Wednesday, August 18, 2010

إرم

[ĕrēmīta] : كلمة لاتينية مشتقة من مثيلتها اليونانية [erēmitēs] والتي تعني غالباً "صحرائي" وهذه بدورها مشتقة من الجذر اليوناني [erēmos] الذي يعني غالباً: صحراء، أو مُقفر. ومن هذه الأصول تُشتق الكلمة الإنجليزية [Hermit]، بمعنى: الناسك.
 الناسك الذي يعتزل الناس إلى الصحراء غالباً، وهي عادة مصرية قديمة ، اعتقد المصريون القدماء أن سيث (الشر) يسكن الصحراء، والناسك الصالح إنما بتنسكه في الصحراء هو في مواجهة مباشرة مع الشيطان.
أجد في تلك الجذور اليونانية شبهاً قوياً بكلمة (إرم)، وهذا الأصل السامي بالأساس لم أجد له معنى موثوقاً عدا بعض المصادر الأجنبية التي تدّعي أنه اسم تركي، أو حتى عربي، ويعني (جنّة في السماء). الحقيقة أن إرم، الجنة المقصودة هي غالباً الجنة الأرضية التي كانت عليها إرم ذات العماد.  
الظريف هو، النظرية التي سوف نفترضها لو قلنا أن الكلمات اليونانية واللاتينية جاءت بعد الكلمة السامية، والتي تصف الحالة التي صارت إليها إرم بعد حين
لكن وجهة النظر الواقعية تميل إلى أن إرم هو اسم القبيلة، أو هي قبيلة من قوم عاد، سكنت صحراء شبه الجزيرة، ويبدو لي أن القبيلة كانت من الأهمية والشهرة (أو القوة)، أو الهيمنة في أرض شبه الجزيرة في الأزمنة السامية القديمة، أنه ارتبط اسمهم بالصحراء. 

Saturday, August 7, 2010

Låt den rätte komma in (2008)

هو  فيلم سويدي من انتاج عام ٢٠٠٨، يدور باختصار حول الفتى (أوسكار - ١٢ عاماً) الذي يحيى مع أمه في بلدة سويدية، حين يسكن جيران جدد الشقة المجاورة له، فتاة في مثل عمره مع من يبدو أنه والدها. والفيلم مبني على رواية بنفس العنوان للكاتب السويدي جون آفيد لينكيست.
تتطور الأحداث ليعرف أوسكار أن الفتاة  مصاصة دماء، وطبعاً، قد كان لها زمان طويل وهي في الـ١٢ عام. ومن يرافقها ليس والدها بل (حارسها)، وهو  -بحسب الرواية، فهذه النقطة لم تتضح في الفيلم- شخص يرافق مصاص الدماء كي يهيّء له الحياة الآمنة في النهار. وربما يساعده علي التأقلم أو التفاعل مع المجتمع البشري دون اثارة للشكوك.


الفيلم يبدأ بكلمة، اصرخ. اصرخ مثل خنزير.
أوسكار الفتى في بداية الفيلم يمثّل مشهداً عنيفاً، يعبث بسكينه (ونحن نراه من خلف زجاج حجرته)، ويتظاهر أنه يهاجم شخصاً ما، ويجبره : اصرخ، اصرخ مثل خنزير. في هذه اللحظة بالذات تتوقف أسفل نافذته السيارة التي تقل (إيلي)، مصاصة الدماء الصغيرة. وحارسها.

الفيلم بأجواءه الكالحة، السوداوية، والجو المقبض للبلاد السويدية، المثلجة، يحمل روح غامضة، وقد سمحت لنفسي بربط هذه الروح، النكهة الغامضة التي يحملها الفيلم بالرسام النرويجي (اسكندنافي أيضاً)، إدفارد مونك.

ربما المميز بشأن هذا الفيلم أنه اسكندنافي، في الفيلم أجد احالات كثيرة للوحات مونك، منها أول كلمة في السيناريو، والتي تذكرني مباشرة بلوحة الصرخة.

أو العلاقة بين أوسكار وإيلي، والتي تذكرني كذلك بتصور مونك لـ(آلام الحب)، على حد تعبيره، في لوحة مصاصة الدماء.

والفيلم ليس خيالياً بالكامل، خلاف أفلام أخرى عالجت نفس الموضوع (توايلايت)، لا يمكنني إلا أن أعلق على (الفوضى) أو الجلافة الفنية التي عولج بها هذا الفيلم (أو الرواية)، وهي ذاتها الجلافة الفنية والمعنوية التي سوف يُعالج بها الفيلم السويدي حين اعادة انتاجه هوليودياً :  (دعني أدخل).

تميل السينما الأمريكية دائماً إلى (انضاج) المراهقين أو (من هم على عتبة البلوغ). وتسخيفهم. المعالجات الفنية الأمريكية تتناول هذه الفترة بجلافة، ولا أنسى الجلافة التي عالج بها فيلم العظام الجميلة حياة (طفلة) المفترض أنها في هذا السن. ربما يكون السبب المجتمع الأمريكي ذاته المختلف عن المجتمع الأوروبي.

لكني أعود وأقول، إن أشهر المعالجات الفنية على الاطلاق لهذه الفترة العمرية كانت أمريكية، أعني، سلسلة (قشعريرة) والتي تم تعريبها تحت عنوان (صرخة الرعب).

إن سبب اختيار مؤلف السلسلة للمرحلة العمرية (١١ سنة - ١٢ سنة - ١٣سنة) ليضع بها أبطاله ليس فقط أنها موجهة لقراء من نفس السن، بل لمناسبتها أصلاًِ لمعايشة كافة التجارب (القاسية - المرعبة)، فمن في هذه المرحلة ليس طفلاً وليس بالغاً كذلك. هي فترة يتخللها الكثير من القلق، الاضطراب، التشوش، الخ. كما أن روايات السلسلة غالباً تدور حول التجربة المرعبة التي يمر بها الطفل ويبقى بها للأبد: البقاء للأبد في منزل مسكون - البقاء للأبد في قلعة دراكيولا فوق جبل فوق هوة - البقاء للأبد في عالم بالأبيض والأسود -الخ .
 الشيء الآخر هو مصطلح (ساعة الذئب)، وقرّاء سلسلة (ما وراء الطبيعة) المصرية، يألفونه، يستخدمه مؤلف السلسلة غالباً لوصف المرحلة العمرية التي تكون فيها الفتيات معرضات للمسّ الشيطاني. المصطلح أصلاً من الفلكلور السويدي، بالأصل يصف مرحلة (السَحَر)، المرحلة في آخر الليل وقبل الفجر بقليل، في السويد يبدو أن الذئاب تتجول بحرية في هذه الساعة خارج أبواب الناس، وتهاجمهم.

المصطلح ذاته اُستخدم في فيلم رعب بنفس الاسم (ساعة الذئب) للمخرج السويدي انغمار بيرغمان، وتوصف الحالة في السطر الترويجي الآتي:

"The Hour of the Wolf is the hour between night and dawn. It is the hour when most people die, when sleep is deepest, when nightmares are most real. It is the hour when the sleepless are haunted by their deepest fear, when ghosts and demons are most powerful. The Hour of the Wolf is also the hour when most children are born."

قد يُعامل المصطلح، والذي لاحظنا أنه ذاته عميق الأثر في الذهن الفلكلوري السويدي، كـ(ميتافور) للمرحلة العمرية لما قبل البلوغ، إن هذا يدفعني للاشارة لحساسية وذكاء المعالجة سواء الروائية أو السينمائية لقصة أوسكار، في حين تختار سيتفاني مايار لأبطالها (مراهقون جشعون للعواطف)، كي تُعاش قصة حب سخيفة بملامح رومانتيكية كلاسية، إن قصة فيلمنا (دع الشخص المناسب يدخل) ليست قصة رعب، خيال، أو خلافه، بل هي قصة عن (رعب) الحياة وما تثيره في الأنفس من اضطرابات.
أوسكار فتى منطوٍ ووحيد، يتعرض للمضايقات من قبل زملائه (البلطجية) في مدرسته، في هذه المرحلة العمرية حين -غالباً- تتكون لدى الإنسان أغلب عقده النفسية، أو يعيش أغلب التجارب القاسية المميزة للتنوير المفاجيء على الحياة أو، ربما، (الاظلام) المفاجيء، حين يخرج المرء من جنة طفولته ويُجابه بالـ: الفهم. فالمرء حينها يفهم الحياة قليلاً ولا يفهمها في الوقت ذاته، إن فلاديمير نابوكوف في روايته (لوليتا) يستخدم مصطلحاً (وإن كان يستخدمه في الرواية لأغراض منحرفة)، لوصف (مخلوقات) هذه السن، كـ(حوريات) أو (عفاريت). يحاول بطل فلاديمير نابوكوف في الرواية أن يدلل علي الطبيعة (العفاريتية - الما-ورائية) لهذه السن، وإن كان بشكل غير مباشر أو بشكل مختلف عن المفهوم الذي سوف أستدرجه في موضوعي هنا. وبشكل آخر، إن المصطلحات التي يستخدمها نابوكوف تُجسد  (الاغتراب) العام عن الانسانية الذي يعيشه طفل هذه السن. فهو (مخلوق)، وليس طفلاً وليس بالغاً كما أسلفنا.

وإن كانت قصة أوسكار وإيلي لا تجسد قصة حب فعلاً أو كما هو الأمر في فيلم (توايلايت)، لهذا قد أُلحق بـ(ايلي) معان أخرى، لو عدت للوحات مونك كمرجع فني، فإن إيلي هي الجنون، أو الاضطراب، أو بمصطلحات أكثر مهنية : المرض النفسي، عودة لرواية لوليتا، البطل همبرت همبرت يعيش (مرضاً نفسياً) طويل الأمد بسبب لقاءه في سن ما قبل البلوغ بفتاة في مثل عمره، ثم موتها بعد ذلك بقليل. إن أوسكار الولد الضعيف، المعرض للايذاء الجسدي والنفسي على الدوام، قبيل نهاية الفيلم  كان على وشك أن يُقتل , لكن إيلي مصاصة الدماء تنقذه ممن كان سيؤذيه. صحيح أن قبل هذه الحادثة كانت إيلي ستغادر نهائياً، وقد ودّعت أوسكار وتركته لـ(يعاني من قلب محطم- على حد التعبير الانجليزي)، لكنها تعود إليه لانقاذه، هذا الحادث يجعل أوسكار يحل محل حارسها النهاري الذي (مات كذلك في موضع آخر من الفيلم - دفاعاً عنها)، الفيلم يُختتم بمشهد، أوسكار يجلس في عربة قطار، بينما يستقر تحته الصندوق الكبير الذي يحوى (إيلي) النائمة في النهار. قصة الفيلم هي عن (البلوغ- النضوج - مغادرة الطفولة)، لكن بأقسى الطرق على الاطلاق، إن أوسكار سوف يظل كل حياته الباقية مرتبطاً بإيلي، وربما يموت بسببها مثل حارسها السابق، إنها إيلي، المخلوق الذي التقاه في فترة اضطراب البلوغ، (العفريتة)، أو، مرضه النفسي الخاص، الذي نشأ من المواقف القاسية والاغتراب الذي عاشه، التي ظهرت له في تلك الأوقات حين كان يجلس وحيداً في الليل في العراء. والتي كذلك سوف ترافقه لبقية حياته. لكنها في الوقت ذاته مرتبطة بتغلّب أوسكار على مصاعب البلوغ أو على العنف والازدراء الذي كان يعانيه، وكذلك إيلي هي الكيفية التي يتغلب بها أوسكار على وحدته واغترابه الذي رافق سنين بلوغه، وإن كانت هي الخدش/الجرح الذي سيظل يصمه طوال حياته. أو كما يقول نيتشه : ما لا يقتلك، يجعلك أقوى. 


Monday, August 2, 2010

ليه يا بنفسج



 لماذا، هيباشيا السكندرية، هي الفيلسوف الوحيد في لوحة (مدرسة أثينة) الذي ينظر للمُشاهِد مباشرة ؟
لا أعرف.
هنالك شخصية أخرى تنظر لنا مباشرة حين مطالعة هذه اللوحة، وهي الرسام نفسه، رافايل في أقصى اليمين. وكلاهما له الوضعية ذاتها، والنظرة ذاتها، يقفان متقابلين، رافايل أقصى يمين الناظر، وهيباشيا أقصى يساره، والناظر من بُعد سوف يحسّ أن الاثنين معاً متحالفان على شيء ما.  عدا ذاك، كل الفلاسفة تقريباً، وكلهم من الرجال، لا ينظرون لنا.

باعتبار هيباشيا (شهيدة) للفلسفة، أو، بتعبير آخر، للمنطق والعقلانية. ولو أخذنا لفظة شهيد/ شاهد، وهي بنفس المعنى كذلك في أصلها اليوناني (mártys)، هيباشيا في اللوحة (شاهدة) على المنظر، على مدرسة أثينا، وعلى الفلسفة الغربية عموماً.
تختلف شهادة هيباشيا عن شهادة سقراط، سقراط حوكم محاكمة شرعية، وقد تُعتبر عادلة، ولأن المحاكمة كانت قانونية، شرعية وعادلة وتتفق مع الارادة الشعبية، في نظر سقراط، فقط أذعن لقرارها وشرب السمّ بنفسه. الملابسات والوقائع (المتحضرة/المتمدينة) لاستشهاد سقراط تختلف عن وقائع استشهاد هيباشيا التي كانت حادثة شديدة البربرية، في مدينة بربرية، أثينا التي تقع في قلب العالم الاغريقي، قلب السكولائية، العقلانية والمنطق. والغرب، في مقابل الاسكندرية، المدينة المحدثة، في أثينة هنالك الديموقراطية، بينما يحكم اسكندرية ملوك متوارثون، وفي الاسكندرية هنالك التيه والتخالط والتخبط الثقافي، والضحالة الفلسفية. في حين مثلت أثينة للعالم الغربي ذروة الانتاج الفلسفي وتناغم الغرب.


دم سقراط لم يُهدر، ومن بعده أتى أفلاطون، الذي، بحسب روايته لمحاكمة سقراط، تلقى منه الحكمة همساً، وسار على النهج السقراطي في محاوراته المنطقية، ومن بعد أفلاطون أتى أرسطو الذي أرسى بشكل نهائي وكامل العادة المنطقية السقراطية، ومن بعد أرسطو هنالك ديوجين وزينون وأبيقور وغيرهم.
بالنسبة لهيباشيا، فإن حادثة موتها سجّلت تقريباً (نهاية التنوير الهيللينستي)، وفي القرن ذاته يصدر مرسوم امبراطوري بتأثير من الكنيسة وبابا روما باغلاق كافة مدارس الفلسفة. ويمكننا أن نقول: هيباشيا هي آخر فيلسوف غربي. قبل العصور المظلمة.

دم هيباشيا الذي أهُدر في مدينة موحشة وبربرية ربما يعدّ تفسيراً لنظرتها (الدائنة)، رافايل، كي يتمكن من اقحام هذه الشخصية التي لم تزل الكنيسة في أيامه تعتبرها وثنية، وخارج نطاق (المسموح) به فلسفياً، فهو يعطيها وجه فرانسيسكو ماريا ديللا روفير، وإن كان رافايل يقصد بهذه الحركة اتقاء شر الرقيب الديني. ففي طريقته لرسمها، مواجهة للناظر مباشرة، نظرة قوية ودائنة، ربما كان يقصد ادانة مباشرة لمن يعتبرهم ملطخين بدم هيباشيا.


والنظرة العارفة أو الحكيمة التي لوجهها قد تذكرنا بنظرة الموناليزا، وهنا قد نذكر التأثيرات النهضوية، في حين كان لدانتي بياتريس الملهمة، والموناليزا لدافنشي. لا يغفل رافايل عن جعل تصويره لهيباشيا كذلك يقع في اطار (الملهمة) التي هيمنت على الذوق والفن النهضوي الذي أراد استعادة جماليات الإغريق. مثلما ذكرنا بشأن وضعيّتهما كمتقابلين، فإن هيباشيا هي الوحيدة التي تنظر للمشاهد، وكأنها تعرف بوجوده، مثلما يعرف الرسّام بوجود من سيشاهد عمله، وهي في هذا، في وجودها وتصويرها هكذا كأنما تعرف شيئاً لا يعرفه بقية الفلاسفة باللوحة.

Sunday, August 1, 2010

ابن الإنسان



إننا نظن أن القسوة والعنف والعبودية، والخطر في الزقاق، والقلب، والسرية والرواقية، وفن التجريب والتعويذ على أنواعه، وكل شر مرعب ومستبد، وكل ما يشبه الأفاعي والضواري في الإنسان، يصلح جيداً، شأنه شأن ضده، لإعلاء النوع المسمّى : إنسان 
نيتشه - ما وراء الخير والشر

رفض نيتشه (جرمانيته)، وبرّأ نفسه من أية دماء "سيئة"، يقصد بها، الدماء الجرمانية خصوصاً، ثم ربط اسم عائلته بنبلاء بولنديين، في مواضع أخرى يشدد نيتشه، بفخر، على أصوله البولندية، وقد تخلّى عن جنسيته (البروسية) حين ذهب للعيش والدراسة والتدريس ببازل. وبقى إلى آخر حياته (بلا جنسية).

في مواضع أخرى يعارض نيتشه (الوطنية الألمانية)، ويقف موقف الرفض تجاه النزعات (المعادية للسامية) والتي وصلت إلى مداها (هي والوطنية الألمانية) في عصره. وفي هذا يؤدي دوره الأخلاقي كمنارة فكرية وفنية، حين يكون بوصلة بشرية للخير أو الصواب العام. 

هنالك شبه اتفاق أن نيتشه فضّل الثقافة الفرنسية على الألمانية.
لكن لماذا ؟
من الناحية الفلسفية فإن الثقافة الألمانية تُظهر تنوعاً وعمقاً وثراء فلسفي أو عقلاني أكثر من غيرها، بينما كانت فرنسا تجنح تحت نوع من (الموضة) الجمالية/الصحافية/الأدبية، وإن تكلم نيتشه عن الجميع بسوء (من بينهم، كانط، جون ميل، وسبينوزا)، فهو يظل معجباً بأشخاص غير (جرمانيين) أمثال ديستويفسكي الروسي (السلافي)، وبروير الفرنسي.


نيتشه يرفض ألمانيته لكنه في الحقيقة (بوق- مثل البوق الكبير في الأساطير النوردية) للثقافة الجرمانية، بل يفرد أكثر من ٣٠ صفحة في كتابه (أفول الأصنام) لبيان الفضائل الجرمانية القديمة والتحسّر على الحال (الألماني) الجديد، الخائر المرتكن إلى الجماليات الموسيقية. وفي الواقع، ينتقد نيتشه الوطنية الألمانية في عصره أو ذوبان الأفراد الألمان في الدولة، على حد قوله (الثقافة كانت دائماً نقيض للسياسة)، ولهذا يثني على فرنسا فردية شعبها، وهناك كل فرد مهتم بثقافته الذاتية. لكن مشكلة نيتشه أنه لا يخرج من قفص الخطاب الشعبوي الألماني، مثل من سبقوه، فهو يبدأ قائلاً: الألمان كانوا وكانوا، وبهذا الشكل يضطر الفرد الألماني دائماً أن يكتسب فردانية هي بالأساس مستمدة من صفات قومه، وتصير الفردانية وقتها محل شكّ.

الأساسي في فلسفة نيتشه أنه كان يبحث عن الإنسان ولا شيء غيره. الإنسان الذي لا امتداد له ولا مرجعية. نيتشه، فيلسوف بلا أي تبطينات صوفية أو رومانتيكية أو وطنية أو سياسية  هو ظاهرة فريدة في حد ذاتها إلى درجة اخراجه تماماً من تصنيف فيلسوف، ومعاملته كأديب أو مثقف.

لكن رؤية نيتشه الأخلاقية (اللا-أخلاقية) ترمي به في أحضان الفلسفة مجدداً، والأصيل في فلسفة نيتشه اعادة تعريفه للخير والشر في حدود إنسانية متطرفة، وحين نقول إنسانية متطرفة فنحن نقصد الشكل الإنساني المُحرر من التاريخ، الماضي، الدنيا، الآخرة، المجتمع، الوطن، الطبيعة، الأرض، الكون، حين نتأمل نيتشه ونرفض كونه فيلسوفاً فهذا لأنه (فيلسوف تائه) أو (الابن الضال للإنسان)، خلاف الشكل المعتاد للتنظيرات الفلسفية نيتشه لا يتناول الأصوال/الجذور، لا يحلل التاريخ والأخلاق، لا يخرج من الأرض إلى الحجارة، أو (من الكهف إلى المجتمع)، بل يبدأ كتابه (هكذا تكلم زرادشت) بإنسان على قمة جبل. أو نسر محلق.

حسب نيتشه، هنالك نوعين من الأخلاق، أخلاق أسياد وأخلاق عبيد، ومن هذا أتي الخير والشر، الخير بالنسبة للأسياد : المجد، المكانة، القوة، الثراء، الصحة، الجمال، الخ. وما عداه فقط هو الشر. بالنسبة للمرجعية الفردية للإنسان الواحد (الفرد).

حين يتلبّس العبيد الحضارة الإنسانية الحديثة تصبح أخلاق مثل : الزهد- التواضع- الفقر- الشفقة- التضحية- رعاية المرضى- احترام الكبار، الخ الخ. هي الخير، يريد نيتشه أن يقول: هي أخلاق عبيد، لأن العبيد الضعفاء، شديدي الضعة، عجزة ومرضى، جعلوا منها خيراً مطلقاً.

في كلامه هجوم على الثقافة المسيحية - اليهودية، التي شكّلت أوروبا مذ القرن الثاني بعد الميلاد وحتى الآن. الثقافة المسيحية -الرومانية أصلاً خرجت من روما في شكل بعثات تبشيرية إلى الأراضي الشمالية، وما كان يفصلها عن بربر الشمال هؤلاء (الجرمان) هو حدود خط (ليماس)، أو خط السيادة الرومانية القديم، وتقف أوروبا في القرون الميلادية الأولى، كأرض شاسعة بلا هوية واحدة (لا أوروبا)، إنما روما في مواجهة بربر الشمال. والطريف أنه بعد الاصلاح البروتستانتي، يُعاد تشكيل الثقافة الدينية في هذه القارة ليصبح من جديد، كل ما هو خارج خط ليماس بروتستانتي، ويبقى العالم الروماني القديم كاثوليكياً.

الاصلاح البروتستانتي حرر البشر من الأخلاق-الثقافة الكاثوليكية الرومية، والتي تختلف حتماً عن الثقافات الجرمانية ـالقديم منها والوثني)، وحتى القبائل البربرية (من قوط وجرمان وهون وآنغلو-ساكسون) قبل الاتحاد النهائي مع روما كانت تدين بالآريوسية (التي يصنّفها الفاتيكان كهرطقة). الأجزاء العليا من أوروبا واجهت صعوبات أبدية في التوحد مع الجنوب الروماني-الاغريقي. حتى الاغريق واجهوا صعوبة في التوحد مع الجنوب الروماني-الآيبيري، وهناك من المؤرخين من يعلق ساخراً، أن القسطنطينية قبلت السقوط في يد الأتراك. على ألا تتحد مع الكنيسة الرومانية.

وحين نقول أن المشكلة مبدئياً هي اللغة، فنحن من جديد نقول أن المشكلة هي الثقافة، أولاً وأخيراً. خرجت أول شرارة اصلاح بروتستانتي رسمي حين أعلن مارتن لوثر أنه سيترجم الإنجيل إلى الجرمانية. إن جرمانيا والآنغلو-ساسكون لديهم من العقد القديمة تجاه روما ما لديهم، إلى جانب الحرب الدائمة، موجات النهب من البربر التي توالت على روما ودمّرتها، ثم محاولات روما للغزو النظامي للشمال. إن نيتشه في كتاب (ما وراء الخير والشر) يشير بالفعل إلى الكاثوليكية كأصل أو روح (عِرْقية)، فهي متأصلة في الجنوب الآيبيري أو الشمال الفرنسي مهما تنصّل منها مفكرو هذه الأراضي، بينما الشمال البربري (ويؤكد نيتشه- نعم، الألمان بربر بلا شك)، كل تلك الكثلثكة غريبة عليه. وأي محاولة للهرطقة (آكا: الخروج عن الكثلكة)، هي بلا شك عودة للأصل البربري. (المجيد؟).

ترجمة الإنجيل للجرمانية ربما تعد محاولة غير واعية لاستعادة إرث وطني. تحولت هذه إلى سياسة وعنف حين اندلعت حرب الثلاثين عام، وحين تبنى ملوك الشمال، والكلت (الإنجليز) البروتستانتية.

حين تحاول ألمانيا النازية استعادة الإرث النوردي، فإنها تعادي اليهود خصوصاً، ألمانيا النازية بتوجهاتها الفاشية، والوثنية أحياناً، وبغض النظر عن الأصول العِرْقية التطهيرية لمعاداة اليهود، فإن اليهود يمثلون للشمال النوردي شعب غريب قدم من أراض بعيدة، كما أن ديانته هي الأساس للمسيحية، التي كانت غريبة تماماً على الشمال البربري النوردي في القرون الأولى للميلاد.


الأفكار البروتستاتنتية (سواء لوثرية أو كالفينية) تسير جنباً إلى جنب مع التوجهات الجرمانية في القرن التاسع عشر. ومارتن لوثر حين ينفي القداسة عن القديسين، ويلغي القداسة عمّن يساعد الفقراء. أو المتسوّلين. أو يلغي مفهوم الخطيئة الأصلية، إلى جانب أفكار كالفين في هذا الشأن (الأخير ينفي حرية الاختيار، فكل خطيئة تُرتكب قد قُدّرتْ سلفاً- على حد كلامه، وفي هذا يوافقه نيتشه، الذي يدافع بهذه الحجّة عن الصيرورة الهيراقليطية)، إنما كان يمهد إلى عصر من التحرر أو التسامح الأوروبي، أو عصر تنويري يتبعه عصر وطني.

في هذه الأثناء كانت أوروبا (فكرياً) ممزقة بين اتجاهين، الاتجاه الفلسفي الروماني (الأفلاطونية المسيحية - الأفلاطونية الجديدة- التصوفية)، و الاتجاه الطبيعي، المادي، أو اعادة ارث الفلاسفة الاغريق ومن بينهم أبيقور.

خطورة الفكر الأبيقوري أنه يحرر معتقنيه من الخوف من الموت. فأبيقور، كان يرى أنه- بما أن الإنسان سيموت حتماً- فلا داعي للقلق، لأننا لن نكون موجودين حين نموت. إذن فليستمتع المرء بحياته.
حين نجد هجوم نيتشه على العالم الكاثوليكي غير مبرر، لأن الثقافة الرومانية (أو، الحضارة) لم تصل إلى ألمانيا فعلاً إلا كاثوليكية، والأبجدية الألمانية تستخدم الأحرف اللاتينية، إن الإرث الطويل من الروحانية - العقلانية التقشفية، إنما وضعت الأساس الفلسفي للرومانتيكية، ثم العقلانية الألمانية -فيما بعد- بلا شك. قد نبالغ لو قلنا أن روما (سواء وثنية أو كاثوليكية) قدّ أرادت أن تعلّم أوروبا التفكير. إلا أن أوروبا بلا شك بدأت تفكّر -مستقلة- في ظل الموجات التبشيرية.
نيتشه متأثر بعمق بالإرث الاغريقي، بل أن ميوله وتوجهه الفلسفي محدد تماماً برؤى هيراقليطس والفلاسفة الآخرين ما قبل السقراطيين- نيتشه لا ينتهج الرواقية الأبيقورية فحسب، إنما كذلك يرفض الإرث الأخلاقي الذي تمت كثلكته لكل من (أرسطو - أفلاطون - أفلوطين)، ويعود إلى فلاسفة جسدوا الفردية أو المجد الاغريقي الهومري أمثال: فيثاغورث، إمبيدوقليس، هيراقليطس. الخ.

الآثار الهومرية واضحة في نيتشه، حين يرفض فكرة ميل الإنسان إلى (غريزة البقاء)، أو أن غريزة البقاء والحفاظ على الحياة ولو في أدنى صورها هي الهدف الأول للإنسان، بل يرى أن الإنسان، يبحث عن القوة. متكئاً في هذا على الصورة الهومرية للأبطال الإغريق، ويقول أن أحياناً، يضحي هؤلاء بحياتهم، لأجل أن يموتوا بمجد.

ومثلما رفض نيتشه التاريخ الأوروبي الكاثوليكي (١٢ قرن) من الضعة والتقشف والزهد، مثلما رفضه اللوثريون والكالفينيون.

يرفض نيتشه كذلك التصور المعتاد أن البشر يميليون إلى البحث عن السعادة والرضا، ملقياً بذلك أفكار (المنفعية) لتوماس ميل وراء ظهره. يمجد نيتشه الفردية، ويمجد التصور العام للخير بمقاييس فردية، أو : الأفراد الاستثنائيون، الرائعون، المثاليون، الأقوياء، الحسان، المفترض أن يتبعوا منهجاً أخلاقياً يحقق مصلحتهم، الخير هو مصلحة القوي. أو : هو القوة، المجد.

نيتشه شخصية فلكلورية جرمانية، والتاريخ النوردي (باحتفائه بمخلوقات عجيبة، واصراره على أن العالم قبل الإنسان كان يعيش به إما عماليق أو أقزام). يحمل نيتشه معه الرؤى التعسفية الجرمانية للعالم والتاريخ، ويطعّم بها التاريخ الاغريقي الذي هو أعمق بكثر من كلمة (المجد المجد المجد). الاغريق بعواطفهم القوية، الدراما، الشعر، المسرح، الرومانتيكية، الحب، الصداقة، التضحية، الزهد، تصوفية (أورفيوس)، ضعة ديوجين وتقشف الفيثاغورثيين. تاريخ أعمق بكثير من الرؤية النيتشوية. وإن كان نيتشه يرى نفسه اغريقياً مثالياً، فهو (فيلسوف - صلف - ومنفي للأبد مثل عوليس). إن الاستقراء التاريخي المتأخر للاغريق جاء مغلوطاً ومبنياً على هلاوس وضلالات هيللنستية، فالمرحلة الهيللنستية، حين صار الإنسان هو المرجعية الوحيدة (المرحلة التي تلت الإسكندر الأكبر، والإسكندر الأكبر - كأنه شخصية فلكلورية اغريقية، قد يجسد بالنسبة لنيتشه أفكاره عن السوبر-مان). أو، مجرد ترديد كلمة : المجد، المجد، بهوس محموم (إنما هذه أيضاً عادة رومانية يوليوسية- أوغسطية).

يتوازى نيتشه مع شخصيات فلكلورية جرمانية أخرى مثل فاوست، وهذا التقارب أفضل ما يكون، في هذا الجزء من الدراما الفاوستية (لغوته)، حين يطلب فاوست من الشيطان أن يقتله مباشرة إن هو أحس (بالرضا : السعادة البشرية الضعّة -طمأنينة النفس على حد تعبير نيتشه) في أية فترة من حياته.
فاوت، العالم، اللاهوتي والخيميائي الذي سلّم حياته كاملة للعقل والمنطق والعلم، إنما يصل إلى حائط سدّ معرفي، فهو يفقد المعنى في كل هذا، ويذكرني هذا بدعاوي نيتشه ضد العقلانية السقراطية أو الفضيلة المعرفية، التي -بحسب المسيحيين الطومائيين، وغيرهم- درب السعادة، فاوست يسقط في سعادات غرائزية، تماماً مثلما يخلص نيتشه في كتابه (أفول الأصنام) إلى رفض الطبيعة (السامية) للسعادة الروحانية النورانية في الفكر الطومائي، ويقول أن الغرائز هي السعادة.
نيتشه- ممزقاً بين القمة الإنسانية للنسر المجيد، وبين (هاويته) التي يخاف التحديق بها، إنما يتيه، التيه النيتشوي ينتهي بعودة الفيلسوف إلى الكهف، حين ظل الفيلسوف يمشي- زاحفاً، خارجاً من الكهف إلى المجتمع، مذ أفلاطون. يترك نيتشه (الأخلاق بمعناها المعتاد) للمجتمع، ويعود للكهف بارادته. وكتب نيتشه الفلسفية تفتقر تماماً إلى أي تصور إنساني جماعي، وأوضح هذه الكتب هي عبارة عن محاورات بين فردين (رزادشت يحاور نيتشه). رغم ملحوظته في بداية الكتاب: هذا الكتاب للمجتمع لا للفرد.
نيتشه بدعوته إلى الفردية (الذاتية) الأخلاقية إنما يجسّد التصوّر الفرويدي للشخصية (الطفولية)، فيقول فرويد، كما يقتبسه (كولن ولسن) في كتاب (التاريخ الاجرامي للجنس البشري): اعط لطفل ما القوة، وسوف يدمر العالم. 


والعبارة اشارة لأنانية الطفل، يستخدم ولسن هذا الاستشهاد ليرمي به شخصيات الزعماء أو الاستبداديين (ولا بد أنه يلمّح لهتلر مثلاً). 
نقطة أخرى بخصوص العقلية أو السيكولوجية الطفولية هي أنها سيكولوجية الإنسان البدائي أو البربري، فهذا إنما يرى كل العالم امتداد لذاته، وفي الفكر البدائي يختلط الواقع بالخيال أو الأحلام، كما لا يتخيل هذا الإنسان البدائي أنه سيموت. والموت بالنسبة له شيء يحدث لغيره من المخلوقات. 
إن أطروحة نيتشه في الفردية والإنسان الأعلى (السوبر-مان)، رغم ما توحي به من الميل للتفوق (آكا: الحضارة، التمدن، نبذ العبيد)، هي في باطنها ميول بربرية أو بدائية بما تعنيه من الغاء الغير، حتى لو بحجة أنه ضعيف - دع حجة أن مصلحة الغير تتعارض مع مصلحة الأنا، ويساوي في ذلك اشاراته في كتاب (أفول الأصنام) إلى عملية (تدجين) الحيوان الأشقر الجميل، يقصد الجرماني، من قبل الكنيسة القروسطية



Saturday, July 24, 2010

Inception (2010)


 
بدا أن عاميّ (٢٠٠٩ -٢٠١٠) شهدا ظاهرة سينمائية فريدة، (مشاريع العشر سنوات)، لعدد من المخرجين الكبار، مشروع كينتين تارانتينو , مشروع جيمس كاميرون (آفاتار)، مشروع كريستوفر نولان (موضوع حديثنا). الخ 
حكاية مشاريع العشر سنوات هذه بها شيء، الفيلم غالباً، وإن كان آية في الابهار البصري، يخرج أجوف وسطحياً علي المستوى الدرامي أو العاطفي، فلا يوجد أي كثافة أو (شدة) في أداء الممثلين، خلاف أفلام التسعينيات حين كان يجاهد المخرج والممثل لابهار المشاهد بلا تأثيرات بصرية، كان هنالك ابداع غرائبي في السيناريو (مثل، نادي القتال)، أو في لعبة الظلال والنور وأداء الممثل (من منا لا يذكر طريقة حديث د.ليكتر، في صمت الحملان). وأظن أن هذا ما سيذهب إليه الجميع، حين الحديث عن سطحية الأفلام الألفينية.

هنالك ظاهرة أخرى تهمنا، وهي حمّي نولان الصيفية، الحمى لاحظتها أول مرة من سنتين مع فيلم (دارك نايت) الذي نزل في الوقت نفسه من العام، ثم تصدر قائمة
(آي.إم.دي.بي) المبجلة، ينزل فيلم (إنسبشن) بدور العرض في ١٦ يوليو ليتصدر القائمة في غضون يومين، كما حدث بالضبط مع فيلم نولان السابق, قصة الفيلم باختصار عن (كوب - ليوناردو دي-كابريو)، الذي تم استئجاره من قبل منظمة منافسة، ليحصل على معلومات يحتفظ بها سايتو (كين واتانابي)، رجل الأعمال الثري، عن طريق ميكانيزم متطور، هو ورفيقه آرثر (جوزيف-غوردن ليفيت). في موضع آخر من الفيلم يُقال أن الجيش الأمريكي طوّر هذه الخاصية (الأحلام المشتركة)، وهو أن ينام عدد من الأشخاص المتصلين بجهاز يزوّدهم بمنومات من نوع خاص طوال فترة السبات، وفي أثنائها يمكن لهؤلاء أن يعبروا إلى أحلام بعضهم بعضاً، ويشاركوا في أحداثها، مهنة (كوب) تعتمد على ما يتيحه هذا الجهاز، فـ(كوب) خبير متمرس بعملية (الاستخلاص)، فهو يعدّ بيئة (مشاركة أحلام)، ثم يدخل إلى العقل الباطن للشخص المعني ليستخلص منه ما يرغب من معلومات مخفية، (سايتو)، الذي يأتي إليه (كوب) بغرض سرقة معلومات منه، يعرف أغراض كوب الحقيقية لكن يدعه لينفذ عملية استخلاص الأحلام، وهو ما يحدث خلال النصف ساعة الأولى من الفيلم، ونعرف أن كوب محترف تماماً لأنه يقوم بميكانيزم (الحلم داخل الحلم)، فهو، ينفذ عملية المشاركة في الأحلام على مستويين، أول مستوي في العقل الباطن لرفيقه (آرثر)، ثم المستوى الثاني في العقل الباطن لمهندس المجموعة، بهذه الطريقة يضمن كوب الترحال علي مستويات عميقة داخل العقل الباطن للشخص المستهدف (سايتو)، كما يضمن حالات الطواريء، لأن، الموت داخل الحلم يؤدي إلى الاستيقاظ. هكذا حين تطلق (مال -زوجة كوب المتوفية، والتي تظهر في عقله الباطن رغماً عنه لتفسد عليه الأحلام). النار على (آرثر) ليستيقظ من الحلم الأول، نجد أنفسنا في حلم شخص آخر من الفريق، دون أن نلاحظ في البدء، مع وهم أننا (استيقظنا)، لنكتشف أننا في حلم داخل حلم.

سايتو يُعجب بمهارة كوب ويسأله فيما بعد أن يقوم بمهمة، ليست استخلاص معلومات، إنما (زرع أفكار) داخل العقل الباطن لشخص ما، هو فيشر الابن، الوريث لسلسلة شركات تشتغل بقطاع الطاقة، وعمّا قريب سوف تتحول إلى وحش رأسمالي، وكي يحول (سايتو) دون هذا، يطلب من كوب أن يزرع داخل فيشر الابن فكرة : أن يفكك امبراطورية والده.

يكوّن كوب فريقه الخاص، من المهندسة (آرينداتي - إلين بيج)، والتي تقوم باعداد مشاهد وبناء الأحلام، إيمز (توم هاردي) ويبدو أن لهذا موهبة خاصة في التقمص والخداع، فهو قادر على تقمص شخصية (براوننغ- الأب الروحي لفيشر الابن، وعن طريقه ينجحون في زرع ما يرغبون من أفكار). ثم يوسف الكيميائي الذي يزودهم بمنوم قوي، يضمن أن يظل فيشر الابن مخدراً لعشر ساعات، ومشكلة هذا المخدر أن، في هذه الحالة، الموت داخل الحلم لا يعني الاستيقاظ، مثل الأحوال العادية، انما الدخول في حالة (ليمبو)، وهي الشبيهة بغيبوبة ملونة مليئة بالأحلام، وحين يستيقظ منها المرء، يفقد عقله.
(آرينداتي)، بوصفها مبتدئة، يساعدها (آرثر)، حين تعاني من عدم التفرقة بين الواقع والحلم، يقترح عليها آرثر أن تحتفظ بتميمة خاصة بها، تمسكها معها داخل الحلم، كما تمسكها في الواقع، وتكون هي الوحيدة العارفة بأبعادها، درجة لونها وصفاتها الفيزيقة، كيلا يخدعها أحد في حلم ما. تصنع (آرينداتي) بنفسها تميمة على شكل قطعة شطرنج، بينما ترافق تميمة (كوب) المميزة، النحلة الدوارة، كوب والمشاهدين بطول الفيلم.
نجاح كوب في الأمر يعني أن يضمن له سايتو أن يعود للولايات المتحدة الأمريكية، وفي بداية الفيلم نعرف أنه مهدد بالقبض عليه ومحاكمته هناك، ونظن أن السبب هو النشاط غير الشرعي لعملية (استخلاص المعلومات من أحلام الآخرين)، لكننا نعرف فيما بعد أنه متهم بقتل زوجته.

الفريق - بعد كثير من مشاهد العنف والآكشن، والصعوبات التي يواجهها داخل عقل فيشر الابن (الفريق- على غير المعتاد، سوف ينّفذ بيئة مشاركة أحلام ثلاثية المستوى)، ينجح في مهمته، ويعود كوب إلى وطنه.

الفيلم على مستوى من التعقيد لا بأس به، مما يجعلني أندهش، من مسألة الحمّى التي تدور حوله، كيف أعجب كل هذا العدد من الأشخاص؟ الذين غالباً لا تعجبهم أعمال أخرى على نفس الدرجة من التعقيد، أو أقل منها. الفيلم ليس أيقونياً. وأنت تشاهد الفيلم تشعر أن هذه اللعبة قد لُعبت عليك من قبل، وهذا صحيح، فمشهد (مجموعة من الأفراد النائمين، بينما عقولهم تلعب وتدور في مكان آخر، وهم يتشاركون في الأمر)، حدثت من قبل في فيلم (ماتريكس)، وماتريكس، بالنسبة لي، كلاسيكياً أكثر من (إنسبشن) ولا شك، والمشهد الدرامي الأيقوني الذي فيه يظهر مورفيوس بينما يعرض على نيو الاختيار بين الحبة الزرقاء و الحبة الحمراء، والكثير من الثيمات الأخرى الانسانية داخل الفيلم رغم تقشفه العاطفي، وابتعاده عن العالم المعتاد. أما فكرة الدوران داخل عقل أحدهم، ربما تم التعرض لها لكن بمعالجة مختلفة تماماً في فيلم (التجلّي الأزلي للعقل الماحي)، وبه بطلا الفيلم يركضان داخل عقل أحدهما (بينما هو نائم)، لانقاذ ذكرياته من الضياع. والفكرة ذاتها (الدوران داخل العقل) ربما ظهرت كذلك في أفلام أحدث، مثل (سيرك الدكتور برناسوس)، وفيها، الدكتور برناسوس ذو المخيلة الخارقة، يُدخل الناس إلى عالمه العقلي الخيالي الباهر، كي يحصل الشيطان على أرواحهم فيما بعد.


التالي هو محاولة لتقصّي أسباب نجاح فيلم نولان (إلى جانب العامل الرئيسي، الآكشن أو الاثارة الحركية)، رغم تعقيده -في رأيي- وعدم مناسبته لذوق الأغلبية، أو، يمكن اعتبارها، (روشتة) للمخرجين المتحمسين.

 
الموسيقى:

أول محاسن الفيلم هي الموسيقى، مذ المقطوعة التي تُعزف في الـ(دعاية المحمسة) أول ظهورها ديسمبر ٢٠٠٩. ثم الساوندتراك بأكمله الذي يشترك في صناعته هانز زيمر وآخرون، هذه اللعبة مكررة، بدأها كريستوفر نولان في أفلام باتمان، في فيلم (دارك نايت) أكثر ما حرّك حماسي وعواطفي أثناء المشاهدة كانت الموسيقى.

براعة نولان كـ(مخرج) تهيّئه ليستغل الموسيقى إلى أقصى درجة، الألحان السيمفونية التي صاحبت المشاهد كانت مختارة بعناية لشدّ المتلقي إلى حالة من التفاعل مع المشاهد، سواء كانت معقدة، سريعة الخطى، شديدة العنف، ولأن المخرج ،اذا كانت لديه قصة معقدة ومعالجة سينمائية أكثر تعقيداً، فهو يخاطر بفقدان المُشاهد في منتصف الفيلم، وعليه أن يلعب على وتر الموسيقى، والفيلم لن يقدم أي شيء يعجب المتلقي العادي، القصة معقدة، الفيلم خال من نواحي التفاعل أو التورط العاطفي المعتادة، فهي ليست قصة رومانسية، ليست كوميديا، وليست دراما عائلية. والحكاية ليس بها شيء يمكن أن يتماهى معه المتلقي،  كيف يمكن لهذا الفيلم أن يصعد إلى قمة التقييمات؟  الموسيقى كانت أحد العوامل.


الشلة :

ثلاثة أمريكان، إثنان انجليز، ياباني، عربي، وفرنسية. هنالك تباين وتنوع في الشخصيات، الأمر الذي جعل لهؤلاء صحبة ظريفة ومستحبة بطول الفيلم، والحوار/المواقف بينهم لم تخل من الطرافة، أفلام (الفريق)، خاصة حين تكون آكشن، تضمن عنصراً لا بأس به من تعاطف الجمهور، من قبيل التنوع والثراء الدرامي والسيكولوجي الذي يتيحه عدد كبير من الأشخاص يعملون معاً كفريق، هنالك أفلام آكشن تعتمد بشكل كامل على فكرة الفريق وما تبعثه من إثارة في نفوس المشاهدين، لأن الفريق، ولأنه يحوى عدداً من الشخصيات المتنافرة، المختلفة، المتصارعة، ولأن غالباً سوف تنشأ علاقات وحوارات من التفاهم بين هؤلاء، تضمن نجاحها، مثال: الرجال إكس، إتحاد السادة الخارقين، الخ. حين يرى المشاهد تطور علاقات التفاهم في الفريق (وغالباً، في هذه الأفلام، هنالك أعضاء في الفريق يجب اقناعهم بالانضمام- أعضاء عنيدون- أعضاء عدائيون-الخ)، وفي ذروة الفيلم تكون هنالك لحظة من التفاهم الجماعي بين كل العناصر المتصارعة، غالباً، لأجل الهدف السامي داخل الفيلم. هذا الشحن النفسي يهيّء المتلقي لتقبل أحداث الفيلم وغالباً- يشعر المتلقي أنه عضو في الفريق. وهي برأيي- أفلام تتيح للمتلقي أن يكون عضواً في الأحداث.


الحوار:

الحوار كان متواضعاً، وليس به عبارات رنانة كما كان الأمر في فيلم نولان السابق (ذا دارك نايت)، لكن, مع هذا, الحوار لا يخلو من الذكاء والبراعة، إلا في بعض الأحيان حين يتدخل الحوار ليشرح (ما يحدث)، في أول مشهد بالفيلم نحن ندرك أنهم (في حلم داخل حلم) لأننا نرى أعضاء الفريق نائمين في مكان آخر. (قطار). لكن الحوار لا يبخل على المشاهد بهذا التنوير، على لسان أحد الشخصيات: إنه حلم داخل حلم، رغم أن هذه الجملة خطرت لي (من قصيدة مستر. بو)، قبل أن تقال، واذا خطرت لي، فهي سوف تخطر لآخرين وبنفس التأثيرات الشعرية، ومستر.نولان يحرص بشدة على مشاهده (ضيق الخُلق- سريع الملل) لذا فهو يقدم اجابات جاهزة طول الوقت لمن يبحث عنها، والفيلم عموماً هو فيلم (اجابات)، ولأني أرى الأفلام غالباً نوعين، أفلام (أسئلة)، وأفلام (اجابات)، فيلمنا هذا من النوعية الثانية. هنالك في الحوار جُمل اعتبرتها (هُراء) أو حشو، بلا أي فائدة أو ذكاء، مثل ذاك الذي يُكرره كوب من وراء مال، (أنت في قطار، سوف تركب القطار رغم عدم معرفتك بوجهته، لأنك...الخ)، الغرض الوحيد من هذا الوصف هو الذريعة لمشهد المقطورة التي تقتحم الحلم الأول من الأحلام الثلاثة، (يعني، بيان إلى أي مدى مال خطرة).

الشر :

الفيلم بأبعاده الفكرية يركز على مسألة العاطفة المحرّكة للأحلام، والأحلام في الفيلم هي أكوان مبهرة ومحكمة جداً، لكن صناع الفيلم لا ينسون الجانب التحليلي/السيكولوجي، ويؤكدون علي أن ما يحرك العقل الباطن هو العاطفة، والسلاح الذي يستخدمه الفريق البطل، لزرع الفكرة المرغوبة في ذهن (فيشر الابن)، والتي تستند إلى عاطفة الابن تجاه الأب، هي ذاتها ما يهدد نجاح المهمة لأن هنالك (عاطفة) مدمرة ومؤلمة تجوس وتلهو في العقل الباطن لـ كوب (ليوناردو دي-كابريو)، وهي شعوره بالذنب تجاه زوجته المتوفية. والفيلم رغم (هيلمانه) البصري واعتماده بشكل مكثف علي الحركة/الآكشن. هنالك جانب سيكولوجي أو درامي ليس سيئاً، بطل الفيلم تمتصه وترهقه عاطفة سلبية، وهي تقريباً سبب دماره، رغم أن الفيلم لم يركز على الأمر، وغالباً، لن يلاحظ أغلب المشاهدين هذا.
تظهر العاطفة الخطرة لـ(كوب) كتجسيد لزوجته المنتحرة (مال)، لعبت دورها الفرنسية (ماريون كوتّيار)، ويمكننا اعتبارها (شرير) الفيلم، رغم أنها ليست شريراً بالمعنى المتعارف، ورغم أنه ليس هناك شرير بالفيلم بالمعنى المتعارف، مرة ثانية الفيلم مبني بشكل كبير على صخرة زاوية هي (العاطفة)، وليس الأخلاق، أو الصراع. (كوب) يرغب في العودة إلى وطنه ليشاهد ولديه، ولأجل هذا هو سيفعل أي شيء، سوف يخاطر بحياته وحياة الفريق في مهمة غير محمودة العواقب. مسألة الأساس العاطفي للفيلم تتيح للشخصيات كافة التحولات (الديستويفسكية)، (سايتو)، الثري الياباني الذي دخل في صراع مع الأبطال في بداية الفيلم يصبح ضمن الفريق، (فيشر الابن) رغم أنه الموجه له العنف (الفكري)، بتطور الفيلم، نكتشف أن هذا العنف الفكري قد يكون في مصلحته، في الواقع. أما (مال)، فهي حبيبة (كوب)، وليس الذنب فقط ما يبقيها كـ(عفريتة) داخل عقل (كوب)،إنما رغبته في أن يكون معها للأبد رغم أنها ميتة.
أداء (ماريون كوتيلارد) كان في المدى المقبول، وإن لم نر موهبة درامية عاتية (لأن الفيلم لم يتح لها هذا)، إلا أنها جعلت من الشخصية (فام فاتال)، بطراز خاص.

 
الدروس المستفادة:

يلعب الفيلم دوراً (تعليمياً) لا بأس به، خاصة بتقديمه لمسألة (الفكرة هي أخطر الطفيليات على الاطلاق، فهي تتكاثر كسرطان، قد تحدد هوية الشخص أو تدمره). إلى جانب تحليله لطبيعة الأحلام- ذاك العالم الغامض، هنالك معلومات ظريفة عن العقل الباطن، مثل مسألة العاطفة، والمشاهد التي يمشي بها اثنان، (في عقل) أحدهما، والحلم يدور في شارع، ثم
فجأة ينظر جميع المارة، الغرباء، في الشارع، داخل الحلم، إليهما، ومبرر هذا أن الأمر وسيلة دفاعية من عقل المستضيف، ضد الحالم الدخيل. أو، مسألة تأثير انعدام الجاذبية، بسبب السقوط الحر (ولنقل، مجموعة الحالمين حين يكونون داخل سيارة تسقط من جسر)، سوف تنعدم الجاذبية داخل أحلام هؤلاء، ويطيرون في الفراغ. وهذه المعلومات التي يتيحها الفيلم، رغم أن معظمها قد يُعتبر نوعاً من الهراء أو العلم الظريف، تُشعر المشاهد أن الفيلم في مستوى أعلى، بينما هو في مستوى منخفض، قد يمد المشاهد رأسه أكثر ليتماهى مع الفيلم، لكن هنالك فئة من المشاهدين، من اعتاد على الحصول على اجابات بطرق أسهل، سوف يغادر في منتصف الفيلم


تنوير/ذروة

في الفيلم، لحظة التنوير هي لحظة ذروة الأحداث، وفيها، بعدما يصاب (سايتو) بعيار ناري، ويصبح مهدداً بالموت داخل الحلم، اذن مهدد بالغيبوبة الأبدية خارجه، ينتقل الجميع إلى مستوى ثالث من الأحلام، وهناك يصاب كذلك (فيشر الابن)، ثم يموت،  يضطر الفريق إلى الدخول في مستوى رابع هو العقل الباطن لـ(كوب)، هناك سوف يلتقي بـ(مال)، التي قتلت (فيشر الابن)، ويجد فيشر حيّاً لديها، ومن هناك تجري عملية انعاشه بالصدمة الكهربية، والفكرة معقدة وهاوية اذا لم تُرى بصرياً، لكن حين يلتقي كوب بمال، نكتشف أن سبب شعوره بالذنب ليس وهمياً، فهما، مذ سنوات عديدة، اختارا أن يعيشا معاً كحالمين مشتركين، وهكذا، سوف يتقدمان في السن ضامنين حياة سعيدة أبدية، لكن داخل حلم، كل تفاصيله، مبانيه وعوالمه من صنع خيالهما، لكن (كوب) لم يستطع أن يكمل حياته بهذه الطريقة، لذا، (زرع) فكرة داخل عقل (مال)، (ومن هنا أتته خبرة زراعة الأفكار)، أن هذا العالم الذي تعيشه ليس حقيقياً وعليها أن تستيقظ بقتل نفسها، المؤسف أن هذه الفكرة تظل معها حتى بعد الاستيقاظ، مما يؤدي بها إلى الاعتقاد بأن العالم الحقيقي كذلك مزيف، وأن عليها الاستيقاظ بالانتحار.
وبعد أن يصفي كوب حساباته مع مال، ويعيد (فيشر) إلى الحياة، ينتقل إلى مستوى خامس، حيث ينقذ (سايتو)، حين يصير إلى حلم، يظهر به كغريق على شاطيء اليابان، وهناك يأخذوه إلى (سايتو) الذي يظهر عجوزاً جداً، ويبدو أن كوب يمارس معه في هذه اللحظة عملية زرع أفكار ولكن بطريقة ايجابية، فهو انما (يذكره) داخل عقله الباطن أنه ليس عجوزاً إنما لا يزال شاباً، وأنه يجب أن يستيقظ حالاً، وألا يتسرب إلى حالة الليمبو. وهو ما يحدث فعلاً في نهاية الفيلم السعيدة 

  

 لمسة نولان، أو سبّ الجمهور 
ما أقصده بلمسة نولان، هو الشيء الذي لم أجده في أفلامه الأخرى، عدا (ميمينتو)، وهو : مواجهة المشاهد لنفسه، في نهاية الفيلم غالباً، في فيلم ميمينتو نكتشف في النهاية أن البطل قد اختار الحقيقة التي يريد أن يؤمن بها، وألقى وراءه كل ما عداها، لأنه لن يستطيع التعايش مع ما عداها، (وذلك، اعتماداً على حالته من فقدان الذاكرة)، وطوال الفيلم نحن نتعايش مع سؤال الحقيقة، وما الحقيقة، وما الذي يجب أن يصدقه البطل. 
في (إنسبشن)، الفكرة المزعجة التي أدت بـ(مال، زوجة كوب) إلى الانتحار، هي أنها لم تعد تفرق بين الواقع والحلم، فهي صارت تؤمن أن ما تعيشه (الواقع، الذي نعيشه)، هو الحلم، وأنها يجب أن تستيقظ منه بقتل نفسها. في نهاية الفيلم، وبعد نجاح المهمة، وعودة كوب إلى دياره وولديه، تتوقف الكاميرا طويلاً على (تميمته) (النحلة الدوارة)، هذا المشهد يجعل المشاهدين في قاعة السينما يقولون : أوووووووه. لأنهم ظنوا أن - هكذا- كل ما مر كان حلماً. لكني لا أعتقد هذا، فهذه الفكرة حمقاء تماماً ومبالغ فيها. إنما المشاهد المعتاد على (قلبات) الأفلام الأمريكية يرغب في هذا لأنه يظن أنه (يا سلام- يا حلاوة) هذه هي قمة الروعة، أن نكتشف أننا انضحك علينا. في الحقيقة أنا لو اكتشفت أن فيلماً ما (يستهبل) معي إلى هذه الدرجة، ثم يكشف لي في النهاية أن كل ما فات كان حلماً، فسوف يسقط من نظري. لقد مشيت مع احتمال أن الفيلم بالفعل انتهى نهاية سعيدة بالنسبة لـ كوب، ونهاية غير سعيدة بالنسبة للمشاهدين، فقد تسرّبت لهم عدوى (مال)، ولم يعودوا يفرقون بين الواقع والحلم.

Saturday, July 17, 2010

الشرق الأقسى

في حين اهتم الجميع باليابان كبلد نظيف، متطور ومنظم، اهتممت أنا بنواحيه الأخرى، أعني، القبح والخرافة والفوضى، يملك اليابانيون ارثاً فلكلورياً من الرعب يكاد لا يماثله ارث آخر، قصص العفاريت الافريقية مثلاً، دموية في غالبها أو مادية، بربرية، قصص مصاصي الدماء والرجال الذئاب الأوروبية، أو حكايات الفلكلور الاسكندنافي الساذجة. كل تلك لم تستطع أن تقدم بديلاً يغلب الانتاج الياباني - أو حتى ينافسه سوقياً.

فترة الألفينات السينمائية -ما بعد ٢٠٠٠- هي فترة صعود السينما الآسيوية، مذ ظهور النسخة الأمريكية من  فيلم الرعب الياباني (الحلقة)، الفيلم الياباني أصلاً انتاج ١٩٩٨، والأمريكي ٢٠٠٢، فترة الألفينات فقط شهدت عملية أمركة مسعورة لأفلام رعب يابانية، نذكر منها، المياه السوداء، مكالمة واحدة فائتة، وطبعاً، الحقد، وحتى هنالك نوعية تعتبر غير فلكلورية نوعاً، فيلم تنبّؤ، الذي مثلته ساندرا بولوك. ولأني لا أملك أية خبرة في مجال ألعاب الفيديو اليابانية، لكني أعرف منها لعبة (التلّ الصامت) التي تحولت إلى فيلم رعب بنفس الاسم، رغم أن اللعبة أصلاً تدور في بيئة أمريكية، لكن مؤلفها ياباني. (وتبدو لي كنوعية رعب ياباني-مابعد القنبلة الذرية).
في حين تفوق اليابانيون بالرعب لدرجة ظهور تصنيف سينمائي في أمريكا اسمه (جي-رعب)، آكا: رعب ياباني. أرى أن الكوريين تفوقوا في تقديم النيو-نوار، الذي اضمحل تقريباً ولم يعد كما كان في فترة التسعينيات التي شهدت أربعة تحف خالدة من كلاسيكيات النيو-نوار : صمت الحملان - سبعة - ميمينتو - نادي الفتال.
يأتي المخرج الكوري الشهير، بارك-تشان-ووك، ويقدم عدداً من أفلام العنف قد يجدها البعض شديدة الدموية : أولد-بوي، و(التعاطف مع السيد-انتقام)، (التعاطف مع الآنسة-انتقام)، وغيرها، وكلها تُصنّف (آر) عن استحقاق..
ثم تحفة النيو-نوار الآسيوية : ذكريات جريمة. والتي في رأيي قد تنافس الانتاج الأمريكي التسعيني.

على ما يبدو، كي نعود إلى موضوعنا الرئيسي- اليابانيون يملكون رؤية (ارعاب) فريدة من نوعها، قصص الرعب اليابانية - رغم أنها- مثل كل قصص الرعب، غالباً تعبر عن العقل الباطن للفكر الجمعي الياباني، وأنها تنفيس لقلق هذا المجتمع، رغباته السرية أو خطاياه. إلا أن معالجة هذه القصص كي تناسب مسرح (الكابوكي)، جعلها ثرية درامياً، ومنقحة تقريباً من السذاجة الطفولية، أو الهستريا الشعبية، التي ميزت قصص الرعب الفلكلورية عند أمم أخرى.
الكابوكي مسرح ياباني (غنائي-راقص)، يعالج غالباً قصصاً مستوحاه من التراث الياباني، أو قصصاً مكتوبة خصيصاً للعرض، المصادر الموسوعية تذكر أن رواية وتأليف حكايات الرعب انتعشت بالذات في فترة (ميجي- منذ ١٨٦٨)، في هذه الفترة تم حظر نشاط طبقة الساموراي، كما أن اليابان صارت منفتحة أكثر على العالم - الغرب، ويبدو أن صانعي الكابوكي أرادوا جذب الطبقات المستنيرة، أو المرفهة، تم ادخال بعض حكايات الرعب اليابانية إلى مسرح كابوكي لتأديتها.

هنالك شيء ألاحظه في قصص الرعب اليابانية، لو بدأنا ملاحظاتنا من الأفلام، كل الأفلام تقريباً تدور حول، بطلة، في مواجهة عفريتة. في اليابان، هنالك (مخلوقات خارقة)، مذكورة في الموسوعات، بحسب أسمائها، وجدت عدداً كبيراً منها، مخلوقات نسائية بالأساس، ولا ينافس الأمر في فرادته، سوى النماذج الفريدة من مخلوقات هي عبارة عن عفاريت أطفال.

الآن، الجميع يعلم -ويتحدث- عن ذكورية التراث الياباني، (اليابان، بصلفها الامبراطوري، عقدة الشرف لدى جماعات الساموراي، وأديرة الرهبان البوذيين العدائيين). وذكورية اليابان كبلد حديث - مثله مثل ألمانيا- نعم، مفاجيء صح؟.
ويبدو لي- كفكرة طريفة- أن قصص الرعب الياباني هي تحوير لعقدة ذنب طريفة تؤرّق اليابان، بسبب العنف الموجه لليابانيات، وكذلك، بالتبعية، العنف الموجه لأطفالهن.
لكن، هنالك تفسير آخر، مسرح الكابوكي في أول ظهوره بالقرن السابع عشر تقريباً، ولأنه (راقص- غنائي)، كان كل الممثلين من الإناث. الأمر تمت معالجته في أزمنة تالية، تقريباً، حين أصبح الكابوكي واسع الشعبية وبدأت تحضره شخصيات محترمة من المجتمع، وُجد أن الأداء أصبح (جريئاً- قليلاً)، فتم جعل كافة الممثلين من الذكور.

لا أدري، هل الشخصية النسائية، المؤدية النسائية، هي الأكثر مناسبة لأداء- تمثيل- القصص، الأغنيات، الرقصات، التي غالباً قد تعتبر غير لائقة في نظر المجتمع، وبالتالي فإن الشخصية النسائية تناسب كذلك تأدية القصص المرعبة التي تعتبر طفولية - ساذجة - غير مقبولة بالنسبة للمجتمع.
هنالك شيء يميز بشدة قصص الرعب الياباني، وهي أن الرعب سيكولوجي، أغلب قصص الرعب تدور حول بشر تحوّلوا إلى عفاريت بسبب عواطفهم القوية، العواطف القوية تتنوع بين، الحزن الشديد، الغيرة، الانتقام، وحتى الحب، مسألة العاطفة هذه هي ما كنت أتحدث عنه حين ذكرت النضج الدرامي للانتاج الياباني من الرعب، لا أعرف، في قصص أخرى قد يمثل الوحش مثلاً شخصية جاذبة أو لعوب - مثل مصاص الدماء دراكيولا- وقد يتم تحويله إلى وحش رومانسي بعد حين. لكني لا أجد هذا النموذج الخلاق من الحزن المر، الرعب المر، والذي يجعل الأمر أكثر ترويعاً، وأكثر كآبة واثارة للانقباض.
مذ زمن حين شاهدت فيلم (التعاطف مع آنسة-انتقام)، هنالك جملة تتكرر في الفيلم : لا تبكي، البكاء يجلب الحظ السيء. بالنسبة لخلفيتي الثقافية - التي هي خليط من الشعرية العربية وجماليات الغرب، لم أفهم وجهة النظر الآسيوية هذه. إلا أني الآن بعد متابعة متأنية لقصص الرعب الياباني عرفت لماذا يخاف اليابانيون/الشرق الأقصى، من العواطف، فهي قد تكون مؤذية للغير.
هنالك عدد من القصص الفلكلورية منها ما تمت معالجته (كابوكياً)، ومنها ما لا أعرف اذا تمت معالجته مسرحياً أم لا. لكني بحثت عن قصص درامية شخصيتها الرئيسية رجل، ووجدت واحدة هي : آجاري جوان، (القصة طويلة ومليئة بالتفاصيل، نختصرها بشكل مُخلّ كالآتي) راهب بوذي، ياباني، من جبل (هاكّوتسو-سان : جبل الهيكل العظمي، أو العظام البيضاء)، يقع في حب فتاة، وهذا غير مسموح له، لذا، يتحول إلى (أوكوما: الكلمة اليابانية لعفريت أو شيطان)، ويدمر معبده، غالباً من الغلّ. وحين يتقدم في السن، يصلي من أجل الغفران، فيتحول إلى هيكل عظمي، وفي نسخة أخري من الحكاية، إنما هو يظل يصلي حتى يموت، وبعد أن يموت، وبعد أن يصير هيكلاً عظمياً، وللأبد يظل : الهيكل العظمي الذي يتمتم بالصلوات.
الآن، أقول لمؤلف هذه الحكاية: العب غيرها.

 
والحقيقة أن اليابانيين لعبوا غيرها، القصص التي أعجبتني فعلاً هي التالية، منها: قصة امرأة تتحول إلى أفعى-عفاريتية، بسبب الغلّ والحب المعذب من طرف واحد، والمرأة اسمها كيو، ابنة لعائلة ثرية (شواجي)، يطل منزلهم على نهر هيداكا، وهذه العائلة كانت تقدم المأوى للعابرين من الرهبان البوذيين. وفي يوم يأتي للبيت راهب بوذي وسيم اسمه آنجين، وتقوم علاقة رومانسية بين كيو وآنجين، لكن آنجين (يفيق)، ويغادر، على ضفة النهر يسأل ركوبة، ويقول لصاحب القارب ألا يسمح لكيو بعبور النهر (التي تبعته طبعاً). الآن. حين تسمعه كيو يقول هذا تجن، وتقفز وراءه في النهر. تقول الأسطورة : بسبب الغضب، الغلّ، آلام الحب، والشعور بقلة الحيلة، كل هذه المشاعر تحوّل كيو إلى أفعى عملاقة. تسبح بسرعة عاتية. وحين رأى المسكين آنجين هذا المنظر، ركض ليحتمي بمعبد دوجوجي، وهناك الرهبان خبأوه تحت جرس المعبد، يبدو أن المسكينة كيو شمّت رائحته، فالتفت بجسدها الأفعواني حول الجرس وهزته وضربته، ثم نفثت ناراً عظيمة، أذابت الجرس، وقتلت الراهب.

 

هنالك قصة الأشباح الشهيرة (يوتسويا)، أو قصة : أويوا وتاميا، العاطفة المحركة في هذه الحكاية هي الانتقام، أويوا (الجميلة جداً) كانت زوجة تاميا الساموراي، ويبدو أنها كانت ضحية مكيدة، امرأة رغبت في زوجها فبعثت لها (مستحضر تجميل)، في الحقيقة خدعة لتشويه وجهها، (بما أن الأخرى لن تنافس جمالها)، حين يتشوه وجه أويوا، يعلن زوجها عن رغبته في تركها، أويوا من الغضب تندفع إلى باب البيت ومعها السيف لكنها تسقط وتقتل نفسها بالخطأ، وحين يتزوج تاميا الساموراي من الأخرى، يبدو أن أويوا تتحول إلى عفريت نشط لتؤرق عيشة الاثنين. المسرحية طويلة ومرت بعدد من المعالجات، وهي مكونة من ٥ مشاهد مسرحية لأنها تم عرضها كابوكياً في ١٨٢٥.

 


هنالك مخلوق نسائي آخر هو (روكو-رو-كوبي)، عفاريت، لها القدرة الخارقة، غير المحدودة على استطالة رقابها، هي كائنات تتمتع بالشكل البشري في النهار، وتفعل فعلتها في الليل، تتراوح الأسطورة بين، أن هذه المخلوقات تطيل رقبتها في الليل، لارعاب الناس فقط أو التلصص عليهم، وأحياناً تقول الأسطورة أن هؤلاء يمتصون الدم.
 





  يوكي أونا، أو، إمرأة الثلج، هي شبح فتاة يظهر في الليالي الثلجية، غالباً، يقال أنه شبح لفتاة ماتت في البرد، الثلج. يقال أنها تقف في الثلج ببشرة شديدة الشحوب، ملابس بيضاء وطلاء شفاة أحمر. وتسأل العابرين أن يحملوا عنها (الطفل)، يبدو أنه طفل وهمي، وهي تقتلهم بهذه الطريقة، في نماذج أخرى من الأسطورة تظهر يوكي- أونا أكثر عنفاً، فهي تقتحم البيوت باعثة لموجة برد شديدة القوة، وتقتل الناس.


 




أطرف الحكايات (من ناحية الدلالة والرمز)، هي تلك التي تحكي عن مخلوقـ/ـة هي (فوتاكوتشي-أونا) أو، المرأة ذات الفمّين.  هذه المرأة تملك فماً عادياً في مقدمة وجهها، وفماً آخراً في مؤخرة رأسها، كامل تقريباً بأسنان ولسان وشفتين. والأمر راجع إلى عادة اليابانيات في الأكل القليل (ومن أسبابها غالباً أن رجال البيت يأكلون أولاً)، أو ربما (الآنوركسيا، بمقاييس حديثة؟)، والفم الزائد الذي يعبر عن الجوع المؤلم لهذه السيدة، أولاً يطالب بطعام، واذا لم تمنحه الطعام، فهو يبدأ بالـ(برطمة)، وازعاج السيدة الطيبة، ثم ينفرج ويسبب لها آلاماً رهيبة.




 


الحكاية الأكثر ارعاباً، لعدد من الأسباب، منها المعالجات الكثيرة التي طالتها، والتي كان بعضها في أزمنة حديثة نسبياً (السبعينيات)، ثم لأنها تعرض بشكل صريح ومباشر لقضية العنف. هي حكاية (كوتشيساكي-أونا)، المرأة مشقوقة الفم. تخبر بقصة امرأة، عشيقة أو زوجة لساموراي، يعلم الأخير بخيانتها له، (ويبدو أنه ضعيف الثقة بنفسه، لأنها جميلة جداً)، يشق فمها من الأذن للأذن، ويقول: من سيجدك جميلة الآن؟. بعد الحادث بزمن تنتشر اشاعات عن تجول شبح امرأة في الطرقات، تضع قناعاً واقياً على وجهها، ثم تروّع من تجده وتقتله، فهي تسأل : هل تجدني جميلة؟ وحين يجيب المسكين :نعم، تخلع قناعها وتقول: والآن؟. اذا قال لا، تقتله. واذا قال نعم، تطارده لبيته وتقتله هناك. يبدو أنه، لا خلاص من هذه المخلوقة. هذه الحكاية بالذات سببت هستريا شعبية وادعاءات بظهور هذه الشبح في الطرقات، ليلاً، وايذاءه للأطفال. 


الفلكلور الياباني مليء بقصص أخرى تتراوح وتزيد في مقدار الرعب، وهنالك اشارات كثيرة مثل: شبح سيدة عجوز أخُذ منها بيتها وحقلها، شبح سيدة عجوز يظهر ظله على الأبواب، شبح سيدة عجوز يسكن الأقبية.
أو، ذاك الشبح الشاعري: لطفل يلعق زيت المصابيح.




البارحة أمضيت وقتاً ليلياً مرعباً في القراءة السريعة لموسوعة عن الرعب الآسيوي، وأتتني أحلام لا بأس بها عن امرأة الثلج. لكن كل هذا لا يشفع جهلي أو عزوفي عن القراءة المستفيضة في الموضوع، ذو الدلالات الاجتماعية القوية.

Monday, July 5, 2010

المخلوقة الجميلة في الرداء الأبيض




شاهدت فيلم (آميلي) لأول مرة عام ٢٠٠٨، وبعدها عشتُ اعجاباً نقياً وحالماً بشخصية آميلي، وحسبتُ أني صرتُ أحب الشخصيات الطيبة في الأعمال الفنية، أفلام، مسلسلات، روايات. الخ
 

لست من محبّي الفيلم الأوفياء، السينما الفرنسية لا تقدّم لي شيئاً يرضيني، فهي تفتقر إلى اللمسة السوداوية (نيو نوار) التي تميز السينما الأمريكية في التسعينيات، ثم السينما الكورية، مثلاً.

عام ٢٠٠٨ شهد منحدراً في ذوقي، أولاً صار (غوليالمو دي باسكرفيل) الراهب التقي، العقلاني والعادل والخيّر بشكل مطلق، من رواية اسم الوردة، شخصيتي المفضلة في الأدب، ثم بدأت أنتبه إلى وجود (جاك شيبارد) المستحبّ في مسلسل  (لوست)، ثم انتبهت إلى شخصية الراهب (آليكس) في فيلم (آكل الخطايا). ثم عدت إلى الأصل، شخصية (كلاريس ستارلينغ) في فيلم صمت الحملان.


هذه التأملات جعلتني أفهم بالضبط ما الذي (بدأتُ) في البحث عنه في الإنسان عموماً، ولم أك أبحث عنه في السابق، في السابق تركت نفسي لُأعجب بالشخصيات الشريرة، (ليستات) من (لقاء مع مصاص الدماء) (الفيلم وليس الرواية)، ثم سكار من الأسد الملك، ثم وثم. الخ.

الحقيقة أن كل ما يميز الشخصيات هذه، غوليالم دي باسكرفيل، شيبارد، كلاريس، هو البراءة، قد كانت تعجبني البراءة وليست الطيبة، واحدة من الفوائد التي عادت عليّ من متابعة ثرثرة فانز كلود فروللو ورواية أحدب نوتردام على الويب، هو ملاحظاتهم العاطفية النيّرة التي لن أنتبه لها أبداً بنفسي، مثل: أن ازميرالدا ضحلة جداً، فشخصيتها لم تمر بأي نوع من التطور أو (التحول)، مثل شخصية كلود فروللو. الأمر ذاته يسري على (فيبَسْ) مثلاً، لكنه مختلف حتماً مع ازميرالدا، هنالك شيء : الشخصيات التي تمر بتنوير، يتلازم مع تنوير القاريء، أمثال: ديمتري كارامازوف، كلود فروللو، أو (شخصية الطفلة سكاوت فينتش من رواية أن تقتل عصفوراً محاكياً).
هي الشخصية التي - شخصياً- سوف أتعاطف معها وربما أتقمصها، البراءة التي تسري على شخصية ازميرالدا والممثَّلة في : عدم تأثرها، هي ليست (معرضة) لأي من حوادث الرواية بالكامل، الحوادث تدور حولها، ربما تؤثر بها عاطفياً، تتعسها، لكنها لا تشارك في أي منها، وفي الوقت ذاته لا تبذل جهداً لتغيير مجرى الأحداث، هي : لا تقتل فروللو مثلاً.

توصلت مؤخراً لأن شخصية (غوليالم دي باسكرفيل) ليست مبنية باحتراف، وأن امبرتو ايكو يفتقر للموهبة الدرامية، لكن مجدداً غوليالم هكذا يمثل البراءة، هو بريء وليس طيباً بالضرورة، الأحداث السيئة في الدير لم تدفعه للجنون، لم تجعله يتورط عاطفياً (آدزو يتورط عاطفياً، بينما يبقى غوليالم كالصخرة)، لم يغير غوليالم منهجه الفكري، ويشدد على (استخدام مبدأ شفرة أوكامي في التحليل المنطقي)، ليس خائفاً من برناردو غوي، لا يصدر أحكام شريرة، أو مضلَّلَة، حين يتحدث آدزو بسوء عن (الفتاة التي أحرقوها لعدد من التهم )، يشدد غوليالم عليه: إنها فتاة فقيرة، فتاة فقيرة وحسب
.


مثال آخر هو شخصية (كلاريس ستارلينغ)، وهي انعكاس مباشر لشخصية (آليس، من آليس في بلاد العجائب)، هي تجسد البراءة في أقوى أطوارها، في فيلم صمت الحملان، يعلق رئيس الشرطة قائلاً: كوني حذرة، أنت لا تريدين د.ليكتر داخل رأسك.
العبارة تنوه إلى كون د.ليكتر (مُشوِّه) للآخرين, هو لديه القدرة على (امتصاص) البراءة، مثلما يفعل مصاص الدماء مع كلوديا (لقاء مع مصاص الدماء)، يمتص البراءة أولاً من ضحاياه، ربما مثال على هذا شخصية (مايسون فيرغر) من جزء (هانيبال ٢٠٠١)، ونجد في حالته هذه أنه تشوه بالفعل وبسبب د.ليكتر، لماذا لا يحدث الأمر مع كلاريس ؟ لقد دخلت كلاريس إلى عرين الغول، وتكلمت معه، بل أنه لعب معها لعبة عقلية/نفسية، وخرجت منها، بل نظن أنها هي من غيّر د.ليكتر، بعد أن سمع حكايتها مع (الحملان)، وكيف أنقذت أحدهم، يربط بين انقاذها للحمل وبين هوسها بإنقاذ ضحايا القاتل المتسلسل، تظهر دموع طفيفة لا تكاد تُرى في عين د.ليكتر، ربما كان يفكر، هل هي حمل أم راعي ؟


كلاريس مزيج من الحمل والراعي، دور البريء ودور الحامي في الوقت ذاته، هذا يجعلها منيعة إلى أقصى درجة وقادرة على شد د.ليكتر إلى عالمها.
أربط بين كلاريس وآليس، كلاهما شجاع وبريء جداً، ولا يتأثر بـ(العالم المجنون) الذي يحيط به، فكما تمر كلاريس بكل المصاعب في فيلم (صمت الحملان)، تظل بريئة، كأنما هي كانت في حلم أو عالم وهمي (مثل آليس في بلاد العجائب)، لأن الحقيقة الوحيدة بالنسبة لها، والثابتة تماماً، هي براءتها.

هنالك خيط آخر سوف يخرج هذه المرة من آليس (طفلة التاسعة) إلى (بياتريس بورتيناري) طفلة التاسعة كذلك، حين يراها دانتي لأول مرة ويحوّلها إلى قديسة و(مفتاح الخلاص والتطهير) في عمله الدرامي الأشهر (الكوميديا).
مراحل الكوميديا الثلاث: الجحيم - المطهر - الفردوس، تعتبر مانيفيست لتحولات الشخصيات الروائية (غير البريئة)، في حين قد يمر د.ليكتر بالجحيم، المطهر، والخلاص، وكذلك كلود فروللو، و(وحوش أخرى)، لن يمر بهذا (غوليالم دي باسكرفيل مثلاً). والأهم، أنه في الكوميديا رغم أن بياتريس شخصية رئيسية فهي (تحلّق) فوق العمل الدرامي، هي موجودة على الدوام في فكر وذكر دانتي، لكنها ليست في الجحيم وليست في المطهر وتظهر أخيراً في الفردوس، لكن، رغم هذا، بشكل غير ملموس كذلك.

ربما لهذا هنالك ذكر لدانتي وكوميدياه وبياتريس في شكل أوبرا في (هانيبال). ربما كاسقاط على العلاقة بين د.ليكتر وكلاريس.
لا أدري، هل شخصية (بياتريكس كيدو) من فيلميّ (اقتل بيل)، تتقاطع مع بياتريس دانتي في مسألة (البراءة) القصوى، بياتريكس كيدو مختلفة عن كل هؤلاء، عن بياتريس وعن كلاريس، فهي (المنتقم)، هنالك تركيبة سيكولوجية معينة يجب أن يتمتع بها المنتقم كي يظل منتقماً طوال العمل الدرامي، هي بالطبع، عدم التأثر تماماً، بياتريكس لم تهتز عاطفياً طوال الجزئين، وحين وصلت أخيراً إلى بيل، الشرير الرئيسي، وتبيّن لها أنه ليس بهذا الشر، بل أنه من أنقذ ابنتها من الموت وربّاها، ويعرض عليها الصلح، بياتريكس لم تتخل عن قرارها القوي والجذري الذي بدأ مع دراما تارانتينو (بياتريكس سوف تقتل بيل)، إنها منيعة تماماً عن أي عاطفة، حتى إنها منيعة عن التسامح ، في المشهد الأخير حين تقتل بيل، يسألها بضعّة : لماذا لم تخبريني ؟
ترد: ربما لأني شخص سيء جداً، يعترض بيل: لستِ شخصاً سيئاً، أنتِ شخصي المفضل. ونلاحظ أنه يقول هذا، بعد أن قتلته، يقولها وهو يحتضر بسببها.




هنالك شخصيات (واصلة) بين هذا وهذا، أعتبر الواصلة من البراءة للشر هي شخصية الراهب (آليكس) في فيلم آكل الخطايا، فهو ممثل للبراءة كذلك، ملتزم بأداء الليتورجيا باللاتينية، يقوم بعملية طرد أرواح شريرة لفتاة ما (ولا يتأثر بالأمر)، يظل آليكس (منيع علي التأثر) حتى يحب الفتاة التي ساعدها والتي يقتلها (آكل الخطايا)، فيحترق آليكس من الحزن. ويقبل أن يصير آكل الخطايا الجديد
.

الشخصية التي تصل من البراءة إلى القوة/الخير، هي شخصية (سكاوت فينتش)، الطفلة الراوية/البطلة في رواية أن تقتل عصفوراً محاكياً، إنها تقوم بدور مثالي كشاهد على الأحداث المختلفة، السيئة والطيبة، دون أن تتأثر، لأنها طفلة، في حين يتأثر مثلاً أخوها الأكبر (جيم فينتش)، تظل سكاوت حتى تصل إلى (تنويرها) الشخصي في نهاية الرواية، حين تلتقي بـ(بو رادلي) الشاب الوحيد، المنعزل والمنبوذ والذي يظن به الأطفال أنه مسخ أو شرير، سكاوت تلتقي به وتخاطبه، وتعامله بلطف (ربما أول طفل على الاطلاق يعامله بلطف وبلا ريبة)، وتُظهر له أنهما يمكنهما أن يكونا أصدقاء، لأنها اكتشفت أنه مجرد شاب خجول وخائف، تصحبه يداً بيد إلى بيته (الذي كان كذلك مصدراً للرعب القوطي في الرواية)، في هذا المشهد تكون سكاوت قد نضجت درامياً، لقد غادرت دور البراءة، إلى دور الطيبة المطلقة، أو، من الحمل البريء إلى الراعي العادل.




Saturday, July 3, 2010

العلم الجذل


د.ايفا يوستن، طبيبة ومساعدة لد. روبرت ريتر، تقيس رأس امرأة غجرية. ألمانيا ١٩٣٨. وذلك لأجل مشروع (أرشيف الغجر) الذي تولى مسؤوليته د.ريتر.
د.ريتر طبيب ألماني مختص أساساً بعلم نفس الأطفال، وبدأ اهتمامه بـ(مشكلة الغجر في ألمانيا النازية)، تزامناً مع نظريته عن الميل الاجرامي، وجينات الجريمة التي تتوارث في الأفراد، أي أن السلوك الاجرامي يُوّرث، ولا يُكتسب بيئياً، بحسب نظرية ريتر.
هذه الدراسات قدمت حجة دامغة لمؤسسة (منع الجريمة/كريبو) في ألمانيا النازية لمطاردة الفئات الاجتماعية المنحرفة (الغجر والنيغرو)، على أساس عِرْقي، بوصفهم عِرْق فاسد - بناءاً على الأدلة العلمية، (الكريبو) عموماً كانت موجودة مذ القرن التاسع عشر، مؤسسة بوليس لمنع الجريمة وحماية المجتمع في كلا من ألمانيا والنمسا، وعند طلوع الحزب النازي تم ضمّها للجشتابو.

Monday, June 28, 2010

لوثة سرّانية





دوش وقت سحر از غصه نجاتم دادند 
واندر ان ظلمت شب اب حياتم داند

البيت الفارسي  للشاعر حافظ شيرازي، ترجمته العربية 

البارحة جئتم وقت السحر وأزلتم الغصة من قلبي 
وفي ظلمة الليل، شربت منكم إكسير الحياة


الحقيقة، بمجرد النظر إلى النسخة العربية أجد الكثير من الإيحاءات "السرّانية"، وبالمناسبة كان شيرازي شاعراً صوفياً، قد يكون سبب اختياره لـ(وقت السحر)، ما يعنيه وقت السحر بالنسبة للثقافة العربية والشرقية عموماً، وقد يكون سبب الاختيار أنه الأقرب إلى الفجر والأشد ظلمة كذلك من الليل.


الفجر - لو تحرّينا اللوثة السرّانية التي سوف نفسر بها البيت- مرحلة (تحول) من الليل إلى النهار، من الظلمات إلى النور، من الرصاص إلى الذهب، الخ، عموماً رمز الذهب في الخيمياء القديمة هو رمز الشمس في التنجيم. ولا أستطيع أن أتجاهل الخلفية التراثية للشاعر الفارسي الذي أتى من أرض زرداشتية كانت شائعة بها العقائد الثنوية (الهرطوقية).


عموماً، الشاعر في وقت السحر، الوقت الأشد ظلمة والأكثر قرباً كذلك إلى (التنوير)، المجد أو الخلاص، هذا يفسر لماذا يعاني من الغصة، الذي يعجبني أنه اختار للتعبير عن حالته اليائسة لفظاً يشير أصلاً إلى "طعم"، والأمر يعجبني بشكل شخصي بسبب رؤيتي لمسألة (الطعم)، أيّ طعم هو انعكاس بالضرورة للخبرة البشرية، كما قلت في موضع سابق، (الحكمة). التمييز، التذوق. (وللأمر ايحاءات أخرى لن تخفى على القاريء).


الغصة في القلب هي مرارة الخبرة البشرية القصوى، الألم، لذا يُقال أن رمز المعبود البابلي الوثني (نبو)، (المعرفة)، هو يعسوب، ربما للأمر علاقة بـ(لسعة) المعرفة.


سوف أتجاهل مؤقتاً لفظ (إكسير الحياة) في الشطر الثاني لأن الأمر بات مملاً.
ما يهمني هو الترجمة الإنجليزية التي وجدتها هنا

At the break of dawn from sorrows I was saved

In the dark night of the Soul, drank the elixir I craved.

لا أدري إذا كانت (تلفيقة/تلزيقة) من المترجم الانجليزي، أم أنه بالفعل، المعنى الفارسي الحرفي - للفظة ما، في الشطر الثاني- هو : الليلة الظلماء للروح، سوف أفترض أنها تلفيقة بالفعل لأني-أظن- أن المقابل لعبارة (الليلة الظلماء للروح) هو (ان ظلمت)؟
أرى أن البيت الفارسي عصيّ الفهم على الفرس أنفسهم، لكننا أمام ظاهرة طريفة، المترجم تقريباً (لفّق) مصطلح يكاد يعتبر (صوفياً) -من بيئة غربية- في بيت بمعان سرّانية (غير أكيدة) لشاعر متصوف شرقي.


الليلة الظلماء للروح، ظهرت كمصطلح لأول مرة بالأسبانية في قصيدة للمتصوف المسيحي الأسباني (خوان دو لاكروز)، والذي طُوّب قديساً، المصطلح يعني مرحلة من مراحل الحياة الروحية للمرء، يقع فيها فريسة للعزلة واليأس والنبذ، الجدير بالذكر أن ويكي الإنجليزية تُقصر المصطلح على التصوف المسيحي، وأنها حين تُدرج أمثلة من الشرق لا نجد بينها حافظ شيرازي.
كنت أقرأ ورقة بحثية*، وبها المؤلف -بحماسة- يثبت العلائق بين الكتابات التصوفية الأسبانية والعربية، ويخلص إلى تأثر الأسبان بالعرب.
ومثلاً، يُرفق الاقتباس التالي لابن عربي
"وذلك أن السراب يحسبه الظمآن ماء، وذلك لظمئه لولا ذلك ما حسبه ماء، لأن الماء موضع خاصته، فيلجأ إليه لكونه مطلوبه ومحبوبه، لما فيه من سر الحياة فإذا جاءه لم يجد شيئاً...... "
ثم يأخذ رمزية الماء ويربط بينها وبين أشعار لخوان دولا كروز يرفق بها رمز الماء، أذكر: "آه أيها النبع الكريستالي".
أتخيل الآن، إلى أي درجة سيهلل الباحث اذا وقع على هذا الاكتشاف: مفهوم (الليلة الظلماء للروح) الذي يعتبر أصيلاً وحكراً على التصوف المسيحي أصلاً مقتبس من شاعر فارسي- بالطبع، أساس كلامنا أن شيرازي عاش قبل خوان بزمن طويل.


الحقيقة أني لا أجد لأي هذا معنى، ولو حدث، ولو كان فعلاً هنالك تأثر، أشك كثيراً أن خوان دو لا كروز بالذات متأثر بالعرب، كما أن التصوف (الغربي عموماً) له جذور ضاربة في العمق، أبحاث مشابهة تشعرني أن أوروبا عرفت التصوف لتوها حين اختلطت بعرب الأندلس، كما أن هذا الوقت - على حافة النهضة - كان حفلاً صاخباً لشتى الميول السرّانية (من الغرب والشرق) وقد شارك اليهود في هذا الحفل  بكتاباتهم القبالية. 
الاحالات السرّانية في الفكر الغربي القديم موجودة مذ ديانة الأسرار (الأورفية)، مروراً بتعاليم فيثاغورث وجماعته الغامضة، ثم كل الفلاسفة الذين أخذوا العادة الصوفية/السرانية من أول إبيدوكليس وحتى أفلاطون (نذكر هنا الموقف الظريف، حين اقترب أفلاطون من سقراط المحتضر، والأخير يهمس في أذن الأول بالحكمة بدلاً من قولها علانية)، بعض الممارسات السرانية الشعبية كانت موجودة في الدولة الرومانية (جماعات ديونيسوس)، والتي تم حظرها -على ما أذكر- بسبب الممارسات المتطرفة/أعمال الجلد للمبتدئين..
حتى في علوم القرون الوسطى، يميل علماء العرب إلى الجانب الامبريقي والتحليل الطبيعي الجامد (الأرسطي)، في حين ينحرف علماء الغرب غالباً إلى الخيمياء، لكن هذا غير أكيد، نحن نتكلم عموماً بجهل (الانطباعيين).


 صارت لدي فكرة عامة أن كل الأشياء بدأت واختفت في كل الأماكن، والمسألة هي: في أي أماكن سوف تبقى لمدد أطول من أماكن أخرى، وهواة (التلزيق والتلفيق) سوف يخرجون بادعاءات ليس لها لزوم، مثل أن دانتي تأثر في كوميدياه برسائل الغفران للمعري، وأن جماعة الروزوكروزيون هي شكل غربي لجماعة اخوان الصفا، الخ
لا أجد مانعاً من أن يفعل الجميع الشيء ذاته وألا ينطوي هذا بالضرورة على تأثير متبادل، أخال أن فترة العصور الوسطى كانت (عجائبية) في تأثيراتها، وأن أي نشاط خرج فيها له علاقة (بالزمان)، وليس المكان.فقد كانت كلها أفكار/علوم/نكهات قروسطية، لا شرقية ولا غربية


---

*(بعض آثار التصوف الاسلامي في تصوف أسبانيا القرن السادس عشر -سليمان العطار)

Tuesday, June 22, 2010

ثرثرة فوق النيل


الـ(با)، الروح في المعتقد المصري القديم

ظل المصري القديم ينتظر الحصاد مذ ٣٠٠٠ ق.م وحتى الآن. نشاط الزراعة الذي تعوّد عليه كانت له آثاره السيكولوجية، أولاً ربّى لديه التمييز بين الأرض الخصبة والأرض اليباب، وقد عرفت حضارات أخرى قائمة على الزراعة هذا، لكن يبدو أن تأثير الأرض ومكانها ونوعها كان أقوى في الفكر الميثولوجي المصري، نظراً لوجود النيل، وجوده ربّى لدى المصري احساس بالقداسة، لأن النيل موجود هنا وليس موجود في مكان آخر، وربما لو وُجد في مكان آخر، فهو ليس نيلاً وإن كان سيدر الماء. تمييز النيل لدى المصري يبدأ بمنحه شخصية، صار بشخصية، ثم صار معبوداً باسم (حابي)، وهو ما يغيب تقريباِ في أغلب الحضارات الأخرى، في حين يكتسب (الماء) عموماً شخصيته لدى السومريين، باسم (انكي)، الا أن انكي شخصيته ووجوده لا يقتصران على كونه (ماء) فحسب، فهو أيضاً أشياء أخرى، بعكس حابي.  وفي حين تتمتع أنهار في الميثولوجيا اليونانية ببعض التمييز (مثل نهر النسيان، ونهر ستايكس، وكلها تفعل أي شيء آخر عدا الريّ)، أثر الارتباط بالمكان، الارتباط المرضي به، ظهر في الميثولوجيا، على حد علمي لا أجد في ميثولوجيا أخرى شخصيات مربوطة بالمكان بشكل خاص، (جغرافياً، حورس يحكم مصر العليا، التي هي في الجنوب، وسيث يحكم مصر السفلى، الشمال). هذه الظاهرة الجغرافية لا توجد في ميثولوجيا بلد آخر، عموماً، شعر المصري القديم أنه (لن يفلح)، اذا غادر الأرض التي يعيش بها، في حين أن هذا الاحساس منعدم تقريباً لدى الاغريق، مشاعر العائلة وأخلاقها قوية لدى المصريين القدماء، وبدأ الأدب يتحدث عن مواضيع طريفة، يتساءل كاتب مصري قديم، عن كيف يحتمل الآسيويون عيشتهم، ولا ينسى أن يشفق عليهم، هذه المشاعر الشوفينية المرتبطة بالأرض عموماً، وليس العِرْق، ظاهرة مبكراً في الأدب المصري القديم، في حين أنها ظهرت بشكل تحليلي، منطقي، (وعِرْقي)، لدى أرسطو مثلاً، الذي يرى أن الاغريق أفضل علماً من المصريين، لأن الأولين يفكّرون لأجل التفكير، بينما يفكر المصريون لأجل التطبيق العملي والبناء.


بالنسبة للإغريق، صحيح أنهم متصلّفون، وهو نوعية الصلف الحضاري التي تصيب حضارة رعوية لأنه رعوية، ولأنها متفوقة حربياً، وهي ذاتها الظاهرة التي عانت منها روما حين وقفت أمام بربر الشمال، الجرمان حضارتهم رعوية بدائية، ليس لديهم ما يخسرونه، بينما تقف روما أمامهم مرتعدة على حافة زوالها.


وأخلاق الاغريق أخلاق جنود، في حين نجد في آدابهم (الإلياذة) شجارات خشنة وطريفة، وشتائم، ربما لأن آدابهم ظهرت (بالطبع) متأخرة كثيراً عن الأدب المصري، ومتطورة درامياً عنه. فالأدب المصري لم يتعد النثر الأخلاقي، وأشياء من قبيل رسائل الفلاح الفصيح، الخ.




الميثولوجيا اليونانية التي وصلتنا عن طريق هسيود وهوميروس،  بها من التعقيد الدرامي الكثير، الذي يجعلها متقدمة بمراحل عن الميثولوجي المصري، وعموماً أي عمل فكري اغريقي سوف يتقدم على مثيله المصري، في الميثولوجيا المصرية الرمز بسيط وساذج، بشكل يشعرك أنها نابعة من العمق الشعبي الفلكلوري، وليست مجرد نتاج شاعر مترف شرب النبيذ وفي مزاج جيد.


والأمر ظاهر في أسطورة ايزيس وأوزوريس، والتي أفضلها لأنها تعبير عميق جداً عن الحزن، وهي كذلك تعبير عميق عن سيكولوجية الفلاح المصري البسيطة، ومبدأ: كل شيء سوف يكون على ما يرام، يقتل سيث أوزوريس، ويبعثر أعضاؤه (١٣ عضواً) في كل أنحاء مصر القديمة، ايزيس تلملمه من جديد، وحين يكتمل، فإنها تحلّق فوقه وقد تحولت الى حدأة.

هذا المشهد، لو تخيلناه في الطبيعة : غالباً مشاهد مثل تحليق زمرة نسور أو غربان، يبعث علي الكآبة لأنه يدلل على وجود جيفة، فهو مشهد موت طبيعي وأصيل، في الأسطورة هذا المشهد يتبعه (انبعاث) أوزوريس. ربما تعلّق المصري الشديد 
بمكانه، منحه طمأنينة تتلخص حول: لا     شيء سيضيع، لأن كل شيء هنا، هو ذاته مفهوم (دائرة الحياة)، الذي تستخدمه ديزني في فيلمها (الأسد الملك) حين تحاول حكي قصة أفريقية، ويبدو أن العناصر الميثولوجية الافريقية مشتركة.

الموت ليس مشكلة لدى المصري القديم، بعكس الاغريق مثلاً، الذين يسبب لهم الموت فزعاً، و يعني لهم الخراب غالباً، نفس المعنى لدى السومريين (نذكر هنا مأساة جلجامش حين يكتشف أنه فان)، ربما سوف أعود لسيكولوجية الزراعة مجدداً، أهمية الزراعة لدى المصري طورت لديه (تفهّم) نحو الأشياء الميتة التي ليست كذلك بالضرورة، وأعني هنا البذور، وما تعنيه من احتمالات الحياة، فالمصري ينتظر الحصاد، ويصبر طويلاً عليه، وهو غالباً يجد معنى لتعبه، طوّر هذا لديه احساساً بالطمأنينة تجاه الموت، تجعله يفضل الموت أحياناً لأن بعده جنة، (الافتنان بالموت) ميّز الحضارة المصرية القديمة، وأقرب مثال تلك القبور الضخمة، الأهرامات.
كما أن أسطورة أوزوريس هي الأسطورة الشعبية، وأوزوريس (المرتبط بالموت، وربما، بتحسّن الأحوال على المدى الطويل)، هو المفضل لدى المصري البسيط أو الفقير، في حين يفضّل الكهنة (آمون/بتاح) ويحتكرونه.

Friday, June 18, 2010

sapiō


الكلمة اللاتينية في العنوان، تعني طعم، مذاق، أو ذوق، واللّماحون الذين سوف يلاحظون علاقتها بكلمة : هيومو-سايبن، أي الانسان الحالي، وهو الانسان العاقل المُميّز.
تعرفت على الكلمة لأول مرة ربما في أحد كتب نيتشه، (أظن، الفلسفة في العصر المأساوي الاغريقي)، ترتبط الكلمة بالفلاسفة، الفيلسوف هو نوع مميز ومختلف من الفنانين، فهو الانسان ذو الذوق الحسن، ومجدداً سوف أعوّل علي اللماحين الذي سوف يلاحظون علاقة (سابيو)، بـ (صوفيا)، الحبيبة والعشيقة. أعني، الحكمة.


فكر العصر الكلاسيكي (مذ القرن السابع عشر وحتى مطلع القرن العشرين)، همّش الذوق، بأفكار آدم سميث الاقتصادية المتطرفة عن (العمل- العمل اليدوي- القوى العمالية)، يرى سميث أن قيمة السلع تتحدد بكمية العمل المبذول لانتاجها، ولا شيء آخر، يأتي من بعده مفكرون أكثر تطرفاً يهمّشون كذلك دور الأرض في العملية الانتاجية، (جون بيتس كلارك).


حتى أنا ذاتي صرت أهمّش الذوق، ولا أدري ما أهمية الناقد، بالمقارنة بأهمية العامل، وما أهمية الذوق، والاختيار، بجانب الانتاج المستمر الذي لا ينضب.


حين يقول جان باتيست ساي أن العرض يخلق الطلب المماثل له، فإن زمرة الكلاسيكيون الاقتصاديون يهمّشون الذوق الفردي أكثر فأكثر، فلا يوجد أي أهمية للطلب، أعني الاستهلاك، في الانتاج، أو في قرارات المنتجين، المهم هو العرض، الانتاج، والانتاج والانتاج بلا توقف.


في حكايتنا الطريفة هذه، تأتي الصدمة في الثلاثينيات، بأول كساد عالمي من نوعه، تتلخص أسبابه في الفائض الهائل من السلع، الذي لم يعد يساوي الطلب، تلاشت أرباح الرأسماليين، وملايين العمال عانوا من البطالة.


كينز يأتي ويعكس الأفكار الكلاسيكية ليعطي الطلب الأهمية القصوى، والطلب هو ما يخلق العرض، وأنا أعتبر الفكر الكينزي عودة لمفاهيم (السابيو/ الذوق)، كما أن لدي فكرة طريفة وهي أن شخص مثل (ايف سان لوران)* هو نتيجة مباشرة لوجود شخص مثل (كينز).


يتميز الفكر الكينزي ومن بعده الفكر الاقتصادي الحديث عموماً باعطاء الأهمية للفرد، وذوق الفرد لوحده منفصلاً عن ذوق الجماعة أو الشعوب، الواقع أن التقليعات الفاشيونية الغرائبية هي استجابة لذوق الأفراد، لا أجد تعبيراً (شعبياً) وفردياً في ذات الوقت، أفضل من الموضة، فهي لا تتطلب من ممارسها وجاهة فكرية كبيرة، وفي نفس الوقت فهي تميز الفرد عن غيره، لا شيء يميز الفرد عن غيره أكثر مما يرتديه.




قلت فيما سبق أن هنالك أشخاص بالغو الأهمية، ليس لأنهم منتجون نشطون، وليس لأن لهم انتاج ابداعي بالضرورة، بل لأن ذوقهم (حلو)، هذا يضعهم في القمة، وعلّقت بمثال، شخصية ميريل ستريب في فيلم (الشيطان يرتدي برادا)، ميراندا بريستلي
هؤلاء (الحكماء) ذوو الذوق المتطرف أو الجيد، يعملون عمل المشاعل في وسط (الوفرة) الانتاجية البربرية التي شوهت محددات الذوق.



في حوار بالفيلم، تخاطب (ميراندا بريستلي)، مساعدتها (آندي)، حين ضحكت الأخيرة من مبالغة زمرة السيدات المشتغلات بالموضة في التدقيق بالألوان والصنوف، تقول (بريستلي) أن هاته الكنزة الزرقاء التي ترتديها (آندي)، ليست مجرد كنزة زرقاء، وهذه الدرجة اللونية ليست مجرد أزرق، بل هي نتاج عملية تطور عريض لأذواق مجموعة كبيرة من الأشخاص المشتغلين بالموضة.




لم أتوقع أن يعجبني الفيلم لكنه أعجبني، بسبب أداء ميريل ستريب الطريف والرائع، ولم أتوقع أنني سوف أتحدث عن هذا الموضوع أبداً، لكن النتيجة التي وصلت لها طريفة، حين أبدأ من كلام الصلف نيتشه لأنتهي الى كلام الصلفة (ميراندا بريستلي). موضوع الذوق ومحدداته يشغلني، وربما أتكلم عنه باستفاضة في مناسبات أخرى، لكن الذوق البشري يمكننا اعتباره (دالة في التاريخ)، فكما كانت الثلاثينيات بداية للاهتمام بذوق الأفراد، مذ الستينيات بدأ الذوق الفردي يتطرف أكثر، وحتي الثمانينيات، مكوناً ما يعرف بظاهرة الجيل إكس (جيل حرب فييتنام وأزمات النفط) ، ويأتي بعده الجيل واي (جيل انهيار الاتحاد السوفيتي وجدار برلين وأفكار فوكوياما). تتلخص أفكاري الطريفة في الآتي: اذا كنت من الجيل واي، هنالك احتمال ضئيل جداً أن تعجبك أغاني مادونّا، في حين سوف تجد في نفسك الميل لتذوق أغاني (الليدي غاغا)، وعموماً، مهما تطور مستواك الفكري، فاذا كنت من الجيل إكس فسوف تميل الى روايات ديستويفسكي، بينما تمر عليك روايات امبرتو ايكو مرور الكرام، (وكذلك سلاسل هاري بوتر)، الجيل إكس منيع عليها


---
* لا أجد مانعاً من اضافة جيورجيو أرماني كذلك.

Thursday, June 17, 2010

ابتلاع المرارة بيسر


رسم غويا هذه اللوحة وحيداً بمنزله الريفي، بعدما ناله الصمم، من قبل كان التفسير المفضل لدي، أن غويا يشير بزحل الى أسبانيا، التي تأكل أبنائها، (في حرب أهلية غالباً)، ولم يك يعجبني أي تفسير آخر، مثلاً، أن اللوحة شخصانية، وأن غويا مر بمشاكل مع ابنه، ويبدو أنني قد أُخذت بالدور (الوطني) لـ غويا كفنان، غالباً لم أقع على فن يجسّد القضية الشعبية أو الوطنية ويعجبني، لكني أبقيت على غويا كـ فناني الوطني المفضل، ولم يعجبني أن يسقط من مقعده هذا، ورحت أفسّر كل لوحاته على هذا الأساس، ولأن -أصلاً- لوحتي المفضلة على الاطلاق هي (الثالث من مايو)، التي تُظهر لأول مرة كيف يمكن أن تكون ضحية الحرب، المسالمة، نقصد ذاك الرجل بالقميص الأبيض، الذي يرفع ذراعيه (بطريقة استشهادية)، كيف يمكن أن تضرب هذه الصورة على أوتار المقاومة، أقوى من أي قنبلة أو مدفع.



هكذا رحت أفسر كل لوحات غويا، أما وطنياً، سياسياً أو دينياً، بشكل ساذج، فـ كولوسس هو نابوليون، ولوحات الساحرات والأشباح نية غويا منها شد ذيل القط (الكنيسة/محاكم التفتيش).


لقد رفضت تماماً أن يكون للوحات غويا معنى شخصاني، رفضت أن يكون غويا مجرد انسان مذعور، مذعور من الحرب فيرسمها بلا أبعاد فكرية، مذعور من الساحرات، ومذعور من عفاريته وكوابيسه الشخصية. لقد رفضت الذعر، الرعب الذاتي الهستيري، لصالح العقل المضيء والسامي للفن.


زحل، الى جانب الأسطورة اليونانية، له معان (تنجيمية) قديمة، فهو يمثل الوحدة، واليأس، العزلة الاجبارية، الحرمان، الخوف، والأهم، أرذل، أرذل العمر. وبالنسبة للمراحل العمرية في التنجيم، فمثلاً كوكبة السرطان تمثل المرحلة الجنينية (الماء)، عُطارد : الطفولة، فينوس : البلوغ، مارس : العنفوان، جوبيتر: منتصف العمر، وزحل: أرذل العمر، (نلاحظ أن السن يتقدم كلما ابتعد الكوكب عن الشمس).


انتبهت للمرة الأولى، اليوم، -وهذا يعدّ محبطاً بالنسبة للوحة من مفضلاتي- أن غويا رسمها في أرذل عمره، وأنه غالباً مات بعدها بفترة قصيرة، وأنه بالفعل عانى مشكلة مع ابنه، ما يجعلها مختلفة عن لوحات أخرى تقدم الموضوع ذاته، كما قال الجميع، التعبير الاستثنائي لنظرة الجنون في عين زحل، وأنه يأكل رجلاً بالغاً وليس رضيعاً (هكذا فإن تمثيل غويا يخالف الأسطورة بسفور).

مثلاً، في لوحة بيتر روبينز لنفس الموضوع، زحل يأكل لحم رضيع بالفعل، بلا أي انفعالات (انسانية)، فهو يؤدي دوره الميثولوجي كما كُتب له، بينما لوحة غويا (ونظرة جنونها)، تعدّ تعبيراً انسانياً خالصاً، زحل هنا انسان وليس شخصية أوليمبية، وربما، زحل هنا هو انسان مذعور، مزقت الحرب روحه، عجوز، مصاب بالصمم ومرمي وحيداً في الظلام.
في الأسطورة، زحل بعدما تقدّم في السن، ضَعُف نظره، فصارت (أوبس) الأم تخدعه وتناوله حجارة ليأكلها، بدلاً من أبنائه، الذي كان يتوجس منهم أن يخرج واحد ويأخذ منه ملكه، هكذا فإن ما يودي بزُحل هو تقدمه في السن، وفقدانه قوة حواسه، والحال شبيه مع غويا، الذي فقد سمعه



اللوحات السوداء أعتبرها من أعظم ما أخرجته يد فنان، وبالنسبة لأسلوب الرسم، لاحظت أنه (يتدحرج) من تصوير رؤى واضحة مثل (لوحة سبت الساحرات)، ثم تزداد الرؤى في التغبّش والتضبب، كما في لوحات (رجال يقرؤون)، (امرأتان)، (رجل يأكل مع الموت)، (مشفى المجانين)، الخ



في هذه اللوحات المشاهد يجد صعوبة في تمييز الملامح الدقيقة للوجوه، لكن التعبيرات المرعبة، الجنونية واضحة، رأيي أن الرؤى الضبابية هذه، وان كان يمكننا أن نعزي سببها ربما لحالة غويا النفسية والعقلية المتدهورة، ارتجاف يديه بسبب السن، لكنها جعلت المشاهد (يتورط عاطفياً) مع اللوحات، فغالباً الرسم الفانتازي الذي يُعبر عنه بألوان جليّة ومشعة (كما في كارافاجيو مع الميدوزا)، (أو في لوحة الجاثوم)، المُشاهد ربما لا يتأثر كثيراً بالرعب لأنه واضح، فكما يكون : الفنان يرسمه بوضوح، لأن الفنان يراه بوضوح أمامه (في حالة الوعي)، انها اذن تخيلات الفنان الجليّة أكثر من اللازم، أو ربما هلاوسه، فكرة أن يتمكن المشاهد من التدقيق والملاحظة والمعاينة النقدية لهلاوس الفنان المرعبة، تجعله يعيش تجربة واعية - عقلانية- واقعية، المشاهد لا يتورط عاطفياً لأنه لا يزال واعياً لما يراه، بينما في لوحات غويا تبدو المشاهد كأنها تدور في الأحلام، أو ما يمكننا تسميته :
Nightmare Scenery
اللوحات السوداء تجسيد فني بارع للعقل الباطن، الذي ينحبس الانسان داخله، وحيداً وأصم، باختصار، اللوحات السوداء وجه باطني للانسان، وأى مُشاهدٌ لها سوف يبتلع مرارتها. بيسر.