رسم غويا هذه اللوحة وحيداً بمنزله الريفي، بعدما ناله الصمم، من قبل كان التفسير المفضل لدي، أن غويا يشير بزحل الى أسبانيا، التي تأكل أبنائها، (في حرب أهلية غالباً)، ولم يك يعجبني أي تفسير آخر، مثلاً، أن اللوحة شخصانية، وأن غويا مر بمشاكل مع ابنه، ويبدو أنني قد أُخذت بالدور (الوطني) لـ غويا كفنان، غالباً لم أقع على فن يجسّد القضية الشعبية أو الوطنية ويعجبني، لكني أبقيت على غويا كـ فناني الوطني المفضل، ولم يعجبني أن يسقط من مقعده هذا، ورحت أفسّر كل لوحاته على هذا الأساس، ولأن -أصلاً- لوحتي المفضلة على الاطلاق هي (الثالث من مايو)، التي تُظهر لأول مرة كيف يمكن أن تكون ضحية الحرب، المسالمة، نقصد ذاك الرجل بالقميص الأبيض، الذي يرفع ذراعيه (بطريقة استشهادية)، كيف يمكن أن تضرب هذه الصورة على أوتار المقاومة، أقوى من أي قنبلة أو مدفع.
هكذا رحت أفسر كل لوحات غويا، أما وطنياً، سياسياً أو دينياً، بشكل ساذج، فـ كولوسس هو نابوليون، ولوحات الساحرات والأشباح نية غويا منها شد ذيل القط (الكنيسة/محاكم التفتيش).
لقد رفضت تماماً أن يكون للوحات غويا معنى شخصاني، رفضت أن يكون غويا مجرد انسان مذعور، مذعور من الحرب فيرسمها بلا أبعاد فكرية، مذعور من الساحرات، ومذعور من عفاريته وكوابيسه الشخصية. لقد رفضت الذعر، الرعب الذاتي الهستيري، لصالح العقل المضيء والسامي للفن.
زحل، الى جانب الأسطورة اليونانية، له معان (تنجيمية) قديمة، فهو يمثل الوحدة، واليأس، العزلة الاجبارية، الحرمان، الخوف، والأهم، أرذل، أرذل العمر. وبالنسبة للمراحل العمرية في التنجيم، فمثلاً كوكبة السرطان تمثل المرحلة الجنينية (الماء)، عُطارد : الطفولة، فينوس : البلوغ، مارس : العنفوان، جوبيتر: منتصف العمر، وزحل: أرذل العمر، (نلاحظ أن السن يتقدم كلما ابتعد الكوكب عن الشمس).
انتبهت للمرة الأولى، اليوم، -وهذا يعدّ محبطاً بالنسبة للوحة من مفضلاتي- أن غويا رسمها في أرذل عمره، وأنه غالباً مات بعدها بفترة قصيرة، وأنه بالفعل عانى مشكلة مع ابنه، ما يجعلها مختلفة عن لوحات أخرى تقدم الموضوع ذاته، كما قال الجميع، التعبير الاستثنائي لنظرة الجنون في عين زحل، وأنه يأكل رجلاً بالغاً وليس رضيعاً (هكذا فإن تمثيل غويا يخالف الأسطورة بسفور).
في الأسطورة، زحل بعدما تقدّم في السن، ضَعُف نظره، فصارت (أوبس) الأم تخدعه وتناوله حجارة ليأكلها، بدلاً من أبنائه، الذي كان يتوجس منهم أن يخرج واحد ويأخذ منه ملكه، هكذا فإن ما يودي بزُحل هو تقدمه في السن، وفقدانه قوة حواسه، والحال شبيه مع غويا، الذي فقد سمعه
اللوحات السوداء أعتبرها من أعظم ما أخرجته يد فنان، وبالنسبة لأسلوب الرسم، لاحظت أنه (يتدحرج) من تصوير رؤى واضحة مثل (لوحة سبت الساحرات)، ثم تزداد الرؤى في التغبّش والتضبب، كما في لوحات (رجال يقرؤون)، (امرأتان)، (رجل يأكل مع الموت)، (مشفى المجانين)، الخ
في هذه اللوحات المشاهد يجد صعوبة في تمييز الملامح الدقيقة للوجوه، لكن التعبيرات المرعبة، الجنونية واضحة، رأيي أن الرؤى الضبابية هذه، وان كان يمكننا أن نعزي سببها ربما لحالة غويا النفسية والعقلية المتدهورة، ارتجاف يديه بسبب السن، لكنها جعلت المشاهد (يتورط عاطفياً) مع اللوحات، فغالباً الرسم الفانتازي الذي يُعبر عنه بألوان جليّة ومشعة (كما في كارافاجيو مع الميدوزا)، (أو في لوحة الجاثوم)، المُشاهد ربما لا يتأثر كثيراً بالرعب لأنه واضح، فكما يكون : الفنان يرسمه بوضوح، لأن الفنان يراه بوضوح أمامه (في حالة الوعي)، انها اذن تخيلات الفنان الجليّة أكثر من اللازم، أو ربما هلاوسه، فكرة أن يتمكن المشاهد من التدقيق والملاحظة والمعاينة النقدية لهلاوس الفنان المرعبة، تجعله يعيش تجربة واعية - عقلانية- واقعية، المشاهد لا يتورط عاطفياً لأنه لا يزال واعياً لما يراه، بينما في لوحات غويا تبدو المشاهد كأنها تدور في الأحلام، أو ما يمكننا تسميته :
Nightmare Scenery
اللوحات السوداء تجسيد فني بارع للعقل الباطن، الذي ينحبس الانسان داخله، وحيداً وأصم، باختصار، اللوحات السوداء وجه باطني للانسان، وأى مُشاهدٌ لها سوف يبتلع مرارتها. بيسر.
No comments:
Post a Comment