Tuesday, June 22, 2010

ثرثرة فوق النيل


الـ(با)، الروح في المعتقد المصري القديم

ظل المصري القديم ينتظر الحصاد مذ ٣٠٠٠ ق.م وحتى الآن. نشاط الزراعة الذي تعوّد عليه كانت له آثاره السيكولوجية، أولاً ربّى لديه التمييز بين الأرض الخصبة والأرض اليباب، وقد عرفت حضارات أخرى قائمة على الزراعة هذا، لكن يبدو أن تأثير الأرض ومكانها ونوعها كان أقوى في الفكر الميثولوجي المصري، نظراً لوجود النيل، وجوده ربّى لدى المصري احساس بالقداسة، لأن النيل موجود هنا وليس موجود في مكان آخر، وربما لو وُجد في مكان آخر، فهو ليس نيلاً وإن كان سيدر الماء. تمييز النيل لدى المصري يبدأ بمنحه شخصية، صار بشخصية، ثم صار معبوداً باسم (حابي)، وهو ما يغيب تقريباِ في أغلب الحضارات الأخرى، في حين يكتسب (الماء) عموماً شخصيته لدى السومريين، باسم (انكي)، الا أن انكي شخصيته ووجوده لا يقتصران على كونه (ماء) فحسب، فهو أيضاً أشياء أخرى، بعكس حابي.  وفي حين تتمتع أنهار في الميثولوجيا اليونانية ببعض التمييز (مثل نهر النسيان، ونهر ستايكس، وكلها تفعل أي شيء آخر عدا الريّ)، أثر الارتباط بالمكان، الارتباط المرضي به، ظهر في الميثولوجيا، على حد علمي لا أجد في ميثولوجيا أخرى شخصيات مربوطة بالمكان بشكل خاص، (جغرافياً، حورس يحكم مصر العليا، التي هي في الجنوب، وسيث يحكم مصر السفلى، الشمال). هذه الظاهرة الجغرافية لا توجد في ميثولوجيا بلد آخر، عموماً، شعر المصري القديم أنه (لن يفلح)، اذا غادر الأرض التي يعيش بها، في حين أن هذا الاحساس منعدم تقريباً لدى الاغريق، مشاعر العائلة وأخلاقها قوية لدى المصريين القدماء، وبدأ الأدب يتحدث عن مواضيع طريفة، يتساءل كاتب مصري قديم، عن كيف يحتمل الآسيويون عيشتهم، ولا ينسى أن يشفق عليهم، هذه المشاعر الشوفينية المرتبطة بالأرض عموماً، وليس العِرْق، ظاهرة مبكراً في الأدب المصري القديم، في حين أنها ظهرت بشكل تحليلي، منطقي، (وعِرْقي)، لدى أرسطو مثلاً، الذي يرى أن الاغريق أفضل علماً من المصريين، لأن الأولين يفكّرون لأجل التفكير، بينما يفكر المصريون لأجل التطبيق العملي والبناء.


بالنسبة للإغريق، صحيح أنهم متصلّفون، وهو نوعية الصلف الحضاري التي تصيب حضارة رعوية لأنه رعوية، ولأنها متفوقة حربياً، وهي ذاتها الظاهرة التي عانت منها روما حين وقفت أمام بربر الشمال، الجرمان حضارتهم رعوية بدائية، ليس لديهم ما يخسرونه، بينما تقف روما أمامهم مرتعدة على حافة زوالها.


وأخلاق الاغريق أخلاق جنود، في حين نجد في آدابهم (الإلياذة) شجارات خشنة وطريفة، وشتائم، ربما لأن آدابهم ظهرت (بالطبع) متأخرة كثيراً عن الأدب المصري، ومتطورة درامياً عنه. فالأدب المصري لم يتعد النثر الأخلاقي، وأشياء من قبيل رسائل الفلاح الفصيح، الخ.




الميثولوجيا اليونانية التي وصلتنا عن طريق هسيود وهوميروس،  بها من التعقيد الدرامي الكثير، الذي يجعلها متقدمة بمراحل عن الميثولوجي المصري، وعموماً أي عمل فكري اغريقي سوف يتقدم على مثيله المصري، في الميثولوجيا المصرية الرمز بسيط وساذج، بشكل يشعرك أنها نابعة من العمق الشعبي الفلكلوري، وليست مجرد نتاج شاعر مترف شرب النبيذ وفي مزاج جيد.


والأمر ظاهر في أسطورة ايزيس وأوزوريس، والتي أفضلها لأنها تعبير عميق جداً عن الحزن، وهي كذلك تعبير عميق عن سيكولوجية الفلاح المصري البسيطة، ومبدأ: كل شيء سوف يكون على ما يرام، يقتل سيث أوزوريس، ويبعثر أعضاؤه (١٣ عضواً) في كل أنحاء مصر القديمة، ايزيس تلملمه من جديد، وحين يكتمل، فإنها تحلّق فوقه وقد تحولت الى حدأة.

هذا المشهد، لو تخيلناه في الطبيعة : غالباً مشاهد مثل تحليق زمرة نسور أو غربان، يبعث علي الكآبة لأنه يدلل على وجود جيفة، فهو مشهد موت طبيعي وأصيل، في الأسطورة هذا المشهد يتبعه (انبعاث) أوزوريس. ربما تعلّق المصري الشديد 
بمكانه، منحه طمأنينة تتلخص حول: لا     شيء سيضيع، لأن كل شيء هنا، هو ذاته مفهوم (دائرة الحياة)، الذي تستخدمه ديزني في فيلمها (الأسد الملك) حين تحاول حكي قصة أفريقية، ويبدو أن العناصر الميثولوجية الافريقية مشتركة.

الموت ليس مشكلة لدى المصري القديم، بعكس الاغريق مثلاً، الذين يسبب لهم الموت فزعاً، و يعني لهم الخراب غالباً، نفس المعنى لدى السومريين (نذكر هنا مأساة جلجامش حين يكتشف أنه فان)، ربما سوف أعود لسيكولوجية الزراعة مجدداً، أهمية الزراعة لدى المصري طورت لديه (تفهّم) نحو الأشياء الميتة التي ليست كذلك بالضرورة، وأعني هنا البذور، وما تعنيه من احتمالات الحياة، فالمصري ينتظر الحصاد، ويصبر طويلاً عليه، وهو غالباً يجد معنى لتعبه، طوّر هذا لديه احساساً بالطمأنينة تجاه الموت، تجعله يفضل الموت أحياناً لأن بعده جنة، (الافتنان بالموت) ميّز الحضارة المصرية القديمة، وأقرب مثال تلك القبور الضخمة، الأهرامات.
كما أن أسطورة أوزوريس هي الأسطورة الشعبية، وأوزوريس (المرتبط بالموت، وربما، بتحسّن الأحوال على المدى الطويل)، هو المفضل لدى المصري البسيط أو الفقير، في حين يفضّل الكهنة (آمون/بتاح) ويحتكرونه.

No comments: