Saturday, May 12, 2012

مرايا الوحش: ديزني تعادي الثورات -٢



٢. سياسات [المركز ضد الهامش]


تقول بِل في فيلم الجميلة والوحش، "أريد ما هو أكثر من هذه الحياة  الريفية"، وقد ترجمت كلمة provincial  الانكليزية لـ"ريفي"، لكن ما يدعو للتساؤل، لماذا اختيرت كلمة بروفينشال وليس رورال أو تراديشنوال أو أي مما يشير للمعنى. خاصة لأجل السياق "غير-السياسي" كما هو مفترض لكل أفلام ديزني، كلمة بروفينشال ذاتها تحمل تبطينا سياسيا، لأن المعنى الحرفي هو "اقليمي"، والاقليم هو كل ما يقع تحت ادارة حكومة مركزية في عاصمة ما، لكنه بعيد جغرافيا عن العاصمة. أصل الاستخدام بالطبع يعود لعصر الامبراطورية الرومانية، هنالك مقاطعة اسمها Provence موجودة بفرنسا، وتعود تسميتها إلى الغزاة الرومان، صحيح أن القضية الاقليمية عموما كانت صداعا متكررا لروما بكل ثورات الشعوب في المقاطعات- خارج روما (مصر، مثلا)، لكن هنالك اتفاق على أن بروفنس الفرنسية هي أهم مقاطعة رومانية في بلاد ما وراء الألب. 

في أغنية بِلْ هجاء واضح للحياة في "بلاد الهامش"، مما يعيدنا للتساؤل، إن كانت مشكلة بِلْ الحقيقية كونها لا تعيش "في المركز"، وليس لأنها تعيش في مكان ريفي، أهله بسطاء لا يهتمون "بالكتب" أو المعرفة. وها هي بِلْ تعدد لنا مساوئ الحياة في الأقاليم السياسية -من وجهة نظر أي مواطن روماني- من بينها بطبيعة الحال أن ليس ثمة أي اهتمام بالمعرفة أو الثقافة النخبوية. 


الفيلم يمزج بين الرؤية الرومانية لسكان الأقاليم، وبين العداء للثورات، بشكل بارع وممتاز يحوّل مشهد تاريخي "مجيد" كاقتحام الباستيل فيساويه بمشهد ظلامي كـ"نهب روما" عام ٤١٠ ميلادية على يد جُند القوط الغربيين بقيادة آلاريك، لو تراجعنا قليلا لتأمّل قصة الفيلم من بعيد: الوحش يسجن والد بِلْ لأنه دخل قلعته يطلب مأوى -دون اذن "السيّد". (ياله من تقدير أمريكي أصيل لحقوق الملكية الخاصة) ثم تدخلت بِلْ -مثل أي قديسة تقليدية- لاطلاق سراح أبيها مقابل أن تُسجن هي في القلعة. بِلْ تفلح في مغادرة القلعة بعد حين لتعود إلى "قريتها البروفنشال" كي تطمئن على أبيها الذي يعيش وحيداً. أهل القرية يعرفون "بوجود" الوحش، وليس ثمة ما يعيب عليهم رد فعلهم العنيف تجاهه، الوحش سجن شخصين دون وجه حق. "وقد يكون هنالك أسرى آخرين داخل القلعة". [فقد شغلتنا الدراما طوال الفيلم بتفاصيل رومانسية رقيقة بين الوحش و بِلْ، ثم محى تماما التأثير الظلامي للقلعة (البرج القوطي الذي يحوى المعتقلات) بمشهد المكتبة وتأثيراته الخلابة: الوحش يزيل الستائر ليدخل نور الشمس، ويكشف عن حجرة شاسعة بسقف شديد العلو، وديكور يشبه ديكورات قصور عائلة البوربون.]


يذهب أهل القرية لاقتحام قلعة الوحش في حشد يذكرنا بحشد "الديماغوج" لاقتحام الباستيل، و التاريخ لا يغفل الطبيعة "البروفينشال" لهذا الحشد العظيم، والنشيد الوطني الفرنسي الحالي ما غنّاه أهل اقليم مارسيليا الذين توجهوا للمركز/باريس، لمؤازرة الثورة ضد الحكومة المركزية. و اقليم مارسليا -تاريخيا- تنطبق عليه كل مساوئ الأقاليم و"ازعاجها" للحكومات المركزية، سواء كانت حكومة روما أو حكومة باريس، إنه اقليم دائم الثورة. [و قد تم ضمّه لاقليم بروفنس.]

قصة الفيلم التي عرضتها مذ قليل، منزوعة العنصر الميتافيزيقي، أى العنصر غير المرئي وغير المُهم "تاريخيا"، المفيد فقط للدراما الميتا-تاريخية، هذا العنصر يحوي أشياء من قبيل الحُب الذي يكسر تعويذة تعسفية تُلقيها ساحرة علي أمير جميل لأسباب غير مبررة [كعجرفته..إن عجرفته في الفيلم بسيطة الأثر مثل عجرفة مقولة ماري انطوانيت "فليأكلوا البسكويت"]، فتحوله لوحش منفر، وتحول قصره المنيف إلى قلعة موحشة. في هذه الحكاية الميتا-فيزيقية لا يُغفل خطاب العصر الذهبي الذي وَلّى. من الواضح أن قصر الأمير كان "المركز" في عصره الذهبي، وحين مُحي مجده لم يعد ينتبه أحد لكونه المركز. قصة الفيلم/حكاية بطولة بِلْ ليست بشكل خاص عن الحب الذي ينتصر على كل شيء، لكنها قصة "شطارة" فردانية، بِلْ الفرد تتفوق وتترقّى طبقياً بسبب فوزها في لعبة "جِد المركز الخفي"، وكما توحي أغنية بل في بداية الفيلم، فقد وجدت بِلْ ما هو أكثر من هذه الحياة الهامشية، لقد حُلّت عقدة حياة بل حين وجدت قلعة الوحش. الحب لم ينتصر بل الوحش هو الذي انتصر على أهل المقاطعة الريفية لأن بِلْ في صفه [وقد نترك ميتافور بِلْ للقارئ رائق المزاج، رغم أن الميتافور هذه المرة غير مُهم.] إنها ليست حكاية حب بل حكاية سياسية، لقد نشأ تصالح بين بِلْ والوحش حين سمح لها بالخروج من السجن الوضيع لتسكن احدى الغرف الفاخرة، وتتناول معه عشاء فاخرا على المائدة، ويسهر خدمه على راحتها. وهذا التصالح أصله أن الوحش يريدها أن "تحبّه" كي تكسر التعويذة وتعود إليه مكانته السلطوية كمركز ثقافي، بينما لم يك ليتصرف بهذا اللطف مع سجنائه الآخرين (أبيها، مثلا).  والقصة تتمحور حول بِلْ التي تعيد القصر إلى مركزيته، حين يصرح خدم الأمير أكثر من مرة أنهم سعداء بأن لديهم "ضيف" أخيرا أو شخص يخدمونه، وبحد تعبير لوميير "الخادم ليس منه نفع دون سيد يخدمه."، إن بلِ تتميز عن سكان المقاطعات الآخرين لأنها تستطيع تقدير المركزية الثقافية للقصر، وسلطته القادمة من المعرفة [كما قد ينظّر ميشل فوكو]، المتمثلة في "أكبر مكتبة رأيتها"- كما تصف بِلْ "هدية" الوحش لها تعبيرا عن حبّه. [وكذلك، الموسيقى التي تصاحب عشاء بِلْ الأول.]

بِلْ كذلك تتفهّم السحر الذي يسكن القلعة، بينما ليس ثمة وجود للسحر في البروفنس. الوحش يُحسن استخدام السحر [المرآة المسحورة التي تُظهر له الخفايا- مثل أي دولة بوليسية- بل أن المرآة تُستخدم طوال الوقت كأداة درامية لاظهار خيريّته، كما قد يكون الباترون/الراعي/السيد خيّراً لرعاياه] حين يشاهد بِلْ تبكي في حجرتها فيحنّ قلبه لها، وحين يجعلها تشاهد حال أبيها وهو يعيش وحده. لكن الغوغاء يسيئون استخدام السحر، وحين تعود بِلْ إلى القرية، وتُظهر الوحش في هذه المرآة كي تثبت لهم أن أبيها ليس مجنونا فلا يأخذونه في مأوى المجانين. ينزع غاستون المرآة ويستخدمها لتحريض الناس ضد الوحش، ما يؤدي في النهاية إلى حدث "اقتحام" القلعة. هكذا تُتسخدم المرآة، بالمقابل، كأداة درامية لاظهار شرّ أهل الأقاليم وخسّتهم الأخلاقية.

في الفيلم محاولة تصالح واضحة مع السلطة الأرستقراطية، ضد سلطة الشعب. فالأولى تظهر قابلة للاصلاح التدريجي غير الراديكالي، بينما يرفض خطاب الفيلم الأساليب الراديكالية للغوغاء. بمشهد في البداية يضع غاستون قدميه القذرتين على المائدة فيثير المشهد قرف بِلْ الشديد. في مقارنة مع تصرفات الوحش غير المقبولة كذلك على المائدة [حين ينكب على صحنه فيبتلعه بشراهةِ ملك فاسد وجشع] تجعله بِلْ فيما بعد يتمهل في أكله، إن تصرفات الوحش قابلة للاصلاح، بينما تصرفات غاستون ليست كذلك. 

سكان المركز (خدم الأمير)، لا يثورون ولا يثيرون الشغب. وهم فقط يدافعون عن ممتلكات مليكهم، ضد سكان الأقاليم مثيري الشغب/الغوغاء. في آخر مشهد بالفيلم (القصة تدور في فرنسا) اعادة تجسيد لمشهد اقتحام روما، القلعة ليست مكانا شريرا، والوحش ليس شخصا شريرا [وهذا غير مبرر من الناحية السياسية، فهو يسجن الناس]، بينما غاستون شرير بشخصيته الآلاريكية، والمعركة النهائية معه لأجل حماية بِلْ [الأميرة، غالا بلاسيديا، باريس، الخ] من أسر البرابرة.

الأقل ازعاجاً في الفيلم: عدم معرفتنا لما حلّ بالقرية بعد هذه الأحداث، فقد جرت عملية "اصطفاء" للأخيار من وجهة النظر الأرستقراطية، والد بِلْ صار معها في القصر، الفيلم انتهى نهاية مُحافظة [تزوجت بل من الأمير- بما أن وجهة النظر البرجوازية/المحافظة تقترح أن الزواج عبر-الطبقات حلٌ لكثير من المشاكل الاجتماعية]، لكن أين ذهب الغوغاء؟ أهل القرية؟ وماذا حل بالقرية نفسها؟ يبدأ الفيلم بالقرية/الهامش، وينتهي بمراقصة الأمير لأميرته في القصر/المركز، وهم ذاتهم في مركز صالة الرقص، وحولهم من أهم أقل منهم طبقياً.

الأكثر ازعاجا بقليل: افتراض الفيلم أنه لم يك ثمة مشاكل في الأصل، سوى السحر الشرير لفقراء مُدّعون (المرأة الساحرة في أول الفيلم التي سألت الأمير احسانه فرفض..) هذه الخدعة التي ساقتها المرأة تهمّش من مشكلة الفقر مقابل الثراء الفاحش للطبقة الأرستقراطية، فيظهر الفقراء كأنهم غير راغبين حقا في الاحسان إنما في "احراج الأمراء".

ما هو شديد الازعاج: اعادة التاريخ إلى حيز الميتا-تاريخي، والميتا-سردي، والحلول السحرية، [مشهد عودة الوحش إلى آدميته هو اعادة انتاج لوحة لمايكلآنغلو حول المسيح]. معضلة الفيلم السحر الشرير، وحل المعضلة بازالة هذا السحر بواسطة سحر آخر هو الحب، لكن الحب الذي يحضر في الفيلم ليس حباً، بل طموح طبقي، تقترح هذه الدراما بلا مواراة أن الطموح الطبقي الفردي طاقة ايجابية، بينما الحلول الراديكالية [الثورة الشعبية، مثلا] سلبية، ضارة، وشريرة، وسيئة وعنيفة. الطموح الطبقي لـ بِلْ يزيل التعويذة الشريرة التي أسقطت الأرستقراطية [أسرة البوربورن]، لأنه يُحافظ على مكانتها أو يعترف بها. الفيلم يصدّق على استحقاقية [الوحش/اللوياثان/حامي المدنية من الفوضى] للحبّ. 

1 comment:

Anonymous said...

ألا تشاهد فيلمًا لأجل المشاهدة؟
الأمير مُسِخَ إلى وحش، بيل كسرت اللعنة، وجاستون شخصٌ سيء..

لا أعتقد بأن الفيلم يُصور الثورات الشعبية بمظهر سيْ، بقدر ما يظهر إن العامة عُرضة "للسوق" كالمواشي ما أن أريتهم المرعى المناسب، وليس لديهم تفكير خاص بهم. هم سيتبعونك ما دمت تحمل "الحقيقة" والمتمثلة بمرآة، ويصدقون فقط ما يُعكس فيه، متجاهلين سياق هذا الانعكاس أو المعضلة الأخلاقية الكامنة لتصديقهم. ب"فكرة" مناسبة، تستطيع تحويل هذا المد من البشر إلى سلاح كما فعل جاستون، لتحقيق مآرب شخصية، وهو مثال نراه بكثرة في أرض الواقع من أيقونات دينية ودنيوية، بغض النظر إن كانت النتيجة الحتمية جيدة أو سيئة طبقا للمفاهيم العامة

لكنها بالتأكيد وجهة نظر مثيرة للاهتمام، أحببت قراءتها.. وفتحت عيناي على بعدٍ آخر