شاهدت فيلم (آميلي) لأول مرة عام ٢٠٠٨، وبعدها عشتُ اعجاباً نقياً وحالماً بشخصية آميلي، وحسبتُ أني صرتُ أحب الشخصيات الطيبة في الأعمال الفنية، أفلام، مسلسلات، روايات. الخ
لست من محبّي الفيلم الأوفياء، السينما الفرنسية لا تقدّم لي شيئاً يرضيني، فهي تفتقر إلى اللمسة السوداوية (نيو نوار) التي تميز السينما الأمريكية في التسعينيات، ثم السينما الكورية، مثلاً.
عام ٢٠٠٨ شهد منحدراً في ذوقي، أولاً صار (غوليالمو دي باسكرفيل) الراهب التقي، العقلاني والعادل والخيّر بشكل مطلق، من رواية اسم الوردة، شخصيتي المفضلة في الأدب، ثم بدأت أنتبه إلى وجود (جاك شيبارد) المستحبّ في مسلسل (لوست)، ثم انتبهت إلى شخصية الراهب (آليكس) في فيلم (آكل الخطايا). ثم عدت إلى الأصل، شخصية (كلاريس ستارلينغ) في فيلم صمت الحملان.
هذه التأملات جعلتني أفهم بالضبط ما الذي (بدأتُ) في البحث عنه في الإنسان عموماً، ولم أك أبحث عنه في السابق، في السابق تركت نفسي لُأعجب بالشخصيات الشريرة، (ليستات) من (لقاء مع مصاص الدماء) (الفيلم وليس الرواية)، ثم سكار من الأسد الملك، ثم وثم. الخ.
الحقيقة أن كل ما يميز الشخصيات هذه، غوليالم دي باسكرفيل، شيبارد، كلاريس، هو البراءة، قد كانت تعجبني البراءة وليست الطيبة، واحدة من الفوائد التي عادت عليّ من متابعة ثرثرة فانز كلود فروللو ورواية أحدب نوتردام على الويب، هو ملاحظاتهم العاطفية النيّرة التي لن أنتبه لها أبداً بنفسي، مثل: أن ازميرالدا ضحلة جداً، فشخصيتها لم تمر بأي نوع من التطور أو (التحول)، مثل شخصية كلود فروللو. الأمر ذاته يسري على (فيبَسْ) مثلاً، لكنه مختلف حتماً مع ازميرالدا، هنالك شيء : الشخصيات التي تمر بتنوير، يتلازم مع تنوير القاريء، أمثال: ديمتري كارامازوف، كلود فروللو، أو (شخصية الطفلة سكاوت فينتش من رواية أن تقتل عصفوراً محاكياً).
هي الشخصية التي - شخصياً- سوف أتعاطف معها وربما أتقمصها، البراءة التي تسري على شخصية ازميرالدا والممثَّلة في : عدم تأثرها، هي ليست (معرضة) لأي من حوادث الرواية بالكامل، الحوادث تدور حولها، ربما تؤثر بها عاطفياً، تتعسها، لكنها لا تشارك في أي منها، وفي الوقت ذاته لا تبذل جهداً لتغيير مجرى الأحداث، هي : لا تقتل فروللو مثلاً.
توصلت مؤخراً لأن شخصية (غوليالم دي باسكرفيل) ليست مبنية باحتراف، وأن امبرتو ايكو يفتقر للموهبة الدرامية، لكن مجدداً غوليالم هكذا يمثل البراءة، هو بريء وليس طيباً بالضرورة، الأحداث السيئة في الدير لم تدفعه للجنون، لم تجعله يتورط عاطفياً (آدزو يتورط عاطفياً، بينما يبقى غوليالم كالصخرة)، لم يغير غوليالم منهجه الفكري، ويشدد على (استخدام مبدأ شفرة أوكامي في التحليل المنطقي)، ليس خائفاً من برناردو غوي، لا يصدر أحكام شريرة، أو مضلَّلَة، حين يتحدث آدزو بسوء عن (الفتاة التي أحرقوها لعدد من التهم )، يشدد غوليالم عليه: إنها فتاة فقيرة، فتاة فقيرة وحسب
.
.
مثال آخر هو شخصية (كلاريس ستارلينغ)، وهي انعكاس مباشر لشخصية (آليس، من آليس في بلاد العجائب)، هي تجسد البراءة في أقوى أطوارها، في فيلم صمت الحملان، يعلق رئيس الشرطة قائلاً: كوني حذرة، أنت لا تريدين د.ليكتر داخل رأسك.
العبارة تنوه إلى كون د.ليكتر (مُشوِّه) للآخرين, هو لديه القدرة على (امتصاص) البراءة، مثلما يفعل مصاص الدماء مع كلوديا (لقاء مع مصاص الدماء)، يمتص البراءة أولاً من ضحاياه، ربما مثال على هذا شخصية (مايسون فيرغر) من جزء (هانيبال ٢٠٠١)، ونجد في حالته هذه أنه تشوه بالفعل وبسبب د.ليكتر، لماذا لا يحدث الأمر مع كلاريس ؟ لقد دخلت كلاريس إلى عرين الغول، وتكلمت معه، بل أنه لعب معها لعبة عقلية/نفسية، وخرجت منها، بل نظن أنها هي من غيّر د.ليكتر، بعد أن سمع حكايتها مع (الحملان)، وكيف أنقذت أحدهم، يربط بين انقاذها للحمل وبين هوسها بإنقاذ ضحايا القاتل المتسلسل، تظهر دموع طفيفة لا تكاد تُرى في عين د.ليكتر، ربما كان يفكر، هل هي حمل أم راعي ؟
كلاريس مزيج من الحمل والراعي، دور البريء ودور الحامي في الوقت ذاته، هذا يجعلها منيعة إلى أقصى درجة وقادرة على شد د.ليكتر إلى عالمها.
أربط بين كلاريس وآليس، كلاهما شجاع وبريء جداً، ولا يتأثر بـ(العالم المجنون) الذي يحيط به، فكما تمر كلاريس بكل المصاعب في فيلم (صمت الحملان)، تظل بريئة، كأنما هي كانت في حلم أو عالم وهمي (مثل آليس في بلاد العجائب)، لأن الحقيقة الوحيدة بالنسبة لها، والثابتة تماماً، هي براءتها.
هنالك خيط آخر سوف يخرج هذه المرة من آليس (طفلة التاسعة) إلى (بياتريس بورتيناري) طفلة التاسعة كذلك، حين يراها دانتي لأول مرة ويحوّلها إلى قديسة و(مفتاح الخلاص والتطهير) في عمله الدرامي الأشهر (الكوميديا).
مراحل الكوميديا الثلاث: الجحيم - المطهر - الفردوس، تعتبر مانيفيست لتحولات الشخصيات الروائية (غير البريئة)، في حين قد يمر د.ليكتر بالجحيم، المطهر، والخلاص، وكذلك كلود فروللو، و(وحوش أخرى)، لن يمر بهذا (غوليالم دي باسكرفيل مثلاً). والأهم، أنه في الكوميديا رغم أن بياتريس شخصية رئيسية فهي (تحلّق) فوق العمل الدرامي، هي موجودة على الدوام في فكر وذكر دانتي، لكنها ليست في الجحيم وليست في المطهر وتظهر أخيراً في الفردوس، لكن، رغم هذا، بشكل غير ملموس كذلك.
ربما لهذا هنالك ذكر لدانتي وكوميدياه وبياتريس في شكل أوبرا في (هانيبال). ربما كاسقاط على العلاقة بين د.ليكتر وكلاريس.
لا أدري، هل شخصية (بياتريكس كيدو) من فيلميّ (اقتل بيل)، تتقاطع مع بياتريس دانتي في مسألة (البراءة) القصوى، بياتريكس كيدو مختلفة عن كل هؤلاء، عن بياتريس وعن كلاريس، فهي (المنتقم)، هنالك تركيبة سيكولوجية معينة يجب أن يتمتع بها المنتقم كي يظل منتقماً طوال العمل الدرامي، هي بالطبع، عدم التأثر تماماً، بياتريكس لم تهتز عاطفياً طوال الجزئين، وحين وصلت أخيراً إلى بيل، الشرير الرئيسي، وتبيّن لها أنه ليس بهذا الشر، بل أنه من أنقذ ابنتها من الموت وربّاها، ويعرض عليها الصلح، بياتريكس لم تتخل عن قرارها القوي والجذري الذي بدأ مع دراما تارانتينو (بياتريكس سوف تقتل بيل)، إنها منيعة تماماً عن أي عاطفة، حتى إنها منيعة عن التسامح ، في المشهد الأخير حين تقتل بيل، يسألها بضعّة : لماذا لم تخبريني ؟
ترد: ربما لأني شخص سيء جداً، يعترض بيل: لستِ شخصاً سيئاً، أنتِ شخصي المفضل. ونلاحظ أنه يقول هذا، بعد أن قتلته، يقولها وهو يحتضر بسببها.
ترد: ربما لأني شخص سيء جداً، يعترض بيل: لستِ شخصاً سيئاً، أنتِ شخصي المفضل. ونلاحظ أنه يقول هذا، بعد أن قتلته، يقولها وهو يحتضر بسببها.
هنالك شخصيات (واصلة) بين هذا وهذا، أعتبر الواصلة من البراءة للشر هي شخصية الراهب (آليكس) في فيلم آكل الخطايا، فهو ممثل للبراءة كذلك، ملتزم بأداء الليتورجيا باللاتينية، يقوم بعملية طرد أرواح شريرة لفتاة ما (ولا يتأثر بالأمر)، يظل آليكس (منيع علي التأثر) حتى يحب الفتاة التي ساعدها والتي يقتلها (آكل الخطايا)، فيحترق آليكس من الحزن. ويقبل أن يصير آكل الخطايا الجديد
.
.
الشخصية التي تصل من البراءة إلى القوة/الخير، هي شخصية (سكاوت فينتش)، الطفلة الراوية/البطلة في رواية أن تقتل عصفوراً محاكياً، إنها تقوم بدور مثالي كشاهد على الأحداث المختلفة، السيئة والطيبة، دون أن تتأثر، لأنها طفلة، في حين يتأثر مثلاً أخوها الأكبر (جيم فينتش)، تظل سكاوت حتى تصل إلى (تنويرها) الشخصي في نهاية الرواية، حين تلتقي بـ(بو رادلي) الشاب الوحيد، المنعزل والمنبوذ والذي يظن به الأطفال أنه مسخ أو شرير، سكاوت تلتقي به وتخاطبه، وتعامله بلطف (ربما أول طفل على الاطلاق يعامله بلطف وبلا ريبة)، وتُظهر له أنهما يمكنهما أن يكونا أصدقاء، لأنها اكتشفت أنه مجرد شاب خجول وخائف، تصحبه يداً بيد إلى بيته (الذي كان كذلك مصدراً للرعب القوطي في الرواية)، في هذا المشهد تكون سكاوت قد نضجت درامياً، لقد غادرت دور البراءة، إلى دور الطيبة المطلقة، أو، من الحمل البريء إلى الراعي العادل.
No comments:
Post a Comment