١. لا يوجد شيء اسمه يسار فرنسي*
تتنوع النماذج الاستعمارية بين نماذج من العالم القديم (فرنسا، انكلترا)، ومن العالم الجديد (أمريكا، الاتحاد السوفيتي، الاتحاد الأوروبي، الخ)، ثم يجري تقسيم هذه إلى تفرعات حيث تُعتبر مثلا، أمريكا، كامتداد للنموذج الاستعماري الانكليزي أكثر منه امتدادا للفرنسي - من حيث أن أمريكا ذاتها كانت مستعمرة انكليزية سابقة، ومثل عادة المستعمرات، فقد اقتسبت النظام السياسي الانكليزي الذي يتميز -أكثر ما يتميز- ببرلمان قوي وفعال.
في حين تتنافس كل النماذج الاستعمارية في سوءها، فإن المستعمرات وما تنشأ بها من حكومات -بعد الاستقلال- تميل إلى التماهي مع نموذج الحاكمية الفرنسي - مما يجعله فريدا في السوء، فهو يقدم "مثالا ديموقراطيا سيئا"، وقد كانت انكلترا مملكة، وليس هنالك تناقضا بنائيا في تحوّلها لامبراطورية امبريالية، ولكن فرنسا مارست الامبريالية جنبا إلى جنب مع حكمها الديموقراطي على المستوى الوطني، كانت فرنسا "بالاسم" جمهورية ديموقراطية، لديها "رئيس"، برتبة عسكرية (ديغول) : وهذا النموذج "الباعث على الفخر الوطني" أنشأ تصالحا/تسامحا مع عدد من التعارضات والتناقضات الحقوقية والسياسية: يمكن أن تكون دولتك جمهورية/ديموقراطية مع حكم عسكري ذي ديكتاتورية أبوية ناعمة، يمكنك أن تكون ديموقراطيا واستعماريا في الوقت ذاته، ويمكنك أن تكون استعمارياً ومُستغلا لمستعمراتك ولكن هذا لا ينفي أنك قوة خيّرة تعمل لصالحها، وأنك الأب الحنون لها، وأنك تحمل إليها ثقافة وتنويرا فرنسيا نقيا حُرمت منه المستعمرات الآنكلوفونية مثلا.
الفريد في هذا النموذج أنه متآلف، متناغم، ويعمل بفعالية، دون أن تعرقله تناقضاته الداخلية، مما يجعله مثالا جيدا للتقليد: النظام السياسي الانكليزي من حيث كونه ملكياً وشيطانيا بالنسبة للمستعمرات الانكليزية الافريقية (مصر، مثلا) - كان مستبعدا في مرحلة "تطبيقات ما-بعد الاستقلال"، فكان النموذج الفرنسي السلطوي (من سلاطة/وسلطة، طبعا) مُستحباً: نموذج الباترون/Patron: وعلينا أولا أن نشرح عددا من الميتافورات في الثقافة الفرنسية لوصف علاقاتها بالمستعمرات، فالمستعمرات، بعد الاستقلال، كان يُطلق عليها تعبير الـ chasse gardée، ويعني الأرض/الباحة الخلفية/مساحة ملكية تخصّ سيدا/مالكا ما، وليس الغرض وحده هو تبيان النية الاقطاعية، إنما، بشكل خاص، التلميح الرعوي/الخيري، فالمعنى الفرنسي يقصد كذلك أن هذه الأرض بمن وما يسكنها تتمتع برعاية وحماية المالك، إن معنى الاستغلال والاستنزاف متخفّ وراء الأولوية بخصوص صفة المالك القادر والشرعي، وهي حسن رعايته واهتمامه بهذه الملكية، وهذا المالك يقال له بالفرنسية Patron، كلمة قد تعني "ريّس/Boss وليس الوصف القانوني President" كذلك. إنه "صاحب العمل" أي صاحب منّة. لا تخفى المعاني المتعددة لهذا الوصف في التقليد الكاثوليكي. فهنالك الـPatron Saint/القديس الراعي (و ذاك أيضا يتضمن معان ميتافيزيقية لفكرة الرعاية، من حيث كونها خير مطلق لا جدال فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..)، وهنالك كذلك معناها الثقافي، (أجل، بالطبع، رعاة الفن كذلك هم مصدر كل خير)، وللكلمة كذلك معنى سياسي (ما يهمنا بشكل خاص) وإن كانت كل المعاني تشكّل "النموذج" المتناغم والمتصالح مع نفسه داخليا: فهنالك مائدة يجلس إليها أب حنون يوزع طعامه "بمعرفته" علي الأبناء الذين يجلسون إليه ثم تتوزع البقايا بعدل على حيوانات الباحة الخلفية.
في حين يتخذ الاستعمار الانكليزي - مثالا، لأننا نقارن الفرنسي بمعادله الزماني والمكاني- أشكال مباشرة ويتجسد على الأرض/مصانع/سكك حديد/مؤسسات/شركات نقل وتجارة/حدود، فإن تجسدات الاستعمار الفرنسي تتخذ أشكالا أكثر تعقيدا ولا يمكن أن نغفل عناصرها الميتافورية، وتصوّر الطبقة الفرنسية الحاكمة عن فرنسا (على حد تعبير ديغول، فإن فكرته عن فرنسا "عاطفية" وليست عقلانية، فرنسا، بحسبه، يجب أن تحافظ على مكانتها و"غراندورها" كفاعل دولي ومنارة فكرية وثقافية.)، تتقاطع هذه "التصورات الرومانتيكية" عن رعاية فرنسا ثقافيا وفكريا وتنويريا للمستعمرات، وبين الدور البطرياركي لقائد/Patron/مستبد عادل يحافظ على توجهات فرنسا التنويرية نحو الخارج والداخل.
النموذج السياسي/الاستعماري الفرنسي أعدّه مرجعاً طريفاً ومصدر اقتباس وتطبيق لمعاني "القيادة الحكيمة"، في حين لم يك النظام الانكليزي جذاباً ليُقلّد في افريقية، بسبب مَلَكيّته، وبسبب النفور من المَلَكية، فإن حالة فرنسا العجيبة وشكل قنواتها الاستعمارية المبهم والمتخفي تحت طبقات ميتافورية من علاقات المنّة (آباء فرنسيون كاثوليك يقدمون خدمات تعليمية وصحية في المستعمرات/الخ) بحيث أفلحت جهود السلطة الفرنسية منذ ديغول في تأسيس وصف لعلاقتها بمستعمراتها على أنه "اهتمام/تواجد/“présence” رومانتيكي في حين كانت العلاقات الانكليزية توصف بالاستغلال. يشكل النموذج الفرنسي أقصى الطموحات البطرياركية المحلية لعمليات التحول السياسي (من ملكية إلى ديكتاتورية عسكرية "رشيدة")، في حين يقترح البعض أن كل الأنظمة السياسية ما-بعد الكولونيالية في افريقية اتخذت النموذج "الجمهوري" الفرنسي (تقليدا للأب..) فإن الدول العربية كذلك -تلك التي لم تك مستعمرات فرنسية- اتّخذت النموذج ذاته، فهو نموذج مثالي لأجل عملية تحول راديكالي شكلاني (ميتامورفوزِس سياسي) دون أن يتحول المضمون: أو، بحد تعبير فرانسوا ميتران في معارضاته للديغولية كونها " انقلاب عسكري دائم". فمضمون السلطة لا يتغير (أوتوقراطية أو شمولية) لكن العنوان يتغير (رئيس، قائد، ملك، الخ..). تقترح الورقة البحثية السابقة أن ما ميز اقتباس النظم الديكتاتورية الافريقية للفكر الديغولي هو الأنظمة البرلمانية الضعيفة في مقابل السلطة التنفيذية، وقد ظل النظام الفرنسي يعاني من تأثيرات الديغولية (بشكل خاص، في مجال العلاقات الخارجية) فترة طويلة، في نظرية سياسية حول قوى النظم البرلمانية في العالم، يفترض نلسون بولسبي أن البرلمانات نوعين، النوع الأول يسميه Arena، والآخر يسميه Transformative, ويفترض أن النظام البرلماني الانكليزي يتبع النوع الأول: فهو مسرحا للتمثيل الفكري والحزبي والتحاور والتفاعل بين مختلف التيارات السياسية، بينما النظام الأمريكي يتبع النوع الثاني، لأن البرلمان قد يمارس "قوة تنفيذية" تشريعية حقيقية. في الفترة الديغولية المؤثرة كانت القوة التشريعية الفرنسية أضعف من أن تكون هذا أو ذاك. فلم تتطور قوى سياسية متنوعة/نشاط حزبي فعال، و"تمثيلي" لكافة التيارات الفكرية، يعمل كبديل للأبوية اليمينية الحاكمة. يمكننا أن نقول أن الديغولية أدّت إلى تقزّم تمثيلي سياسي داخل نطاق القوة التشريعية/الشعبية، وتقزم لدور الأحزاب في مقابل تضخم للقوة التنفيذية المركزة في شخص الزعيم. (ديغول واضع دستور الجمهورية الخامسة.)
تنعكس في مرايا الاستبداد أفكار فرنسا عن الأب الراعي (فرنسا) للمستعمرات، والأب الراعي لشعبه (الجنرال/القائد الحكيم/المستبد العادل)، في نموذج الديكتاتورية العسكرية في افريقية، يؤكد النموذج على قوة "القائد" العسكرية، وعلى كونه صاحب "انقلاب عسكري مؤثر وفعال" وعلى دوره "التحريري" (طرد الاحتلال: الديغولية/الناصرية/المقاومة ضد الاستعمار/العدو، الخ) وهذا يمنح السلطة البطرياركية ملبساً خيّراً ومُنقذاً ويعطي وهم "استقلالي/جمهوري" غير استبدادي: إنه، ببساطة، خدعة أو أول ديكتاتورية تاريخية مغلّفة بالسكر.
يؤدي هذا النموذج إلى آثار طوطمية (كما يصوّرها أحمدو كوروما في شخصية الديكتاتور في رواياته)، فلا يوجد تمييز بين شخصية الزعيم وشخصية البلد. فالهوية الثقافية كما تُتاح وتُمارس وتُستعمل نتيجة لسياسات/ومشهد "المائدة": الأب وحده يوزعّها كيفما يشاء بقدر يشاء على من يشاء، وهذا ينتج بالضرورة قدرا شعبيا كبيرا من الشوفينية والزينوفوبيا واحتقار ثقافة الآخر/المختلف، تصير الثقافة كممارسة، يمينية فحسب، دون أن تتوزع توزعاً عادلاً اجتماعياً أو عرقيا أو نوعياً. والثقافة التي "لم يرعها" والتي يرفضها البطريارك هي "العدو" في الذهن الشعبي.
--------------------
*إن اليسار مفهوم كوني، مثل مفاهيم أخرى انسانية في طبيعتها: العدالة، المساواة، الإخاء، الخ. العنوان اذن تلاعب لفظي، فليس ثمة "يسار قومي فرنسي"، لكن لا يوجد مانع من وجود يسار "في فرنسا". تقترح هذه السلسلة أن الاستبداد وحده تجربة قومية خالصة، فكل شعب يملك نموذجه الاستبدادي الخاص، وتتشابه نماذج الاستبداد بين الشعوب نظرا للاقتباس والنسخ. إن اليمين، بوصفه مضاداً لليسار، هو، بطبيعته، معنِي بقومية الشعب، وبمعاداته لكل ما هو مُشاع وكوني ومشترك مع سائر الشعوب.
No comments:
Post a Comment