Tuesday, May 24, 2011

#NoSCAF


التالي هو "قصّ ولزق" لتعليق كتبته رداً على تدوينة ما، سوف أضعه كما هو، بلا تعديلات، لأن لا طاقة لدي لكتابة شيء جديد أو تعديل القديم.
لماذا يبدي المجلس حزماً مع "الخارجين عن القانون" كما يصفهم من المتظاهرين بينما لا يبدي الحزم ذاته مع النخبة الفاسدة من مخلفات النظام، المعادية للثورة لأنها تهدد شبكة مصالحها المادية، لماذا المحاكمات العسكرية لمدنيين أبرياء ومحاكمات مدنية لمجرمين حقيقيين-سؤال طُرح ألف مرة وسوف يطرح لآلاف المرات الأخرى- لماذا يتعامل الجيش مع الثورة كأزمة ولا يراها كعملية اصلاح وطني؟ المجلس يفتقر إلى النية الثورية، حتى أغلبية النخب الحاكمة الحالية سواء في الوزارات أو غيرها من مخلفات النظام الفاسد.حتى الحياة الاقتصادية كان يسيّرها أمن الدولة (وأحيانا، يتدخل الجيش بالتملّك)، المجلس يتعامل مع الفترة الراهنة كأزمة اقتصادية مشابهة مثلا لما تمر به دول أخرى والأمر غير صحيح، وهو خطر لأنه يجعلها تبحث عن حلول تسكينية مثل الاقتراض من الخارج وخطط الانقاذ على طريقة صندوق النقد الدولي، والواقع أن البلد يحتاج لاستعادة رؤوس الأموال المنهوبة وللتعامل بحزم مع الفساد المالي، ومواجهة الملف الأمني بجدية، يدهشني تماما من يعاتبون المجلس على "طبطبته" على الشباب المتظاهرين بينما لا يعاتبه على "تهاونه وطبطبته" مع الشرطة، ان كان يؤلمكم هروب الاستثمارات فإنها تفعل بسبب الانفلات الأمني، لماذا لا تُنفذ خطة اكتفاء ذاتي جادة؟ لماذا لا يتم التوجه إلى الادخار الداخلي؟ لماذا لا تُحسن ظروف الائتمان المحلي؟ تحقيق الاكتفاء في الطاقة والسلع الاستراتيجية؟ لو أراد المجلس أن يتعامل مع الأزمة بابتكار ووفاء حقيقي لمبادئ الثورة لفعل، المشكلة أنه يتم قهقهرته -أو يتقهقر هو- بفعل أصحاب المصالح السابقين. شيء مضحك تماما أن بلداً بهذا الحجم الهائل من الطاقة البشرية وذا بنية تحتية صناعية وزراعية لا بأس بها وفي تعرضه لأزمة يتوجه للاقتراض من الخارج وكأنه دولة خدمية صغيرة بلا موارد. وبالنظر لحجم رؤوس الأموال المنهوبة بواسطة رموز النظام السابق يمكننا الحدس بأن المشكلة الحقيقية هي ترهل القطاع شبه الحكومي/شبه الخاص المكون من لصوص/عصابة تستغل مخصصات الدولة، لماذا لا ينتهج المجلس خطة تقشف خاصة بالمصالح الحكومية المترهلة كي يوفر دعماً للسلع الأساسية والطاقة؟

Saturday, May 14, 2011

أخبث صنيعة أبدعتها الطبيعة



تحذير: التالي يحتوي سبويلرز لرواية "الأبله"، لديستويفسكي.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"لا أتذكر مشهداً روائياً" أكثر ظلامية من ذاك الذي في نهاية رواية "الأبله" لديستويفسكي، حين يأخد روجوين بيد الأمير مشكين (المقصود بالأبله في الرواية)، إلى حجرة مظلمة في بيت الأول، ليطلعه على جثة ناستازيا فيليبوفنا، بطلة الرواية، وقد قتلها في السرير، بطعنة في الصدر.

وإن كانت الرواية تُطلعنا على الأسباب وراء الأذى النفسي الذي تعانيه ناستازيا فيليبوفنا، مفسراً "قوى الخراب" التي تدفع بها تجاه آخرين - تفسد زواج رجل ثري (لكن منحطّ) من شابة صغيرة، تثير الحرج لآخرين، لكنها، في الواقع، تعيد ترتيب المجتمع الروسي - في زمان الرواية- المزيف، المغلف بأصباغ وادعاءات.

لعل في ناستازيا الشخصية تقاطع مع ربّة الكراهية الاغريقية إريس، في الرواية، يتعرف القارئ لأول مرة على ناستازيا بسبب تدخلاتها لافساد زواج الشخص السابق ذكره، وهو ذاته الرجل الذي استغلّها في طفولتها، -وقد خُرّبت حياتها مذ ذاك- في حكاية إريس شبهاً طفيفاً، حين تبدأ بعدم دعوتها إلى عرس بليوس وثيتس -وتتوالى الأحداث في الأسطورة، مؤدية إلى حرب طروادة. في نواحي أخرى تتقاطع ناستازيا مع إريس، في أن الأولى تدعو بعض شخصيات المجتمع الروسي -في زمان الرواية-، لبيتها، وتحرجهم. ويأتي وصف لإريس مقارب لهذا الموقف، بحسب ويكي:

So, after all, she would invite them to her house turn them into pigs and eat them
ثم بعد ذاك، هي تدعوهم لبيتها لتحوّلهم إلى خنازير، ثم تأكلهم.

ليس غرض الكلام تبيان الأبعاد الميزوجينية الطفيفة هنا وهناك، اذ يبدو لي أن شخصية ناستازيا تتبع ارثاً درامياً أكثر عمقاً، فهي، اذ خُرّبت حياتها، ملأتها الكراهية (أو الحقد) تجاه الغير، ممن أفسدوا حياتها خصوصاً، وهي لا تريد السعادة (بل الانتقام). في الرواية، تبدو وكأنها تثير الفوضى، لكنها في الواقع، تعيد ترتيب المجتمع بالشكل الصحيح - في وجهة نظر ديستويفسكي، في مشاهد مثل حرقها المال المقدّم لها لكسب ودّها، يتناص مع مشهد آخر يحكي فيه قصة: (رجل يفسد علي آخر فرصته في كسب ود امرأة، حين يشتري كل ما تبقى من ورد الكاميليا، الذي ترغب به والذي يعدها به الثاني.)  ومشاهد أخرى توحي بالمعالجات السينيكية التي يقدمها ديستويفسكي لموضوعة العاطفة وكسب الود، والحب، لأنها في اطار المجتمع الفاسد، ذاته. ولأنها تسير بقواعده، فهي فاسدة كذلك، بالضرورة.

يبدو لنا أن ناستازيا أداة أناركية، فهي، ليستْ مثل شخصيات سبق تقديمها، راعية/قديسة/باعثة لطاقة ايجابية/تعطف على المنبوذين - (مارغاريتا، ازميرالدا، الخ) هي في الواقع تُفسد حياة كل هؤلاء - داخل العمل الدرامي- لمصلحتهم، كنوع من التنوير/التطهير الأناركي، كأداة درامية، لا يستخدمها الكاتب استخداماً تقليدياً (كما الحال مع شخصيات أنثوية أخرى، تظهر كشخص ملائكي يكرّس -في الواقع- للقيم المحافظة، باعادة الأمور الخيّرة إلى نصابها وازاحة الشر). بل تأتي ناستازيا إلى مجتمع محافظ، متفسخ، من الباطن، لتدمره وتعيد تشكيله من جديد. فالشر/الظلامية النفسية موجودة، وما السبيل لتطهيرها إلا المزيد من الظلامية المتطرفة/القصوى.


الأمير مشكين في لقاءه الأول معها يُحدث "شرخاً" في الآيدولوجية الظلامية الخاصة بأناستازيا، هو مستعد لأن يحبّها حباً غير مشروط. وأن يقبلها على ما هي عليه. وهي، تميّزه، عن الرجل الآخر الذي يحبها "روجوين"، ورغم أن روجوين ملطخ حتى رأسه بالمجتمع ذاته الذي تحتقره ناستازيا، إلا أنها تعتبره من نفس طينتها. روجوين هو أداتها في اتمام "الطقس التطهيري الأعظم" للرواية، والكاتب يفسّر لنا سبب ظلامية ناستازيا، ومصدر الطاقة السلبية التي تحرّكها، في حين لا يعطي تفسيراً بذات القوة لأجل شخصية روجوين، إلا اقتراح عابر، من الأمير مشكين: "أنه مهووس، ولو لم تظهر ناستازيا بحياته، لانشغل بهوس آخر، بجمع المال، مثل أبائه وأجداده."

الهوس (الوسواس القهري..اذن) بما تتضمنه الحالة من "طقوس" عصابية قهرية يتوازى مع الغائية التي تحرّك شخصية ناستازيا، هي تريد أن تموت مذ أول ظهور لها في الرواية، لا تريد أن تحيى، يُقدم لها خيار الحياة السعيدة، الهانئة، بما سوف يمنحه لها الأمير ميشكين من حب صادق، لكنها تهجره -بعد أن تسبب له حرجاً اجتماعياً- حين تهرب في ليلة عرسها عليه، مع روجوين. طقوسية روجوين تظهر في مشاهد مثل أنه: (بعد أن يضربها، يركع علي ركبتيه أمام باب حجرتها المغلق، طالبا غفرانها، وهي، تعلّق ساخرة على وضعيته الطقوسية، ضاربة مثل بحكاية عن رجل يطلب غفران البابا.)

رغم أن روجوين (بوصفه شخصية مهووسة، ولأنه اعادة انتاج لشخصيات أخرى=عطيل) تستبد به غيرة جنونية حين يعلم بالحب المتبادل -ظاهريا- بين مشكين وناستازيا، بل أنه يؤذي مشكين، ويتشاجر معه، ويبدي نية قتله، لكن قتل مشكين لا يتوافق مع "النموذج" الذي سوف تسيّره ناستازيا لأجل مشروعها التدميري، ترى ناستازيا أن مشكين لا يجب أن يتواجد في مثل ذاك المجتمع، وأنها، لو تزوّجته، سوف تفسد حياته، فهو برئ، هي ترى هذا، لكن ديستويفسكي لا يريد ببساطة أن يتزوج مشكين بناستازيا، بعد أن ورث مالاً وفيراً، وهو سوف يوفر لكليها حياة رغدة (وفقاً لقواعد المجتمع) سوف يُدّجن كل من مشكين وناستازيا (الشخصيتين الأكثر تفردا واختلافا عن المجتمع حولهما، والأكثر مساءلة أو اتهاماً لهذا المجتمع).
ورغم أن الزواج كان ميسراً، وأن روجوين انسحب - لماذا انسحب؟ هذا ما نجيب عليه، قد وصل روجوين إلى الطمأنينة، لأنه نال تنويراً مبدئياً، أو لأنه فهم أخيراً ناستازيا، التي عجز عن أن يفهمها غيره، بمن فيهم مشكين، روجوين يعرف ما تريد، بالضبط، الخراب.

في حين أن الطمأنينة لم تدرك ناستازيا بعد، لكن، من ناحية أخرى، هي في طريقها للزواج بمشكين، وعيش حياة سعيدة ظاهرياً، وها هو روجوين ينسحب للأبد، لكنها، تقول: "أشعر بعينيه تحدقان بي وسط الناس."(تقصد روجوين). بل هي تعرف بوجوده بين الحشد، في عرسها، وتقفز إليه طالبة منه أن يأخذها بعيدا.

يكتمل الطقس الأناركي الخاص بناستازيا، حين يحقق لها روجوين ما تريد: يقتلها، أما مشكين، فيصاب بالصدمة، التي تعيده أبلهاً، فقد بدأت الرواية، بتعافيه ظاهرياً، وعودته من مقر علاجه بسويسرا، إلى روسيا، كي ينال ارثاً وفيراً. فالنظرة الأولى للرواية توحي أن غرضها عرض "عاهات" المجتمع الروسي في ذاك الحين، الذي يتحلق حول مشكين ذي المال، بعد أن نبذه في البداية، يجن مشكين من جديد، وبطبيعة الحال يفقد ارثه، ويعود مريضا في مصحاً عقلياً. وناستازيا، بعد أن ماتت، لم تك لتحلم في حياتها بأن خطتها الأناركية-التطهيرية سوف تتحقق بهذا الكمال: حتى آغلايا، الفتاة الحلوة، ذات النسب، والتربية المحافظة، التي رغبت ناستازيا في أن يتزوجها مشكين بدلاً منها، "تتحرر" من القبضة السخيفة للمجتمع ولعائلتها، وتهرب مع رجل بولندي، بل تنخرط في نشاط سياسي مشبوه.

من حين لآخر يدور حديث مكبوت في الرواية عن "قضية المرأة". ويبدو أن ديستويفسكي أراد أن يقدم نموذجا فيمنيزمياً مبكراً، وإن كانت ناستازيا هي الُمصلِح الأخلاقي الخاص به. وهي سيئة السمعة، فإن النموذج الأناركي لها يكتمل حين تهرب آغلايا (بذلك، حلمها في الهروب من عائلتها، الذي تتحدث مع مشكين عنه، هو الحلم الوحيد الذي يتحقق داخل الرواية). وتعيش حياة فوضوية. مقوّضة المجتمع. على الجانب الآخر، تحمي ناستازيا مشكين من أن يفسد المجتمع روحه النقية، بأن تسبب له جنوناً، فيعود منعزلاً في مصح. أما روجوين، فهي تقدم له الشيء الذي يشترك معها فيه.  الـ"todestrieb"، يتحول مجرماً، ويواجه حكماً بالاعدام.

لعل العلاقة العجيبة بين ناستازيا وروجوين هي ما تدور حوله الرواية فعلاً. "الخراب المتبادل". كلاهما يرضي الآخر، عاطفياً، لأنه يضمن له الدمار الذي يرغب به، إنها ليست حتى علاقة سادو-مازوخية، بل أكثر ظلاماً، لأن أبعادها طقوسية، وديوستويفسكي بهذا النموذج يعطي ايحاء بـ"التأثير السحري، الأسود للعاطفة.." ولعل في هذا تناص مع أفكار نيتشيه عن الديونيزية، فالعاطفة، طاقة ظلامية (شبه شامانية)، قوى طبيعية تحرّك الشخصيات، مثل سحر، فلا ناستازيا تكبح جماح نزعاتها التدميرية، ولا روجوين يكبح هوسه الجنوني بناستازيا، الذي يؤدي به إلى قتلها (غيرة؟ حباً؟) ولا شك أن ديستويفسكي يستقي عناصر من حكاية عطيل. ولا أجد اقتراباً درامياً معاصراً أفضل، من رواية ارنستو ساباتو "النفق"، عن رسّام، يقتل حبيبته، والرسام في الرواية ميزآنثروبي مهووس، أما الحبيبة، فهي تحيى حياة عجيبة -يصعب على البطل الرسام فهمها- إنها متزوجة من رجل أعمى، تقيم علاقات مع غيره، بل أن رجلاً - قبل الرسام- ينتحر بسببها، ويبدو أن الحبيبة البطلة تمارس طقسا تنويريا/تطهرياً على طريقة ناستازيا، حين تستمر مع رجل مهووس- وهي تعرف بمرضه، وحين - في مشهد النهاية- تستقبل طعنته لها بالسكين، في السرير كذلك، (كما الحال مع عطيل الذي يخنق ديدمونة في السرير - أو، روجوين كما وُضّح من قبل). لعل أحسن ما بالأمر هو عنوان الرواية "النفق"، يذهب النقاد إلى اسقاط مفهوم النفق -سيكولوجياً- على الطريق الظلامي، المهووس، الذي يؤدي برجل عاشق إلى قتل حبيبته، لكنا نرى أن النفق يحمل معناً ميتافيزيقيا (الضوء في آخر النفق..) ورغم أن الرواية، بالمقاييس المبدئية، مثلها مثل رواية الأبله: في مسألة أن "آخر النفق" هو المشهد الأكثر ظلامية على الاطلاق بالنسبة للقارئ، لكنه في الواقع، التنوير/التطهير الخاص بالشخصيات، شخصيات تحركها نزعة الموت، تحقق خلاصها الشخصي، بطريقة مؤلمة. 


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان من ترجمة ممتازة لفقرة يوجّه بها عطيل كلامه لديدمونة، قبيل قتلها، في مسرحية "عطيل" لشكسبير

Friday, April 8, 2011

اختصار مُخلّ للدوغما

يعاني دارسو الاقتصاد من ارتياب تجاه الظاهرة العلمية، مردّه تجربتهم المؤسفة مع علمنة حقل الاقتصاد، أي تحويله من مجال معرفي إلى علم جامد يسير في نهج/خط مستقيم يكاد يقترب من العلوم الرياضية أو الطبيعية، وهو في الواقع، هكذا، يتحول إلى مجرد دوغما/ تيار معبرٌ عن رأي معين لا يسمح كثيراً بأن يحيد عنه باحثون آخرون.


لا مشكلة مع العلم كظاهرة، أو ترقي الاقتصاد إلى "مرتبة" علم -يا سلام!- لكن المشكلة أن "علم الاقتصاد" كان عليه أن "ينتقد" الظاهرة الإنسانية، التاريخية، الاجتماعية، بدلاً من ذاك، علم الاقتصاد بشكله الكلاسيكي الذى تأسس على كتابات انكليز - آدم سميث و ديفيد ريكاردو- قد وضع وظيفته النقدية جانباً - بعد أن شبع سميث نقداً في المركنتليين- وتفرّغ ليكرّس اتجاهاً/تياراً/رأياً متصلباً رافضاً لأي تصورات، أو نظريات أخرى تفسّر الظاهرة الاقتصادية. ورغم أن سميث وريكاردو وستيوارت ميل، وغيرهم، لم يقصدوا التشدد الفكري، لكن هذا ما تتبناه الكلاسيكية الجديدة، والليبرالية الجديدة، التي نحيى بها الآن، والتي تصاعدت -منتصرة- بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي عومل كأنه اعداماً نهائياً لأي أفكار اقتصادية اشتراكية.


تتمحور كلاسيكية آدم سميث، أولاً، حول ايمان عميق بمبدأ حرية السوق، لدي رأي أن الاقتصاد كحقل دراسي مسكون دوماً بروح -اليسار، طبعاً، لو أنه فقط استمر في النقد التاريخي/الاجتماعي لظاهرة السوق- وقد يجد البعض هذا تطرفاً، لكن أفكار سميث في القرن الثامن عشر كانت يساراً في مواجهة أفكار المركنتليين - التي لم تك قد ارتقت لعلم- وفي مقابل النزعة الامبريالية التي تسكن الخطاب المركنتلي، والتي تتلخص ببساطة في أن تبذل الدولة - اللوياثان بطبيعة الحال- كل جهد في حماية صناعاتها المحلية، والتصدير، والامتناع التام عن استيراد أي شيء، ولو تطلب الأمر استعمار الدول الأخرى- ليس لأجل المواد الخام بشكل خاص، لظروف العصر غير-الصناعية، إنما لأجل الذهب، وهو ما راحت المملكة الأسبانية تنفّذه باخلاص تام- يقول سميث أن هذا كله هراء، وأن الفائدة سوف تعود علي الدول لو فتحت أسواقها بين بعضها البعض، سواء أمام الصادرات أو الواردات، وأن هذا، في المدى الزمني القصير أو الطويل، سوف يؤدى إلى رفاهية الأمم.
"يسارية" سميث المزعومة تكمن في ايمانه بأنه لا قيمة حقيقية للنقد-الذهب- إنما ثروة الأمم هي في ما تصّنعه من منتوجات للتصدير، وهذا يعني، بالضرورة، أن القيمة الحقيقية لأي سلعة هي مقدار ما تحويه من عمل. تساير نظريات سميث "روح العصر" التنويرية من اضمحلال الاقطاع، وظهور الآلة البخارية وتحسّن ظروف وسائل النقل، أي بطبيعة الحال انتقال الأيدي العاملة بشكل أكثر كثافة، من الريف إلى المراكز الحضرية.


في القرن التاسع عشر تظهر أفكار ماركس لتنتقد النظرية الرأسمالية التي يكرْس لها سميث، وغيره، حجتها الأساسية هي الاستغلال الواقع على العمال، فهؤلاء يزدادون فقراً بينما يزداد الرأسمالي ثراءاً بسبب ما يحصل عليه من "فائض القيمة" وهو الفرق بين تكلفة انتاج السلعة وسعر بيعها.


كساد الثلاثينيات يمنح فرصة لظهور نقد حقيقي - ليس للرأسمالية بشكل خاص- انما لمبدأ حرية الأسواق، متمثل في النظرية الكينزية، وبها يحث كينز الدولة/الحكومة على التدخل من حين لآخر لاعادة الاستقرار إلى نظام السوق، إما بالوصول إلى التشغيل الكامل (القضاء على البطالة) أو بسياسات مالية ونقدية أخرى.


لكن الكلاسيكية الجديدة لا تلبث أن تظهر، في شكل أكثر طرافة يتمثل في أزمة أسعار الصرف- السبعينيات- ثم انهاء نظام بريتن وودز - فكّ ربط الدولار بالذهب- تلخيصاً: صارت أسعار العملات تتحدد بناء على العرض والطلب. أي صارت العملة كأنما هي سلعة. يزداد الايمان بمبدأ حرية السوق، ويتحول التخصص الاقتصادي الآكاديمي إلى عقيدة رأسمالية، مع الوضع في الاعتبار بعض التعبيرات الموحية لآدم سميث مثل " اليد الخفية" التي تسارع في اعادة السوق للتوازن اذا اختلّ. وافتراضاته أن المصالح الفردية للرأسماليين تتوافق بالضرورة مع المصلحة الجماعية. (مع الفقراء؟).


نظريات التنمية - التابعة للتيار الفكري الرئيس/الرأسمالي- تضع حلاً لمشكلة الدول النامية/الخارجة من تجارب الاستعمار، في انفتاح أكثر على الأسواق العالمية، وانهاء أي حماية وطنية للمنتج المحلي، يمكن تأمل مباديء البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، بشكل أوضح، في برنامج التثبيت والتكيف الهيكلي المفروض على مصر، مذ أوائل التسيعينيات، لحل مشكلة المديونية، باختصار: يجب على مصر أن تقلّص الطلب الداخلي، فمشكلة مصر مع المديونية هي -فقط، برأي الصندوق- أن الطلب الداخلي أكبر من اللازم، ويسبب عجزاً يجعل الحكومة تستدين من الخارج، وعليه يجب الغاء الدعم -على مراحل- ويجب تخفيض سعر العملة، وفتح الأسواق على الخارج، وتشجيع منتجات التصدير - ولا كلمة عن تشجيع قطاعات صناعية تحقق اكتفاء محلي- والمتأمل في البرنامج، ولو كان طفلاً غرّاً، يدرك ما به من تناقضات، وهو عموما نكتة أخرى من نكات النظام السابق- إلى جانب حادثة توقيع البرلمان على اتفاقية الجات ١٩٩٤ دون أن تُقرأ!- صحيح، قد يبدو البرنامج وجيهاً من النظرة الأولى، لكن الاقتصاد المصري له خصوصيته، وهو يشترك في هذه الخصوصية مع حزمة كبيرة من الدول النامية الخارجة من تجربة الاستعمار، والتي في الواقع لا تعود عليها تطبيقات فتح الأسواق على العالم والخصخصة و "يد آدم سميث" الخفية بأي فائدة.




لماذا لا يُنظر في نظريات اقتصادية تناقش مشكلة التنمية في الدول النامية، والتبعية؟ مثلاً، في الجامعات ينصب الاهتمام على نظرية "هكشر-أولن" في التجارة الخارجية " أن ما يخلق التجارة بين الدول هو الاختلاف في أسعار عوامل الانتاج". حتى الآن جيد، كان يجب أن ننتقل لنظرية التبادل اللامتكافئ للفرنسي لارغري ايمانويل، وقد نجلب مثالاً بسيطاً قائماً عليها: أسعار الأيدي العاملة -مثلاً- أي الأجور، في الدول النامية، منخفضة جداً بالمقارنة بمستويات الأجور في الدول الصناعية الكبرى-الغرب. ما الذي يترتب على هذا؟ أن حتى برامج صندوق النقد التي تبدو حسنة النية مشجْعة على التصدير هي في الحقيقة تكرس أكثر فأكثر للافقار المستمر والمنهجي للدول النامية، لأن أسعار وسائل الانتاج كلها داخل الدولة النامية منخفضة، فيحصل المواطن الأمريكي-مثلاً- على السلعة المستوردة من البلد النامي بسعر بخس، بينما يحصل المواطن في البلد النامي على السلع الغربية بأثمان خرافية. اتفاقية الجات في تحرير التجارة وتقليص الممارسات الحمائية - رسوم جمركية، دعم للمنتج المحلي- تسهّل أكثر على الدول الكبرى استغلال الدول النامية، للحصول على المواد الخام بأبخس الأسعار، أو حتى الأيدي العاملة، هكذا، استفادت الدول الغربية من نقطة القوة الوحيدة التي يتمتع بها العالم الثالث- أعني، الأعداد الهائلة من السكان- التي، بحسب قوانين الاقتصاد البسيطة (العرض والطلب) تسهّل مناخاً تقل فيه أجور العمال في العالم النامي أكثر فأكثر، ويزداد الفقر والبطالة، في ظل عالم "مفتوح على الأسواق الرأسمالية" وبدول نامية ذات اقتصادات مشوهة استعمارياً، هشة سوقياً أمام غزو الواردات، تتحول القوة العمالية الهائلة في دول معينة - مصر على سبيل المثال- إلى اعاقة كابوسية للاقتصاد، في حين أن -بالمنطق- المفترض العكس.




يفتقد الاقتصاد المصري لمشروع وطني، وليس مشروعاً قومياً أو شمولياً مرعباً، بالضرورة، و عالم اقتصاد مُعتد به كـ سمير أمين، يشيد -على استحياء- بالتجربة الناصرية لأنها كرّستْ لمشروعاً اقتصادياً وطنيا، قائما على "فك الارتباط" بالسوق العالمي وبكل آثاره السلبية المحتملة على اقتصاد وليد، وليس بالضرورة "الانعزال عن العالم ومخاصمته"، والتجارب الوطنية تذكرنا دائماً - بالصين، بطبيعة الحال- وهناك يتحول "العبء السكاني" إلى ميزة ثمينة، حين يتوجه للداخل، وحين تُطبق خطط لتوجيه الاقتصاد - من جهاز وطني مختص- ولو أن الصين في فترة من تاريخها فتحت سوقها للخارج - على طريقة صندوق النقد الدولي- كانت ستتحول ميزتها السكانية إلى كارثة انسانية وبنسب تقترب من ٤٠٪ تحت خط الفقر، مثلاً!




يرى سمير أمين أن "الديمقراطية" هامة لأي تجربة وطنية تسعى للتحرر من مساوىء الرأسمالية المُستغلة، عالمياً، وربما أقول، هذه الفكرة رغم غرابتها -حيث ترتبط الديمقراطية بالسوق الحر، والرأسمالية، وتتعارض مع كلمة وطنية التي تذكر القاريء بكل التجارب الشمولية في التاريخ- تكمن أهمية الديمقراطية -الفترة الحالية- في أنها سوف تمنح المواطنين حقاً في الرقابة على الأجهزة التنفيذية، والثروات الوطنية، وأزمة مصر مع الدين الخارجي وصندوق النقد سببها الأساسي شحّ الاحتياطي الداخلي من السيولة أو النقد الأجنبي - الذي عرفنا مؤخراً أنه طار مع فساد يزيد عمره عن ٣٠ سنة- والديمقراطية لا تتعارض عموماً مع مشروع وطني يهدف للتنمية، والعدالة الاجتماعية، وليس المزيد من "فتح الأسواق"، وهذه ليست هرطقة لأن عددا من البلدان الأوروبية -العالم الأول- يطبّق ما يسمى "دولة الرفاه" التي تجمع بين أدوات اقتصادية اشتراكية، ورعاية اجتماعية، وسوق حر، في مرحلة تالية. وقد يفيد الاقتصادات النامية أكثر التوجه بالتجارة إلى دول أخرى متعثرة، فهذا سيقلل الفاقد الحاصل سابقاً، بحسب نظرية التبادل اللامتكافئ، نتيجة للاتجار مع دول ترتفع فيها مستويات الأجور وأسعار وسائل الانتاج، كي تستقل الأولى عن دائرتها المفرغة في فلك الاستعمار الجديد.

Tuesday, March 8, 2011

نقطة ومن أول السطر

تمر المناهج المدرسية في مصر بالتاريخ القبطي، وعصر الشهداء، وما يليه، مرور الكرام. المُضحك أن واضعي المناهج لا يجدون حرجاً من الحديث عن آمون ورع وأوزر وبقية "الأصنام"، إنما مسائل كانشقاق كنيسة الاسكندرية عن مثيلتها البيزنطية، ثم الرومية، وتصاعد نفوذ الأولى، وتاريخ تأصّل واستقرار ديانة ابراهيمية، في الأرض والثقافة والهوية المصرية، لا يُتبحّر بها بما فيه الكفاية.
إن "دراسة" أي موضوع، بشكل صحيح، متوازن ومحايد، "تُنضج" أي تعامل مستقبلي للدارس مع الموضوع محل الدراسة، الدراسة تضع أساسا للفهم و"التفهّم".

الفترة من ٦٠ ميلادية إلى القرن الرابع-الخامس الميلادي تكاد تساوي في الأهمية كل التاريخ الفرعوني لمصر الممتد على فترة ٧ آلاف عام. وفي رأيي، هي تزيده أهمية، فالتركيز على فرعونية مصر، كما قلت من قبل، يقع ضمن ميل "استشراقي" لازاحة مصر عن الواقع والحاضر والمستقبل و"فَلْكرتها"، أي تحويلها لنكتة فلكلورية، هكذا يهتم الدارسون التاريخيون بمصر الفرعونية ويهملون مصر القبطية وغيرها من الفترات. فالتاريخ الفرعوني "لا يمس" أي فرد "على قيد الحياة، حالياً" بشكل مباشر. بينما، إن أراد شخص أن "يتواصل" مع جذوره الشخصية فسوف يلجأ غالباً لمصادر "خارج المنهج."

فيكتور هيغو، "غير المتدين"، ينتابه في القرن التاسع عشر قلق كبير تجاه الحال المتردية لكاتدرائية نوتردام، في فرنسا القرن التاسع عشر التي صارت، بحكم الزمن، غير ودودة تجاه الأديان. بلاشك. لا يحرك قلق هيغو أي مسحة تدينية. يؤلف رواية "نوتردام دو باريس" مدفوعا بهذا القلق، محاولا، من خلال الرواية، تنبيه الناس إلى "ترميم" الكاتدرائية وحفظها لأنها تراث، أي جزء من هوية وتاريخ البلد بطبيعة الحال. الرقيب الديني المتشدد -في أوروبا- لا ينتبه للـ"نوايا الحسنة" لهيغو فيضع روايته ضمن القائمة السوداء للكتب الممنوعة بحسب الفاتيكان.

التاريخ الكاثوليكي حقل معرفي هام جداً داخل جامعات كل بلد أوروبي، وغربي كذلك. إنه حقل معرفي وكفى، بعض النظر عن هويات دارسيه، وتوجّهات الدول الأوروبية وشعوبها/مواطنيها. مبادرة هيغو، في القرن التاسع عشر، كانت مبادرة لكاتب/مثقف أوروبي يُعتبر دارساً متبحراً في التاريخ، كتب واحدة من أهم الروايات التاريخية، بغض النظر عن مرجعيّته، يكن احتراماً للتاريخ. ومن يدرس التاريخ سوف يحترم تمثّلاته على الأرض.

Tuesday, February 8, 2011

مشاهد قروسطية معاصرة/٢

يحلو للعرب تكذيب "المحرقة النازية لليهود"، في كل مناسبة، بنيّة حسنة هي مهاجمة الجانب الصهيوني في ادعاءاته أو فيما يُمنح له عالمياً من تأييد وتهاونات. لكن المؤسف حين نلاحظ أن الميل لتكذيب المحرقة في الثقافة العربية مردّها "استهتار" عام متغلغل في هذه الثقافة أو نوع من "الخيبة الأخلاقية" أمام أي نوع من الالتزام -الجماعي، الاجتماعي، الشعبي- أمام جرائم نظام من النظم. ربما هذا ما يُضعف الجانب العربي -أخلاقيا، لأنه في موقع الضحية- في مواجهة الجانب الصهيوني المجرم على الدوام. نعاود الاقتباس لادوارد سعيد، في مقالة له : "الحرب الأهلية اللبنانية التي أودت بـ١٥٠ ألف ضحية، وكانت لها آثار اجتماعية وبيئية ونفسية تفوق الحصر، وها هو لبنان يعود اليوم {تاريخ المقالة ١٩٩٥} وكأن شيئا لم يكن، مع الأشخاص أنفسهم في السلطة، أو ما يتاح لهم منها."

سواء اتّفق البعض أم لم يتفق مع رحيل رأس النظام المصري الحالي، بتصعيد الثورة ضده، سواء كان سبب الرحيل الشأن الداخلي {فساد- فقر - قمع للحريات - وغيره كثير}، يجب أن تتمسك كل القوى الشعبية بالأسباب "الانسانية،العالمية في طبعها"، أي جرائم النظام، ولا نعني بجرائمه الـ ما يزيد عن ٤٠٠ شهيد على مدى ١٥ يوم من الثورة الشعبية فحسب، الدائرة سوف تتسع لتشمل كل الشهداء، بمن فيهم ضحايا أعمال القمع والتعذيب لأنظمة رجال سابقين على الرجل الحالي. فالنظام يجب أن يرحل ليس لفساده وفشله فقط بل لأنه ملطخ بالدماء، وأي محاولات من جانبه للترقيع لن تمسح الدماء. ويجب أن يُعامل النظام بكل أفراده كمجرم ضد الإنسانية.

هذه الحركة الثورية تكتسب نجاحها الشعبي وناصيتها الأخلاقية، ربما، لأن أول مكان اشتعلت به كان صفحة فيسبوك للشهيد خالد سعيد،  هذا يعني نشوء تحوّر أخلاقي في الثقافة المحلية، المصرية أو العربية، واتجاه هذه لادانة الجرائم "ضد الانسانية".

أن يفهم الشارع العربي أخيرا معنى الـ"جرائم ضد الإنسانية" يعني الطريق نحو ثقافة مدنية تُعلي شأن الإنسان، فهذه مهدّت للنهضة الأوروبية وعصر التنوير، الظريف أنها في الحالة الأوروبية كانت اعلاء الإنسان الأوروبي في مواجهة غير الأوروبي، والإنسان الأوروبي نتيجة لهذه الثقافة تلطخت يده بدماء وبجرائم ضد الإنسانية، نحن نريد أن تنشأ ثقافة عربية انسانية تملك "تفوقا أخلاقيا" في مواجهة الجميع بلا استثناء، بعكس الحالة الأوروبية، ما يؤكد هذا البنية والشكل الذي اتخذته التظاهرات، أي الطابع السلمي على طول الخط الذي لم يدهش الشارع العربي فحسب بل العالم.

يبدو أن التسرع للتساوم وتناسي دماء الشهداء "متلازمة عربية"، في هذا احالة لانتقادات سعيد للقيادات الفلسطينية في معاهدات أوسلو وغير أوسلو، يجب أن تسير الثقافة العربية نحو "أرشفة" جرائم الأنظمة كافة، سواء كانت استعمارية أم وطنية، ليس في هذا بناء راسخ للتاريخ العربي فحسب، ولا حفظا للحقوق، بل كذلك تمهيد الطريق لاعلاء الإنسان العربي، الذي يظن المستعمرون من الغرب (أو من حكوماته الوطنية المستبدة) أن ليس له وجود، وأن الانسان موجود فحسب هناك، في الجانب الآخر من المعمورة، المنطقة العربية، وما حولها، من افريقيا ومناطق من آسيا، ربما أكثر منطقة في العالم دفعت غاليا واُستبد بها استعماريا وسالت دماء أبنائها، ربما يعادلها في هذا فقط البشاعات المقترفة في حق سكان أمريكا الأصليين من الهنود. والأخلاق الغربية مجرد لعبة سخيفة، في يد القوي - كالعادة، ويذكرنا هذا بتصريح كورتيز لوماي: "لو لم ينتصر الحلفاء لحُوكمت بتهم جرائم حرب."

لعل تلك هي متلازمة الاستعمار السيكولوجية كما يقترحها فرانتز فانون في كتابه " المعذبون في الأرض". فلا تزال الأيدي الاستعمارية تعبث كما تشاء، خاصة، في هذا النظام ذاته المُهدد الآن بثورة من الشعب، أصدق تسمية لها هي "انسانية مائة في المائة"، النظام الذي صار يرأسه الآن قيادات يدها ملطخة بالتعذيب والقمع وانتهاك الانسان. الإنسان العربي الذي لم يك أحدا يراه، ويُمارس ضده ما قد تمارسه قوى استعمارية متعالية، قد نهض، فالاستعمار والاستغلال والفساد والاستبداد والعنف - وكلها مشتقات استعمارية متأصلة في الثقافة الغربية، تجاه ما ليس غربياً، التي جعلتنا نصدّق أن الأخلاق القبلية للعرب، والشرق، هي أساس العنف، وأن العرب وثقافاتهم ودياناتهم تروج للعنف، في حين أن أكثر ضحايا العنف من المناطق الشرقية من العالم، وأكثر مجرميه من غربه، ومع هذا يتبجح أمثال هنتنغتون بخرافات نيو-ليبرالية.

لا تضع هذه الثورة حداً للاستبداد السياسي وأسسا للديمقراطية العربية فحسب، بل كذلك حداً للاستعمار الذي لم يزل مستمرا للآن. ومكاسبها الأخلاقية والثقافية سوف تفوق مكاسبها السياسية، ولا حجّة أو عذر لكل من يعارض تصعيداتها بدعوى - اعطاء فرصة للنظام الحالي- النظام الحالي، المجرم، ذو الأدوات الاستعمارية؟ أي فرصة تُعطى له إن لم تك فرصة للمزيد من القتل.

Saturday, January 1, 2011

مشاهد قروسطية معاصرة

أهم ما يميز المسيرة النقدية لادوارد سعيد، الى جانب كتابه الاستشراق، وأطروحة الاستشراق بشكل عام، وتيار النقد للخطاب الكولونيالي، والكتابات ما بعد الكولونيالية، هو انتقاده لأطروحة هنتنغتون بخصوص صراع الحضارات.

يقول سعيد، أن كلام هنتنغتون هراء. لأنه يستند إلى فرضية تماسك أو وضوح الحدود الدقيق لكل معالم/مميزات وخصائص الحضارة الغربية. أو الإرث اليهودي-مسيحي. في مقابل  الثقافات الشرقية العربية أو الكونفيوشوسية.

سعيد يؤمن - وأكاد أوافقه- أن أي حضارة أو ثقافة هي نتاج تفاعل وتمازج طويل الأمد. الدلائل التاريخية تقف مع كلامه: فمثلاً النسك الرهباني، والتراتيل الكنسية، التي ميّزت الحضارة الأوروبية ما-قبل-النهضة ترجع أصولها للشرق. مصر تحديداً في المثال الأول، وبيزنطة للمثال الثاني. وهنالك من يذهب للقول أن الفكر الأخلاقي - مقابل الفكر الميتافيزيقي، الذي ميّز عهد الأنوار، ترجع أصوله لتأثّر مفكري أوروبا بابن رشد، وابن سينا، وابن خلدون، واخوان الصفا، مقابل أفكار توماس أكويناس الميتافيزيقية.
في هذا تعميم جارح، لكنه مجرد محاولة شخصية لتبيان خطوط التمازج سواء الخفية أو العريضة. في أفكار سعيد براكتيكية سياسية جيّدة. لأن هراء هنتنغتون وفوكوياما - اللذان يسميهما سعيد بالأصوليين الجدد- تتم معاملته في مراكز صنع القرار بالغرب كآجندة عسكرية-سياسية. وطريقة تعامل عصرية مع الشرق، في هذا تقاطع مع أفكار سعيد بشأن الاستشراق، كأداة سياسية وطريقة لاستقبال الشرق ومعاملته وليس مجرد اهتمام ابيستمولوجي.

للأسف. أطروحات هنتنغتون زادت سُعار العصر ما بعد العام ٢٠٠١ وتفجيرات سبتمبر. سُعار : القطبية. قد تقطّب العالم، يميل المفكّرون السياسيون إلى اعتبار فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فترة الصراعات الاقليمية، والقطبية التي أرعبت العالم مذ الحرب الثانية حتى التسعينيات تم استبدالها بمعارك اقليمية لصالح القوّة الوحيدة المتبقية. المؤسف أن القطبية صارت أسوأ، ليست آيديولوجية، بل عقائدية.


في محاولات سعيد لاقتراح حلّ للمسألة الفلسطينية، ينادي بالدولة المزدوجة، وليس الدولتين المنفصلتين، هذا يعني تمازج هويات الفلسطينيين والاسرائيليين للعيش جنباً إلى جنب في دولة واحدة.طبعاً، وبحد تعبير صفحة ويكي، هذا كابوس بالنسبة للكيان الصهيوني ذي الهوية المسعورة. بينما تبدو لي بشكل شخصي. أطروحة سعيد طوباوية لدرجة تكاد تكون كوميدية. ولعلها تبدو للجميع "خاطئة" ربما لأنها التخيل الأقرب للجنة.

عموما. أصل الفكر السياسي هو محاولات دنيوية لتخيل جنة. يتخيلها دانتي كنظام عالمي موحد يحكمه ملك واحد. ويتخيلها ماركس كعودة لمرحلة الشيوعية الأولى/البدائية. يتخيلها سعيد كتعايش سلمي لكل الهويات/الجنسيات معاً. ويستمر سعيد في أطروحته لرفض كل أشكال "الهوية/القومجية" المتطرفة. وبرأي سعيد -اليساري - أي نوع من القومجية أو اشتعال الهوية يؤدي لنتائج مؤسفة. يسمّي سعيد تعصّب الهويات/كما يعبّر عنه كذلك أمين معلوف في "هويّاته القاتلة" : المأساة الأسوأ في العالم الثالث. بدا هذا الكلام مذ سنوات عصيّاً على التسامح - ربما بالنسبة للقاريء العربي بالذات- لكنه بدا لي الآن - ٢٠١٠، ٢٠١١- بعيد النظر.  عموماً، وإن كانت تخيلات سعيد طوباوية، فهذا يفسّر ابتعاد الحال العالمي الآن عنها، وأي سير تجاه المزيد من التحزّب/القطبية/العصبية، يعني السير إلى مراحل غير-طوباوية، أو ظلامية.
مُدخل ادوارد سعيد لانتقاد النزعات العصبية تجاه الهويات ربما مصدره نقده للاستعمار/الامبريالية الغربية المشحونة لأجل تصدير الوهم الميتافيزيقي/الطوباوي للهوية الغربية المثالية. لذا فلا أظنّ أن "الهوية" أزمة العالم الثالث وحده، هذا العام.
 هذا العام وسابقه خيم عليه نوع من سعار الهويات، في أماكن متعددة، وتزداد نتائج استطلاعات الرأي في أوروبا تطرفاً، تجاه العرب، بشأن موضوع "الهوية الأوروبية". بينما تتطرف الهويات تجاه بعضها بعضا في أماكن متفرقة من الشرق الأوسط (وهذا التطرف كذلك واقع في بركة من الوهم). يشدد ساركوزي، في خطابه الرئاسي بمناسبة العام الجديد، على "سذاجة" دعاوي من يقترح على فرنسا الانسحاب من اليورو. مشدداً-من جديد- على مسألة: هوية فرنسا المرتبطة بهوية أوروبا، وهوية أوروبا، وحمايتها، الخ. تتكرر كلمة هوية أكثر من مرة في خطابه بشكل يجعلي أتذكر كلام سعيد. ولا أعرف إن كان يعني كلامه بشأن الهوية الأوروبية المزيد من المطاردات للغجر.


Monday, December 27, 2010

Black Swan (2010)

 مشروع ١٠ سنوات آخر، هذه المرة مع دارِن آرنوفسكي، مخرج أفلام أخرى مشهورة شعبيا ونقدياً، مثل مرثية حلم. المصارع، وغيرها. أجد أن المعضلة السيكولوجية الرئيسة للفيلم، ليست فكرة "القرين". بل الكمال. فيلمي البجعة السوداء، والمصارع، يكمّلان بعضهما- بحسب قول آرنوفسكي- في استكشاف الهوس المُرهق، والمُهلك، للإنسان، سواء نحو المجد أو الكمال. في حين أن فيلمه المصارع يلعب على وتر المجد العابر لبطل مصارعة يتقدم في السن، يفقد قوته بالتدريج وكذلك شعبيته، رأيي أن فيلم البجعة السوداء أكثر ثقلاً من الناحية الدرامية، السيكولوجية والفلسفية، فيلم المصارع يتناول موضوع العاطفة، والوحدة، والعلاقة بين الأب والابنة. ومسائل "انسانية" أخرى أكثر لطفاً، حتى أحداثه تدور أغلب الوقت في "العالم السفلي" للمصارعين المأجورين، في الكابينة التي يسكن بها بطل الفيلم، في الحانة التي تعمل بها حبيبته، كلها أماكن "متواضعة". قبيحة، في حين يُثقل فيلم البجعة السوداء باعتبارات الجمال الحادة والمتطرفة، يُحسب لآرنوفسكي محاولاته الناجحة في اسكتشاف عوالم أناس مرهقين دوماً ومُستنزفين حتى الموت بسبب مهنتهم المتطلبة، عاطفيا ونفسيا وجسدياً. وأكاد أحسّ أن آرنوفسكي يتفق معي لو قلنا أن حياة راقصة الباليه الأولى (باليرينا) أشدّ عنفاً وايلاما من حياة مصارع حرّ.

في طفولتي شاهدتُ فيلما يحكي قصة باليرينا تتدهور نفسياً، وتقع في هوّة الهوس الجنوني بوزنها، حتى ينال المرض كذلك جسدها، إنها في طريقها لبلوغ الكمال تُدمّر نفسها.

تأثرتُ بالفيلم، وبفضله صرتُ أرى أوضح، راقصة الباليه ليست مؤديّة فن، كمغنية الأوبرا، وليست منتجة له. ككاتبة أو رسّامة أو عازفة. هي ذاتها عملٌ فني.

حبكة الفيلم الخلفية تدور حول هوس نينا -البطلة- بالكمال. لكن هل هوس كلمة صحيحة؟ نعرف من الفيلم أن مهنتها الحالية كراقصة باليه إنما وُرّثتْ لها من أمّها. راقصة باليه قديمة لم تفلح في اكمال مسيرة الشهرة لأنها اضطرّت لتربية ابنتها. العلاقة السايكوباتية بين الأم والابنة جليّة تماما. الأم تحاول "تحويل" ابنتها إلى راقصة باليه كاملة/مثالية. كنوع من التعويض، العلاقة مُكهربة ومشدودة نفسياً. آرنوفسكي ينجح في تبيان "الظلام" الذي يسود الشقة التي تحيى بها الأم مع ابنتها لدرجة تجلب الاختناق للمشاهد. والأم تعامل نينا كطفلة، فهي متحكّمة تماماً بكل مناطق حياتها لدرجة أنها أحيانا تُلبسها وتخلع لها ملابسها. حجرة نينا مليئة "بالدباديب". كل شيء "وردي". "هوس الجمال/الكمال" الذي "يسكن" منزلهما يكاد يكون خانقا للمشاهد، في أول مشهد للفيلم تستيقظ نينا على الافطار الذي تعدّه لها أمها، ثمرة جريب وردية، تقول نينا بمرح : وردي!، جميل، جميل. ثم تردد الأم من ورائها : جميل.


علاقة أم/ابنة غير سوية، فنحن لا نجد في حياة نينا شيئا آخر غير الباليه، ونجد أمّها متحكّمة في كل عنصر بحياتها، لقد حوّلتها أمّها إلى الشيء الذي لم تستطع هي أن تكونه، ولم تسمح لها أن تكون شيئا آخر غيره.

في بداية الفيلم، حيث حلم نينا، نجدها تؤدي عرضاً للباليه، ويظهر معها رجل/ يراقصها ويتحول إلى هيئة موحشة/شيطانية. ولعل حلمها هذا محاولة من آرنوفسكي للعب - استاطيقياً- على مسألة الكمال، فهي لم تر "قرينتها" مهددة، إياها، في الأمر احالات فاوستية. وبعد الحلم في طريق نينا لمحل عملها تشاهد في المترو فتاة أخرى تكاد تماثلها شكلا.

هناك نشاهد للمرة الأولى "توما" مخرج العرض، يعدّ لعرض جديد للباليت الأزلي "بحيرة البجع". هذه المرّة يقدم معالجة جديدة للقصّة للتحوّل إلى "البجعة السوداء". تعديلات توما على القصة تتضمن ادخال شخصية البجعة السوداء. أخت توأم للبجعة البيضاء- البطلة الأصلية للأسطورة، أوديت، التي يسحرها  فون روثبارت، تتحول إلى بجعة محصورة اقامتها في بحيرة تخلّفت عن دموع أمها حزناً عليها، أوديت تعود انسانة فقط في الليل- وفي الأسطورة الأصلية هنالك أوديل، ابنة روثبارت التي تحاول خداع الأمير سيغفريد وايقاعه في حبائلها. الحبكة الأصلية أن سيغفريد يترك أوديت لأجل أوديل، هكذا تضيع فرصة أوديت للأبد في العودة بشرية من جديد، لأن "الحب الأبدي" الذي يجب أن يُررها ضاع منها. يعرف سيغفريد هذا ويعود محاولا كسب غفران أوديت من جديد، تسامحه لكنها تُغرق نفسها في البحيرة، لأن الموت هو الطريق الوحيد كي تستعيد حريّتها مجددا، خارج جسد البجعة. سيغفريد ينتحر معها تعبيرا عن حبه. تُختتم الباليته ببقائهما معاً، للأبد، في الجنة.

معالجة "توما" تدور حول ادخال "قرينة" لأوديت، الملكة البجعة، هي بجعة سوداء، المفترض أنها شريرة، مؤذية وجشعة تسعى للاستحواذ على الأمير. وحين تعرف أوديت بضياع الأمير منها تنتحر كذلك. ويبدو أنها تفعل هذا، هذه المرة، وحيدة دون الأمير.

في الفيلم "توما" يلعب ألعاب سيكولوجية مع نينا، ففي البداية يعطيها فكرة أنه اختار راقصة أخرى للدور الرئيسي، معللا هذا بضحالة نينا - دراميا- فهي لا تستطيع إلا أن تؤدي البجعة البيضاء، إنها هشّة، بريئة، متحفظة، تفتقر إلى الانطلاقة والحرارة العاطفية، كل حركاتها مُتحكم بها، منضبطة جداً.

تكتشف نينا فيما بعد أنها هي صاحبة الدور الرئيس. منذ هذه اللحظة بالضبط يبدأ مرضها النفسي. توما زرع داخل نينا - عن غير قصد- قلق أنها غير كفء لأداء الدور المزدوج. (بجعة بيضاء، وبجعة سوداء). تتربص نينا بنفسها، يستمر الفيلم مع مشاهد لتدريبات نينا أمام توما، العابث، ثم مشهد الاعلان الرئيسي لنينا بطلة العرض الجديد، وتوديع للملكة البجعة السابقة - بيث/تؤدي دورها وينونا رايدر- بعد الحفلة تنشب مشادة كلامية بين بيث ونينا، تعرف نينا بعد ذاك أن بيث حاولت الانتحار - صدمتها سيارة. ويعزز هذا لدى نينا المزيد من المشاعر السوداء والذنب.
النصف الثاني من الفيلم يشهد تقرّب ليلي/ميلا كونيس. من نينا، ليلي راقصة باليه كذلك لكنها أكثر انطلاقا وحرارة، و"عبثا" من نينا الملتزمة المتحفظة. في أحد المشاهد المهمة يعلّق توما على رقص ليلي : أنها لا تصطنع، حركاتها غير مضبوطة لكنها تنم عن عاطفة حقيقية. يؤجج هذا المزيد من المشاعر السيئة لدى نينا، البارانويا والهوس يجعلان نينا تقتنع أن ليلي هي المؤدية المثالية للبجعة السوداء. في حين أنها هي -نينا- لا يمكنها مهما حاولت أن تؤدي شيئا غير البجعة البيضاء. ليلي القوية المنطلقة، غير العابئة بالقوانين، حين تدخّن في قاعة الرقص. تشهد بكاء وذعر نينا الهشّة حين تصاب هذه بالتشوش من محاولات توما المستهترة للعبث معها واثارتها، وتعبر عن عجزها عن المواصلة. ثم تعرف نينا فيما بعد أن ليلي أخبرت توما بمدى الاستياء والبؤس الذي وصلت إليه نينا. وهذا يُظهر بمظهر أكثر ضعفا أمامه.

تستاء نينا من ليلي. لكن فيما بعد تذهب الأخيرة لبيتها لتعتذر. وتدعوها للخروج معها متأخر للشراب. أم نينا تعرب عن رفضها، وفي هذه اللحظة نشهد أول محاولة من نينا للتمرّد على حياتها السابقة، المنضبطة للغاية، كراقصة باليه ليس في حياتها شيئا آخر غير الباليه. وتذهب للسهر والقصف مع ليلي رغم تدريباتها المبكرة في اليوم التالي.


تتعقّد الأمور سيكولوجيا أكثر، لدى نينا، حين تزداد هلاوسها وحشية، إنها الآن صارت ترى وجهها في وجه ليلي - في اللحظات الأكثر عبثا وانحلالا للأخيرة. في اليوم التالي تذهب متأخرة للتدريب، وتجد ليلي ترتدي ملابس البجعة السوداء وقد حلّت محلّها في التدريب. تشرح لها الأخيرة أن توما جعلها بديلة.

المشهد التالي هو المشهد الأكثر جنونا وسوريالية. تعود نينا غاضبة لمنزلها، وهناك تهاجمها المزيد من الهلاوس المرعبة، جروح ظهرها التي كانت تظهر من حين لآخر - والتي نعرف أن علّتها الهوس المرضي لديها بخدش نفسها- تزداد توّرما وقد برز في ظهرها "ريش أسود". تحاول أمّها الدخول لحجرتها، تمنعها نينا بعنف مغلقة الباب على يدها.

نينا تستيقظ في مساء اليوم التالي - ليلة الحفل الكبير- وتجد أمها بجانبها، وقد اتصلت هذه بالشركة وأخبرت أن نينا لن تحضر لأنها - مريضة-. يجن جنون نينا، ولعلها في هذه اللحظة تدرك أن أمها كذلك تغار منها، ولا تريد لها النجاح، تريدها أن تفشل مثلها. تصل بارانويا ووحشة نينا لذروتها حين تجد الجميع عدائيين تجاهها، زميلاتها الراقصات يحقدن عليها، ليلي تحاول سلب الدور منها، توما يعبث بها. الخ.

تذهب نينا للعرض، وتنتزع من ليلي الدور من جديد، بعد أن آل للأخيرة حين علموا أنها لن تأتي للأداء. يدخل توما لحجرة تبديل الملابس ويخبرها أن ليلي صارت المؤدية الرئيسة بالفعل، وهناك يشهد "تحولا" لنينا، حين تخبره هذه بخبث إن كان قد أعلن ذاك، وأنه ربما لا يرغب في المزيد من الجدل بعد حادثة بيث.

أثناء العرض تتعثر نينا - بسبب المزيد من الهلاوس. يصب توما جمّ غضبه، وتعود هذه لحجرتها وتجد هناك ليلي، تغيظها هذه بشأن خطئها معبّرة عن "قلقها؛ من أن نينا غالبا لن تستطيع أداء الحركة التالية (تقصد، البجعة السوداء). ذروة الفيلم في هذه المشهد حين تجن نينا من جديد وتدفع ليلي إلى المرآة، - مع مزيد من الهلاوس، بتحوّل ليلي من حين لآخر للتتخذ شكل نينا- ثم تطعن نينا ليلي، وقد ظنت أنها قتلتها، تسحبها إلى الحمام.

لقد اكتمل "التحول الظلامي" لنينا، وهي الآن تنظر لنفسها في المرآة، تضع ماكياج البجعة السوداء، الشريرة، وعينيها محمرتان حمرة شيطانية. إنها حتى لا تهتم بالقتيلة ليلي، وتصعد نينا إلى خشبة المسرح مؤدية دور البجعة السوداء بامتياز، يصفق الجمهور بحرارة، وتنتشي هذه - لدرجة جنونية - بالمجد والتألق. نينا وصلت أخيراً للكمال حين صارت تنتقل - بلا أي صعوبة - من بجعة طيبة/فتاة بريئة وبيضاء، إلى بجعة سوداء/فتاة مغوية شريرة. 
المشهد الختامي حين تعود نينا لحجرة الملابس. وتغطي دماء ليلي المتسربة من باب الحمام بمنشفة، ثم تعود إلى المرآة، متأملة نفسها بزهو تكمل زينتها بلا أي شعور بالذنب. يُطرق بابها فتجد ليلي بالخارج تشيد بدورها، تُذهل نينا، وتفتح باب الحمام فلا تجد هنالك أية جثة. تنظر فتجد أن الطعنة المدماة إنما في معدتها هي. لقد قتلت نينا نفسها في نوبة هلوسة.
تصعد رغم ذلك لتؤدي مشهد ختام الباليت. وتلقي بنفسها -كما هو السيناريو- لكن حين تسقط، ووسط تصفيق الجمهور. نجد زيّها وقد أُدمي بالكامل. لعلها تحتضر، يُختتم الفيلم بتوما يستدعي اسعافا طبيا، ويسأل نينا عمّا فعلته، تقول هذه : لقد شعرتُ به. شعرتُ بالكمال
لعل آرنوفسكي يحاول تقديم قصة "تدمير ذات"، بمسحات فاوستية، حين تحاول نينا السعي للكمال، الكمال في دورها بالذات - بجعة بيضاء/بجعة سوداء- هوسها وكراهيتها لعجزها عن أداء الدور بشكل الصحيح يدفعانها لنوع من العنف تجاه النفس - هو الفيلم مرضها النفسي أو البارانويا- الجزء الرمزي هو قتل نينا لنفسها، هل قتلت نينا شخصية الفتاة الحلوة -بحد تعبير أمها- البريئة، البيضاء؟ كي تصل للكمال وتتمكن من أداء دور البجعة السوداء الشريرة؟ إن أفضل الأفلام في نظري - رغم اعجابي بالرمزية - هي التي تقدم رموزاً مضطربة، فوضوية، غير مصنوعة بالمسطرة. لا أريد فيلما أتمكن من القبض على رمزه بوضوح شديد ودقّة. أفضل ما بأفلام آرنوفسكي هو "روح العبث" التي تحوم بها. لا أظن أن آرنوفسكي كمخرج يهتم كثيرا بالرموز. غالبا يهتم باظهار التمزق العاطفي والنفسي لأرواح أبطاله، وأجسادهم.

Sunday, December 26, 2010

Die Entzauberung der Welt

اضطررتُ للأسف لحضور حلقة دراسية تتطرق لبعض المواضيع من الحضارة المصرية القديمة، والبارحة تطرّق أحدهم - يحمل درجة علمية عالية في الموضوع نفسه- قائلاً: أن المصريين القدماء توصّلوا لطريقة لصنع الذهب، وهنا أتدخل أنا لأشرح للقرّاء: ما فهمته أنها طريقة -ميتافيزيقية- باستخدام أرقام معينة،  في أوقات معينة من السنة -بحسب علم التنجيم أو الفلك المصري القديم. بتجميع هذه الأرقام بكيفية ما - على حدّ قوله- يُصنع الذهب.

طبعاً، كلامه هراء. ولست من هواة التفافز بالحجّة العلمية التي سوف تجعل الكلام كله كوميدياً جداً، لكن، أولاً "هذا التخيل" حديث العهد، رأيي أنه ينتمي لعصر النهضة الأوروبية حين سطع نجم القبالة اليهودية، التخيل الذي يقترحه الأخ تخيل "قبالي" جداً. التصوف اليهودي قديم العهد- لكن ليس جداً، تقريباً أيام مدرسة الاسكندرية حين اختلطت أفكار فيلون اليهودي بالأفكار الغنوصية الناشئة. أما القبالا فهي نهضوية بالكامل. ولا أتصوّر أن تكون قد قامت - بهذه التخيلات الرقمية، ذاتها- في زمان أقدم.

ثانياً، والأهم: هذه التخيّلات جاءت غالباً لتبرير الكميات الهائلة من الذهب التي تحصّل عليها قدماء المصريين، ونعرف أن مصدرها الحقيقي/الفيزيقي، هو السُخرة، وعمليات السخرة القاسية واللا آدمية التي قادها عليّة القوم في مصر القديمة، لجمع الذهب من المناجم، وعمال المناجم يعملون في ظروف مرعبة، وصفها كتّاب اغريق في كثير من المصادر.

أنا لا يهمني هذا الهراء، ما يهمني  هو استخدام أبعاد خرافية لتبرير واقع مرير، وكل هذا يحدث في اللا-وعي البشري، هنالك مثال آخر هو الخيمياء - وتلك أيضاً استمّدتْ قاعدتها الخرافية من مصر القديمة، الخيمياء في عصر النهضة وما يليه - أي عصر المركنتليين، والمركنتليون مفكرون "اقتصاديون" أرجعوا قوّة الدولة -السياسية، العسكرية والمالية- للنقد، العملة، أي الذهب، وعليه فإن الدول الراغبة في القوة والثراء عليها أن تغير على جيرانها لتتحصل على ذهبهم. وفي العصر ذاته يستبدّ بالمثقفين هوس باطني بتحويل الرصاص إلى ذهب. وفي العصر ذاته تظهر خرافة "إل دورادو". وتحكي عن زعيم قبيلة مويزيكي غطّى نفسه بتراب الذهب وغاص في بحيرة غواتافيتا كنوع من الطقس الديني - بكولومبيا حالياً. الطريف أن كل هذه الخرافات تتعلّق بالذهب بشكل ما- هذه الخرافة منشأها أسباني تحوّرت لتصف مكانا خرافيا (مدينة ذهبية ضائعة). أين ؟ في أمريكا الجنوبية. وهو هوس خرافي استبدّ كذلك بالغزاة الأسبان أيام اغاراتها المتتالية على هذه القارة.


إن كل عمليات التحصّل على الذهب في العصور القديمة - مدفوعة بجشع إنساني متوحش لكن منظّم للغاية. شابها بعض الخرافات. هل الخرافة هي نوع من "وضع يد البشر وقتها في الماء البارد". الخرافة ترفع "هذه المسؤولية" الأخلاقية التي قد يحتملها هؤلاء. والأمر أكثر وضوحا في حالة "إل دورادو" : البحث عن مكان خرافي يبرر كل جنون/عنف/ دموية/ تُساق في سبيله، والعالم حينها يفقد -من الأساس- كل أبعاد الحكم السليم.

Friday, November 12, 2010

المخلوقة الجميلة في الرداء الأبيض/٢

لا أتذكر مشهدا روائيا أفضل من ذاك الفصل، في رواية المعلم ومارغريتا، للروسي بولغاكوف، حين راحت مرغريتا تحطم كل نوافد البناية، التي تحوي شقة رجل تسبب في ضياع المستقبل المهني لحبيبها. كأديب وروائي.
لكن كيف؟ على مقشّة سحرية، بعدما دهنت جسدها بمرهم أعطاها إياه "فولند"، أو الشيطان في الرواية، واستعادت شبابها، واكتسبت قوى ساحرة.

مارغاريتا، مثل "سوبر-غيرل/ليدي" كلاسيكية، روّعت الجميع، في البناية، في الشارع وفي موسكو، إلا طفلا صغيرا ينام وحده في البرد، في شقة ما من البناية المكروبة، إنها غير-مرئية، لكن الصبي أحس بوجود إنساني، وخاطبها على أنها عمّته. تهدئه مارغاريتا وتساعده على النوم.

اسم مارغارتيا مستقى من القصة الفلكلورية الجرمانية الأشهر، فاوست، وهو أصلاً لفتاة تدخل إلى "التابلو" المانوي بين فاوست وميفستوفيلس، المزاج الشعبي يجعلها ميتافور للخطيئة، وعقدة الذنب لدى فاوست، لكن غوته يخلع عليها أدوار أكثر قوة: الموازن.
إنها موازن لأن في نسخة غوته من فاوست، خلاص فاوست متمثل في حب مارغاريت/غريتشن له. يدخل الحب كعامل رومانتيكي، من شاعر ميوله رومانتيكية، في الصراع الصارم والكابوسي بين النور والظلام، الخير والشر، إلخ.

فولند وزمرته في رواية "المعلم ومارغاريتا" يشير صراحة إلى بحثه عن سيدة تحمل اسم مارغاريتا، في موسكو، لتأخذ دور "ملكة" وراعية لحفلته العجائبية. حفلة "في العالم السفلي" تضم أموات قادمين من الجحيم، لكن لماذا مارغاريتا، في الرواية اشارات مثل" لم نجد من هو أكثر مناسبة منها"، ويبدو أنهم يبحثون عن مواصفات معينة لهذه الراعية/الملكة، أن تكون عاشقة.

في الرواية كانت مارغاريتا على استعداد بالقيام بهذه المهمة العجيبة، والبغيضة، لأنها تتوقع أن تحصل على شيء، أن تجد حبيبها مجدداً، الذي فقدت الطريق إليه، ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وهذا ما يحدث.


تتقاطع "مارغاريتا" كشخصية استثنائية مع الإرث الميثولوجي المصري القديم، تحديدا في شخصية "ايزيس"، ايزيس ذاتها مرت بتحولات كثيرة، ولا يمكن وضع معالم، حدود واضحة أو صارمة ترسم أبعاد لا تُخطيء، لكننا نتحدث عن الصورة النهائية لها التي ترسخت خصوصا في المعابد التي شيدت على شرفها في روما. "ايزيس" بحسب بلوتارك ومؤرخين آخرين، هي ملكة العالم والراعية له. وكما هي راعية "للمخطئين"، فهي ترعى المرضى واليائسين، والفقراء والأغنياء، على حد سواء. ما يهمنا هو الجزء الفلكلوري من تاريخ ايزيس، كحبيبة لأوزر، إن ايزيس لا تكتسب أهمية واضحة إلا حين يُحوّل الخيال الفلكلوري "سيث"، راعي مصر العليا، إلى ممثل للشر، القصة تكتسب أبعاد مانوية فتدخل ايزيس كموازن، بل هي البطلة الوحيدة للحكاية الميثولوجية الأهم تقريبا في الديانة المصرية الوثنية القديمة، الأمر لن يختلف كثيرا عن مارغاريتا، ايزيس العاشقة تفعل كل عجيب لتنقذ أوزر، ولـ"ايزيس" علاقة وثيقة بالسحر، تختلف عن الدور "الابيستمولوجي" لـ تحوت مثلاً، حين يأخذ دور المُعلّم، ايزيس تملك القوة السحرية -بحسب المصري القديم- التي تعالج، تنقذ، وتفعل الأعاجيب لنصرة الخير.

و ايزيس تكتسب قواها السحرية حين تستخدم الثعبان "وادجيت" للدغ رع، والحصول منه على اسمه السرّي، مهددة اياه لأنها الوحيدة التي تعرف علاج سم وادجيت، ايزيس تلعب لعبة خطرة جداً في الميثولوجيا لكن، كل هذا لأجل اعادة أوزر إلى الحياة. ومن أوزر، ايزيس تكتسب علاقتها بالعالم السفلي.


دور ايزيس، يتمثل، كما هي الشروح الحديثة للميثولوجيا، في استعادة النظام لعالم وقع في فوضى اثر انتصار "سيث"، أو عالم فقد مبادئه، لأنه لم يعد يفرق بين الخير والشر، كلا منهما فقد معناه وتحول إلى مجرد صراع بين قوتين، بين جانبين مفرطي القوى، ولم يعد ذاك الصراع يهم الإنسان العادي، شديد الضعة والتعاسة في شيء. الحب، العاطفة والأمان الأمومي هو ما يكسب هذا الصراع المعنى الوحيد.

في رواية كـ"المعلم ومارغاريتا"، التي، بحسب النقاد، تعتبر تعبيرا عن استهجان وغضب انساني من ضياع القيم في وطن فاقد لهويته، روسيا الشيوعية، حين يقف المثقف، أو من هو، كما يفترض،  الشخص "المُمَيِّز"، يقف هذا المثقف وغيره بلا مبالاة أمام جرائم النظام الشيوعي ضد الأقليات، وضد الجميع تقريباً، في فترة تتميز بصراع بين القوى، شديد العبثية وخال من أي معنى انساني، (الشرق الشيوعي، الوسط الفاشي، والغرب الرأسمالي)، تأتي شخصية مارغاريتا كاستعادة للدور القديم، والمتجدد، لشخصية "راعية" ومتوازنة تصنع " النظام من الفوضى"، وفي الرواية، النهاية السعيدة إنما المحرك الرئيسي، والمسبب لها، هو مارغاريتا، إن النظر في دور مارغاريتا في الرواية كذلك يلقي بالضوء -بشكل ريتروسبيكتي- على سر اهتمام المجتمع الروماني، الغربي المفرض في غربيته وعقلانيته، المعادي للشرق بطبيعته، حين يحتضن شخصية كـ"ايزيس"، في عصر فوضوي، في ظل تصارع عبثي للقوى بين روما وبين كل ما عداها.

Friday, November 5, 2010

Au revoir les enfants (1987)

فيلم فرنسي من اخراج لويس مال، يحكي قصة بسيطة: مدرسة فرنسية كاثوليكية للصبيان، أيام الاحتلال النازي لفرنسا (الحرب العالمية الثانية)، تؤمّ ولداً يهودياً، بعيداً عن بطش العسكر الألماني.

والفيلم يسير بالقاعدة السينمائية الكلاسيكية: لو أردت، املأ الفيلم بما تشاء من التفاصيل المملة، لكن ادهش المشاهد بالنهاية، الفارق أن التفاصيل لم تك مملة، مذ البداية وحتى النصف ساعة الأخيرة من الفيلم يصوّر تفاصيل حياة الصبية داخل مدرسة مغلقة، صارمة وبعيدة في شتاء كئيب.
الفتى البطل، جوليان كينتان، فرنسي من عائلة برجوازية، ثرية، يفتتح الفيلم بمشهد توديع أمه له في محطة القطار، قبل أن يذهب للاقامة بالمدرسة. في ذات الوقت يصل الفتى الجديد، والذي يقدمه الرهبان إلى الصبية باسم : جان بونيه، جوليان فتى حذق، لكن متعجرف، ولأن الصبيان يتمتعان بذات المستوى من الذكاء والتميز الدراسي، تنشأ بينهما في البداية عداوة، ومنافسة، لكن هذه المشاعر تتحول إلى صداقة وتسامح بعدما يكتشفان نقاط تشارك أعمق لدى كلا منهما، مثلاً، حب القراءة.


تتعقد علاقتهما حين يكتشف جوليان بالصدفة الاسم الحقيقي لجان بونيه، وهو: جان كيبلشتاين، يدرك جوليان بالتدريج أن جان يهودي، فهو لا يتناول اليوخاريست، ولا يأكل من شطائر لحم الخنزير، ويتلو صلواته بوضعية غريبة بالنسبة لجوليان، والجو، كما قد يتوقع، عنصرياً داخل هذه المدرسة، التي تؤم صبيان من عائلات غنية جداً، ونحن نلاحظ مذ بداية الفيلم عدوانية الصبية تجاه من هم أقل، سواء تجاه الصبي العامل في المطبخ، جوزيف، أو تجاه الفتى الجديد والمنطوي جوليان اليهودي. في اشارة عابرة، حين يفسر جان بونيه اختلاف ممارساته الدينية، يقول أنه بروتستانتي، أحد الصبية ينعته مزحاً، أيها الهرطيق.
يواجه جوليان كينتان، صديقه جان بونيه/كيبلشتاين، بأمر أنه يهودي، مما يهدم تقريباً كل ودّ بينهما.

في مشهد يحوى عناصر شاعرية، كلاسيكية، يتيه جوليان كينتان في الغابة المجاورة للمدرسة، بعد أن يقطعها وحيداً، في لعبة صبيانية، بحثا عن كنز ما، يكتشف جوليان أنه وحيد، ويكتشف كذلك أن جان كيبلشتاين معه، يخرج الولدان ويجدا سيارة تقل عساكر ألمان، يركض كيبلشتاين فزعاً لكن أحدهما يمسك به. ويعيداهما إلى المدرسة.
لعل مشهد الضياع في الغابة، بحثا عن كنز، ثم الخروج منها، يرمز إلى التحول التنويري في رؤية جوليان تجاه الآخر، والمختلف والأقل، بالنسبة لفتى صلف، مدلل، يعامل حتى أمه بجفاء.

يتخذ الفيلم منعطفا دراميا حين تُكتشف سرقات الفتى جوزيف، ويُطرد من عمله بالمدرسة، فيشي ذاك للجشتابو بوجود فتية يهود داخل المدرسة، بل أنه يعطي الجشتابو أسماء هؤلاء، ربما، يريد الفيلم، بما أن الاطار والأحداث تجري في بيئة دينية، اعطاء تلميحات انجيلية لقصة اضطهاد المسيحين الأوائل، أو حتى لقصة خيانة يهوذا.

في مشهد الخاتمة يدخل ضابط الجشتابو على الأولاد، في قاعة الدرس، سائلا ان كان هنالك من يدعى كيبلشتاين، والمشهد يصوّر "الرعب من النازي"، حين يجعل الضابط قادرا على التعرف على اليهود، بدقة، من مجرد النظر لوجوههم.
يسلم الفتى كيبلشتاين نفسه، ويُقبض على صبيين آخرين. وكذلك على الراهب جان، المسؤول عن المدرسة، في الفيلم تُطرح مسألة التصارع في القوى، بين سلطتين -أصلاً- قامعتين، سلطة الكنيسة الأوروبية، وسلطة النازي/الجشتابو، لكن كعادة هذه الأفلام، تظهر جهة الكنيسة، هي الجهة الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه الدولة "اللويثيان"، (في اشارة ظريفة، في بداية الفيلم يأتي جندي ألماني يطلب الاعتراف لأحد الكهنة). والكنيسة في الفيلم تبدو كدولة داخل دولة، والرهبان وحدهم هم من يملكون القدرة على صدّ تدخل الجنود الألمان، والمطالبة باحترام الجهة الدينية وراء المدرسة، بل أن القس جان يخاطر بحياته، وبحياة الأطفال داخل المدرسة، أطفال الأعيان والبرجوازيين، ليؤم ولداً يهودياً فقيراً، من أصل متواضع "أبوه محاسب". في حركة تكاد تبدو راديكالية. هذا التمثيل يتكرر كذلك في أفلام أخرى عالجت مشكلة النازية، مثل فيلم "الكتاب الأسود"، فمن يجرؤ على ايواء يهودي؟ في بداية هذا الأخير تقيم الشابة راشيل شتاين، اليهودية، مع عائلة رجل دين بروتستانتي.
لا يمكننا أن ننسى الاحالة المفضلة لدى كثير من الفنانين، حين يظهر العسكر، الحرس، كهؤلاء الرومان الذي اضطهدوا المسيحيين الأوائل، ففي الذهنية الغربية، حين تقع احالات شبيهة، الأمر يبدو مثل البروباغاندا لتجريم سلطة الدولة، لا تزال تظهر اشارات مماثلة في تاريخ الفن عموماً، ففي لوحة غويا الأشهر، الثالث من مايو، لا يخفى علينا المظهر الاستشهادي للرجل ذي القميص الأبيض، موضوع اللوحة الرئيسي، رافعاً ذراعيه كصليب، الاشارة الأكثر مباشرة هي ذاك القس، الذي يجثو على ركبتيه بجانب ذي القميص، ضاماً كفيه في صلاة متوسلة. وأمام هذا الجمع من المضطهدين، يصطف عسكر نابليون (أو عسكر التنوير الفرنسي!) ببنادقهم. اللوحة باحالاتها تبدو صادمة حين تصدر من فنان طليعي مؤمن بالتنوير -سابقاً- مثل غويا، لهذا، بشكل شخصي أعتبر هذه اللوحة مهمة بسبب اشاراتها الإنجيلية ولأنها تجسد احباط وصدمة فنان تنويري في الأنوار.

كل هذه الأفكار عادت إلي في مشهد الخاتمة، المرعب، حين جعل الضابط النازي الأطفال يصطفون جميعاً، وحين بدا النازي مستعداً لاضطهاد جمعاً من الصبية، بحثا عن يهودي آخر، يُختتم الفيلم بينما يبدأ الضابط في المناداة على أسماء صبيان بعينهم، ولا نعرف هل لأنهم يهود، أم لأن أسماء عائلاتهم أقل تواضعاً من الآخرين، بينما يودع القس جان تلامذته، قائلا الجملة عنوان الفيلم : الوداع أيها الأطفال، يصطحبه الجنود الألمان ومعه الثلاثة أطفال اليهود، من بينهم كيبلشتاين، بينما يقف بطلنا متجمدا في البرد، جوليان، يودع القس جان، ويلوح بيده لصديقه كيبلشتاين، بعينين دامعتين.

هذا الفيلم يقع في دائرة اهتمامي لأنه قصة بلوغ (coming of age) في أوقات عصيبة، والمشهد الأخير يشرح عنوانه،  حين يودع جوليان كينتان طفولته، ممثلة في القس جان صاحب المباديء الصارمة "في الاحسان المسيحي"، جوليان يودع عالما مثاليا، حين كان يمكن أن تؤم مدرسة ما طفلاً مضطهدا، فقط لأن أخلاقيات الاحسان توجب ذاك، (وربما، يودع كذلك جوليان أحلام طفولته، فقد أعرب في وقت سابق من الفيلم عن رغبته في أن يصبح كاهناً). إن جوليان في مشهد النهاية إنما يلوح بيده مودعاً البراءة، والتسامح تجاه الآخر. (ممثلاً في صديقه كيبلشتاين). في حين ينضج هو، بينما يقف بين جماعة الأطفال الذين تبقوا لأنهم ينتمون للعائلات الأكثر ثراء، ونضجُ جوليان، أو مغادرته عالم الطفولة يتمثل في انتقاله، ولو قسراً، إلى العالم المادي حيث لا اعتبارات، ولا معنى، إلا للمال.

Sunday, October 31, 2010

التحوّلات/٢

رائحة النسيم الخريفي جالبة للكآبة، بما أن شهر أكتوبر أكثر وقت في السنة يتضح به التغير الفصلي، خاصة في آخره، لا يخلو هذا الجو من طعم مظلم أو مقبض، تُقدم الميثولوجيا الكلتية تفسيراً : يصبح الحدّ الفاصل بين هذا العالم، والعالم الآخر، رفيع جداً لدرجة تسمح بمرور أرواح الموتى، الطيبة منها أو الشريرة.

احتفال السامهاين، الكلتي، هو الأصل تقريباً لما يسمّى حالياً، الهالوين (٣١ أكتوبر)، وعادة ارتداء الأقنعة المخيفة إنما هي للظهور بمظهر مخيف- مثل روح شريرة أو مؤذية-، وبالتالي، هذا سوف يضلل هذه الأرواح.

ارتداء الأقنعة المخيفة في أوروبا عموماً، يُمارس للغرض ذاته، الإرث الشاماني كان قوياً في خرافات شعوب الشمال، حيث كان الإيمان بأرواح الطبيعة، لهذا تختلط أغراض استخدام الأقنعة، عادة، بين الحماية من الأرواح غير المرغوب بها، وبين الاحتفاء بالحصاد، يظهر هذا التضارب في استعمالات القناع الاغريقي كأداة طقوسية، مرتبطة بمهرجان الخمر/حصاد العنب، ومن ثم اكتسابها ثقلاً ميثولوجياً حين صارت تمثل ديونيزوس.

في القرون الوسطى تختفي الممارسات الوثنية لكن يظل احساس الكآبة الخريفية، خاصة في بلاد الشمال، الباردة والمحرومة من طبيعة زاهية، في غالب الشتاء، تلعب الأقنعة زاهية الألوان (أحمر-برتقالي) الدور الرئيسي، في حين تكتسب أهميتها كلعبة فنية سخيفة، مثلما يحدث في "مهرجان الحمقى"، في عدة بلدان أوروبية، أيضاً، في الشتاء (آواخر ديسمبر).

التغيرات المناخية، من الفصول الصيفية المنيرة إلى ظلام الشتاء، تم ربطه ميثولوجياً بتواجد الأرواح الشريرة، ونحن نرى أن القناع، كشكل من الفن البصري، بألوانه البرتقالية الزاهية، حين يكون صارماً في الممارسة المسرحية الاغريقية، فارضاً على الممثل المشاعر المفترض به تأديتها، دون أن يحيد، كان قناع كرنفالات الشمال مجرد محاولة بشرية للوقوف بـ"ثبات" أمام تحولات الطبيعة، وأمام الاحساس العام بالكآبة، الذي هو أصلاً نزعة بشرية، تحذيرية، من الفناء.

Wednesday, October 20, 2010

التحوّلات

العبقري، كمفهوم وكلمة واصطلاح، سواء في الذهن الغربي أو الشرقي، هو من يضيف إلي الطبيعة، يشاركها انتاجها، يتحداها. وليس من يفكّ أسرارها أو يتفّهمها. لذا: علماء الفيزيقا ليسوا عباقرة، وفي حين لا يمكننا أن نقول على (ايزاك نيوتن) أنه عبقري، لو التزمنا بأصول المفهوم، فإننا سوف نطلق على غوته مسمى عبقرياً، (طبعاً، مثله مثل دافنشي، دانتي، بيتهوفن، وغيره من الفنانين).


ولو تأملنا في الكلمة العربية، التي تشترك تقريباً مع الكلمة اللاتينية في الأصول، تنحدر من وادي (عبقر). والشعراء في شبه الجزيرة كانوا عباقرة، بسبب الطبيعة الغامضة، المظلمة، والمخيفة للابداع الفني.  ولو الأمر في الذهنية البشرية يتعلق بـ(عفاريت) الابداع فحسب، لما ارتبطت الكلمة بمكان طبيعي، أي وادي عبقر. فالعبقرية الفنية لا تتعلق بالميتافيزيقا فقط، والماورائيات الظلامية، بل المسألة هي غموض الطبيعة، وطاقة الابداع (بحسب الفكرة القروسطية، حيث الفنان هو تلميذ الطبيعة، الجاثي على ركبتيه أمام عظمتها)- هي دائماً طاقة نابعة من مناطق غامضة، مظلمة ومجهولة في الكون : وادي عبقر المقفر بصحراء شبه الجزيرة. والفنان حين يستمد من ظلام الطبيعة واستتارها الهامه، وطاقاته، يستطيع فقط في هذه الحالة منافستها والاضافة إليها. أي يصبح عبقرياً.

النظريات الجمالية تجد في الابداع الفني شيء معاكس لاتجاه العقل، فبينما يأتي الابداع الفني من الروح (كما يقترح جاسون باشلار)، يميل الفلاسفة للعب دور المنظّمين، وميل النظريات الفلسفية للشمولية: حيث يجب أن تقدم النظرية الفلسفية -بحسب الاعتبارات المدرسية والأكاديمية- تفسيراً لقضايا محددة: الكون، الإنسان، الإيمان، المجتمع، الخ. هي هكذا تميل لتصبح عدائية للاختلاف والثورية والابداع، العقل الغربي حين تأسس مذ أفلاطون، وحتى هيغل: كان تحليليا تنميطيا، نسقيا (نظاميا)، يستقي خط سيره من البرهان، والافتراضات، ووضع تسميات/تصورّات تعسفية للتفسير. أفلاطون أدرك شمولية آيديوليجيته، وخاف عليها من التصدّع، فطرد الشعراء من مدينته الفاضلة، وحين نصل لهيغل نجد عنده ذات القلق، حين يربط -في نظريته- بين الفرد والدولة برباط شبه مقدس.
ولعل أقرب ممارسة عملية لهذا النوع من الشمولية العدائية هي التحليل النفسي والمدرسة الفرويدية، والسيكولوجيا تحاول سبر أغوار العبقرية، (كما يفرد فرويد كتاباً مستقلاً لاكتشاف (العقد النفسية) التي دفعت دافنشي ليصير دافنشي). وتعاملها كنوع من الانحراف البشري، أو "الظاهرة".
والعقل الاغريقي (الفلسفة- الحكمة - المنطق) ارتبط بالمدينة الاغريقية، وكان رأيي دائماً أن نشأة الفلسفة كانتاج اغريقي له علاقة بشكل المدينة (بوليس) الاغريقية، وفرادتها بالنسبة لبقية الحضارات، إنها شكل اجتماعي صارم، والحكم برلماني أوليغاركي، في حين كان عدم انفراد شخص واحد بالسلطة ميزة نادرة، إلا أن الأمر وقف عائقاً أمام الاختلاف الفردي الحاد: فلا يوجد ملك (مثقف) يرعى الفنون والفلاسفة-كما، في حالة الاسكندر، والحادثة الطريفة حين أحرق كل مدينة طيبة عدا بيت الشاعر بيندار)، كما أن المدينة تميل دائماً للموائمة بين التقاليد والتحفظات الاجتماعية لجميع أفرادها (كما في حالة اعدام سقراط). أو حتى منع السلطات الرومانية للجماعات الدينية التابعة لديونيزوس من ممارسة طقوسها.


يقدم نيتشه نظرية ظريفة في المقارنة بين الابداع العقلاني الصارم، والعدائي، وبين الابداع الفني (الحقيقي - غير المريض)، يضع الفنون المتحفظة في كفة أبوللو (الشعر ، النحت)، ويضع الموسيقى، الرقص، والغناء والفن الايمائي والتمثيل والتراجيدي المسرحي في كفة ديونيزوس.
أطروحة نيتشه عميقة ومطوّلة، لكننا نختزلها اختزالاً مخلاً: فأنا، مثل نيتشه، أرى بالفعل اختلافاً بين الشعر والنحت والرسم، وبين الموسيقى، ان ارتباط الشعر باللوغوس (الكلمة، العقل)، وارتباط الرسم والنحت بحاسة العين (وهي، بحسب دافنشي، أرقى الحواس، وحين تنظر العين للشيء فهي تتحصل علي نوع من المعرفة الحقة، أي معرفة الثابت، والأبدي، وفي هذا تضاد مع طبيعة الموسيقى (المتحولة). التي تثور على هذه الفكرة القديمة الصارمة بشأن المعرفة. ). بينما ترتبط الموسيقى بحاسة السمع (حاسة دنيا بحسب دافنشي). للموسيقى طبيعة دنيوية (دنيا؟)، وهي الأقرب لقوى الطبيعة الغامضة من سائر ربات الفن، وللموسيقى تأثير خطر دائماً: ومجهول، وظلامي، وهي قادرة على استثارة مشاعر السامع، بل دفعه للحركة والايماء والرقص، ودفعه أحياناً للعنف (طبول الحرب). بل ترتبط هذه بممارسات تصوفية، وأورفيوس الشاعر الغنائي، بآداته (الناي)، يسخّر له قوى الطبيعة: فهو يعزف ألحان شديدة العذوبة، تسكن لها الحيوانات والشجر والطير، بل أن شارون ذاته رسول الجحيم يتأثر بألحانه، وسائر مخلوقات العالم السفلى.


والموسيقى عنصر أساسي في التراجيديا الاغريقية، أي: المسرح الاغريقي، وحين نذكر المسرح فنحن نعود من جديد إلى دينويزوس، ويقال: دينوزيوس إله القناع.

أكثر ما يثيرني في المسرح الاغريقي هو أقنعته، وقد تساءل المؤرخون عن سبب التزام الاغريق بالقناع، لماذا يرتدي الممثل قناعاً في حين بامكانه التمثيل من دونه؟ إن أكثر الافتراضات التي تروقني، أن القناع يقوم بعملية (تحويل)، في القناع يتحوّل الممثل من مجرد مواطن اغريقي، أو حتى انسان ينتمي لمجتمع عدائي ومتحيز، إلى ممثل: وهنا بامكانه أن يؤدي كافة الانفعالات الصاخبة بحرية تامة، فالقناع، بحسب الممارسة التصوفية، يستشرف حلول ديونيزوس في الممثل.

القناع المسرحي اذن هو انفصال للإنسان عن المجتمع، وانسحابه تدريجياً إلى قوى الطبيعة الغامضة، أي قوى دينويزوس، أو من على شاكلته (بان، الساتير).

 في رواية (شبح الأوبرا)، إريك عبقري موسيقي، لكن مشوه، نشأ مذ صغره في قبو لدار الأوبرا، مختبئاً عن الجميع، ووجوده مجهول، ويتخذ شكل الاشاعات أو القصص المخيفة، تثير فتاة اهتمامه (كريتسين)، ويتعهد بتدريبها لتصبح مغنية أوبرا شهيرة، إيريك هو (وحش)، الى جانب تشوهه فهو (معاد للبشر)، وكاره للمجتمع، وللشكل المدجن لحفلات الأوبرا، وللمستوى الضحل للمغنيات، فهو يحول كريستين إلى معجزة فنية، عبقرية موسيقية، في فيلم 2004، مشهد ظهور كريستين على المسرح وأدائها للأغنية، وحولها هالة نورانية من قداسة (الفن العصيّ على الادراك البشري العادي). لكن إيريك مثله مثل قوى الطبيعة يملك جانباً ظلامياً، يزداد هوسه بكريستين (التي يقوم بتدريبها على الغناء، دون أن يدرك أحد أن له وجود، فهو في نظر الجميع مجرد وهم أو حتى شبح). في الرواية يبدو إيريك أكثر اصرارا من الفيلم، ويعرب بصراحة عن عدائه لأي انسان يهدد (المستقبل المهني لكريستين كأعظم مغنية أوبرا علي الاطلاق). إيريك مزج بين الساتير وديونيزوس، وعلاقته بديونيزوس تتعدى الموسيقى والقناع، فهو (شبح)، وهذه الحالة الشاحبة من الحياة والموت تذكرنا بحكاية دينويزوس الميثولوجية، حين عاد من الموت إلي الحياة، كما أن فن الأوبرا، كما يراه كل من نيتشه وفاغنر، هو أفضل "استعادة" لفن التراجيديا الاغريقية. و إيريك ساتير حين يسحب كريستين إلى عالمه السفلي (القبو)، ويزداد جنونه بها، حين تقع في حب راؤول، الفيكونت، إن كون راؤول فيكونت يجعله ممثلاً لكل الضحالة الاجتماعية، بمنصبه العسكري، وشكله الجميل المقبول اجتماعياً، وربما ابتعاده تماماً عن عالم الموسيقى، قد يظهر هنا راؤول كـ(أبوللو).



إيريك وقناعه يقع ضمن مجموعة الشخصيات البارونية التي تثير انجذاباً (uncanny) لدى الجمهور الطليعي، وجاذبيته ظلامية، لكنه يعدّ تمثيلاً نموذجياً لمسألة القناع والانفصال عن المجتمع، الانفصال عن المجتمع يبلغ ذروته عند إيريك، فهو تهديد لدار الأوبرا، وتهديد لمدرائها وزائريها، وهو كذلك يشكل تحديا للشرطة، فهو يملك قوته الظلامية، وأسلحته، التي يواجه بها النظام الاجتماعي، ومحاولات الشرطة لفرض نظامها المدني الخاص. ثم يحوّل كريستين إلى (مايناد) خاصة به، التعبير البشري عن عبقريته الموسيقية المستترة. كشكل من أشكال قوى الطبيعة.


إيريك شبح الأوبرا يشكل (حلقة وصل)، من الممارسات المسرحية التراجيدية في عصر الاغريق، إلى شكل البطل الخارق المعاصر الشائع في الكتب المصورة، وإن كونه بطلاً خارقاً، ومقنعاً، ومعاد للمجتمعات، وتهديد للنظام الخاص بالشرطة، به ربط ظريف لأفكار نيتشه عن السوبر مان، والفن الديونيزي، والثورة علي المجتمعات،

كافة الأبطال الخارقين في القصص المصورة، تقريباً، ومن تحول منهم إلى منتج سينمائي، يملكون مزجاً من الساتير والطوطمية والديونيزوسية، الرجل الوطواط (باتمان)، الذي اتجه إلى حالته المقنعة، بسبب حادثة مأساوية في طفولته، قُتل والديه، بينما اختبأ هو لفترة في كهف تحوطه الخفافيش. أو المرأة القطة (التي سقطت من علّ، أو غرقت في البحر، بحسب المعالجات العديدة للقصة)، ثم تجمعت حولها القطط، ويبدو أن عضة قطة حوّلتها.
الأمر ذاته مع الرجل العنكبوت، الذي "تحوّل" بسبب عضة عنكبوت سام.
المشترك بين كل هؤلاء هو القناع، والطوطمية، حين تُعطى للطبيعة قوى خارقة، غامضة وظلامية، ممثلة في قوى الحيوانات، الخفافيش سادة الليل والظلام، أو القطط، بأرواحها التسعة، أو العنكبوت وسُمّه.

كل هؤلاء الأبطال يشكلون تهديداً لنظام المدينة، ويستجلبون ارتياب السلطات، لكن الجماهير تشعر تجاههم بنوع من الانجذاب الـ(uncanny). وجميعهم مثل إيريك الشبح، يملكون تشوههم الخاص، وإن كان نفسياً، فهو انفصالهم النهائي عن المجتمع البشري، واستحالة اندماجهم به بأي شكل، رغم قوتهم النفسية والجسدية، ولهذا أبعاده التراجيدية. يأتي هنا افتراض نيتشه إلى ذهننا، حين يقترح أن التفوق الفني الأقصى، ليس في انسان منتج أو مبدع لأعمال فنية، بل في أن "يتحوّل" الإنسان ذاته إلى عمل فني، وكان يقصد حالة الممثل التراجيدي المقنّع، الذي يُخرج كل انفعالاته وعاطفته بقوة. ونرى أن الأبطال الخارقين لعصر الكوميكس إنما هم، ببساطة، محاولة عصرية لانتاج ما يسمى بالـ"الإنسان التحفة الفنية"، أو هو مجرّد درب آخر، غير مطروق، شكل غريب للعبقرية.