جادل بروفيسور في الاقتصاد -يتمتع بهيبة آكاديمية لا بأس بها- داخل أحد قاعات الدرس - حيث يحظى بأقصى ما يمكن له من سلطة فكرية- أن المؤسسة العسكرية في مصر بنشاطها الاقتصادي لا تضرّ بالسوق/الاقتصاد المصري، ولا تهدد مبدأ المنافسة (أحد أعمدة اقتصاد السوق/الرأسمالية) وذلك لأن منتجاتها تنزل الأسوق بالأسعار السائدة لا أقلّ منها. كان هذا اجابة على سؤال طُرح عليه بشأن "مسألة" الحصة الاحتكارية التي يتمتع بها الجيش داخل الاقتصاد المصري سواء بالامتلاك أو الانتاج. ويجدر الاشارة إلى أنه - بتنظيم آكاديمي- قال أولا، مسألة حصة الجيش في الاقتصاد هي صندوق أسود -أي، يا سلام!- وثانيا، ما ذُكر أعلاه.
حسناً، إن حصة الجيش في الاقتصاد المصري ليست صندوقا أسود، ولا حتى علميا، لأن حكاية الفيل والعميان هي حكاية استدلال علمي، وقد رُدّ عليه ردود بسيطة من واقع تجارب امبريقية مباشرة لهؤلاء الطلبة: حسناً، لقد كرر أحدهم أن تغلغل الجيش في الاقتصاد المصري يعارض أبسط قواعد السوق الحر، وقد كرر البروفيسور حجته، لأن "المؤسسة العسكرية" على حد قوله هي الأكثر كفاءة و.. "بلا بلا بلا، من قبيل أنه ليس ثمة "مؤسسة" أخرى داخل مصر قادرة على هذا الدور الأطلسي- حسنا، لكن وجود الجيش يعارض الاقتصاد الحر الذي تؤمن به يا بروفيسور -وقد فكّرنا جميعا أن عصبية البروفيسور لصالح المؤسساتية أقوى من عصبيته تجاه السوق الحرّ- وأليس الجيش مؤسسة حكومية؟ ألا تقف الرأسمالية ضد الدور المتعاظم للدولة في الاقتصاد؟ أوليست هذه المؤسسة ودورها من بقايا النظام الاشتراكي الناصري؟ ألا يقولون جميعا -جميعا!- أن السوق الحر هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق "النمو" في الناتج القومي؟ وهنا يغمغم البروفيسور بصوت يكاد لا يُسمع "لا لا مش شرط!" أوف! معقولة ؟!
يبدو لنا أن حجّته بشأن أن منتجات الجيش لا تنافس منتجات السوق -أو القطاع الخاص- منافسة غير شريفة (رغم أني لا أعامل الجيش كمؤسسة بيروقراطية فعالة تعمل بانضباط فيرماختيّ، بل هم مجرد أفراد يتمتعون بمزايا غير عادلة ويستغلونها "بفعالية") هي الفاصل والحكم في هذا النقاش الذي يُفحم به كل لئيم. لكن يحزنني أنه نسى أن المنافسة ليست "أسعار متجانسة" فحسب، إنما تتعلق بالتكاليف كذلك، وهل يمكن أن ينكر أحد أن "المؤسسةةةةة!!العسكريةةةةة!!" تتمتع أشدّ استمتاع بتكاليف انتاج أقل من أي مؤسسة قطاع خاص أخرى في مصر سواء كبيرة أو صغيرة - ولا يتعلق الأمر فحسب بتأثير اقتصاديات الحجم بل بكل الممارسات غير القانونية "اقتصاديا" التي يستطيع الجيش القيام بها، وما معنى تجانس الأسعار إذا كان يمكنك أن تُغرق منافسيك بضرائب متعاظمة مثلا، بينما أعفيت نفسك كليا من الضرائب؟ - حسنا، يمكن للجيش في مصر أن يفعل أي شيء يشاء- وهذا يعترف به البروفيسور، ويقول موضحاً أن الجيش "هرب" من زنقة البيروقراطية التي تقع بها مؤسسات أخري (لا يا شيخ؟ مش لسه كنا بنتكلم عن دولة المؤسسات؟) ثم يغمغم -وبشكل عابر- أن الانضباط الشديد داخل مؤسسة الجيش يعني الكفاءة - لكن يعني يا بروفيسورنا العزيز، أنت قصدك السُخرة مش الانضباط؟
إن التناقضات الفكرية تزعجني، وقد أزعجني تناقض البروفيسور بين ما يؤمن به من اقتصاديات السوق الحر، وبين تأييده لتواجد الجيش في الاقتصاد المصري -حتى ولو كان يظن أنه الأكفأ، لأن هذه حجة ساذجة، وأي مؤسسة حكومية تتواجد بمثل هذه الكثافة داخل أي سوق تشوّهه وتُقصيه أكثر فأكثر عن النموذج الرأسمالي- ثم اكتشفت أنه ليس ثمة تناقض أبداً.
بل أن عمل المؤسسة العسكرية داخل الاقتصاد المصري هو أقصى ما يطمح إليه أي رجل أعمال (إنتربرينور) بأحلام اقطاعية، ملكية وتحكم بعوامل الانتاج لا حدود له، اعفاءات ضريبية لا حدود لها، تلاشي أي نوع من العراقيل القانونية أو الحقوقية، وعمالة شديدة الرخص/أو سُخرة. إنها فانتازيا يمينية/محافظة/نيو-كلاسيكيكية/رأسمالية متطرفة. النظرية تتلاشى في وجود الصنم المتلألئ.
No comments:
Post a Comment