Sunday, June 13, 2010

لماذا كلود فرولو؟


The Bewitched Man (1798)(1) - Francisco de Goya


مُدخل

نشأ فرولو تلميذاً مجتهداً، وفقد والديه اثر الطاعون، وتركا له أخاً أصغر، يصبح فيما بعد موضوع اهتمامه ورعايته، ويتقدم في دراسته الإكليريكية، ليؤمّن مستقبلاً مريحاً لأخيه، تُظهر الرواية الجانب الطيب، العطوف، لكلود فرولو حين يجد طفلاً مشوهاً مرمياً على عتبة نوتردام، فيوؤيه، ويرعاه ويتبناه، ويمنحه اسماً، كوازيمودو، ويحرص على مدّه بالقسط الجيد من العلم.

يحصل كلود فرولو على منصب رئيس الشمامسة، ويضعه هذا في مكانة اجتماعية محترمة، المنصب الديني يتيح له السلطة، لكن هذه السلطة ( لا تشبعه أو تحقق له الرضا)، بل ترمي به في عزلته أكثر فأكثر، وتجعل تعاطيه البشري أفقر، المزيد من الحواجز ترتفع بينه وبين الناس، كما أن العامة ينفرون منه ويجدونه مخيفاً

فرولو شخصية عميقة، باطنية، شديدة الشغف بالمعرفة لدرجة الهوس، فقد تفوّق في دراساته الجامعية، وتقدم في السن ليصبح خبيراً باللاهوت، الطب، الفلسفة، الآداب، الخيمياء، يجيد اللاتينية، اليونانية، العبرية، الى جانب لغته الفرنسية

الخيمياء


في مشهد يروي زيارة طبيب الملك، والملك ذاته (متنكراً في شخص طالب علم)، لحجرة كلود فرولو الخاصة، الموجودة في زاوية علوية من برج الكاتدرائية، والتي يقال- أنه يمارس فيها تجاربه الخيميائية- يطلب الملك نصيحة طبية من فرولو.
لكن الأخير يرد باقتباس : الطب ابن الأحلام - جامبليك
يبدي الطبيب اعتراضه، فيستطرد كلود في حوار طويل، أنه لا يؤمن بالطب، ولا يؤمن بعلم الفلك (الذي أخذ شكل التنجيم في هذه الأزمنة القروسطية)، حجته بشأن الأخير عقلانية، فهو لا يجد أي منطق في امكانية أن يؤثر نور النجوم على حيوات الخلق، لكنه في استطراده بشأن الطب، يعلق على عدم جدوى أساليب الأطباء، ويخلص الى أن الجسد البشري، وكل ما يتعلق به، ظلام.
والنجوم ظلام، أما عن فرولو، فهو يؤمن فقط بفنون الخيمياء، وتحويل الرصاص إلى ذهب، على حد قوله، فالذهب هو النور الحق.

يعلق طبيب الملك، هامساً في أذن الملك، هذا الرجل مجنون، كما أخبرت.
ويوافقه الملك على ذلك في النهاية.

ربما يكون موقف فرولو من الطب سببه موت والديه بالطاعون، لعله فقد الثقة بالطب لأن الأساليب الطبية العادية لم تنفع في حالات الوباء.
بغض النظر عن الاضطرابات النفسية لدى فرولو، شخصياً لا اعتراض لدي على الخيمياء، فأنا أحسب أن الخيمياء علم، علم حقيقي، لكنه علم باعث على الاحباط، والكآبة، الخيمياء مذ نشأتها السكندرية (المصرية)، كانت بغرض تحويل المعادن الرخيصة الى ذهب، وكل التجارب والكتابات، سواء الصوفية، الغنوصية، الهرمزية، أو الروزنكروزية، كانت لأجل ذاك الغرض المحض، حين أتى الزمان الذي نُظر فيه لهذه الفنون/العلوم نظرة ريبة، اضطر كُتّابها وممارسيها الى استخدام مصطلحات صوفية، أو لاهوتية سرانية، مثلاً، في القرون الوسطى كان يستخدم مصطلح الثالوث المقدس في بعض الكتابات الخيميائية، تحت عين أي مفتش ديني سوف يمر المكتوب مرور الكرام ، لكنه كان (سين) خيميائية، يشار بها الى : الزئبق - الكبريت- الملح.

والثلاثي الكيميائي ذاته كان له معني فلكي/تنجيمي، فهو يشكل الرمز الفلكي لكوكب عطارد، أي هرمز(2).

في الرواية يظهر كلود فرولو كباحث خيميائي شغوف، سبق و حَفَر تحت بيت أحد ممارسي الخيمياء القدماء-بعد موته- بحثاً عن، حجر الفلاسفة.
ما دمنا وصلنا لمرحلة حجر الفلاسفة، فيمكن لنا القول بأن شخصية كلود فرولو كانت تعاني من (مرض المثالية)، قبل أن يتوقع أحد امكانية تحول المثالية الى مرض مؤذ للغير، المثالية كانت شيئاً جيداً في العصور الرومانتيكية الجرمانية- القرن السابع عشر، هنالك أشكال كثيرة للمثالية، هنالك مثلاً المثالية الأفلاطونية مثل التي لدى دانتي، هنالك مثالية وطنية، في كل أشكال المثالية هنالك عملية (تحويل)- ربما بالمفهوم الخيميائي، قد تتحول البلد، الوطن الى الحبيبة المثالية العلوية، قد تتحول الحبيبة الأرضية الى قديسة في السماء (كما في حالة دانتي)، الخيمياء التاريخية ربما هي تحول الممالك الأوروبية الى أوطان بالمعنى الحديث، (التحول) أو الخروج من شرنقة الكنيسة الكاثوليكية، عموماً كلها صور من التطرف المخيف




البداية


نظن بأن كلود فرولو أصيب باحباط علمي، فهو يؤمن بالخيمياء، ويؤمن بامكانية صناعة الذهب معملياً، هكذا فهو في سن ٣٦، يخرج من تجربة علمية فاشلة، بالنسبة اليه هذا شيء جلل، فموضوع حياته الرومانتيكي، العلم، وحصل على شهادات الكليات الأربع العليا (لاهوت - طب - قانون - فلسفة)، بالنسبة لشخص متعوس بالفطرة، فقد والديه في سن صغير، اضطر الى العناية بأخيه الأصغر- الذي يشب ليصبح فتى عابثاً مهملاً في دراسته، يلطخ اسم ((فرولو)) الذي لطالما ارتبط بشخصية محترمة ومتحفظة في المجتمع الباريسي، بالاضافة الى صمم كوازيمودو، الصبيّان موضوع اهتمام كلود ورعايته صارا مصدراً لخيبة أمله.

حين كنت أدور في ويب بحثاِ عن مجتمعات مهتمة بكلود فرولو، نبهني بعض القراء هناك لمآسي فرولو العاطفية عموماً، فهو شخصية ((عطوفة))، قادرة على منح ((الحنان الأبوي، عن جد؟؟؟))، لكنه في النهاية يصبح شخصاً كريهاً باعثاً على النفور والتخوف في محيطه الاجتماعي. أي أنه لا يجد مقابل لما يعطي.


كل هذا التحليل العاطفي لم يك يهمني بقدر ما يهمني الميل المثالي المتطرف لديه، لو جئنا لازميرالدا، الغجرية، نعرف أن الغجر قد اكتسبوا تسميتهم من (مصر)، كلمة (جيبسي) هي النطق الاسباني المحور لكلمة مصر، مصر ترتبط بالتاريخ الخيميائي، فالخيميائيون الأوائل يظنون أن هذا العلم نشأ أصلاً في مصر القديمة، في رواية بندول فوكو لامبرتو ايكو، يورد الأخير معلومات عن ((أخوية بيضاء)) اعتادت على ممارسة الخيمياء في مصر القديمة، كما أن هرمز الهرامزة، أول كاتب خيميائي في التاريخ، كان يُربط بينه وبين (تحوت/ الكتابة والسحر) عند المصريين القدماء، الواقع أن هرمز هو المقابل اليوناني لتحوت المصري.

في العهد الهيللينستي تتحول الاسكندرية الى منشأ للخيمياء بشكلها الابيستمولوجي، يُعتقد أن كتاب هرمز الهرامزة (الجدول الزمردي) كُتب في ذاك الوقت، كما أن هنالك العديد من الكتاب الغنوصيين الذين اهتموا بالخيمياء عموماً، مثل فيلون اليهودي وغيره، لا أظن أن نشأة الخيمياء كعلم نظري في الاسكندرية له علاقة بمصر القديمة، أو مصر عموماً، بل بسبب مكانة الاسكندرية كجاذبة للعلماء والفلاسفة والفنانين، وكبوتقة انصهرت فيها الخزعبلات الشرقية بالابستمولوجيا الغربية.


اسم الوردة

اسم ازميرالدا يعني : الزمرد، وهذا يأخذنا الى كتاب هرمز الهرامزة (الجدول الزمردي)، هنالك تبطين (خيميائي) عام في قصة التورط العاطفي لكلود فرولو، فكما قلنا توقيت أحداث الرواية يقع بعد خروج فرولو من احباط علمي، وصار يناسبه أن يبحث عن (احباط آخر)، علم النفس الحديث يرى أن سبب (فشل تجارب) الناس، سواء نفسية أو عاطفية، بشكل متكرر، أنهم يودون اصلاح فشلهم السابق باعادة التجربة السابقة بحذافيرها، هذا يجعل احتمالات الفشل عالية كل مرة، وتحليل كهذا طريفٌ جداً حين يُطبّق على فرولو، لكني لا أمنع نفسي من تذكره حين أفكر أن كلود فرولو يخرج من احباطه العلمي ليقع - وكأن الأمر متعمدٌ- في احباط عاطفي.

السن

فرولو وقت الأحداث المريرة كان في ال٣٦، مرة أخرى، في رواية بندول فوكو، هذا الرقم مرتبط بفرسان المعبد،(رهبان بندكتيون محاربون في الحملات الصليبية، ونشأت حولهم أسطورة البحث عن الكأس المقدسة، وبعض الاشاعات الغرائبية التي تحولت الى اتهامات بالهرطقة والانحلال، وحُكم عليهم بالاعدام حرقاً)- (في الواقع، أرى أن الكأس المقدسة هي الشكل العتيق/الديني لحجر الفلاسفة، المفهوم العلمي، وفرسان المعبد ليسوا وحدهم من بحث عن الكأس المقدسة، ربما بحث عنها قبلهم فرسان الطاولة المستديرة)، الواقع أن لهذا الرقم معان أخرى، لكن من ضمن أسباب تنامي الاهتمام لدي مؤخراً بكلود فرولو، أن تلك الرواية ذكرتني به، فهي تدور بشكل ما عن الهوس المعرفي، الهوس عموماً بشيء مثالي أو شيء لا ينتمي الى هذا العالم، الشيء، لنتخيل مجموعة من الفرسان يبحثون عن الشيء، الشيء، ما هو الشيء؟ نحن جميعاً نبحث عن الشيء، البشرية مذ أول معالم للحضارة تبحث عن الشيء، في الحقيقة، أن يتخذ الشيء شكل كأس مثله مثل أن يتخذ شكل حجر، فالكأس يحوي الدم، والحجر هو الشكل الأولي لأي حضارة، الدم مرتبط أكثر بالميول البدائية العضوية

فتجربة شرب شيئاً ما - ليكن دماً مقدساً- يحوي السر، مثلها مثل التجربة البشرية الأكثر حداثة، وهي العثور على حجر يحوي السر، فلا أتخيل شيئاً كانت التجمعات القبلية تفعله، قبل اكتشاف النحاس وتتطويعه، سوى شرب دم بعضهم بعضاً.



الهوى


كاتدرائية نوتردام جسّدت حجر الفلاسفة في حياة فرولو، فهي رمز للحضارة الانسانية، كذلك رمز للسماء، وقد تتخذ الكاتدرائية الشكل التجسيدي لرمز (هرمز)، في الأعلى تقبع حجرة فرولو التي يمارس بها قراءاته وخيميائه (الذهن)، في الأسفل قليلاً نجد أجراس الكنيسة، ونجد كذلك جوف سقف دور العبادة حيث تتصاعد أصوات التراتيل الباعثة على الرهبة (الروح)، في قاعدة البناء نجد المذبح (الجسد).

في المشهد الذي يفرد له امبرتو ايكو مقالة كاملة، يقول فرولو : واحسرتاه، هذا سيهدم ذاك، هذا (المقصود به الكتاب)، وذاك (الكاتدرائية)، وقد يعني أن الكتاب سيوفر وسيلة أخرى للتأمل بدلاً من دور العبادة، وقد يعني أن الكتاب سيكون سبباً في ابتعاد الناس عن دور العبادة عموما (النهضة)، أو أي سبب نهضوي آخر.
فرولو محمل بالهموم المعرفية والرومانتيكية، فلا هو وجد حجر الفلاسفة الخيالي، ولا هو يضمن بقاء حجر الفلاسفة الوحيد (الحقيقي).



في هذه الأثناء، يجد فرولو شيئاً غرائبياً، شرقياً، منيعاً، محرماً، شائكاً، شريراً، ولكنه طاهر، بريء ومذنب، يجد ازميرالدا ترقص في الساحة أمام الكتدرائية، انها (تجّسدٌ) محضٌ لكل شيء، هي الظلام، لأنها جسد، وهي النور لأنها جميلة، هي الشرق وهي الغرب، هي الأرض وهي السماء، فهي شكل مشع ومنير لكل المباهج الدنيوية، برقصها وغنائها، وهي معذبته ومطهره الأرضي.
وبعيداً عن الرؤية القروسطية للمادة، فرولو بصفته (مثقف) قروسطي فلا نستبعد وقوعه تحت تأثير الرؤى الأفلاطونية (اليونانية)، وبهذا قد يجد في الجمال (السموّ الحقّ)/المثال، وأن الشيء الخيّر هو بالضرورة جميل (على حد تعبير أفلاطون)، اذن الجميل هو خيّر. (3)
وجد فرولو (أخيراً) شكلاً واقعياً لموضوع هوسه المزمن، فلا هي حجر فلاسفة خيالي يمضي الليالي في التجارب الخيميائية وسط الروائح الخبيثة بحثاً عنه، ولا هي شيء سوف ينقب عنه في الأرض، ولا هي حجر جامد أخرس، صلف، يقف على حافة التحول الفكري الغربي، يملؤه بالهم والثقل الروحي، ومسؤولية حفظ مكانته الدينية واحياء طقوسه، بل هي أبسط من كل هذا، وأعقد من كل هذا، والأهم، هي حجر الفلاسفة الذي يمكن لمسه


الشر


ليلة التحول الأخلاقي لفرولو، حين يطعن فيبس بخنجر، يمضيها متتبعاً أخيه أولاً، الذي يلتقي بفيبس، يخبره الأخير عن لقاءه بالغجرية (التي لا يستطيع تذكر اسمها حتي)، لقد شاهدهما فرولو - فيبس وأخيه- كل الليلة يعاقران الخمر، لا شك أن فيبس كان موضوع حقد فرولو، فهو شاب، جميل، ضابط، ويجد عائداً لتعبه، ويحصل على المجد اللحظي، وعلى اعجاب الفتيات، وهو المترف، العابث المتفسخ السفيه، قد حصل على حب ازميرالدا، والمشكلة أنه لا يقدّر ما حصل عليه، فنظرته لازميرالدا مختلفة عن نظرة فرولو، بالنسبة له هي فتاة سوف تأتي غيرها، بل أن لديه غيرها بالفعل، حين يعترض فرولو طريقه في المساء قبل لقاءه بازميرالدا، يسأله، أنت حقاً ذاهب اليها؟ وحين يجيب فيبس بنعم، يثور فرولو (ونلاحظ أن كل ثوراته - حتى هذه الليلة- داخلية)، يتهمه فرولو بالكذب والخداع، (فيبس) كي يثبت له صدقه يعرض عليه أن يرافقه الى حجرة الموتيل، كي يرى بنفسه أنها ازميرالدا، هكذا فقد بلغ استهتار فيبس بها هذا الحد، يراقب فرولو عبارات الغرام المتبادلة، فتثور ثورته ويطعن (فيبس)

قد كان أمام فرولو عدد من الخيارات الأفضل، فلو كان دنيئاً كما يعتقد أغلب من قرأ الرواية، أمامه التصرف بمكر، وأمامه أن يستخدم سلطته منذ البداية، ومن قبل الحادثة مع فيبس، فهو (لا يسيء استخدام سلطته) الا بعد ارتكابه الجريمة وبعد خراب مالطة.


فرولو يتصرف بهذه الغباوة المميزة لتصرفات العشاق، من لم يجد تصرف روميو بارتكابه الانتحار المتسرع، تصرفاً غبياً؟

الانحلال، أو سقوط فرولو الأخلاقي لا يبدأ الا بعد ارتكابه جريمة القتل، منذ هذه الليلة وقد سقط فرولو أمام فرولو، وبات يعد نفسه مجرماً أو وحشاً، و صار على استعداد للمضي قدماً في هوسه المدمر.


الحادث الآخر الذي يهز فرولو عاطفياً هو تعذيب ازميرالدا، حين كانت تُعذب في حجرة، بتهمة ممارسة السحر والقتل، بتهمة ارتكبها هو، بينما يقبع في الحجرة المجاورة، وكلما تصاعدت صرخات ألمها، يمزق فرولو صدره بسكين، ويقول، لو هي صرخت أكثر سوف أقتل نفسي.

وحين يدخل لزنزانتها، أولاً كي يبوح لها بمشاعره، ثم يريها جرح صدره (علامة على صدقه)، يجد منها رد فعل جاف، فقد عرفت أنه من أوقع الأذى بـ(فيبس) ، وتطرده قائلة أنه قبيح وعجوز. بينما فيبس شاب وجميل.


سلوك فرولو (الجذري) يزداد تطرفاً، حين يصير في نظر نفسه شيطان، وفي نظر ازميرالدا شيطان، ولا يعود يجد حرجاً من التصرف بـ شر حقيقي، ويتمادى فيعرض على ازميرالدا خيارها الأخير، اما هو أو الموت حرقاً، وترد هي أنه -فرولو- يخيفها أكثر من الموت.



المثير للدهشة أن شره مغلف بعاطفة مشبوبة، ومثيرة للشفقة، فمن يقرأ فصل (الحذاء الصغير)، بتفهم، لا يمكنه أن يعد فرولو شريراً حقيقياً، مونولوغه أمام ازميرالدا مؤلم،فقد بكي بحرقة. (لأنها عطوفة تجاه الجميع، ما عداه). ولأنها لن تقول له كلمة طيبة أبداً. ما بال مسألة الكلمة الطيبة هذه؟ التي يطلبها من ازميرالدا في الزنزانة، ثم يطلبها منها حين ينفرد بها على الضفة الأخرى من السين؟ رغبة فرولو المحمومة في التقدير العاطفي ترسم بعداً هزلياً على (دوره كشرير).



الآخرون



منذ الترجمة الانجليزية للرواية بدأت عملية التحوير التدريجي لشخصية فرولو، أولاً بتغيير اسم الرواية من (نوتردام دو باريس)، الى (أحدب نوتردام)، مركزةً على شخصية الأحدب بوصفها موضوع الدراما أو التراجيديا الرئيسي، بينما نجد أن التراجيديا الأقوى تكمن في شخصية فرولو،حين يُهمش فرولو (تراجيدياً وعاطفياً) يركز القاريء غالباً على المحنة العاطفية لكوازيمودو.

الضربة القاصمة لفرولو كانت في فيلم ديزني، فكان تشويهاً سافراً وهزلياً للرواية، قد يجده البعض جميلاً- لكننا نعتبره جميلاً فقط بشكل مستقل، بعيداً عن أي علاقة بالرواية.

أجد بعض الآراء الطريفة حول فرولو، وكلها بسبب التهميش أو التسطيح الحاصل للشخصية، مثلاً، القراء يجدونه أنانياً خبيثاً متمركز حول ذاته، يستخدم كوازيمودو ككلب شخصي، لا شيء يقف أمام أطماعه ورغباته، وهنالك من يقول على موقع (غود-ريدز) أنه يستحق أن يُرمى في البحر لتأكله القروش.

لا اعتراض لدي على كراهية الشرير، لكني لا أجده شريراً، أو لا أجد كل هذه الوصمات بالشر تنطبق عليه، ربما نقول أن فرولو مريض نفسي، سايكوباث، هو بأي حال أفضل -أخلاقياً - من أبطال روائيين يحوزون على التعاطف الجماهيري، مثل غرونوي بطل رواية (العطر)، غالب القراء لم يجده مجرماً أصلاً بالمعنى الأخلاقي، رغم أنه قاتل متسلسل قتل الأبرياء، واحدة تلو الأخرى، ركضاً رواء رغبة أنانية محضة.
الرواية عموماً أجدها صورة عصرية للرومانسية الألمانية لما بعد الحرب العالمية الثانية، الجينات النازية المشوهة حاضرة في الرواية، و همّ (غرونوي) في الوصول الى العطر الأكثر عظمة، يشبه همّ صديقنا في الوصول الى حجر الفلاسفة، فكلها ميول مثالية متطرفة، أقف موقف العداء تجاه رواية العطر، فقد وجدتها تجسد ثيمة نازية خفية، (وهذا رأي شخصي قد يعد تطرفاً كذلك)، كما أني لم أتعاطف مع غرونوي، الذي كان هدفه المثالي، في النهاية، مادياً جداً.

حين تضرب غوغل بحثاً عن فرولو، بالعربية، سوف تجد:"كلود فرولو رمز التعنت الكهنوتي والشر و الخبث و الأنانية والإجرام."، لا أقول أن فرولو رمز الطيبة المحضة، ولربما هذا الانطباع مفهوم لدي، فهو قد دفع بإزميرالدا الى الموت، حين يأس منها، ثم بعدما أيقن أنها ستموت، راح ليضحك بجنون، ربما تضطرم داخل فرولو تفاعلات معقدة لتُخرج هذه الشخصية، والموقف قبيل نهاية الرواية يذكرنا بموقفه في بداية المأساة، حين رأى عنكبوت يفترس ذبابة في شباكه، وحين حاول رفيقه انقاذ الذبابة، اندفع فرولو، كلا، كلا، دع الأمور تأخذ مجراها، لا شيء يفسّر (تجمد) فرولو أمام حياته سوى، ربما، المباديء التي طوّرها، التجهم الدائم، البرود السطحي لشخصيته الكالحة، فرولو (لم) يعرف حلاوة أي شيء دنيوي، وهو غالباً لا يتوقع شيء مماثل من الدنيا، وأي شيء دنيوي (حلو) سوف يصمه فرولو بتهمة، في حوار له مع (غرينوار)، حين كان يعرض عليه خطة لاخراج ازميرالدا من (ملجأها) داخل الكنيسة، يقترح عليه أن يلبس ملابسها وهي تلبس ملابسه، يقول غرينوار، هكذا سوف يشنقونني أنا، يرد فروللو، هذا ليس من شأننا حقاً، ولماذا تحب الحياة لهذه الدرجة ؟
فروللو لا يحب الحياة، رغم أنه لا يصرح في الرواية برغبته في الموت، وما يجعل فروللو تعيساً جداً هو هذه الحالة التي وصل اليها، وأنا لا أجد وصفاً أكثر حيوية للجنون، أكثر من حالة فروللو، فهو يقف (على الحافة) حرفياً، حافة الأبدية، على حد تعبيره، في مونولوغه (4) المؤثر مخاطباً ازميرالدا، عارضاً عواطفه (للمرة الثانية)، أن تكون على الحافة اذن فأنت مجنون، انه الشكل الأكثر قرباً لما يمكننا تسميته (انفصال المرء عن البشرية)، النبذ الحقيقي، ربما لهذا يموت فروللو بهذه الطريقة، حين يدفعه كوازيمودو من الكاتدرائية، فهو لا يسقط مباشرة، بل يتعلق أولاً بتمثال حجري، لمدة طويلة جداً، يجرح أصابعه ويحطم أظفاره محاولاً التشبث، يبذل الجهد، والجهد الذي يبذله يسيء الحال أكثر، فما يتعلق به يلين تحت الضغط، وحين يدرك فروللو بؤس الحال، وأن التمثال لن يتحمل ثقل جسده، ((يخفف)) قبضته، ويصف هيغو رؤاه أثناء السقوط، "حين كان كل ما يحيطه حجر"، يأتي ذكر ((الحجر)) مجدداً، ولا عجب أن عنوان فصل ((موت)) فروللو هو مقولة لدانتي، من كوميدياه، "المخلوقة الجميلة في الرداء الأبيض "(5)، ربما لأن في ذلك الوقت لن يجد الكاتب شيئاً أكثر وجاهة من اقتباسات دانتي، لكننا نميل الى السبب السابق عرضه، (حمّى) المثالية وميل المرء لتعذيب نفسه باسم أي وهم.


ربما يكون فروللو (رمز)، ربما يقصد هيغو أن يرمز بفروللو الى التعنّت فعلاً، تصلّبه أمام شؤون حياته، ميله للخيارات الصعبة العنيفة، ميله للجذرية، وأنا أميل الى أن هيغو قد خدع القراء، فقط، لنراقب الى أي حد يمكننا أن ننخدع، ونصدق أن شخص ما هو الشرّ المحض، وننزع عنه الانسانية، مذ بداية الرواية، فروللو التقي، العالم، العطوف، الذي يأوي اليتامى، الأهل لمسؤولية أخيه، كل ما يجعلني أتعجب من تعاطفي مع الشخصية ونفور الآخرين منها، السؤال، ما الذي حدث لكلود فروللو بالضبط؟ هل الانسان يميل لهذه الدرجة المتطرفة الى ازدراء الغير، القاريء/الانسان، كان مستعداً بشدة لمعاداة هذا الشخص، وخلع الشرّ عليه، في حين أنه كان بطلاً تراجيدياً حديثاً، ربما أتى في عصر الأبطال القوميين، باختصار، كان فروللو شكلاً أدبياً للتدهور الانساني، والى أي حد قد يصل


النازي



فيكتور هيغو مات قبل أن يشهد ألمانيا النازية، لكن في عهده ظهرت الميول الوطنية الألمانية (القرن التاسع عشر)، كما ظهرت أفكار أو كتابات آرثور دو غوبينو، عن الأعراق، قد بدأ الاحتقار النظامي أو المؤسسي للغجر في ذاك الزمان (وكذلك اليهود)، وهو كذلك تميز بأنه زمان الحضر أو الدولة بمعناها الحديث والمستقل عن أي سلطة أخرى (تعاظم السلطة الزمنية)، عموماً شارك الغجر في بث هذا الاحتقار تجاههم، فهم قد أخطأوا خطأ اليهود، وبالغوا في فصل أنفسهم بشكل دائم عن الجماعة، أو المجتمع المتحضر، وكان وجودهم يتمركز حول كونهم جماعة وظيفية (على حد تعبير د.عبد الوهاب المسيري، في وصفه لليهود)، كان سهلاً في أواخر القرون الوسطى (زمن أحداث الرواية)، اتهامهم بالسحر والشر والخبث، وكان سهلاً في زمن كتابة الرواية اتهامهم بالفوضى، الحقارة، الانحلال، أو بأنهم يشكلون تهديداً للدولة، الوطن، العرق الأبيض، النظام الحداثي، الخ.

رواية أحدب نوتردام تكتسب أهمية رومانتيكية أكثر، بعد الحرب العالمية الثانية، رغم التعتيم اللا-ارادي، واغفال البشرية للمآسي التي تعرض لها الغجر، على يد النظام النازي، باختصار، قد تتحول رواية أحدب نوتردام الى نوع آخر من رومانسيات الأزمة، مثلها مثل أفلام كـ (قائمة شاندلر)، الذي بالفعل يلقي الضوء على نوع من العلاقة المضطربة بين ضابط نازي سايكوباتي، وخادمة يهودية، أو فيلم (الكتاب الأسود)، الذي يحكي (مأساة) الشابة اليهودية راشيل شتاين، ورومانسياتها مع ضابط نازي ما.

عموماً، الجو النازي في مطلع القرن العشرين يشبه جو الرعب القروسطي لمحاكم التفتيش، فأوروبا- أو البشرية- تعيش الرعب من جديد، رواية أحدب نوتردام رواية تأريخية، وقد يكون فيكتور هيغو من هؤلاء الفنانين الذين أصيبوا بصدمة (ما بعد الثورة الفرنسية)، فلا هي جعلت فرنسا منارة للاخاء والمساواة، بل عمت الحروب وساد السوء والرعب، بالنسبة لأسباني -مثلاً- كفرانشيسكو غويا، ليرسم سلسلة اللوحات السوداء، أو بالنسبة لفرنسي طليعي كـ فيكتور هيغو، تبدأ أحداث روايته في مطلع القرن الخامس عشر، وهو التوقيت -بالضبط- الذي يشهد بداية تمييز أوروبا للغجر، أو انزعاجها منهم، هل انزعج هيغو من الكتابات العنصرية التي بدأت تظهر في عصره؟ هل بدأ هيغو يخاف من الدولة بشكلها الحديث، الدولة النابوليونية الامبريالية، الدولة الليفيثيان (على حد تعبير توماس هوبس)، الدولة المؤسسية التي تقوم بالاقصاء العلمي الموجّه (على حد تعبير كلا من د.المسيري وميشيل فوكو)، فهي ذاتها دولة القرن السابع عشر، الاصلاحية دينياً، التي تغيرت نظرتها للشحاذين والغجر، فمن يعطي هؤلاء ليس قديساً بالضرورة وليس صالحاً، وهكذا تحولت الأديرة، الى مستشفيات لايواء المجانين، المرضى أو الغجر، كل من يسبب (ازعاجاً اجتماعياً). هل يشير هيغو الى أن الكنيسة ومحاكم تفتيشها ليست بالضرورة آخر أهوال أوروبا، وأن أهوال ((دولية)) أخرى ستظهر؟ فالغجرية ليست غجرية، بل نعرف في آخر الرواية أنها ابنة امرأة فرنسية، ويبدو للقاريء أن هذا ما قد ينقذها من الحرق، لكن (لأجل الكلايماكس الدرامي) هذا لا يحدث، ويرمي كوازيمودو، بفروللو من فوق الكاتدرائية (رومانتيكياً، هذه هي الطريقة الوحيدة ليروي فروللو ظمأه تجاه حجر الفلاسفة)، بالموت.
هل كان هيغو يعبر عن قلقه من العلم؟ العلم المتطرف حين يحول البشر الى مجانين، هل تنبأ هيغو بالتجارب العلمية التي سيجريها علماء النازية على الغجر؟ هذه الأسئلة الطريفة اللا-منطقية هي ما يسلّيني.
عموماً، فيلم ديزني لا يجد حرجاً من تحويل فروللو الى نازي قروسطي، فيقول في أحد مشاهد الفيلم، سوف أجدها (ازميرالدا)، وان اضطررت الى حرق باريس كلها.

وفي مواضع أخرى يصرح برغبته في حرق الغجر، أو ابادتهم - بالمعنى. هذه الميول ليست واضحة في الرواية، لكن التأثير المبالغ فيه للشر النازي للشخصية، الذي تروج له ديزني، يستحق الاهتمام، يعجبني خصوصاً المشهد حين ينزل فروللو (الكرتوني) من عربته، مرهقاً، ويُسأل فيقول: "كانت لدي مشكلة مع المدفأة". تعليقاً على ليلته بلا نوم (أغنية هيلفاير)، ثم يدفع الحرس للبحث عن ازميرالدة، وفي بحثه المحموم عنها يحرق بيوت الغجر أو يضطهدهم، فكأنما هذه (الابادة شبه النازية) ، كانت كذلك بحثاً عن المثال، ذاك الشيء الجميل والمدمّر

------


(1) - اخترتُ هذه اللوحة، كأقرب تجسيد فني (غير متعمّد) لكلود فروللو، من فنان رسمها قبل الرواية الفعلية بنصف قرن، للّوحة قصة، ونلاحظ أن اسم الرجل في اللوحة (كلوديو)، وأن قبّعته تشبه قبعة فروللو في فيلم ديزني.

(3) - whatever is good (agathon) is also beautiful (kalon)
(4) -
"je vous parle debout et frémissant sur la limite de notre éternité à tous deux."
(5) -
La Creatura Bella Bianco Vestita—Dante

3 comments:

H. M. H. said...

عزيزي عيلام..
يُسعدني كثيراً أن أقرأ لك في مساحتك الشخصية - أخيراً، وآمل أن تظل [الطعم المر للأغاني] مكاناً للنقاش حول ما تراه موضوعاً يستحق الحديث.

ذكرياتي عن شخصية فرولو تعود إلى سن التاسعة، ففي تلك الفترة شاهدتُ فيلم ديزني، ثم قرأت رواية فِكتور هوغو بعده. كان بين الرواية والفيلم اختلافٌ هائل، خصوصاً في شخصية فرولو الذي يُشبه فاوست في الرواية، بينما هو قريب من مطرقة الرب برناردو غي في الفيلم.

رئيس الشمامسة كلود فرولو وعالم اللاهوت يوهان فاوست يشتركان في أنهما رجلا دين، ورجلا خيمياء في الوقت عينه. كلاهما منعزلٌ عن المجتمع، وكُل سلطةٍ يكتسبها تزيده عُزلة. فرولو يُريد أن يعثر على حجر الفلاسفة، وفاوست يُريد أن يتجاوز حدوده الإنسانية. كلاهما يرفض الطب والفلك والكيمياء والقانون والمنطق والدين بوصفها أشياء تحد من القدرة الإنسانية وتحجب عنها نور الوجود: "أن تجادل حسناً، تلك غاية المنطق." يقول فاوست لنفسه، ويستمر في مناجاته لنفسه: "وجزاء الخطيئة الموت. لكننا نخدع أنفسنا إذا قُلنا إننا بلا خطيئة." يصل إلى ذروته: "أنت لست سوى فاوست، لست سوى رجل. ليس لك أن تقيم الموتى بأمرك، أو أن تحرك السماوات والأرض." طموح فاوست وإحباطه الشديد يقوده إلى مقايضة روحه مع الشيطان، بينما يقود طموح فرولو وإحباطه إلى نزوله إلى عالم اللحم. ومن ثم سقوطه الأخلاقي. مثله، ينزل فاوست إلى عالم اللحم مع مارغريتا، لكن نزوله يأتي بعد أن باع روحه.
(فاوست مارلو أكثر أثيرية، إذ أن أقرب نموذج حي لغواية الدُنيا عنده شبح هيلين، ومشهده معها يجد صدى في فيلم ديزني، حين يحتضن فرولو امرأة دخانية).

فاوست وفرولو رجلا عصر النهضة، رغم أن الثاني يتقدم على الأول بقرن. كلاهما صاحب خلفية دينية عميقة تتنافر مع ميوله العلمية (المستقبلية) إلى حدٍ ما، كما أن ميلهما إلى بعث العلوم القديمة - الاشتغال بالخيمياء - يجعلهما موصومين في نظر الكنيسة. ورغم اهتماماتهما العلمية، إلا أن عاطفتهما الجامحة تقودهما إلى هلاكهما. إنهما مزيج من النهضة والتنوير - بأفكاره الوطنية الشوفينية - والرومانتيكية يبدو غريباً في القرن الحادي والعشرين، ومع ذلك فإنه مُنتجه.

رُبما لذلك، صُرِفَ انتباه العامة عن شخصية كلود فرولو بتحويل الانتباه إلى شخصية كوازيمودو، وتبديل اسم الرواية ليصير: [أحدب نوتردام]. هكذا، يصير كوازيمودو المركز، ويتحول الباقون: فرولو، إزميرالدا، وفيبُس إلى أقمارٍ تدور في فلكه، وتتحدد أدوارها في العمل بعلاقاتها معه، الأمر الذي أضر بالرواية إضراراً كبيراً إذ حرمها الثقل الفاوستي لشخصية فرولو، وحيوية العمل متعدد الشخوص المحكوم بالمكان: كاتدرائية نوتردام في باريس، محولاً إياها إلى قصة حزينة شبيهة بالجميلة والوحش.

يجيء فيلم ديزني ليبني على تراث الترجمة الإنكليزية للرواية، فالفيلم يُبقي التركيز كما هو: أحدب نوتردام. لكنه يحتاج إلى اللعب بقواعد ديزني، لذلك يُوجد بطلاً وسيماً يُساند كوازيمودو (فيبُس، الشرير في رواية هوغو)، وأميرة يتزوجها في النهاية (إزميرالدا)، وشريراً للفيلم (فرولو). ووفقاً لقاعدة الحكاية القديمة، فإن البطل عظيمٌ بقدر عظمة الشرير. هُنا، يتفوق كلود فرولو على الجميع بحيث يحمل الفيلم بنفسه، ففي كُل أفلام ديزني، يُقابل البطل الشرير وحده، ويلعب أصدقاءه أدواراً مساعدة فقط: علاء الدين مقابل جعفر، سِمبا مقابل سكار، وهرقل مقابل هادِس. هُنا: كوازيمودو وفيبُس وإزميرالدا ورئيس الشمامسة مقابل فرولو. بل إن الفيلم يخرج عن ثيمة البطل/الشرير التقليدية ليتجه إلى منطقة العوامل المتضاربة، فكوازيمودو وفيبُس تابعان لفرولو في الأساس، ووقوفهما ضده جاء نتيجة لتضارب مصالحهما مع مصلحته، واتحادهما لم يأتِ نتيجة لاعتقادهما بفساد فكر فرولو، بقدر ما جاء نتيجة لحاجتهما اللحظية للتوصل إلى إزميرالدا.

H. M. H. said...

حاولت ديزني إبعاد ثقل الرواية الديني عن الفيلم بتحويل كلود فرولو إلى قاضٍ – ثم إلى وزيرٍ للعدل – وفصل شخصية رئيس الشمامسة عنه، ليصير صوت الضمير وصوت كاتدرائية نوتردام في الفيلم. وخدم إخراج فرولو من الكاتدرائية غاية فنية جعلت الأحداث موزعة بين باريس بأكملها، وسمحت بمطاردة مرعبةٍ كمطاردة الفيلم الافتتاحية. كما أن قصر العدالة قدم الفرصة لتقديم فرولو في محيطٍ طبيعي أكثر تعبيراً عنه: متقشف تماماً، بارد، وعدواني. إن قصر العدالة المتقشف – والمرتفع بقدر نوتردام تقريباً – يكاد يكون نقيض الكاتدرائية النابضة بالألوان والأرضيات الفاخرة الملونة والتماثيل المختلفة. في جهة، عدالة الرب، وفي الجهة المقابلة رحمته.

غير أن تحويل شخصية فرولو إلى قاضٍ ثم إلى وزيرٍ للعدل لم يُبعد الصبغة الدينية عن الفيلم، بل زادها ثقلاً على ثقل. فرولو في الفيلم ليس عالم خيمياء يُريد تحويل الرصاص إلى ذهب، بل قاضياً يُفتش في الضمائر ويُريد "تطهير العالم من الخطيئة والرذيلة". إن شخصية فرولو، ومنصبه، والموسيقى المصاحبة له (التراتيل الكنسية ذات العلاقة بنهاية العالم) تجعل منه (الديان) الذي سيضرب الأشرار ويهلكهم في الهوة المحترقة. إنه رجلٌ بلا وخزات ضمير لأنه قاضٍ، ويؤمن بأنه نائب الرب على الأرض، وأن كُل ما حوله هدايا من الرب يُرسلها لتحقيق غرضه. قد يكون فرولو نازياً، لكن النازية تنظيم وثني - كما يراه أُمبرتو إيكو - بينما فرولو يؤمن إيماناً شديداً بالله، وهُنا المحرك الدرامي لكل الأحداث.

رغم تقشف فرولو الشديد، إلا أنه رجلٌ مشبوب العاطفة، وفي حقده الشديد على الغجر، فإنه لا ينطلق من منطلقٍ (جيني) بقدر ما هو مُنطلق ديني. الغجر - في أوروبا - مجموعة وظيفية، وما وظيفتهم؟ الشعوذة وألعاب الخفة والرقص وقراءة الطالع، أي كُل ما يراه فرولو رذيلة وخطيئة تُغضب الرب. إنهم وثنيون - كما يراهم - ومن هُنا فإن "واجبه المقدس" أن يُبيدهم لإنقاذ "روح كل مواطن في باريس". مع ذلك، يُذعن فرولو للسلطة الجمعية للناس، ويقبل إقامة مهرجان الغجر السنوي تحت رقابته.

في الفيلم، تأتي إزميرالدا بقدميها إلى فرولو متحدية إياه لأنه رمز سلطة - بينما هي رمزٌ للجمال الأنثوي - وبذلك يعتقد فرولو أنها قد سحرته. عاطفته المشبوبة تجعله يُحرق كُل باريس، لأنه يُريد إزميرالدا - مُجازفاً بخلاص روحه - ولأنه يعتقد أن إيواء ساحرة عملٌ موجبٌ للإحراق. إنه يدُ الله على الأرض.

رُبما جاء التعاطف مع شخصية جان-باتيست غرونوي لكونه أدنى: غرونوي هامشي ومنبوذ وقبيح، بينما فرولو رمزٌ سلطوي قوي. إنه الرجل صاحب الكلمة النافذة واليد العليا. إنه رجلٌ يتطلع إليه الناظر، بينما غرونوي رجلٌ ينظر إليه الناظر من علٍ. وفيلم ديزني يزيد من سلطوية فرولو.

إذا كان كوازيمودو هو من يُلقي فرولو في الرواية ليسقط وكل شيء حوله حجر، فإن فرولو في الفيلم يسقط بنفسه في لجة نيرانٍ محترقة تحقيقاً لمجيء الديان وزلزلة الأرض، وانفتاح جهنم حيث سيُضرب الأشرار ليسقطوا في الهوة المحترقة. يسقط فرولو صارخاً: "وسيضرب الأشرار". بينما تُحقق موسيقى ألان مِنكن التأثير المأساوي الذي تحدث عنه نيتشه في [ولادة المأساة]، حيث تُرافق الصورة مقدمة نصاً يُقدم الأحداث بعمقها الكامل: الموسيقى الكنسية الأوركسترالية، الكمان والطبول، والجوقة التي تصرخ: حررني يا رب! Libera me, Domine وكيرياليزون! Kýrie, eléison

تحياتي القلبية، وشكري الجزيل لك على هذا المقال الرائع..

. said...

مرحباً هند. حضورك وتعليقك يشرّفني كثيراً ويجعلني أدقق في كل حرف أضعه، : )

كالعادة أمام تحليلك يتضائل المقال، أعجبني ربطك بين فروللو وفاوست، في الحقيقة في أثناء تجوالي في ويب بين الفانز الفروللوين نبهني بعضهم لهذا، وأؤمن شخصياً أن تكوين هيغو لشخصية فروللو جاء بتأثيرات فاوستية، فالناس -في الرواية- تعتقد في فروللو ممارسة السحر، وأن كوازيمودو هو الشيطان الذي يصاحبه.

لكن -الثقل الكابوسي- لدراما فاوست جعلني أتجاهل العلاقة، طبعاً، الى جانب جهلي بتفاصيلها، عكس الحال معك، أنا غالباً لاحظت أني أتذوق الأعمال الفنية بميول معينة (subjective)، وأني طالما قرأت الرواية بنظرة شفقة تجاه فروللو، فسوف أحافظ على صورته المثيرة للشفقة والألم الرومانتيكي، بعيداً عن أى أبعاد -فاوستية.

فاوست مثال -ربما- لتصلّف العالِم، بينما أردت أن يظهر فروللو بمظهر العالم الذي يقع في هوة من الضعّة، ويصبح (من المساكين في الروح)، وتستهلكه عواطفه الخاصة، وحوشه/عواطفه التي تأكله لحماً وعظماً - يحضرني الآن شكل انسان ادفارد مونك في لوحة الصرخة - هذا الشخص النحيل جداً الأصلع.


كما أن فروللو بمنصب ديني رسمي وفاوست ليس كذلك (على حد علمي؟).

مسألة المنصب الديني هذا تشكّل علاقة فروللو بالآخرين، بطريقة :الراعي والخراف، أو القطيع، وتشبه الى حد كبير العلاقات المشوهة التي خلّفتها فكرة (عبء الرجل الأبيض) في عصر التنوير، وعبء الرجل الأبيض تسبب في الميول العنصرية، مثلما تسببت علاقات الراعي والقطيع الى ممارسات عنيفة شبيهة / محاكم التفتيش.

أربط بشكل دائم بين برناردو غوي وكلود فروللو، مؤخراً دخل شخص ثالث الى الأمر، فاوست، كما قلت، أظن بالفعل أن كلود فروللو هو (الجسر) بين برنارد غوي وفاوست، من شخصية دينية متطرفة تماماً بلا أدنى شفقة (مطرقة)، الى شخصية دينية متطرفة ومعذبة، الى شخصية علمية متنسّكة ومعذبة، الخ .

تحليلك الدرامي لفيلم ديزني رائع ومدهش، قلت لي في مكان آخر أن الموسيقى مهمة لأى تراجيدي/دراما، على لسان نيتشه، أظن أن هذه نقطة تفوق فيلم ديزني - وكل أفلام ديزني.
ديزني لا تعاني مطلقاً من تعثّر في الاخراج الدرامي، فإن أرادت أن تُخرج تحفة فنية سوف تفعل - ولو بالحد الأدنى، فيلم ديزني جميل، وشخصية فروللو هناك جيدة كذلك، في الواقع أتوقع أن يفضل البعض فروللو ديزني على فروللو الرواية، في ديزني فروللو أكثر قوة وتصلفاً، على حد تعبير البعض (شرير ومتصالح مع الأمر)، بينما فروللو الرواية متعثر، جبان (لاحظت أن ازميرالدا تشتمته بهذا في الرواية طوال الوقت- ربما لمقارنته مع الجندي/ الضابط)، ولفروللو الرواية لحظاته الهيستيرية المثيرة للشفقة، ببساطة فروللو الرواية حطام معنوي، بينما يظل فروللو الفيلم متماسك للنهاية، يعتقد كثيرون أنه أقوى وأفضل أشرار ديزني على الاطلاق، ينافسه أحياناً سكار-الأسد الملك.

أظن فحسب أن ديزني أقحمت التأثيرات النازية، الطريف أني كنت أشاهد فيديو لأفضل ١١ أغنية شرير في الأفلام، (وأخذت هيلفاير المركز الأول)، مُقدم الفيديو يعلق على أغنية (كن مستعداً) بـ : ديزني حوّلت ثلة من الضباع الى الرايخ الثالث، ربما ديزني بالفعل تحاول اصباغ الشر الأيدولوجي بشخصياتها، ولا أفضل من الشر النازي لهذا الغرض.

سوف أضع لك وصلة الفيديو رغم احتوائه على بعض الألفاظ الفجّة - عذراً.

http://thatguywiththeglasses.com/videolinks/thatguywiththeglasses/nostalgia-critic/17640-top-11-villian-songs


----
عموماً أغنية هيلفاير لها تأثير درامي عظيم، فأنا لا أستطيع سمعاها للنهاية.
هذا المقال أتعبني- رغم أني لا أراه مكتوباً ببراعة، فقد كتبته كله في ليالي الأرق، تحت نوع من الضغط. النقاش معك حول فروللو أفضل مكسب بالتأكيد.