Thursday, September 20, 2012

الصنم الدستوري

يمكن تفسير العجائب الموجودة في مشروع مواد الدستور المصري القادم بالتأمل في شعار حزب النور -السلفي- "هوية ودولة عصرية"، وفي تقديم "هوية" على دولة، طبعاً، ما يجري هو عملية تحويل الدولة إلى هوية، كتلك المواد التي تشترط حماية "الرموز الوطنية" و"ثقافة المجتمع" واللغة والآداب العامة والمقدسات، إلخ. لا حاجة لقول أن هذا الدستور، هذا النص سوف يتحول إلى مُجرد كلمات خُزعبلاتية على المدى الطويل، بل أنه كذلك حالياً، هو عبارة عن وثيقة ميتافيزيقية لا تمسّ الأرض، بل تلغي وجود الإنسان تماماً، بالطبع، كنا نقول أن مصر في العهد البائد كانت نكتة فلكلورية، حين كانت كياناً مُتخيّلاً من الفلكلور الميثولوجي الفرعوني، كي تقوم بوظيفتها كاملة كمقلب زبالة سياحي، كون بلداً ما نكتة فلكلورية بالطبع يلغي آدمية شعبه جزئياً: الشعب فعلاً هو تابلو سياحي جميل يحجب الرؤية عمّا وراءه من جموع كادحة.

والذي يحدث الآن هو الغاء كامل للإنسان. ويساعد على ذلك جو سياسات الهوية المستعر حول العالم، سياسات الهوية حول العالم ترسّخ لاحساس التهديد من خطر خارجي يستهدف الهوية المحلية، رغم أنه خطر وهمي، فاستهداف هوية شعب، أو طائفة، أو عرق، باستهداف رموزه ومقدساته ليس أخطر -بأي حال من الأحوال- من استهداف أفراد هذا الشعب أو الطائفة أو العرق، الأفراد من لحم ودم. لكن، بالطبع، تفخيم الهوية وتسليح الهوية يفيد السلطة، الهوية مُكوّن سلطوي، صنم غير مبال بالإنسان ولا معاناته، وما يجري في مواد الدستور هو تحطيم مفهوم الدولة الحديثة، الدولة التي تقدّم خدمات عامة للشعب من تعليم و صحة وطاقة و دعم اجتماعي أو عدالة اجتماعية، وحين تتحطم الدولة وتتحوّل إلى هوية لا تتلاشى حقا الغاية وراء وجودها، أي الحماية، بل تبقى، وتصير الهوية وحظيرة الهوية -هوية الصنم، البطريارك- هي الحامي والمأمن والراعي من الذئاب التي تتربص بالقطيع- إنها فكرة خزعبلاتية بالكامل حين يؤمن الغالبية أن من يحميهم هو مطابقة هويّتهم للنموذج المقترح في الدستور، وخروجهم عن النموذج سوف يعرّضهم للخطر.

حين يُستبدل كيان الدولة الخدماتية بالهوية لا تعود السلطة -ممثلة في الحكومة الحالية- مُطالبة بالتزامات تجاه الشعب، لا تعود مُطالبة بخدمات تعليم أو صحة أو تغذية أو عدالة، ولا تعود مُطالبة بميزانيات مُكلّفة -وعموماً، فإن سياسات الهوية مُفيدة للبِزنِس، ومفيدة لسوق السلاح. ويصير مقياس نجاح السلطة/الحكومة ميتافيزيقياً: هل تحمي "الهوية" أم لا؟

Wednesday, September 5, 2012

العاطفة والسلاح




يعطي هذا الاقتباس فكرة عن سوق العمل - العالمية- هذه الأيام، يفترضُ -بناء على دراسة مزعومة لـ"نفساني" اسمه والتر ميشِل، أن "عدد الثواني" التي يستغرقها طفل في الرابعة لمقاومة حلوى المارشمِللو، هي مقياس "موثوق" لمدى تفوّقه الآكاديمي والعملي في حياته المستقبلية. حسناً، أنا لا أتحدث بشكل خاص عن بجاحة استخدام كلمة "موثوق" إنما ما يروّج- في فضاءات الثقافة الشعبية- من خرافات تتعلق بسوق العمل/أو الدراسة، ومواصفات/مقاييس النجاح الإنساني. التي لم تعد إنسانية أبداً. 

يعتمد الاقتباس- سواء كانت دراسة حقيقية أم لا- على تحيّزات موجودة سلفاً في ذهن المتلقّي: منها احتقار ما يمكن تسميته بالـ"ضعف الانساني" أو كل ما يجعل المرء انساناً، بتعبير آخر، ومنه ما يتوقع من أي طفل في الرابعة لن يقاوم اغواء الحلوى، ولكي يُعطي انطباع وهمي بالوسطية وعدم المبالغة فهو يدّعي أنه مُجرد "مقياس/إندكس" يعتمد أساليب "علمية/رياضية/دقيقة" مثل "عدد الثواني". لكنه سيان، السؤال: مُذ متى كانت مقاييس النجاح العملي والدراسي بهذه "اللا-آدمية"؟  يفترض وجود "كائن" منيع على "الضعف الإنساني" يستطيع مقاومة الحلوى. 

اذن، الاستنتاج أن عدم تمكّن الفرد من الحصول على تعليم جيد/شهادة راقية/وظيفة جيدة هو خطأه بالكامل، بل أن الاقتباس يفترض نتائج أكثر ميتافيزيقية حين يُلغي كلياً عامل العنف المنزلي/البيئة/الظروف/الحالة الاقتصادية/الظلم الاجتماعي، ويُرجع أسباب الفشل إلى مصدر مجهول، غامض، فوق-واقعي، فلا أحد يعرف بدقة لماذا قد يقاوم طفلٌ المارشميللو ولا يقاومه آخر. خاصة أن السنّ المقترح صغير جداً على تكوين الشخصية -أربعة سنوات، أقل من اقتراح فرويد: خمسة سنوات- اذن هو لوم الضحية من جديد، لكن ما علاقة هذا بسياسات سوق العمل الحالية؟

نتيجة لتسيّد مبدأ الربح، الربح للربح، تقليل التكلفة - لدرجة أنه، قطاعات مؤسسية كاملة المفترض والمتوقع منها أن تهتم بالعامل البشري، تضمن ظروفا آدمية له، وتحرص على حقوقه داخل المُنشأة الرأسمالية - وأعني قطاع "الموارد البشرية"، بغض النظر عن أدبيات تنمية الموارد البشرية المعاصرة فإن دور هذا القطاع في أية شركة "خاصة" هو "تقليل التكلفة"، بينما يصبح دور بقية القطاعات "تعظيم الربح". إن قطاع الموارد البشرية الناجح - بحد تصوّر هؤلاء- هو الذي يؤدي عمليات Downsizing ناجحة، وذلك باقناع العاملين أن كثرتهم "تقلل الأرباح"، أي تؤدي لفشل الشركة عملياً. إنهم "غير مُنتجين"، مُهدرين للوقت والجهد والمال. خرافات الموارد البشرية (وتنميتها) لها أصلٌ متمثل في عمليات احلال الآلة محلّ الإنسان في المصنع. المفترض اذن أن العامل البشري - في الأصل - غير كفء. وبحاجة لتنمية، قطاعات الموارد البشرية هي المسؤولة عن لقاءات التوظيف وهي بالطبع المسؤولة (أو الحارس والحامي) لأفكار "التخصص وتقسيم العمل" لماكس فيبر واعادة تأكيد مبادئ الادارة العلمية.

وهذه الأفكار تنتمي للقرن العشرين، قبلها، في كتاب "الآيديولوجيا الألمانية"، اقترح كل من انغلز وماركس وجود طبقة تمتلك وسائل الانتاج المادية، وهذا يعني بطبيعة الحال امتلاكها لكل النتاج الفكري لمجتمع ما، كان هذا في القرن التاسع عشر وما قبله: وثمة طبقتين، طبقة مالكة وأخرى عاملة، في القرن العشرين -قرن الطبقة الوسطى- وأفكار ماركس وانغلز لا تزال وجيهة، بشكل خاص: "حين يكون هنالك فريقان من الأفراد داخل هذه الطبقة نفسها - أي الطبقة المالكة- إن فئة منهم ستضم مفكري هذه الطبقة، الآيديولوجيين الفعالين، القادرين على الارتفاع إلى مستوى النظرية، الذين يكسبون أود حياتهم الرئيسي من انشاء الوهم الذي تكونه هذه الطبقة عن نفسها، في حين أن الآخرين سيكون لهم موقف أكثر سلبية، موقف التلقي لهذه الأفكار وهذه الأوهام، لأنهم فعلا الأعضاء الفعالون في هذه الطبقة، وليس لديهم متسع من الوقت ليكونوا أوهاماً وأفكارا عن أشخاصهم."

قد تُفسّر هذه الفقرة كونها تقصد "الطبقة الوسطى" بتلك الفئة "السلبية فكرياً" والفعالة من الناحية العملية، لكن الملاحظات من الميول اللا-آدمية لسوق العمل الحالية أنها تروّج لخرافات عن وجود أفراد - ليس شرطا انتماءهم لطبقة معينة- بفعالية وكفاءة تامة، ليست الفكرة مُجرّد أن تحل الآلة محلّ الإنسان في المصنع، الإنسان غير الكفء، العامل مثير الشغب، كثير الانجاب، الهمجي، المهمش، المهاجر (immigrant)، العاجز فكرياً، الخ: إن الآلة اذن هي الذكاء الغبي -بحد تعبير جان بودريار- هي لم تصل بعد لمستوى الأفراد الذين يصفهم اقتباس ماركس وانغلز "الآيديولوجيين الفعالين"، بل أن الآلة في الواقع سوف تكون - أو صارت- العضو الفعّال في الطبقة المالكة، التي "تتلقى الأوهام" وتنفّذ.

العاطفة

نزع الآدمية عن الانسان العامل- لجعله أكثر كفاءة - يمهّد لهذه النتيجة ولو نظرياً (وفنيّاً)، في عصر الثورات فإن الطبقة العاملة هي التهديد وهي العدو، وهي الفوضى وهي نهاية الحضارة، وهذا ما توافق عليه هوليوود في أكثر أفلام الخيال العلمي ذيوعاً: أفلام الخيال العلمي التي تتخيل نهاية الحضارة الغربية -أو مرحلة مستقبلية متقدمة للغاية منها، مثل Terminator بأجزاءه، والماتركس، و District 9 و بروميثويس وغيرها، لا يعود ثمة تقسيم طبقي تقليدي: تختفي الطبقة العاملة، ويحلّ محلها -كأفراد عاملين/فعّالين، منفذين، خدميين: آلات من الذكاء الاصطناعي، إنها الطبقة "السلبية آيديولوجياً" بحسب اقتباس ماركس وانغلز، والتي تُقدّم حلاً نهائيا ومريحاً "لمشكلة" الطبقة العاملة، أخصّ بالذكر شخصية ديفيد من فيلم ريدلي سكُت الأخير، بروميثيوس، مذ ظهر الروبوت ديفيد على الشاشة كان يؤدي أعمالا متدنية- التي قد يقوم بها "الخدم" في منزل برجوازي تقليدي- لكنه في الوقت ذاته "يعلّم" نفسه ذاتياً، يتشرّب ويتشبع -يسجّل، من حيث كون الآلة كذلك ذاكرة ذات سعة تخزين مهولة- أفكار الطبقة العليا: التاريخ، اللغات، الموسيقى، الفنون، الأفلام - فيلم لورنس العرب بشكل خاص، ولا ندري لماذا اختير  لورنس العرب، إلا أنه شكل بدائي ومباشر للعلاقة "المثالية" في نظر الامبريالي، بينه وبين أهل المستعمرات -الأدنى منه "حضاريا" أو فكريا- المسألة أن ديفيد الإنسان الآلي يشاهد الفيلم، ويتأثر بشخصية لورنس و يحاول محاكاتها جسدياً، كمحاولة مؤكدة لمحاكاة و "حفظ" المبادئ الثقافية/الفكرية "للطبقة العليا"، الطبقة التي "صنعت" ديفيد. منذ ظهور ديفيد وهنالك تلميحات درامية "لإنسانيته"، صحيح أنه بلا مشاعر، إلا أن لديه "اهتمام" غريب بإليزابِث شو، المستكشفة والعالِمة التي كانت ضمن طاقم المركبة الفضائية "بروميثيوس"، إن إليزابِث تنتمي للطبقة العليا، طبقى أعلى من ديفيد الروبوت، إن ما يفرق بينهما أنها، إليزابث "فعّالة آيديولوجياً"، هي "مؤمنة" بأفكارها عن أصل الإنسان والحضارات - وكذلك مركزية الإنسان الغربي- إن ما تبدو رحلة فضائية استكشافية بريئة هي في الواقع محاكاة للارساليات الكولونيالية، خاصة مع تماثل "ايمان" إليزابِث وحبيبها/زميلها  بالإيمان "بأرض الميعاد" و"أقاليم العهد القديم" بحسب التعبير الانجيلي -في الفيلم، والد إليزابِث كان كاهناً في ارسالية - و ديفيد إنما - بوصفه العضو السلبي آيديولوجياً والفعّال عملياً- يحاكي الكولونيالي (لورنس العرب).

 حبيب إليزابِث - البشري- في الفيلم لا يتمتع بنفس "قوة إيمانها"، إلى جانب كونه شكوكي فهو "غير كفء"، في مشهد موحٍ كان فيه يعاقر الخمر، يتودد إليه ديفيد ويدس في كأسه الجرثومة التي سوف تقتله فيما بعد. في نهاية الفيلم، لا يبقى من أعضاء البعثة الفضائية إلا إليزابِث - التي رغم تعرّضها لامتحان لايمانها، لا تزال مُصرّة على تقصّي واكتشاف هذا الإيمان- و ديفيد الآلي، لقد تم تصفية كل البشر -غير الأكفّاء، سواء آيديولوجياً أو عملياً- على المركبة، ولم يبق إلا العضوين الأكثر تطرّفاً. ويشكّل إليزابِث و ديفيد "ثنائياً" ناجحاً، فهي الآيديولوجيا، وهو "التقنية": هو الوحيد الذي يُجيد التكنولوجيا اللازمة لاستكمال بعثتهما. صحيح أنه في فيلم سكُت ليس واضحاً كلياً كون "ديفيد" الآلة، في الواقع، أداة قتل شديدة الكفاءة، تماماً مثل طائرات درون. وأظن أن المُخرج تجنّب هذا المنحى الدرامي لأنه عولج في فيلم الترمينيتُر.



السلاح

 في ترمينيتُر - خاصة الجزء الثاني- تظهر الآلة التي كانت تحاول قتل سارة كونُر - والدة زعيم المقاومة المستقبلية ضد الآلات- وقد أصبحت في صفّ سارة وابنها. إنها نتيجة طبيعية، حين صارت الطبقة الحاكمة هي صاحبة الآيديولوجيا، ممثلة في زعيمها جون كونُر، بينما يصبح الترمينيتُر العضو السلبي آيديولوجياً الفعّال عملياً، هنالك تراتبية ملتبسة، فعملية اعادة برمجة الترمينتُر وارساله للماضي/الحاضر -رغم كونها نظرياً في المستقبل- صارت حدثا "سابقا" على أحداث الفيلم ذاتها:  سارة كونر وابنها، والمطاردات، والقتل. بينما صارت كونُر والابن هي المستقبل الذي يجب حمايته، مستقبل البشر - أو الحضارة الغربية، بشكل خاص- على لسانه في الفيلم، حين يسأله الطفل كونُر لماذا عليه أن يقتل أي شخص في طريقه، يجيب الآلة أن هذا مُبرر لأنه آداة "قتل/Terminator" بالمعنى الحرفي. بغض النظر عن تمجيد العنف في الفيلم وتصويره على أنه الشيء الوجيه الوحيد الذي يجب على طفل في الحادية عشر من عمره أن يتعلمه -في مشهد، يسخر جون كونُر الطفل من زملاءه من الصبية الذين لا يلعبون إلا النينتِندو (قد تُفسّر سخرية الطفل المُبالغ فيها كذلك كازدراء لكل ما هو غير أمريكي)- في نفس المشهد الذي يكتشف فيه مع الترمينيتُر كنزاً من السلاح - أعدّته سارة- بينما يتبادلان الابتسام والرضا. فيما بعد، تتأمل سارة ابنها و الترمينتُر وهم معاً متفاهمين، وتفكّر في أن الآلة هو البديل المثالي - الكفء- للأب أو الرجل في الأسرة، فهو لا يسكر ولا يضرب الطفل ولا يؤذيه وسوف يظل معه للأبد. (سوف يظل آلة القتل الخاصة به، طبعاً)، أجواء الفيلم تعكس تطرّفاً آيديولوجياً - حتى لو كان بلا معالم- فآيديولوجيا سارة كونُر واضحة: ابنها، جون كونُر، "أولوية"، ليس لأنه ابنها، بل لأنه زعيم المقاومة المستقبلية، الحب بين الأم والابن باهت وهامشي. واهتمام الأم بابنها ليس بسبب كلاسيكية العلاقة بين الأم والابن -في مشهد تلوم فيه سارة ابنها لأنه أتى لانقاذها وتخليصها من سجنها، وتخبره أنه لا أهمية لها حتى وهي أمّه، بينما له هو كل الأهمية لأنه "الزعيم"-  هذا يعني أن كثيرا من الأبرياء سقطوا قتلى -ضحايا- معارك بين طرفين فوق-واقعيين، خياليين كلية! الترمينتُر الخاص بكونُر، والآلة الأخرى - شرير الفيلم- الذي بعثته التقنية المتمرّدة. فكما أن بطل الفيلم الآلي هو خير مُتخيّل/خرافي، وغير آدمي، فإن الشرّ كذلك خرافي (غير آدمي). المهم أن شخص واحد - يمثّل، في الواقع، فكرة- هو الأولوية المُطلقة، ولا بأس ولا ضرر إن قُتل أو تأذّى كل ما عداه.
 يبلغ الفيلم منعطفا مخيفا حين يجلب مشهد كادت فيه سارة كونُر أن تقتل الرجل الذي اخترع التقنية المؤدية فيما بعد لأن تسود الآلات - وهو، أمريكي-أفريقي!- إن مشهد تعرّض رجل أسود للعنف، الأذى، الاصابة، والقتل، يُبرَّر على الشاشة، بمنطق الأولويات الذي يسوقه الفيلم. الآلة/الترمينتُر تُحافظ علي الأولويات الآيديولوجية ويكون دورها هو حمايتها دون تسامح، كما أنه يمثّل آلة حفظ/Hard Drive للحضارة الغربية، في مشهد تُعاد برمجته ليصبح أكثر استيعاباً لما يُمليه عليه الطفل كونُر من مبادئ ثقافية.



الوحش

فيلم ترمينيتُر -وغيره-  يقدم تخيّلاً مباشراً لهذا الشكل الطبقي المُفترض، حين صارت الآلات تمثّل الطبقة العاملة/العدو، التهديد الموجه للحضارة الغربية، إن التقنية، في أصلها، هي الجزء المادي/العملي من الجهد الإنساني، وهي شكل من أشكال الأنشطة الحِرفية التي احتقرها منظّرو الفلسفة الغربية في بداياتها الاغريقية، بطبيعة الحال: التقنية تثير الريبة، تُهدد الشقّ الفكري من الحضارة الغربية، صحيح أنها حالياً هي الجانب الكفء/الفعّال/المُدرّ للربح/والمقلل للتكلفة إلى أقصى حدّ، والذي يُروّج بوصفه المثال والنموذج للنجاح العملي: المفترض أن يقاوم الانسان نزعاته "الانسانية" مثل العواطف، الشوق لأكل الحلوى، إن هذا يجرّده ويجعله أكثر "أماناً" على مبادئ السيادة التي تسوقها الطبقة المالكة لوسائل الانتاج الفكري والمادي، ويجعله أكثر نفعاً فهو لا يكلّفها، ولا يخطئ في تخصصه العملي. لكن الآلات - والأشكال الآلية من العمّال والعتبة الهشة بين الآلة-والإنسان- تُسبب ذعراً داخل الخطاب الرسمي للمركزية الغربية، يكاد يُماثل الذعر من الهامش/العمالة المهاجرة قليلة الأجر/المخلوقات الفضائية القبيحة (كما يقدمّها فيلم District 9 ) إنها الكائنات التي تصنع التقنية/الأدوات، وتجيد استخدامها/لها دورها الحِرَفي، بل لا أحد -من الفعّالين آيديولوجياً-  يجيد التقنية غيرها (في مشهد موح، رجل عصابة يرغب في التحول لمخلوق فضائي خصيصا كي يتمكن من استخدام أسلحتهم).
 إن اعادة انتاج ومعالجة هذه الثيمات التي تصوّر آلات ثائرة على الحضارة الغربية أو مخلوقات فضائية شديدة البشاعة والتوحّش لكن تتمتع بذكاء تقني مُخيف - وربما هكذا كان يتصوّر آرسطو تفوّق المصريين القدماء في التشييد- يعكس ذعر المركز الغربي من طبقة جديدة هامشية هو من صَنَعَهَا، روّج لها بخرافاته، وبارَكَهَا.


Saturday, July 28, 2012

مرايا الوحش: المسخ المُحترم!

بوحي من هذه التغريدة التي تعتبر خرافة، إلا أنها تمنحنا صورة عن التخيل التقليدي للعلاقة بين الرجل والمرأة، أن الذكر هو الـ bread - winner، هذا ذاته نتيجة لتحيزات خرافية/ميثولوجية تفترض أن النور/النهار ذكري والليل/الأرض أنثوي، أو الين/اليانغ، ببساطة أكبر، هذا يخالف الواقع: لكن، تفترض هذه الهراءات أن أي شيء ذكوري هو حيوي وأي شيء حيوي هو ذكوري، الموت، اذن، بوصفه طاقة ظلامية، أو طاقة دمار، ارتبط بالعناصر الأنثوية. هذا الخرافات ضررها جسيم لأنها أنتجت نوع من العلاقات يمكن تلخيصه في "الرجل الحي/المرأة الميتة". تمثّلات هذا تظهر جلية في الأدب، سواء في نموذج الدامزل إن دسترس، الحبيسة، أو كل الارث الرومانتيكي البيدوفايلي منذ دانتي الذي "امتلك" حبيبته، بياترس، بالكامل فقط وهي ميتة. مرورا بادغار آلان بو الذي ينعى آنابيل-لي، ويعتبره الموضوع الرومانسي الأكمل، "نعي شابة جميلة." إن القشعريرة تبلغ مداها في الخلاصة وقمة الهرم لدى انتمولوجيين من أمثال نابوكوف، حين تتحول الحبيبة إلى عينة حشرية في الفورمالدهايد.
ويتخذ هذا التشوه أشكال خفيفة من النكروفيليا، ففي رواية "يوتوبيا" ثمة مشهد لرجل ينوي أن يقضي وطره من امرأة مُخدرة -رغم ارادتها- يتعدّى تأثير ذلك إلى الثقافة الشعبية، بالطبع، كما يقترح هذا الاعلان، فإن الرجل التقليدي لا يعلّق على "شخصية البنت"، هذا آخر ما يهمه، بالطبع، المقصود من الاعلان أن اهتمامه الأول هو "الجسد"، أو، "الجثة"، ببساطة.

-يتّبع

Monday, May 21, 2012

الصنم



جادل بروفيسور في الاقتصاد -يتمتع بهيبة آكاديمية لا بأس بها- داخل أحد قاعات الدرس - حيث يحظى بأقصى ما يمكن له من سلطة فكرية- أن المؤسسة العسكرية في مصر بنشاطها الاقتصادي لا تضرّ بالسوق/الاقتصاد المصري، ولا تهدد مبدأ المنافسة (أحد أعمدة اقتصاد السوق/الرأسمالية) وذلك لأن منتجاتها تنزل الأسوق بالأسعار السائدة لا أقلّ منها. كان هذا اجابة على سؤال طُرح عليه بشأن "مسألة" الحصة الاحتكارية التي يتمتع بها الجيش داخل الاقتصاد المصري سواء بالامتلاك أو الانتاج. ويجدر الاشارة إلى أنه - بتنظيم آكاديمي- قال أولا، مسألة حصة الجيش في الاقتصاد هي صندوق أسود -أي، يا سلام!- وثانيا، ما ذُكر أعلاه. 


حسناً، إن حصة الجيش في الاقتصاد المصري ليست صندوقا أسود، ولا حتى علميا، لأن حكاية الفيل والعميان هي حكاية استدلال علمي، وقد رُدّ عليه ردود بسيطة من واقع تجارب امبريقية مباشرة لهؤلاء الطلبة: حسناً، لقد كرر أحدهم أن تغلغل الجيش في الاقتصاد المصري يعارض أبسط قواعد السوق الحر، وقد كرر البروفيسور حجته، لأن "المؤسسة العسكرية" على حد قوله هي الأكثر كفاءة و.. "بلا بلا بلا، من قبيل أنه ليس ثمة "مؤسسة" أخرى داخل مصر قادرة على هذا الدور الأطلسي- حسنا، لكن وجود الجيش يعارض الاقتصاد الحر الذي تؤمن به يا بروفيسور -وقد فكّرنا جميعا أن عصبية البروفيسور لصالح المؤسساتية أقوى من عصبيته تجاه السوق الحرّ- وأليس الجيش مؤسسة حكومية؟ ألا تقف الرأسمالية ضد الدور المتعاظم للدولة في الاقتصاد؟ أوليست هذه المؤسسة ودورها من بقايا النظام الاشتراكي الناصري؟ ألا يقولون جميعا -جميعا!- أن السوق الحر هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق "النمو" في الناتج القومي؟ وهنا يغمغم البروفيسور بصوت يكاد لا يُسمع "لا لا مش شرط!" أوف! معقولة ؟!


يبدو لنا أن حجّته بشأن أن منتجات الجيش لا تنافس منتجات السوق -أو القطاع الخاص- منافسة غير شريفة (رغم أني لا أعامل الجيش كمؤسسة بيروقراطية فعالة تعمل بانضباط فيرماختيّ، بل هم مجرد أفراد يتمتعون بمزايا غير عادلة ويستغلونها "بفعالية") هي الفاصل والحكم في هذا النقاش الذي يُفحم به كل لئيم. لكن يحزنني أنه نسى أن المنافسة ليست "أسعار متجانسة" فحسب، إنما تتعلق بالتكاليف كذلك، وهل يمكن أن ينكر أحد أن "المؤسسةةةةة!!العسكريةةةةة!!" تتمتع أشدّ استمتاع بتكاليف انتاج أقل من أي مؤسسة قطاع خاص أخرى في مصر سواء كبيرة أو صغيرة - ولا يتعلق الأمر فحسب بتأثير اقتصاديات الحجم بل بكل الممارسات غير القانونية "اقتصاديا" التي يستطيع الجيش القيام بها، وما معنى تجانس الأسعار إذا كان يمكنك أن تُغرق منافسيك بضرائب متعاظمة مثلا، بينما أعفيت نفسك كليا من الضرائب؟ - حسنا، يمكن للجيش في مصر أن يفعل أي شيء يشاء- وهذا يعترف به البروفيسور، ويقول موضحاً أن الجيش "هرب" من زنقة البيروقراطية التي تقع بها مؤسسات أخري (لا يا شيخ؟ مش لسه كنا بنتكلم عن دولة المؤسسات؟) ثم يغمغم -وبشكل عابر- أن الانضباط الشديد داخل مؤسسة الجيش يعني الكفاءة - لكن يعني يا بروفيسورنا العزيز، أنت قصدك السُخرة مش الانضباط؟


إن التناقضات الفكرية تزعجني، وقد أزعجني تناقض البروفيسور بين ما يؤمن به من اقتصاديات السوق الحر، وبين تأييده لتواجد الجيش في الاقتصاد المصري -حتى ولو كان يظن أنه الأكفأ، لأن هذه حجة ساذجة، وأي مؤسسة حكومية تتواجد بمثل هذه الكثافة داخل أي سوق تشوّهه وتُقصيه أكثر فأكثر عن النموذج الرأسمالي- ثم اكتشفت أنه ليس ثمة تناقض أبداً.

بل أن عمل المؤسسة العسكرية داخل الاقتصاد المصري هو أقصى ما يطمح إليه أي رجل أعمال (إنتربرينور) بأحلام اقطاعية، ملكية وتحكم بعوامل الانتاج لا حدود له، اعفاءات ضريبية لا حدود لها، تلاشي أي نوع من العراقيل القانونية أو الحقوقية، وعمالة شديدة الرخص/أو سُخرة. إنها فانتازيا يمينية/محافظة/نيو-كلاسيكيكية/رأسمالية متطرفة. النظرية تتلاشى في وجود الصنم المتلألئ.

Saturday, May 12, 2012

مرايا الوحش: ديزني تعادي الثورات -٢



٢. سياسات [المركز ضد الهامش]


تقول بِل في فيلم الجميلة والوحش، "أريد ما هو أكثر من هذه الحياة  الريفية"، وقد ترجمت كلمة provincial  الانكليزية لـ"ريفي"، لكن ما يدعو للتساؤل، لماذا اختيرت كلمة بروفينشال وليس رورال أو تراديشنوال أو أي مما يشير للمعنى. خاصة لأجل السياق "غير-السياسي" كما هو مفترض لكل أفلام ديزني، كلمة بروفينشال ذاتها تحمل تبطينا سياسيا، لأن المعنى الحرفي هو "اقليمي"، والاقليم هو كل ما يقع تحت ادارة حكومة مركزية في عاصمة ما، لكنه بعيد جغرافيا عن العاصمة. أصل الاستخدام بالطبع يعود لعصر الامبراطورية الرومانية، هنالك مقاطعة اسمها Provence موجودة بفرنسا، وتعود تسميتها إلى الغزاة الرومان، صحيح أن القضية الاقليمية عموما كانت صداعا متكررا لروما بكل ثورات الشعوب في المقاطعات- خارج روما (مصر، مثلا)، لكن هنالك اتفاق على أن بروفنس الفرنسية هي أهم مقاطعة رومانية في بلاد ما وراء الألب. 

في أغنية بِلْ هجاء واضح للحياة في "بلاد الهامش"، مما يعيدنا للتساؤل، إن كانت مشكلة بِلْ الحقيقية كونها لا تعيش "في المركز"، وليس لأنها تعيش في مكان ريفي، أهله بسطاء لا يهتمون "بالكتب" أو المعرفة. وها هي بِلْ تعدد لنا مساوئ الحياة في الأقاليم السياسية -من وجهة نظر أي مواطن روماني- من بينها بطبيعة الحال أن ليس ثمة أي اهتمام بالمعرفة أو الثقافة النخبوية. 


الفيلم يمزج بين الرؤية الرومانية لسكان الأقاليم، وبين العداء للثورات، بشكل بارع وممتاز يحوّل مشهد تاريخي "مجيد" كاقتحام الباستيل فيساويه بمشهد ظلامي كـ"نهب روما" عام ٤١٠ ميلادية على يد جُند القوط الغربيين بقيادة آلاريك، لو تراجعنا قليلا لتأمّل قصة الفيلم من بعيد: الوحش يسجن والد بِلْ لأنه دخل قلعته يطلب مأوى -دون اذن "السيّد". (ياله من تقدير أمريكي أصيل لحقوق الملكية الخاصة) ثم تدخلت بِلْ -مثل أي قديسة تقليدية- لاطلاق سراح أبيها مقابل أن تُسجن هي في القلعة. بِلْ تفلح في مغادرة القلعة بعد حين لتعود إلى "قريتها البروفنشال" كي تطمئن على أبيها الذي يعيش وحيداً. أهل القرية يعرفون "بوجود" الوحش، وليس ثمة ما يعيب عليهم رد فعلهم العنيف تجاهه، الوحش سجن شخصين دون وجه حق. "وقد يكون هنالك أسرى آخرين داخل القلعة". [فقد شغلتنا الدراما طوال الفيلم بتفاصيل رومانسية رقيقة بين الوحش و بِلْ، ثم محى تماما التأثير الظلامي للقلعة (البرج القوطي الذي يحوى المعتقلات) بمشهد المكتبة وتأثيراته الخلابة: الوحش يزيل الستائر ليدخل نور الشمس، ويكشف عن حجرة شاسعة بسقف شديد العلو، وديكور يشبه ديكورات قصور عائلة البوربون.]


يذهب أهل القرية لاقتحام قلعة الوحش في حشد يذكرنا بحشد "الديماغوج" لاقتحام الباستيل، و التاريخ لا يغفل الطبيعة "البروفينشال" لهذا الحشد العظيم، والنشيد الوطني الفرنسي الحالي ما غنّاه أهل اقليم مارسيليا الذين توجهوا للمركز/باريس، لمؤازرة الثورة ضد الحكومة المركزية. و اقليم مارسليا -تاريخيا- تنطبق عليه كل مساوئ الأقاليم و"ازعاجها" للحكومات المركزية، سواء كانت حكومة روما أو حكومة باريس، إنه اقليم دائم الثورة. [و قد تم ضمّه لاقليم بروفنس.]

قصة الفيلم التي عرضتها مذ قليل، منزوعة العنصر الميتافيزيقي، أى العنصر غير المرئي وغير المُهم "تاريخيا"، المفيد فقط للدراما الميتا-تاريخية، هذا العنصر يحوي أشياء من قبيل الحُب الذي يكسر تعويذة تعسفية تُلقيها ساحرة علي أمير جميل لأسباب غير مبررة [كعجرفته..إن عجرفته في الفيلم بسيطة الأثر مثل عجرفة مقولة ماري انطوانيت "فليأكلوا البسكويت"]، فتحوله لوحش منفر، وتحول قصره المنيف إلى قلعة موحشة. في هذه الحكاية الميتا-فيزيقية لا يُغفل خطاب العصر الذهبي الذي وَلّى. من الواضح أن قصر الأمير كان "المركز" في عصره الذهبي، وحين مُحي مجده لم يعد ينتبه أحد لكونه المركز. قصة الفيلم/حكاية بطولة بِلْ ليست بشكل خاص عن الحب الذي ينتصر على كل شيء، لكنها قصة "شطارة" فردانية، بِلْ الفرد تتفوق وتترقّى طبقياً بسبب فوزها في لعبة "جِد المركز الخفي"، وكما توحي أغنية بل في بداية الفيلم، فقد وجدت بِلْ ما هو أكثر من هذه الحياة الهامشية، لقد حُلّت عقدة حياة بل حين وجدت قلعة الوحش. الحب لم ينتصر بل الوحش هو الذي انتصر على أهل المقاطعة الريفية لأن بِلْ في صفه [وقد نترك ميتافور بِلْ للقارئ رائق المزاج، رغم أن الميتافور هذه المرة غير مُهم.] إنها ليست حكاية حب بل حكاية سياسية، لقد نشأ تصالح بين بِلْ والوحش حين سمح لها بالخروج من السجن الوضيع لتسكن احدى الغرف الفاخرة، وتتناول معه عشاء فاخرا على المائدة، ويسهر خدمه على راحتها. وهذا التصالح أصله أن الوحش يريدها أن "تحبّه" كي تكسر التعويذة وتعود إليه مكانته السلطوية كمركز ثقافي، بينما لم يك ليتصرف بهذا اللطف مع سجنائه الآخرين (أبيها، مثلا).  والقصة تتمحور حول بِلْ التي تعيد القصر إلى مركزيته، حين يصرح خدم الأمير أكثر من مرة أنهم سعداء بأن لديهم "ضيف" أخيرا أو شخص يخدمونه، وبحد تعبير لوميير "الخادم ليس منه نفع دون سيد يخدمه."، إن بلِ تتميز عن سكان المقاطعات الآخرين لأنها تستطيع تقدير المركزية الثقافية للقصر، وسلطته القادمة من المعرفة [كما قد ينظّر ميشل فوكو]، المتمثلة في "أكبر مكتبة رأيتها"- كما تصف بِلْ "هدية" الوحش لها تعبيرا عن حبّه. [وكذلك، الموسيقى التي تصاحب عشاء بِلْ الأول.]

بِلْ كذلك تتفهّم السحر الذي يسكن القلعة، بينما ليس ثمة وجود للسحر في البروفنس. الوحش يُحسن استخدام السحر [المرآة المسحورة التي تُظهر له الخفايا- مثل أي دولة بوليسية- بل أن المرآة تُستخدم طوال الوقت كأداة درامية لاظهار خيريّته، كما قد يكون الباترون/الراعي/السيد خيّراً لرعاياه] حين يشاهد بِلْ تبكي في حجرتها فيحنّ قلبه لها، وحين يجعلها تشاهد حال أبيها وهو يعيش وحده. لكن الغوغاء يسيئون استخدام السحر، وحين تعود بِلْ إلى القرية، وتُظهر الوحش في هذه المرآة كي تثبت لهم أن أبيها ليس مجنونا فلا يأخذونه في مأوى المجانين. ينزع غاستون المرآة ويستخدمها لتحريض الناس ضد الوحش، ما يؤدي في النهاية إلى حدث "اقتحام" القلعة. هكذا تُتسخدم المرآة، بالمقابل، كأداة درامية لاظهار شرّ أهل الأقاليم وخسّتهم الأخلاقية.

في الفيلم محاولة تصالح واضحة مع السلطة الأرستقراطية، ضد سلطة الشعب. فالأولى تظهر قابلة للاصلاح التدريجي غير الراديكالي، بينما يرفض خطاب الفيلم الأساليب الراديكالية للغوغاء. بمشهد في البداية يضع غاستون قدميه القذرتين على المائدة فيثير المشهد قرف بِلْ الشديد. في مقارنة مع تصرفات الوحش غير المقبولة كذلك على المائدة [حين ينكب على صحنه فيبتلعه بشراهةِ ملك فاسد وجشع] تجعله بِلْ فيما بعد يتمهل في أكله، إن تصرفات الوحش قابلة للاصلاح، بينما تصرفات غاستون ليست كذلك. 

سكان المركز (خدم الأمير)، لا يثورون ولا يثيرون الشغب. وهم فقط يدافعون عن ممتلكات مليكهم، ضد سكان الأقاليم مثيري الشغب/الغوغاء. في آخر مشهد بالفيلم (القصة تدور في فرنسا) اعادة تجسيد لمشهد اقتحام روما، القلعة ليست مكانا شريرا، والوحش ليس شخصا شريرا [وهذا غير مبرر من الناحية السياسية، فهو يسجن الناس]، بينما غاستون شرير بشخصيته الآلاريكية، والمعركة النهائية معه لأجل حماية بِلْ [الأميرة، غالا بلاسيديا، باريس، الخ] من أسر البرابرة.

الأقل ازعاجاً في الفيلم: عدم معرفتنا لما حلّ بالقرية بعد هذه الأحداث، فقد جرت عملية "اصطفاء" للأخيار من وجهة النظر الأرستقراطية، والد بِلْ صار معها في القصر، الفيلم انتهى نهاية مُحافظة [تزوجت بل من الأمير- بما أن وجهة النظر البرجوازية/المحافظة تقترح أن الزواج عبر-الطبقات حلٌ لكثير من المشاكل الاجتماعية]، لكن أين ذهب الغوغاء؟ أهل القرية؟ وماذا حل بالقرية نفسها؟ يبدأ الفيلم بالقرية/الهامش، وينتهي بمراقصة الأمير لأميرته في القصر/المركز، وهم ذاتهم في مركز صالة الرقص، وحولهم من أهم أقل منهم طبقياً.

الأكثر ازعاجا بقليل: افتراض الفيلم أنه لم يك ثمة مشاكل في الأصل، سوى السحر الشرير لفقراء مُدّعون (المرأة الساحرة في أول الفيلم التي سألت الأمير احسانه فرفض..) هذه الخدعة التي ساقتها المرأة تهمّش من مشكلة الفقر مقابل الثراء الفاحش للطبقة الأرستقراطية، فيظهر الفقراء كأنهم غير راغبين حقا في الاحسان إنما في "احراج الأمراء".

ما هو شديد الازعاج: اعادة التاريخ إلى حيز الميتا-تاريخي، والميتا-سردي، والحلول السحرية، [مشهد عودة الوحش إلى آدميته هو اعادة انتاج لوحة لمايكلآنغلو حول المسيح]. معضلة الفيلم السحر الشرير، وحل المعضلة بازالة هذا السحر بواسطة سحر آخر هو الحب، لكن الحب الذي يحضر في الفيلم ليس حباً، بل طموح طبقي، تقترح هذه الدراما بلا مواراة أن الطموح الطبقي الفردي طاقة ايجابية، بينما الحلول الراديكالية [الثورة الشعبية، مثلا] سلبية، ضارة، وشريرة، وسيئة وعنيفة. الطموح الطبقي لـ بِلْ يزيل التعويذة الشريرة التي أسقطت الأرستقراطية [أسرة البوربورن]، لأنه يُحافظ على مكانتها أو يعترف بها. الفيلم يصدّق على استحقاقية [الوحش/اللوياثان/حامي المدنية من الفوضى] للحبّ. 

Wednesday, May 9, 2012

مرايا الوحش: تأملات في التبادل الاستبدادي بين الشعوب -١


١. لا يوجد شيء اسمه يسار فرنسي*

تتنوع النماذج الاستعمارية بين نماذج من العالم القديم (فرنسا، انكلترا)، ومن العالم الجديد (أمريكا، الاتحاد السوفيتي، الاتحاد الأوروبي، الخ)، ثم يجري تقسيم هذه إلى تفرعات حيث تُعتبر مثلا، أمريكا، كامتداد للنموذج الاستعماري الانكليزي أكثر منه امتدادا للفرنسي - من حيث أن أمريكا ذاتها كانت مستعمرة انكليزية سابقة، ومثل عادة المستعمرات، فقد اقتسبت النظام السياسي الانكليزي الذي يتميز -أكثر ما يتميز- ببرلمان قوي وفعال. 

في حين تتنافس كل النماذج الاستعمارية في سوءها، فإن المستعمرات وما تنشأ بها من حكومات -بعد الاستقلال- تميل إلى التماهي مع نموذج الحاكمية الفرنسي - مما يجعله فريدا في السوء، فهو يقدم "مثالا ديموقراطيا سيئا"، وقد كانت انكلترا مملكة، وليس هنالك تناقضا بنائيا في تحوّلها لامبراطورية امبريالية، ولكن فرنسا مارست الامبريالية جنبا إلى جنب مع حكمها الديموقراطي على المستوى الوطني، كانت فرنسا "بالاسم" جمهورية ديموقراطية، لديها "رئيس"، برتبة عسكرية (ديغول) : وهذا النموذج "الباعث على الفخر الوطني" أنشأ تصالحا/تسامحا مع عدد من التعارضات والتناقضات الحقوقية والسياسية: يمكن أن تكون دولتك جمهورية/ديموقراطية مع حكم عسكري ذي ديكتاتورية أبوية ناعمة، يمكنك أن تكون ديموقراطيا واستعماريا في الوقت ذاته، ويمكنك أن تكون استعمارياً ومُستغلا لمستعمراتك ولكن هذا لا ينفي أنك قوة خيّرة تعمل لصالحها، وأنك الأب الحنون لها، وأنك تحمل إليها ثقافة وتنويرا فرنسيا نقيا حُرمت منه المستعمرات الآنكلوفونية مثلا.

الفريد في هذا النموذج أنه متآلف، متناغم، ويعمل بفعالية، دون أن تعرقله تناقضاته الداخلية، مما يجعله مثالا جيدا للتقليد: النظام السياسي الانكليزي من حيث كونه ملكياً وشيطانيا بالنسبة للمستعمرات الانكليزية الافريقية (مصر، مثلا) - كان مستبعدا في مرحلة "تطبيقات ما-بعد الاستقلال"، فكان النموذج الفرنسي السلطوي (من سلاطة/وسلطة، طبعا) مُستحباً: نموذج الباترون/Patron: وعلينا أولا أن نشرح عددا من الميتافورات في الثقافة الفرنسية لوصف علاقاتها بالمستعمرات، فالمستعمرات، بعد الاستقلال، كان يُطلق عليها تعبير الـ chasse gardée، ويعني الأرض/الباحة الخلفية/مساحة ملكية تخصّ سيدا/مالكا ما، وليس الغرض وحده هو تبيان النية الاقطاعية، إنما، بشكل خاص، التلميح الرعوي/الخيري، فالمعنى الفرنسي يقصد كذلك أن هذه الأرض بمن وما يسكنها تتمتع برعاية وحماية المالك، إن معنى الاستغلال والاستنزاف متخفّ وراء الأولوية بخصوص صفة المالك القادر والشرعي، وهي حسن رعايته واهتمامه بهذه الملكية، وهذا المالك يقال له بالفرنسية Patron، كلمة قد تعني "ريّس/Boss وليس الوصف القانوني President" كذلك. إنه "صاحب العمل" أي صاحب منّة. لا تخفى المعاني المتعددة لهذا الوصف في التقليد الكاثوليكي. فهنالك الـPatron Saint/القديس الراعي (و ذاك أيضا يتضمن معان ميتافيزيقية لفكرة الرعاية، من حيث كونها خير مطلق لا جدال فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..)، وهنالك كذلك معناها الثقافي، (أجل، بالطبع، رعاة الفن كذلك هم مصدر كل خير)، وللكلمة كذلك معنى سياسي (ما يهمنا بشكل خاص) وإن كانت كل المعاني تشكّل "النموذج" المتناغم والمتصالح مع نفسه داخليا: فهنالك مائدة يجلس إليها أب حنون يوزع طعامه "بمعرفته" علي الأبناء الذين يجلسون إليه ثم تتوزع البقايا بعدل على حيوانات الباحة الخلفية.



في حين يتخذ الاستعمار الانكليزي - مثالا، لأننا نقارن الفرنسي بمعادله الزماني والمكاني- أشكال مباشرة ويتجسد على الأرض/مصانع/سكك حديد/مؤسسات/شركات نقل وتجارة/حدود، فإن تجسدات الاستعمار الفرنسي تتخذ أشكالا أكثر تعقيدا ولا يمكن أن نغفل عناصرها الميتافورية، وتصوّر الطبقة الفرنسية الحاكمة عن فرنسا (على حد تعبير ديغول، فإن فكرته عن فرنسا "عاطفية" وليست عقلانية، فرنسا، بحسبه، يجب أن تحافظ على مكانتها و"غراندورها" كفاعل دولي ومنارة فكرية وثقافية.)، تتقاطع هذه "التصورات الرومانتيكية" عن رعاية فرنسا ثقافيا وفكريا وتنويريا للمستعمرات، وبين الدور البطرياركي لقائد/Patron/مستبد عادل يحافظ على توجهات فرنسا التنويرية نحو الخارج والداخل.



النموذج السياسي/الاستعماري الفرنسي أعدّه مرجعاً طريفاً ومصدر اقتباس وتطبيق لمعاني "القيادة الحكيمة"، في حين لم يك النظام الانكليزي جذاباً ليُقلّد في افريقية، بسبب مَلَكيّته، وبسبب النفور من المَلَكية، فإن حالة فرنسا العجيبة وشكل قنواتها الاستعمارية المبهم والمتخفي تحت طبقات ميتافورية من علاقات المنّة (آباء فرنسيون كاثوليك يقدمون خدمات تعليمية وصحية في المستعمرات/الخ) بحيث أفلحت جهود السلطة الفرنسية منذ ديغول في تأسيس وصف لعلاقتها بمستعمراتها على أنه "اهتمام/تواجد/“présence” رومانتيكي في حين كانت العلاقات الانكليزية توصف بالاستغلال. يشكل النموذج الفرنسي أقصى الطموحات البطرياركية المحلية لعمليات التحول السياسي (من ملكية إلى ديكتاتورية عسكرية "رشيدة")، في حين يقترح البعض أن كل الأنظمة السياسية ما-بعد الكولونيالية في افريقية اتخذت النموذج "الجمهوري" الفرنسي (تقليدا للأب..) فإن الدول العربية كذلك -تلك التي لم تك مستعمرات فرنسية- اتّخذت النموذج ذاته، فهو نموذج مثالي لأجل عملية تحول راديكالي شكلاني (ميتامورفوزِس سياسي) دون أن يتحول المضمون: أو، بحد تعبير فرانسوا ميتران في معارضاته للديغولية كونها " انقلاب عسكري دائم". فمضمون السلطة لا يتغير (أوتوقراطية أو شمولية) لكن العنوان يتغير (رئيس، قائد، ملك، الخ..). تقترح الورقة البحثية السابقة أن ما ميز اقتباس النظم الديكتاتورية الافريقية للفكر الديغولي هو الأنظمة البرلمانية الضعيفة في مقابل السلطة التنفيذية، وقد ظل النظام الفرنسي يعاني من تأثيرات الديغولية (بشكل خاص، في مجال العلاقات الخارجية) فترة طويلة، في نظرية سياسية حول قوى النظم البرلمانية في العالم، يفترض نلسون بولسبي أن البرلمانات نوعين، النوع الأول يسميه Arena، والآخر يسميه Transformative, ويفترض أن النظام البرلماني الانكليزي يتبع النوع الأول: فهو مسرحا للتمثيل الفكري والحزبي والتحاور والتفاعل بين مختلف التيارات السياسية، بينما النظام الأمريكي يتبع النوع الثاني، لأن البرلمان قد يمارس "قوة تنفيذية" تشريعية حقيقية. في الفترة الديغولية المؤثرة كانت القوة التشريعية الفرنسية أضعف من أن تكون هذا أو ذاك. فلم تتطور قوى سياسية متنوعة/نشاط حزبي فعال، و"تمثيلي" لكافة التيارات الفكرية، يعمل كبديل للأبوية اليمينية الحاكمة. يمكننا أن نقول أن الديغولية أدّت إلى تقزّم تمثيلي سياسي داخل نطاق القوة التشريعية/الشعبية، وتقزم لدور الأحزاب في مقابل تضخم للقوة التنفيذية المركزة في شخص الزعيم. (ديغول واضع دستور الجمهورية الخامسة.)


تنعكس في مرايا الاستبداد أفكار فرنسا عن الأب الراعي (فرنسا) للمستعمرات، والأب الراعي لشعبه (الجنرال/القائد الحكيم/المستبد العادل)، في نموذج الديكتاتورية العسكرية في افريقية، يؤكد النموذج على قوة "القائد" العسكرية، وعلى كونه صاحب "انقلاب عسكري مؤثر وفعال" وعلى دوره "التحريري" (طرد الاحتلال: الديغولية/الناصرية/المقاومة ضد الاستعمار/العدو، الخ) وهذا يمنح السلطة البطرياركية ملبساً خيّراً ومُنقذاً ويعطي وهم "استقلالي/جمهوري" غير استبدادي: إنه، ببساطة، خدعة أو أول ديكتاتورية تاريخية مغلّفة بالسكر.

يؤدي هذا النموذج إلى آثار طوطمية (كما يصوّرها أحمدو كوروما في شخصية الديكتاتور في رواياته)، فلا يوجد تمييز بين شخصية الزعيم وشخصية البلد. فالهوية الثقافية كما تُتاح وتُمارس وتُستعمل نتيجة لسياسات/ومشهد "المائدة": الأب وحده يوزعّها كيفما يشاء بقدر يشاء على من يشاء، وهذا ينتج بالضرورة قدرا شعبيا كبيرا من الشوفينية والزينوفوبيا واحتقار ثقافة الآخر/المختلف، تصير الثقافة كممارسة، يمينية فحسب، دون أن تتوزع توزعاً عادلاً اجتماعياً أو عرقيا أو نوعياً. والثقافة التي "لم يرعها" والتي يرفضها البطريارك هي "العدو" في الذهن الشعبي.



--------------------
*إن اليسار مفهوم كوني، مثل مفاهيم أخرى انسانية في طبيعتها: العدالة، المساواة، الإخاء، الخ. العنوان اذن تلاعب لفظي، فليس ثمة "يسار قومي فرنسي"، لكن لا يوجد مانع من وجود يسار "في فرنسا". تقترح هذه السلسلة أن الاستبداد وحده تجربة قومية خالصة، فكل شعب يملك نموذجه الاستبدادي الخاص، وتتشابه نماذج الاستبداد بين الشعوب نظرا للاقتباس والنسخ. إن اليمين، بوصفه مضاداً لليسار، هو، بطبيعته، معنِي بقومية الشعب، وبمعاداته لكل ما هو مُشاع وكوني ومشترك مع سائر الشعوب.