي دموية، قاسية، سريعة التصرف، أو متنمرة، ساخرة من زوجها، وهي بتصرّفاتها "تقزّمه" أو تقلل من حجمه، كما قد تكون ليليث التوراتية، أو سارة أو جيزيبل أو جوديث، أو دليلة، وغيرهن. 


 لأجل أن تنتقل باليهود الأمريكان المعاصرين من وضعية المركز لوضعية الهامش،  أنت بحاجة للبعبع الأوروبي، حين كان يهود الدياسبورا مُشتتين مذعورين في بلدان أوروبية مسيحية تتربص بهم وتتهيّب اللحظ للفتك، إنهم في المكان الخطأ في الوقت الخطأ -بالنسبة للمجد اليهودي-، بلا مجد ولا رب يحرسهم، ولا ثروة، الزوجان فقيران، يسكنان عشّة أو كوخ يعصف به الثلج. وكل هذا لأجل صنع قصة "قوطية يهودية"، لا تخلو من الكوميديا السوداء التي تدور حول موضوع الموت. أو الموضوع الديني/عن الموت. المشهد قد يمكن تفسيره في نطاق البارانويا اليهودية أو في نطاق المرأة اليهودية الهستيرية .حيث أنه أحد عناصر القوطية - سواء كانت جنوبية أو يهودية أو غيرها- استعادة المفاهيم الرجعية عن المرأة والآخر.

الزوجة اليهودية هستيرية وفي الوقت ذاته تتحدى زوجها وتهين ضيفه، فالزوج يعود إليها ليحكي أنه قد التقى بأحد معارفهم، وأنه ساعده، وأنه قد دعاه إلى الحساء هذه الليلة، ولكن الزوجة تعترض وتخبره أن هذا الرجل ميت منذ ٣سنوات، وأن ذاك الذي التقاه هو "روح شريرة" أو ديبوك، الديبوك روح الميت العالقة، أو هي روح استحوذ عليها الشيطان لأن مراسم الدفن لم تتم كما يجب - على حد تفسير الزوجة. وهكذا فقد صرّحت الزوجة في المشهد أن هذا الرجل الذي ساعد زوجها هو الشيطان شخصياً، وقد بصقت عن شمالها، لعل مصطلح الديبوك أو قصص المس الشيطاني غير حاضرة في الواقع اليهودي المعاصر- في أمريكا بشكل خاص- ولكنها ضرورية لأجل صنع افتتاحية قوطية، ولابد أن المخرجين قد اضطرا لقطع طريق طويل في الزمان والمكان لأجل استحضار تلك العناصر اليهودية النائية. وجود الزوج في المشهد قد تقزّم أمام اصرار الزوجة - خاصة بعد حضور الضيف- وبعدما قامت بطعنه لتثبت لزوجها أنه روح شريرة، في البداية لم ينزف الرجل. "لم يصب اليهودي بأذى". 

الرجل نفسه أثناء حياته لم يكن "غوييم" أو من الأغيار، بل "فقيه" يهودي في الزوهار - وهو كتاب مؤسس في القبالة اليهودية (أو التصوف اليهودي)، وقد تتلمذ على يد علامة يهودي آخر. مُجدداً، يحاول الأخوان حشد كل ما يمكن لهم حشده من العناصر والتفاصيل اليهودية التاريخية والميتافيزيقية (الدينية)، التي قد تكون غريبة ومنفرة حتى بالنسبة لليهود الأمريكان المعاصرين، في محاولة لصنع مشهد ديني متطرف، ولا تفوتنا النكتة التي ينطوي عليها المشهد، حيث أنها في محاولتها لاستبيان إن كان ذلك الرجل الذي أمامها هو من يدّعيه، قامت الزوجة بطعنه، لو كنا في سياق كاثوليكي، لقامت بالتلويح بالصليب في وجهه أو رشه بماء مقدس، الخ. حسناً، قد يُفسّر هذا كمبالغة بخصوص المرأة اليهودية الدموية ، ولكن الرجل لم يكن "من الأغيار"، والنكتة مفادها  أنه لو كان يهودياً بحقّ لأصيب بالأذى، حيث أن اليهود دوماً هم من يصابون بالأذى*، ولو كان يدّعي أنه يهودي ولم يصب بالأذى فهو ليس إلا الشيطان. سرعان ما ينتشر الدم من الطعنة على قميصه الداخلي الأبيض، ثم ينصرف الرجل خارجاً من الكوخ. 


٣. عليك أن تجد شخصاً لتحبه

في الفيلم ثمة حضور خرافي للديانة، الحاخامات يملكون قوة مؤثرة على الشخصيات، الزوجة وإن كانت تطلب الطلاق، وعلى علاقة - غير شرعية- بآخر، فهي إنما تطلب الطلاق حتى لا تكون آغونا(معلقة كالبيت الوقف يعني) ، ثمة مشهد طويل لبار-ميتزفاه، يحضره الصبي البالغ وهو تحت تأثير الحشيش، ويذهب للحاخام تحت تأثير الحشيش، وحين يدخل مكتبه يطالع كل اللوحات المعلّقة والتي تحشد كل ما يمكن استحضاره من المآسي التوراتية الدموية، فذاك ابراهيم يذبح ولده وتلك جوديث تذبح هولوفرنس وغيرها، وحين ينطق الحاخام بعد صمت طويل، تخرج منه كلمات أغنية فريق طائرة جيفرسون (عليك أن تجد شخصاً لتحبّه)، المصنّف كآسيد-روك (روك المواد المهلوسة - صب-جنرا للسايكدليك روك). هذه كلها رؤى طريفة للديانة تتبع إثر اليهودي من القرن التاسع العشر ذي الآراء عن الدين والأفيون وخلافه. وقد أفلح الأخوان كوين نوعاً في صنع بيئة دينية يهودية متطرفة بشكل هزلي، وبعد مجهود كبير، نجحا في جرّ الجماعة اليهودية إلى خانة الطوائف الدينية المخبولة في أمريكا، بكل ما يتعلق بهم وبحياتهم العائلية الداخلية من هلاوس، وظلاميات، وبربريات، ورعب، وابتلاءات توراتية. بشكل قد يفاجئ المشاهد اليهودي نفسه، ولعل الفيلم موجه حقاً للجمهور اليهودي مع رسالة طريفة تشبه رسالة "لم يصب أي يهودي بالأذى أثناء تصوير هذا الفيلم" حيث " أن هذا كل يحدث للآخرين، فالجميع يعرف أن اليهود مش كدا، ولم يكونوا كدا أبداً، ولن يكونوا كدا أبداً، إنهم في المركز، يتمتعون بالامتيازات والحماية، ولكننا نستطيع أن نستظرف، ونجرّهم للهامش، هذا يجعل النكتة أكثر هستيرية وكوميدية، إنها نكتة "في المشمش" أخرى". والخلاصة، وإن لم يعد من الصعب أن يكون المرء يهودياً، فإنه من الصعب حتماً أن يصنع المرء نكتة فلكلورية يهودية، أو قوطية يهودية أمريكية. 


----
*أثناء الكتابة تذكّرت هذه القائمة البغيضة عن "الخراء يحدث"، وهي قائمة سطحية، عنصرية، شديدة الاستظراف ثقيل الظل، بعكس الاستهبال خفيف الظل الذي يصنعه الأخوان كوين، والقائمة تقترح أن السؤال اليهودي هو "لماذا يحدث الخراء دوماً لنا؟" الضمير عائد على الشعب اليهودي بالطبع.

Monday, December 23, 2013

مشاهد: جُرعة اليوم من العنف الأسري -١

 

 قراءة حُرّة في (الغيرة القاتلة)
 

ما ذكّرنا بالفيلم ليس كونه مُعالجة لمسرحية شكسبير “عطيل”، حيث أن كل المعالجات الشكسبيرية في السينما تثير اهتمامنا وجديرة بالتذكّر، بل أن هذا ما اكتشفناه حين بحثنا عنه، فقد كنا نبحث عن مشهد النهاية في الفيلم، يحيى الفخراني - ومما نذكره، كان شخصا مؤذيا شريراً - يمشي إلى حتفه مُنتحراً، في مشهد مزرق للبحر، وهدير الأمواج في الخلفية.








اذن، في هذه المعالجة ياغو من ينتحر، وليس عُطيل، ديدمونة لا تُقتل، قبل مشهد انتحار مُخلص/يحيى الفخراني/ياغو، أو سيره الغامض إلى أمواج البحر في زرقة الفجر، الذي اخترنا أن نأوّله انتحاراً، يحتضن عمر عطاالله/نور الشريف، عروسه دينا/ديدمونة/نورا، قائلاً: “أنا آسف، مش غلطتي، ولا غلطته، دي غلطة الزمن اللي احنا عايشين فيه."






١. وحش أخضر العينين



“حذار من الغيرة أيها السيد، إنها وحش أخضر العينين، يسخر من فرائسه.”

شكسبير- عُطيل



و حول اختيار يحيى الفخراني للدور، فهو ممثل ليس أيقونياً بالنسبة لأدوار الشرير، أو الوغد، أو الوضيع، أو المنحلّ، أو المؤذي، وثمة مشاهد في فيلمنا، خاصة تلك التي في آخر ربع ساعة من الفيلم، حين يطلب مُخلص/يحيى الفخراني من عمر/نور الشريف أن يمسك الكلب لأنه يريد أن يرحل، وقد كان يقولها بعبوس وتكشيرة طفولية. فكل الكلاب في الفيلم تنبح على مُخلص، وترغب في مهاجمته.

 



لم تك شخصية مُخلص مُغرقة في شر شيطاني ومرعب، ولم يكن له خواص خوارقية بشكل خاص، ما عدا الاشارة الميتافيزيقية الهزيلة لعصبية الكلاب في حضور مُخلص، مخلص ليس الشيطان وليس إبليس الذي يجسده ياغو في النص الأصلي أو في معظم معالجات المسرحية، كنوع من التنويع على أقدم قصة في الكتاب، أو عداوة إبليس لآدم وما ترتب عليها من خروجه من الجنة - موت ديدمونة على يد عُطيل. ثم انتحار عُطيل نفسه، ويمكن قراءة هذا في سياق التقليد الشكسبيري أو في سياق دمج لعدة سرديات كبرى عن أقدم معركة كونية، بين إبليس وآدم، أو بين سيت وأوزيريس، أو بين قابيل وهابيل.



ويمكن القول أن النص الأصلي يستند للضعف البشري، ولاستغلال إبليس/ياغو لهذا الضعف البشري، خطايا مميتة مختلفة، مثل الغيرة، والغضب. فالغضب هو الأكثر “وضاعة” من بين هذه الخطايا، نتيجة للطبيعة الحيوانية والمنحطة والخالية من العقل، التي للبشر. أنصاف القرود. في حين يحتفظ الشيطان لنفسه بخطيئة “مرموقة” مثل الكِبر.



إذن كان ياغو مُتكبراً في النص الأصلي، يستهجن كيف يحظى ذاك القرد الأسود - عطيل- بكل هذه النعم في حين لا يحظى هو بأي منها، وهكذا يمكر لتدمير حياة عُطيل، لا يبدو ياغو “طامعاً” فيما لدى عطيل، فقد ترك الطمع والشهوة وسائر تلك الخطايا الوضيعة للبشر، ياغو يتصرف مثل قوة ظلامية وكونية، شر لذاته، ودمار محض، لذاته، فالشر له طرقه الخبيثة والشريرة لأنه شرّ، ليس ثمة مُبرر.




٢.  الكلاب تنبح على مُخلص



في المعالجة المصرية “الغيرة القاتلة”، لا يبدو أن الغيرة خطيئة عطيل/عمر عطاالله في الفيلم، بل أن غيرته لا تشغل من الفيلم سوى آخر ربع ساعة، ليست الثيمة التي يعتمد عليها، كما اعتمد عليها النص الشكسبيري، لقد تمت ازاحة الغيرة لشخصية ياغو/مُخلص. لقد تم تخفيف الثقل الخوارقي والميثولوجي لطاقة ياغو/مُخلص التدميرية واستيعابها في قصة صداقة/أخوة بسيطة، مُخلص صديق طفولة عُمر، وعلاقتهما للأخوة أقرب، ولكن مُخلص يحقد على عُمر -غالباً لنجاحه- ويحكي الفيلم كيف وصل هذا الحقد لذروته، وهو حقد مُتراكم في روح مُخلص مذ الطفولة، وجاء لينفجر حين بدا له أن عمر سوف يحظى بكل ، شيء، الثروة، الزوجة الصالحة، والنجاح، وربما العيال. لأنه جريء، والحظ يُفضل الجريء، كما نعرف.



في حوار بين مُخلص وزوجته عصمت، تلومه عصمت على جبنه وحذره، وبسببه بقى مُخلص طوال حياته “محلّك سر”، غيرة مُخلص من عمر ليست واضحة بقدر وضوح دور مُخلص في الفيلم وفي حياة عُمر كطاقة سلبية، مخلص كتلة سلبية، كاره للتقدم، والتطور، ولا يريد أن ينجب من عصمت لأنه لن يتحمل نفقات الطفل، بالإضافة لكون مخلص وحش الغيرة أخضر العينين، فهو كذلك يتحقق فيه ستريوتايب الذكر الغريم الحقود والعقيم، طاقة ذكورية سلبية، ولكونها سلبية فهي عقيمة، وهي موجهة للتنغيص على حياة الذكر الايجابي والخصب. (وهذا الإسكتش مُستوحى من قصة سيت وأوزيريس).



في الوقت ذاته، مُخلص بشر عادي وخطّاء، في مسرحية شكسبير يتم الغاء خطأ ياغو، حين لا يعود ياغو بشراً يُحاسب على خطايا، الطبيعة البشرية لياغو تحل محلها طبيعة شيطانية تبلغ ذروتها بعد فعل التدمير الكامل، ومثل إبليس لا يعترف ولا يدرك ياغو أنه مُخطيء، لعل المعالجة المصرية التي جعلت من مخلص بشر خطّاء يُدرك ذلك في النهاية وربما، بتأثير العار أو الذنب، يذهب لحتفه، بشكل يناسب المشاهد العربي الذي - بحسب وجهة النظر الشائعة- لن يرغب في رؤية البطلين مقتولين، خاصة لو كانا نور الشريف ونورا

حسناً إذن، في المسرحية الأصلية كان واضحاً لي أن القصة الأهم هي قصة ديدمونة التي كانت ضحية لكل رجال النص، وأولهم والدها، الذي ساءه أن تهرب ديدمونة من قبضته الأبوية إلى رجل آخر رغماً عنه، وبتعبير أفضل، أن تختار ديدمونة طريقها وحياتها الخاصة. يقول الأب لعُطيل أنها سوف تفعل فيه ما فعلته في أبيها، وهكذا فإن بذرة الشر أو الشك أو الغيرة زُرعت في البدء من قبل الأب أو البطريارك الأول، لقد ورّثها للبطريارك الثاني، بشكل يحلو لنا أن نتخيله، مثل حجر الأساس للشخصية البطرياركية، في النص الأصلي يمكن للقارئ أن يُدرك الجريمة، بكامل أبعادها، إن شاء، تلك الجريمة التي وقعت على رأس امرأة بريئة، ديدمونة ضحية لكل الرجال في حياتها، وقد سقطت ضحية لآفة روحية تعشش في نفوسهم، وتنتقل كعدوى من الأب للزوج، وصحيح أن النهاية كانت مأساوية، لقد نمت الآفة حتى ارتوت من دماء ديدمونة، وهكذا كان مقتل ديدمونة كاشفاً أو فاضحاً لهذه العلة - علة رجال النص أو العلة البطرياركية. وإلى حد ما يدينها، لقد أتى إذن ياغو مثل إبليس يلعب على أوتار البطرياركية ونواقصها أو نقاط ضعفها الوحوشية. هكذا، وإن حدث هذا بوسائل عنيفة ومأساوية، تم دمج العنف الأسري مع الخطيئة، أو تحويله إلى خطيئة، معالجته كخطيئة، نظراً لآثاره.




٣. العنف الأسري مش خطيئة

 

وماذا حلّ للمعالجة المصرية؟ لقد انتهت مثل حادث عنف أسري - ولا يمكننا وصف شيء بهذه الفظاعة بالعادية - ولكن ليس ثمة ادانة في السرد، مشهد العنف الأفظع والأقبح في الفيلم كان ضرب واهانة عُمر/عطيل لدينا/ديدمونة/نورا. لقد كان مشهداً دنيوياً سوف يميل المُشاهد للتغاضي عنه- مشهد تأديب زوج لزوجته (عادي، وإيه يعني…) علقة زوجية، وبالطبع، هي مُبررة، ومتعاطف معها، مثل جرائم الشرف، في مسرحية عطيل، لم يك مقتل ديدمونة مجرد جريمة شرف، بل مأساة، يدرك فيها عطيل بغيه وظلمه وشرّه مع زوجته، ولكن بعد فوات الأوان، فينتحر، ينفذ العقاب على نفسه بنفسه. وحتى مشهد العنف الأسري/القتل، لم يك مثل حلم بشع ومؤلم - وضع عطيل قبضته الخشنة على رقبة ديدمونة وخنقها “برفق”، في حين انهال عمر/نور الشريف صفعاً وضرباً مهيناً على وجه وجسد نورا. كمحاولة لجعله مشهد أكثر دنيوية “وأسرية” وخشونة أو رجولة.

ونضع في الاعتبار أنه قد تم الغاء عنصر التوتر العرقي الذي كان حاضراً في النص الأصلي، وحل محلّه التوتر الطبقي، وعُطيل، ليس بهيمة شرقية أو حيوان مُثير قادم من البرية أو المجاهل الافريقية كما يحلو لبعض المعالجات الغربية تقديمه*، بل كان مهندساً متفوقاً على عتبة النجاح، ويتبع الفيلم حُجة ياغو في النص الأصلي، مثلما يتذمر ياغو من تجاهل عُطيل له، واختياره شخصاً آخراً كمساعد، يتذمر مُحسن من شراكة عمر لسمير، لكن، في أغلب الأحوال، شرّ ياغو، في الحقيقة، غير مُبرر**، ولا حتى بهذه التبريرات الدنيوية، ويستغل مُحسن "يباسة رأس" عمر كما قد استغلّها عُطيل، فعُمر يرفض رفضاً قاطعاً عرض دينا/ديدمونة مساعدته مادياً، وهو لا يريد أن يُفسّر زواجه بدينا كزواج مصلحة مالية، يرفض هذا رفضاً عصابياً أقرب إلى الهوس أو الحساسية المفرطة، ونستعين باقتباس من كتاب "تجارب شكسبيرية في عالمنا المعاصر" عن سيكولوجية عطيل، "فهو لم يحتمل ولم يستطع أن يغير من منهج تفكيره الجامد." هكذا يبدو لنا أن الصفة التراجيدية - في العرف الشكسبيرية- الحاضرة في كلا من النص، والفيلم، بشخصية عطيل/مُحسن، هي الاصرار، أو العناد، وليس الغيرة.

بعد مشهد التنوير، يُعلن عمر/عطيل/نور الشريف أنها مش غلطته، ولا غلطة مُخلص، بل غلطة الزمن - مُناقضاً للتقليد التراجيدي الشكسبيري، الذي يقع فيه البطل التراجيدي في مأساته الخاصة نتيجة للظروف من حوله، وكذلك لأفعاله-  وبعد ذلك يتأسّف لدينا، ثم يضمها لحضنه، وهي كذلك تبادله الودّ، العجيب أنه ليس ثمة أي عنف يُرتكب ضد مخلص، الشرير الأصلي، في النص الشكسبيري كان عطيل مشغولا بانزال العقاب على نفسه، بالانتحار، وقد تبدلت الأدوار في الفيلم المصري، فترك عمر مُخلص، كي يتصرف مخلص مع نفسه بما يجده مستحقاً، فانتحر الأخير، بالزوق ومن سُكات. وبالنسبة لفيلم مصري، فإن انتهاؤه إلى هذه النتيجة يُعتبر نوعاً ما “متطرف”، فموضوع الانتحار وإنهاء فيلم بانتحار شخصية قد يكون نادراً، وفي حالة مخلص، قد تكون النهاية الأقرب لجو وروح الأفلام المصرية أن يذهب للومان، أو أن يُقتل - لوهلة، في مشهد هجوم الكلب عليه، ظننا أن الكلب سوف يقتله، وقد يؤخذ هذا كتريبيوت لأحد كلاسيكيات السينما المصرية (الشموع السوداء) وغيرها. لكن هذه النهاية قد تُفسّر، بلا شك، كمسحة وتأثير مباشر من النص الشكسبيري الأصلي. حتى المشهد، الذي أوّلناه مثل انتحار، كان انتحاراً على استحياء، فقد رأينا مخلص يمشي إلى البحر، ويصل إلى طرف المياه، ثم أظلمت الشاشة فجأة على كلمة “النهاية”.






* أحمد سخسوخ - تجارب شكسبيرية في عالمنا المعاصر، سلسلة الفنون، مكتبة الأسرة، ٢٠١٠.
** المصدر السابق.