Tuesday, May 27, 2014

ذكورة جريحة ونكت أبيحة



سمعت البارحة واليوم حوارات قد تكون مكملة لبعضها البعض، فقد قيل أن سبب خيبة البلد هو خيبة رجالها، وجاء هذا كاستنتاج مباشر لمشهد تمت معالجته درامياً، وإن لم أطلع على بعض الملاحظات والتقارير على الشبكة، لظننت أن الاقبال على الانتخابات أسطوري، أو تاريخي، الخ. واكتشفت أنه ليس كذلك، لقد تم التركيز على مشاهد الاقبال النسائي واستغلالها درامياً - أو اعلامياً- للتدليل على شعبية الحدث الديموقراطي أو شعبية السيسي بما أنه رأس الدولة الليديز-مان مذ 30 يونيو الماضي. من حين لآخر يعبر ببصري منشور لفيديو رقص بلدي لامرأة ما أمام لجنة انتخابية ما، ورغم أنه كان يمكن تفسير تلك المشاهد باقبال المرأة المصرية على ممارسة الحق الانتخابي والسياسي، الخ. إلا أنه في الذهنية العامة جرى تأطيره واحتكاره في سياق لزج ومزعج يستحضر "سهوكة" السيسي وهو ينطق عبارة "الست المصرية" في برنامج حواري ما. مشاهد الاقبال النسائي أمام اللجان هذين اليومين الماضيين إنما هو امتداد لاقبالهن - المُعالج درامياً كذلك- في الاستفتاء الماضي على الدستور. مما يقودنا للاستنتاج أنه تم الربط بين الحدثين، فالنساء لا ينزلن لممارسة حق انتخابي بل لغرض مش ولابد، "الستات نازلة عشان السيسي". وعلى حد تعبير السيسي في أحد البرامج الحوارية - أو لا أدري ماذا- "كدا ح نعمل مشاكل مع الرجالة في البيت"، أليست صياغة الجملة السابقة، مدهشة، ومثالية، وتلخص الكثير من المساخر؟ تحولت العملية السياسية لمشهد مشحون حسياً، ربما مذ أول مرة وُصف فيها السيسي أنه دكر، أو أن الشعب محتاج دكر، أو أن مصر بلد عايزة ولد، وخلافه. 

لقد عايش السيسي كرأس دولة، وأكبر راس في الجيش - ودكر البلاد المفدّى - ورئيس الجمهورية القادم مسرحية تحويله إلى تيس، والانتخابات عرس ديموقراطي أو حفلة تيس كبيرة، إنه لا يترشح ولا يريد أن "يمسك" البلاد في مهمة سياسية أو هذا الهراء، بل سيفعلها - وقد قال أنه سيفعلها- لأنه الدكر الوحيد والمستحق والألفا-ميل، إن تأييد النساء له قادم من واقع أنه الدكر وأنه أيقونة حسية وليس موظف في الدولة. ولا يمكن تأويل التأييد له بأي شكل آخر، إنه لا يتخذ شكلاً سياسيا، ولا بيروقراطيا. 

وكما نعرف، أحد الأدوار التي تضطلع بها الدولة المصرية هي حقها في التدخل في "الأحوال الشخصية" لمواطنيها، لديها الحق لكن ثمة اتفاق ضمني بينها وبين المواطن الكامل - أي الذكر، المسلم، البالغ الرشيد- بأن هذا لن يحدث أبدا، فلن يجري التعرض لحريمه إن بقين داخل النطاق الخاص، أما في النطاق العام فلا يلومن إلا نفسه، رغم أن قانون الأحوال الشخصية ركن ودعامة لا تتزعزع من التشريع - وهيكل الدولة - وكيان المجتمع المصري، فهو موجود عموماً ليستمد منه المواطن الكامل شخصيته - التي هي على مثال الدولة، ذكر مسلم بالغ رشيد. أو بطريارك.

 في التكوينات العائلية التقليدية، يتبع خرف الأب قدرات تحكمية أكبر للأم، وفي حقبة التسعينيات المريرة - إلى جانب الخصخصة، والبلاوي الأخرى، التي جعلت الرجّالة يقعدوا في بيوتهم، والشباب من الذكور يقعدوا ع القهاوي - فكأنه كان ناقصنا، قررت ماما سوزان عمل بعض الاصلاحات النسوية الهيكلية، من أعلى لأسفل، من قبيل، الشقة من حق الزوجة، والخلع، والحاجات دي. والعياذ بالله، والأشياء التي تطورت إلى كوتة المرأة في البرلمان، ذاك الذي دفع معلّق ما، في برنامج ما، لا أذكره، أنهن "مطفّحينا الكوتة"، وكمان عايزين كوتة. 

وهكذا، فأن الأحوال - في نطاق الأحوال الشخصية - قد تنقلب رأسا على عقب أو تتغير وذلك بحسب وضعية الدكر الأعلى أو رأس الدولة، فأن بدأت قبضته ترتخي فقد يحدث ما لا تحمد عقباه، كان أول شيء سمعته بعد فوز مرسي  - والاخوان - برئاسة الدولة، وذلك من مدير في العمل، يخاطب الزميلات قائلا أنهم ح يقعّدوهم ف البيت، و ح يخلونا نتجوز أربعة. 

بالنسبة للذكر المصري المعتاد، فإن التدخل في النطاق الخاص -البيت- يعد خطا أحمر من المحرمات، قانون الأحوال الشخصية موجود لحمايته من المساءلة في حالات العنف الأسري وغيرها، بالطبع، الدولة لا تتدخل أبدا، ولم يحدث أن فعلت، ولكن أكثر ما يدهشني هو تلك القناعة، ذلك الاستعداد الباطني والدفين، القابع هناك في غياهب أو أعماق العقل الواعي أو الباطن للرجال المصريين أن الدولة قد تتدخل في أحواله الشخصية - وأن هذا إن حدث - فلا مردّ له. إنه شأن وارد جداً، بشكل يجعله يتخيل في الحال، ما أن تتغير السلطة، وبحسب توجهاتها، أنه ثمة تغيرات جسيمة سوف تطرأ على "البيت"، وشكل الأسرة، وقد يستبشر أحياناً بهذا. لا نستطيع القول حقاً أنه "يرحب به"، بل هو يعتبره وارد، من باب أنه حق تضطلع به الحكومة، وذراع الحكومة قد يمتد لهذا المكان. 

هذا يعيدنا إلى الجملة التاريخية "كدا هنعمل مشاكل مع الرجالة في البيت"، ليس فحسب أن السيسي - عفارم عليه - يذكر هؤلاء النسوة أنه ثمة بيت، وأنهن لهن رجالتهم، بل أن المشاكل قد "تحصل جوة البيت" بسبب تأييدهن له، ليس أنهن قد قررن ممارسة حقوقهن السياسية كاملة، هذا كله مجرد، وجهة، قشرة تافهة ورخيصة، وما يحدث فعلا أن النساء منجذبات له، وماذا فعل رداً على هذا؟ الاستلطاف متبادل، السيسي يطعّم تصرفاته بلمحات رومانتيكية تجاه "الست المصرية" أو ستات مصر، وهو شيء دخيل على التخيل المصري القديم للذكورة، فالدكر، رأس الدولة، العسكري، والحمش، هو العنيف مع النساء، الذي لا يخاطبهن، لأنه لا يراهن، واذا رآهن، فهو يستبعدهن من مجال رؤيته فوراً. أما السيسي فهو يرى، بل "يبحلق" أحياناً. ولا يبحلق بحلقة عنف، تحرش، بل "سهوكة" والعياذ بالله، شيء يستحضر إلى الذهن المصري، أشكال ضالة، مثل مهند، وتامر حسني، وسومة العاشق كذلك - عبرت بي كومكس تماثل بين لغة جسد السيسي وسومة العاشق-

إن رؤية هذا الدكر، رأس الدولة، للنساء، ينتقص من صورته الكاملة، هذا يضعه معهن في مستوى "مادي" واحد رغم أنه من المفترض أن يكون "فوق الجميع" مثل تجسّد ظاهراتي. إن مجيء هذا المخلوق المشوه الذي "يجذب النساء" ويتلطف في الحديث معهن ويتسهوك يمثل تهديدا مريبا، مع تصريحاته التي تطال البيت، وما يخبئه الزمان من تشوهات وفوضى بسبب التغير المحتمل للأحوال الشخصية أو الأحوال في البيت. والذي حدث أن النساء فجأة صرن مرئيات، إنهن مرئيات بشكل لا يحتمل، في الشارع بالذات، ويرقصن، أدى هذا لقناعة مبدئية، أن اللي مخيّب البلد خيبة رجالها، وقد جرى الاستدراك بعد ذلك أن الخيبة ليست أصيلة في الرجال أنفسهم، بل لأن الستات "كتير" جداً. أكتر من الرجال. هذا مرعب، البارحة واليوم يكتشف المصريون أن الستات كتير. وأن الستات فقط هن من نزلن لينتخبن السيسي، وقد جاء التساؤل "وهل يصح أن تنزل الستات ويجلس الرجالة في البيوت؟" وقد جاء الرد، بل أن النسوة فقط من ذهبن لينتخبنه لأنه، وهذه الجملة لم تأت تقريرية، بل في صيغة سؤال "وهو دا راجل عشان الرجالة تنزل تنتخبه؟"

النساء المرئيات لسن نتيجة مباشرة لمجيء السيسي، أو لأجله، بل لعدد من التطورات في السنوات الثلاثة الماضية، ولكن للأسف، هذه الظاهرة تزامنت مع ظاهرة السيسي بشكل ضرب صورته كالدكر المثير لاعجاب الرجال المصريين. لا أظن أن الجرح الذي أصاب الذكورة المصرية سببه جاذبية السيسي للنساء، أو خروج حريمهن على الملأ للرقص. هؤلاء النسوة المرئيات اللاتي خرجن للانتخاب - سواء السيسي أو حمدين، فليس ثمة دليل مادي على أن كل تلكم النسوة خرجن لانتخاب السيسي فقط - سوف يصنعن القرار وسوف يجلبن السيسي لرجالتهن في البيت والعياذ بالله، فهكذا جرى معالجة المسألة درامياً. إن الشعب المصري متدين بطبعه، ولابد أن مشاهد أخروية مريبة مثل كثرة النساء - المرتبطة بآخر الزمان- قد زادت من بلبلة الذكر المصري التقليدي، المتحرش والشكّاء وضعيف الثقة بنفسه، وبمن حوله، وبحريمه، وبالرجل الكبير كذلك، أليس هذا الرجل الكبير؟ ألم يكن ذلك هو الدكر؟ ما الذي حدث له؟ إن البلبلة شأن مفهوم، ومتوقع، فالمخلّص تتحلّق حوله النسوة، فهل هو المخلص أم المسيخ الدجال والعياذ بالله؟* 

لا أشك أن المشهد المصري العام الذي قد اختزلته في عبارة "ذكورة جريحة ونكت أبيحة" يقدم تفسيرات أقل اسخاتولوجية مما سبق، فالبلاد تعاني من أزمة عويصة، مؤلمة، صعبة، عصية على الحل، مذ هاشتاغ "انتخبوا العـ**" وتلك الكتابة التي أراها على جدار جامعة الأزهر "كل حاجة من الصين ما عدا الرجولة من رابعة".. وحتى معدلات التحرش التي وصلت لـ99%، بشكل لا يسعنا معه إلا المطالبة، على طريقة اللمبي: يا تعالجوا الذكورة الجريحة يا تبطّلوا النكت الأبيحة. فإن كان ارتباط هذه المرحلة بكون النساء مرئيات، جعل مرئيتهن تأوّل كنتيجة مباشرة لوجود السيسي، فإنه يجعل هذا الظهور، أو الوضوح، أو الحالة المرئية، سلبية للغاية، مشينة، جالبة للعار، بشكل يساوي بين هؤلاء النسوة حوله وبين السافرات من الممثلات والمغنيات وسيئات السمعة المؤيدات له - وذلك بعد حقبة أم أحمد وأم أيمن. إن مجيء السيسي ليس عودة لزمان سوزان بل زمان آخر كرب ومرعب تكون فيه النساء ظاهرات بأشكال "فضائحية مبتذلة" لم يشهدها الشارع المصري قبلا مثل الرقص أمام اللجان الانتخابية. وكما جرى تقطيب المعركة من قبل، ذكر مقابل عديم الرجولة، ودكر تطلبه الجماهير، فأنه من المتوقع تماماً أن يتم استيعاب هذه الجماهير في الإسكتش نفسه، وقد جرى استخدام الوجود النسائي بشكل حرفي، خرج من نطاق الميتافور والرمز والنكتة الأبيحة والاستظرف، إذا كانا اليومين الفائتين كأنهما كابوس مشوه ومخيف لنكتة باسم يوسف عن "جماهير"، لقد تم اختزال المنظر في جماهير عريضة من النسوة الهائمات في شخص ذكر ما. وهذه التخيلات التعبانة لم تحدث نتيجة للواقع على الأرض، بل لأنها كانت موجودة سلفاً ككليشيه ممجوج حاضر في الأذهان من زمان.

Saturday, April 12, 2014

"لقد قتلوني يا عمة!"

الماتامورو لفظة إسبانية تعني "قاتل العرب" أو سفاح العرب، أما الذي كان مقصوداً بها فهو القديس الراعي للمملكة الأسبانية الكاثوليكية من الفترة 1600 وحتى 1760، وقد رُجحت كفة الماتامورو على كفة القديسة تيريزا الأبيلية، من اختاروه رأوا فيه  "هوية" الشعب الأسباني في القرن السابع عشر، أو ما تحتاجه هوية الشعب وقتئذ. (وفي كل الأحوال، من المتوقع أن يجري اختيار قديس محارب ليكون راعي الأمة - رغم اشارة بعض المصادر لأن شعبية القديسة كانت أقوى لدى الطبقات الدنيا من الشعب) حين كانت الأمة مهددة بأخطار عميقة - من كل جهة - والممالك الكاثوليكية تتهاوى حولها في القبضة البروتستانتية، بما أن الماتامورو سفاح للعرب فقد جعله هذا الراعي الأقوى لحروب الاسترداد. وحامي الكاثوليكية من كل الشرار.

في الواقع، تكاد تكون تلك الشخصية المسماة بالماتامورو خيالية بالكامل، ونقول تكاد لأن جزءاً منها يحمل بعض الصحة التاريخية، القديس سانتياغو الماتاموروس أو القديس جيمس سفاح العرب. تفترض الحكاية أن ذاك هو نفسه يعقوب بن زبدي أحد حواريي المسيح. الأساطير حوله تشير إلى ظهوره بصورة "سانتياغو الماتاموروس" وليس يعقوب الزبيدي، فقد ظهر كقديس محارب يعين المسيحيين على هزيمة المسلمين في معركة كلابيخو، هذه المعركة هي كذلك خيالية بالكامل، ولعل كونها خيالية يخفف من وقع الحكاية التالية: فهذه العركة حصلت بين راميرو الأول ملك أستورياس المسيحي وبين المسلمين، الذين، بعد موت ألفونسو الثاني ملك أستورياس السابق، طالبوا وريثه بإتاوة الصبايا المائة، تصرح صفحة ويكي الخاصة بها أنه ليس ثمة أي "مصادر" تاريخية لهذا "الحوار"، ولكن، لا بأس: تلك الإتاوة كانت نتيجة اتفاقية قديمة بين مملكة أستورياس والإمارة الجارة "امارة قرطبة"، والحكاية بصراحة، أنه في عام 783 ميلادية، أفلح الملك موريغاتوس الأستوري في الجلوس على عرش أستوريا بعون أمير قرطبة عبد الرحمن الأول - ذاك، هو عبد الرحمن بن معاوية، صقر قريش شخصياً- وثمنا لذاك فقد طلب عبد الرحمن من المسيحي موريغاتوس إتاوة سنوية من خمسين عذراء نبيلة وخمسين أخريات من العوام. وقد قُتل موريغاتوس في 788 ميلادية على يد نبيلين بسبب موافقته على الإتاوة، وقد أتى مليك اسمه ألفونسو الثاني، ذاك المسيحي التقي رفض الإتاوة كلياً - بعدما كان الملوك الذين سبقوه يتفاوضون لجعلها من الأموال- وبحسب وجهة النظر هذه، التي ترى أن معركة اللوتص قد قامت لأجل أن يحارب ألفونسو العرب ليرجئهم عن المطالبة بالإتاوة. والملك الذي تلاه، راميرو الأول، هزم العرب شر هزيمة في معركة الكلابيخو عام 842. (بمعاونة الماتامورو)، عبد الرحمن الثاني جبن من أن يطلب تلك الإتاوة مجددا.

من مدة كنت أشاهد فيلم "المستشار" وقد أتى فيه حوار عن العرب، في أجواء من عصابات المخدرات والسلاح، تقول شخصية خافيير باردم في الفيلم لشخصية مايكل فاسبندر أنه "لا يعمل بزنس أبداً مع العرب" - وقد أتى هذا التصريح بعدما كان يثرثر له ويذكر مثالا، لو ترك عربياً مع عشرة - أو نحوها - من المكسيكيين في حجرة وسأله، من تظنه سيبقى واقفاً؟ وقد رأى أن العربي سيبقى إلى النهاية. ولكن، سأله فسبندر، لماذا قد لا يعمل بزنس مع العرب، فأجابه "لأن العرب لا يريدون أموالك". وقد تذكرت هذا في معرض قراءتي لحكاية الإتاوة، خاصة حين حاول بعض من ملوك المسيحيين المساكين استئذان العرب أن يحولوا الإتاوة لمبلغ مالي. أذكر أنه ساعة مشاهدتي للفيلم، بما أنني -بطبيعة الحال-لا أقيم وزناً للستريوتايب عن العرب - ولن أفهمه- وبخاصة أن هذا الحوار قد أتى تالياً لحوار بين المستشار (مايكل فسبندر) وجواهرجي يهودي ذكر بشكل عابر مسألة طرد اليهود من الأندلس/أسبانيا. والآن لعلي فهمت، اذن، العرب يطلبون منك حريمك؟

ثمة طرافات تاريخية عدة بخصوص حكاية الماتاموروس، ومنها العادة أن يقدم الحاكم الأسباني الأضاحي لتمثال القديس ماتاموروس في كاتدرائية سانتياغو بكومبوستيلا، وفي مرة، بعث فرانكو بجنرال مغربي نيابة عنه لتقديم الأضاحي للتمثال، وحينها، حسبما يقال، تم تغطية رؤوس الموور المقطوعة في ذاك التمثال.  ولا أدري ما الذي كان يفكر فيه فرانكو النبيه، ولكن ثمة مفارقة سخيفة في المسألة، إذ أن فرانكو قد استعان بالعرب المغاربة مثله مثل مواطنه الأقدم موريغاتوس الأول، لأجل أن يجلس على عرش أسباني.

ولكن، بما أن سانتياغو يستجيب للندهة لأجل شرف الرجال الأسبان والكرامة الوطنية المدنسة بعيث العرب فسادا في حرائر الأمة الأسبانية من النبيلات والعوام، فقد قلت أن المسألة - كالعادة -تتعلق بالحريم. فذاك القديس ليس بالشعبية التي نتصورها، أجل، تيريزا الأبيلية أكثر شعبية منه، ولكني أقصد كذلك الأعمال الفنية، إن موضوعه ليس من الموضوعات العظيمة في الفن الأسباني، وبحسب معارفي المتواضعة جدا - ولعلي مخطئا - فهو ليس حاضرا في اللوحات مثل قديسين آخرين، ربما ﻷن ظهوره - أو معجزته- قد جاءت متأخرة جدا في زمن يسهل فيه التمييز بين الهلاوس والضلالات والقول الحق، وحتى المعركة التي يقال أنه قد ظهر فيها، كانت خيالية بالكامل، لم تقع قط. لقد تضائل الحضور "الفني" والثقافي لسانتياغو لدرجة أنني لم أسمع به قط، ولم أعرفه من قبل، رغم اهتمامي بالموضوع الأندلسي والأسباني، إلا من رواية اللوح الأزرق لغيلبير سينويه. لقد مرت عيني على اسمه "سانتياغو" كثيراً، ولعدة أيام، دون أن ألحظ، حقا، ما "تقلّص" إليه القديس ماتاموروس، في لحظة من لحظات الضمير الشعبي النادرة، فذاك قديس "قاتل"، حتى لو كان قاتلا للأعداء، وحاميا للشرف الأسباني، حتى مار جرجس أشهر القديسين المحاربين، ليس قاتلا، بل شهيد وصاحب آلام عظيمة. إن الضمير الشعبي والعواطف تلك لا تتماهى حقا إلا مع الشهداء، بحسب رأيي.

ولأن تلك المسرحية عن موور، يستولي على امرأة مسيحية ليست " من حقه"، فقد ظهر سانتياغو في الحكاية، ليؤدي دور "استردادي" بلا شك. ومثل الريكونكويستا التاريخية، التي gone very wrong. وقلبت بمحاكم تفتيش، وتوليع وحرق. فهكذا كانت الريكونكويستا بمسرحية "عطيل" الموور، إن اسم الغريم وأساس الشر ومفرق الجماعات، والشيطان نفسه، بحسب ورق التاروت الشكسبيري، ياغو، قد يبدو مصادفة، ولكن بوجود موور في المسرحية فإن هذا كثير جداً. كي أسكت عليه وأدعه دون مبالغات تنظيرية. لقد تقلص الماتاموروس إلى شخصية شيطان حسود، فحسب. يكره الموور، ويستكثر عليه "فوزه" بهذه المرأة، فيقرر أن يخربها عليه. لقد جرده شكسبير حتى من دوره البطولي الوحيد، أي تفوقه في القتال، وفي المعركة، فإن ياغو لا يقتل، ولا يدخل في مبارزة "شريفة" مع غريمه، بل يتلوى ويلتف مثل الأفاعي. وهذا "آخره"، إنه ليس ماتاموروس بمعنى أنه لا يقتل الموور، بل إن الموور في المسرحية هو القاتل، قاتل نفسه وهو كذلك- كالعادة- من يضيع على نفسه "الفردوس". 

وفي علاقة الموور بسانتياغو، فذاك سانتياغو آخر يظهر في رواية "أحداث موت معلن" لماركيز، سانتياغو نصار عربي أصلاً، وقد يبدو غريبا تسميته باسم قديس ملقب بسفاح العرب، ولكني أظن أن هذا استعارة من دور الموور التاريخي كقاتل لنفسه، أعني عطيل نفسه الذي قتل نفسه ولم يقتله أحد، فعلياً. لقد تسبب سانتياغو نصار في مقتله، ليس ظلما وعدوانا، بل كذلك، بسبب الحريم، وتورطه معهن، وتعديه على شرف الأسبان، في رواية "أحداث موت معلن". أو بحسب المقولة التاريخية الخالدة، "إيه اللي وداه هناك".

Friday, December 27, 2013

مَشَاهِدْ: لم يُصَبْ أي يهودي بالأذى أثناء تصوير هذا الفيلم -٢



السطر السابق ظهر بعد عناوين النهاية لفيلم رجل جاد، والذي تقترح مُراجعات كثيرة أنه يحاكي عدّة سرديات كبرى مستوحاة من التوراة، عن "الرجل اليهودي"، أو أخلاق العائلة اليهودية الأصيلة، أو هو "حدوتة يهودية" باختصار، وهذا يأخذنا إلى ما يهمنا من الفيلم كله - والفيلم يستحق المشاهدة. لكن المميز بشأنه هو مشهد الافتتاحية. 

الفيلم ذاته يدور في حقبة الستينيات حول رجل يهودي - جاد- بروفيسور في الرياضيات و"عقلاني"، يواجه عددا من المصائب والابتلاءات - شبه التوراتية- التي تقع على رأسه، يُختتم الفيلم بجائحة قادمة رأساً من العهد القديم - اعصار. و ما يتعرض له بطل الفيلم مألوف لمن قرأ الأسفار ولما يحدث  لآباء بني اسرائيل من انقلاب الأهل عليهم، والأبناء، والأشقاء، والجيران، والزوجات - خاصة الزوجات. في الفيلم احتفاء مميز للغاية بكل النماذج النسائية التوراتية، ثمة الزوجة التي تنقلب على زوجها وتدّيله المقلب، وثمة المغوية الشريرة وهنالك المرأة الدموية السفاحة، الخ. 

بالطبع، الفيلم يدخل في نطاق الكوميديا السوداء - ويقدم صنفاً من الكوميديا المُرعبة الذي يثير اهتمامنا بشكل خاص- لما فيه من مبالغات ثقافية وانجاز ظريف يمزج بين المأساة والملهاة، ولعل هذا ما يميل إليه الأخوة كوين، انجاز "نكتة فلكلورية" تمر في أغلب الأحوال على المشاهد دون أن يشعر أنها ثقيلة الظل أو مُشينة أو مُهينة ثقافياً/عرقياً، وهم ربما يفلتون من هذا بتنفيذ حيلة البطل المأساوي، مثلاً: يمكنهم الاستظراف حيال البيئة والثقافية الجنوبية الأمريكية -والافلات من اللوم- بجعل البطل تجسيد لعوليس شخصياً - في سياق الأوديسة الجنوبية. هذا يضيف قدر معقول من التعقيد للشخصيات - حيث بالطبع، إن لم تفعل، و سخرت من الستريوتايب أو قدّمت شخصية "الآخر" في سياق الأداة الدرامية المبتسرة دون أي تطور درامي وفي حدود خدمة الشخصيات الرئيسية - التي هي تقع في المركز، (الشخصية المركزية للبطل المعتاد غالبا ما تكون ذكر أبيض طيب قوي ...الخ) - هكذا تقع في الغلط.



١. القوطية اليهودية

المشهد الذي نتحدث عنه ويعجبنا لأنه يقدم نوعاً من الرعب - أو الكوميديا- أو الرعب الكوميدي النادر، نوعاً، وفي رأيي، لا يتحقق إلا إذا توافر عنصر المبالغة الثقافية، وأقرب وأبسط مثال له هو عائلة آدامز، رغم أن عائلة آدامز لا تمثل فئة ثقافية - أو جماعية وظيفية أو نوعية بحد تعبير المسيري- لكن، كما يذهب تعريف صفحة ويكي، عائلة آدمز هي "انحراف ساخر" عن نموذج العائلة الأمريكية المثالية، ليس فقط في كونهم جميعاً بشعر أسود أو شاحبي البشرة، هم أيضاً يرفلون في بيئة كئيبة مُقبضة مليئة بايحاءات الموت القوطية، لا يمكن وصف عائلة آدامز - الأمريكية الثرية- أنها تجسيد للآخر والغريب في وجهة النظر الأمريكية اليمينية، لكنها ربما تمثّل ذعراً أمريكيا قديما - من أيام الاحتلال، وحرب الاستقلال- بأن ينتهي الحال بأمريكا مُجدداً إلى مجرد مستعمرة أوروبية، (بالطبع، عائلة آدامز لديهم طباع أوروبية، بلا شك، مزيج من الدموية الفرنسية والوحوشية الجرمانية والكابوسية الأسبانية، الخ) وأن يتحول الأمريكيون لوحوش أوروبيون قوطيون يسكنون قلاع ولديهم عادات أوروبية قوطية، غريبة، ومقرفة، ومريعة، و ungodly. فوبيا العودة لحالة المستعمرة الأوروبية لا يتعلق فحسب بخوف الأمريكيين من أن يقعوا تحت وطئة احتلال ولكن، بشكل خاص، فقدان القيم المتعلقة بالحلم الأمريكي، والأرض الحُرّة العذرية، والديموقراطية المسيحية، وشكل التدين القويم، المعتدل، المستقيم، الخالي من شوائب الوثنية، أو التطرف، أو الخبال، أو الافتنان القوطي بالموت، أو الأيقونات المرعبة، والصلبان الضخمة، وجثامين القديسين، الخ.

القوطية - بأصولها وطبيعتها الأوروبية، التي تستقي أغلب رموزها وهواجسها من الكاثوليكية، غالباً - حاضرة في الثقافة الأمريكية بالطبع، لكن أغلب تجسّداتها- الأكثر شيوعاً- تقع في هامش جنوبي، إنها - في الأغلب- مُتعلقة ببيئات وأفراد وثقافات أخرى، بعيدة عن المُثل الأمريكية الحرّة، وعن أنماط التدين الأمريكي المعتدل، العقلاني، القويم، صحيح أن الجنوب بروتستانتي في أغلبه لكنه مُهدد بانحرافات دينية دموية، وقد رمى الشمال المتحضر القائم على التطوّر طوبة الجنوب القوطي منذ وقت طويل.

القوطية الجنوبية نمط درامي في الفن والأدب - أحد أمثلته لوحة القوطية الأمريكية - وأعتبرها شرحاً ممتازاً للجنرا الفنية السابقة، مثل عائلة آدامز، القوطية الجنوبية تحكي قصص عن عائلات - جنوبية - غريبة الأطوار وذات طباع مريعة ومفزعة، أحيانا دموية، في الغالب مزعجة ومعيوبة وبعيدة عن النمط المقبول والطبيعي لما قد يتخيّله المشاهد والمتابع والفرد العادي عن العائلة الأمريكية الأصيلة. وأخلاق العائلة الأمريكية الأصيلة. في اللوحة، يقف أب حاملاً مقشّته مُهدداً أياً كان من يفكر في الاقتراب من ابنته (عانس تعيسة حبيسة أو دامزل إن دسترس)- أو هكذا تخيلتُ القصة بناء على عنوان اللوحة. الذي يفترض "تصرفات" عائلية متطرفة لأفراد - آباء- مهووسين دينياً أو ذوي تقاليد صارمة نابعة من تلك البيئات الهامشية والمنسية في الجنوب الأمريكي الشرس. هذا مماثل لما قد تتخيله ثقافة المركز عن أي ثقافة هامشية أخرى، فتخترع النكات بشأنها، والأمثلة على ذلك كثيرة .. "مرة واحد صعيدي..مرة واحد أحمر الرقبة، مرة واحد يهودي... الخ)

ويتضح لنا أن هذا كله وثيق الصلة بموضوعنا - فيلم رجل جاد- حين ننظر إلى الموضوع المفضّل في أفلام الأخوة كوين - تقديم تلك النماذج الجنوبية الأمريكية المفزعة، غريبة الأطوار، أو المنفرة- هذا لا يعني بالضرورة "شكل من التخصص" في النكات الفلكلورية، بل يفسّر وجهة نظر الأخوة كوين حين حاولوا معالجة "المسألة اليهودية"، وقد اتّبعوا نفس الأسلوب في معالجة النكتة الفلكلورية الجنوبية، بتقديم نموذج شديد الانحراف، والمبالغة، والمأساوية، لعائلة "الآخر"، كون الأخوة كوين يهود لا يعني أنهم لن يقدّموا معالجة فلكلورية لليهود، بل ربما أراد الأخوان تقديم "النكتة اليهودية الكبرى"، (تحريف للسردية الكبرى)، فيلم رجل جاد عن هذه النكتة اليهودية الكبرى حيث أراد مخرجوه أن يؤكدّوا أنه - بعد كل تلك النكات، والسخريات من اليهود عبر التاريخ- بالطبع فإن أفضل نكتة عن اليهود هي تلك التي سوف يصنعها اليهود أنفسهم، ولن يتغلب عليهم أحد في السخرية من أنفسهم. 


٢. الدين والأفيون

رغم أن اليهودية كدين لا تُعامل معاملة الهرطقة - كما قد تُعامل طوائف مسيحية كثيرة كالمورمونية- ولا تُعامل معاملة زوجة الأب - أي الكاثوليكية- وهي بطبيعة الحال لا تدخل في تنميط الأمريكان عن تلك الديانات المرعبة والمخبولة والدموية كالاسلام. بالعكس، وجهة النظر الرسمية تُلحق المسيحية - أو المسيحية الأمريكية - بالتراث اليهودي، في تعبير الجودايو-كريشتيانيتي، كما توضح إحدى حلقات راديو هند. 
لكن ما هو "المانوال" حقاً إذا أردنا صنع "قوطية يهودية"؟ أظن أن الخطوة الأولى هي استعادة الثقل المُقبض والمنفر للديانة، أتخيل أن الأخوة كوين وقفوا طويلاً حيارى تجاه ذلك أو كيف يمكنهم البدء في هذه النكتة، ولأنهم أرادوا صنع نكتة يهودية كبرى، لا ينافسهم فيها أي نكّات آخر. لأن اليهودية واليهود ليس لديهم setting أو أساس بيئي جغرافي راسخ - بعيد، هامشي- يسهّل اختراع نكتة طريفة بشأنهم، فهم لا يتركزون في الجنوب، بل في المركز الشمالي، نيويورك، وول-ستريت، والغرب الثري، وهوليوود، لا ننسى أن الأخوة كوين يحاولون صنع نكتة يهودية -أمريكية، والوجود اليهودي في أمريكا مركزي للغاية، والوظائف النمطية لليهود الأمريكان تصعّب المسألة أكثر فأكثر، هنالك إرث مستمر وراسخ ويفرض نفسه بشأن اليهود، وبشأن انجازاتهم المالية، والعلمية، والعقلانية، إنهم في الآكاديميا، وفي السينما، وفي البورصة، وفي جوائز نوبل، إنهم - في الذهنية الأمريكية- بعيدين كل البعد عن الظلامية، والبربرية، والتعصب، إنهم ليسوا أميين، ونسائهم لسن "دامزلز إن دسترس"، ولسن حبيسات منازل كولونيالية في الجنوب، وعلى صعيد آخر، تاريخهم في أمريكا لم يرتبط باستعباد الآخرين، أو تقطيعهم ارباً في الشوارع، أو قتل النساء، أو أي من هذه الانحرافات، بل أنهم كانوا دوما ضحايا، شهداء، كما تُشاع الصورة النمطية. كيف يمكن صنع نكتة فلكلورية-قوطية من هذا؟ المفترض أن يكون الأفراد دمويين، أو غرباء الأطوار، أو مثيري الذعر.

الحل المبدئي ببساطة يكمن - كما قلنا- في اخراج كل الغسيل الوسخ بشأن الديانة أو بشأن خرافاتها، لهذا جاء مشهد الافتتاحية، ووفقا للمخرجين أنفسهم، المشهد لا يمت بصلة مباشرة للفيلم ذاته، وحين تم السؤال عن ذلك، يقول إيثان وجويل كوين أن مشهد الافتتاحية يقترح أن لاري- بطل الفيلم، الرجل الجاد- يحمل "ثقل التاريخ" فوق كتفيه، حيث، على حد تعبير إيثان كوين- (من الصعب أن يكون المرء يهودياً) ويشرح جويل أنه يمكن النظر للافتتاحية على أنها تمهّد للفيلم كقصة يهودية، أو قصة عن "الشعب اليهودي"، حسناً، في رأيي، الافتتاحية تمهّد للفيلم كنكتة يهودية -قوطية- أمريكية، مع الأسف، لم يستطع المخرجان أن يقيما السياق على الأراضي الأمريكية، فجاء المشهد، أولاً، باللغة اليديشية، ولاشك أن هذا قد أزعج المشاهد الأمريكي العادي، ثانياً، كان المشهد يدور في القرن التاسع عشر، في بلد بشرق أوروبا، ونحن نعرف أن الفيلم نفسه يدور في الستينيات في وسط-غرب أمريكا. هذا يحل مشكلة الصورة النمطية المعاصرة عن يهود أمريكا، في المشهد، نجد زوجين يهوديين، الزوج يعود من الخارج في ليلة عاصفة بالثلوج، والأدوار الجندرية نمطية في مكانها - كما قد يكون الحال في جنوب أمريكي - والزوجة تطحن شيئا لأجل العشاء، وصحيح أن اليهوديات الأمريكيات -نمطياً - لسن زوجات متطيّرات مهووسات دينياً كما قد يكون الحال في الجنوب- لكن هذه المرأة كذلك، وثمة بونص يهودي خاص، هي دموية، قاسية، سريعة التصرف، أو متنمرة، ساخرة من زوجها، وهي بتصرّفاتها "تقزّمه" أو تقلل من حجمه، كما قد تكون ليليث التوراتية، أو سارة أو جيزيبل أو جوديث، أو دليلة، وغيرهن. 


 لأجل أن تنتقل باليهود الأمريكان المعاصرين من وضعية المركز لوضعية الهامش،  أنت بحاجة للبعبع الأوروبي، حين كان يهود الدياسبورا مُشتتين مذعورين في بلدان أوروبية مسيحية تتربص بهم وتتهيّب اللحظ للفتك، إنهم في المكان الخطأ في الوقت الخطأ -بالنسبة للمجد اليهودي-، بلا مجد ولا رب يحرسهم، ولا ثروة، الزوجان فقيران، يسكنان عشّة أو كوخ يعصف به الثلج. وكل هذا لأجل صنع قصة "قوطية يهودية"، لا تخلو من الكوميديا السوداء التي تدور حول موضوع الموت. أو الموضوع الديني/عن الموت. المشهد قد يمكن تفسيره في نطاق البارانويا اليهودية أو في نطاق المرأة اليهودية الهستيرية .حيث أنه أحد عناصر القوطية - سواء كانت جنوبية أو يهودية أو غيرها- استعادة المفاهيم الرجعية عن المرأة والآخر.

الزوجة اليهودية هستيرية وفي الوقت ذاته تتحدى زوجها وتهين ضيفه، فالزوج يعود إليها ليحكي أنه قد التقى بأحد معارفهم، وأنه ساعده، وأنه قد دعاه إلى الحساء هذه الليلة، ولكن الزوجة تعترض وتخبره أن هذا الرجل ميت منذ ٣سنوات، وأن ذاك الذي التقاه هو "روح شريرة" أو ديبوك، الديبوك روح الميت العالقة، أو هي روح استحوذ عليها الشيطان لأن مراسم الدفن لم تتم كما يجب - على حد تفسير الزوجة. وهكذا فقد صرّحت الزوجة في المشهد أن هذا الرجل الذي ساعد زوجها هو الشيطان شخصياً، وقد بصقت عن شمالها، لعل مصطلح الديبوك أو قصص المس الشيطاني غير حاضرة في الواقع اليهودي المعاصر- في أمريكا بشكل خاص- ولكنها ضرورية لأجل صنع افتتاحية قوطية، ولابد أن المخرجين قد اضطرا لقطع طريق طويل في الزمان والمكان لأجل استحضار تلك العناصر اليهودية النائية. وجود الزوج في المشهد قد تقزّم أمام اصرار الزوجة - خاصة بعد حضور الضيف- وبعدما قامت بطعنه لتثبت لزوجها أنه روح شريرة، في البداية لم ينزف الرجل. "لم يصب اليهودي بأذى". 

الرجل نفسه أثناء حياته لم يكن "غوييم" أو من الأغيار، بل "فقيه" يهودي في الزوهار - وهو كتاب مؤسس في القبالة اليهودية (أو التصوف اليهودي)، وقد تتلمذ على يد علامة يهودي آخر. مُجدداً، يحاول الأخوان حشد كل ما يمكن لهم حشده من العناصر والتفاصيل اليهودية التاريخية والميتافيزيقية (الدينية)، التي قد تكون غريبة ومنفرة حتى بالنسبة لليهود الأمريكان المعاصرين، في محاولة لصنع مشهد ديني متطرف، ولا تفوتنا النكتة التي ينطوي عليها المشهد، حيث أنها في محاولتها لاستبيان إن كان ذلك الرجل الذي أمامها هو من يدّعيه، قامت الزوجة بطعنه، لو كنا في سياق كاثوليكي، لقامت بالتلويح بالصليب في وجهه أو رشه بماء مقدس، الخ. حسناً، قد يُفسّر هذا كمبالغة بخصوص المرأة اليهودية الدموية ، ولكن الرجل لم يكن "من الأغيار"، والنكتة مفادها  أنه لو كان يهودياً بحقّ لأصيب بالأذى، حيث أن اليهود دوماً هم من يصابون بالأذى*، ولو كان يدّعي أنه يهودي ولم يصب بالأذى فهو ليس إلا الشيطان. سرعان ما ينتشر الدم من الطعنة على قميصه الداخلي الأبيض، ثم ينصرف الرجل خارجاً من الكوخ. 


٣. عليك أن تجد شخصاً لتحبه

في الفيلم ثمة حضور خرافي للديانة، الحاخامات يملكون قوة مؤثرة على الشخصيات، الزوجة وإن كانت تطلب الطلاق، وعلى علاقة - غير شرعية- بآخر، فهي إنما تطلب الطلاق حتى لا تكون آغونا(معلقة كالبيت الوقف يعني) ، ثمة مشهد طويل لبار-ميتزفاه، يحضره الصبي البالغ وهو تحت تأثير الحشيش، ويذهب للحاخام تحت تأثير الحشيش، وحين يدخل مكتبه يطالع كل اللوحات المعلّقة والتي تحشد كل ما يمكن استحضاره من المآسي التوراتية الدموية، فذاك ابراهيم يذبح ولده وتلك جوديث تذبح هولوفرنس وغيرها، وحين ينطق الحاخام بعد صمت طويل، تخرج منه كلمات أغنية فريق طائرة جيفرسون (عليك أن تجد شخصاً لتحبّه)، المصنّف كآسيد-روك (روك المواد المهلوسة - صب-جنرا للسايكدليك روك). هذه كلها رؤى طريفة للديانة تتبع إثر اليهودي من القرن التاسع العشر ذي الآراء عن الدين والأفيون وخلافه. وقد أفلح الأخوان كوين نوعاً في صنع بيئة دينية يهودية متطرفة بشكل هزلي، وبعد مجهود كبير، نجحا في جرّ الجماعة اليهودية إلى خانة الطوائف الدينية المخبولة في أمريكا، بكل ما يتعلق بهم وبحياتهم العائلية الداخلية من هلاوس، وظلاميات، وبربريات، ورعب، وابتلاءات توراتية. بشكل قد يفاجئ المشاهد اليهودي نفسه، ولعل الفيلم موجه حقاً للجمهور اليهودي مع رسالة طريفة تشبه رسالة "لم يصب أي يهودي بالأذى أثناء تصوير هذا الفيلم" حيث " أن هذا كل يحدث للآخرين، فالجميع يعرف أن اليهود مش كدا، ولم يكونوا كدا أبداً، ولن يكونوا كدا أبداً، إنهم في المركز، يتمتعون بالامتيازات والحماية، ولكننا نستطيع أن نستظرف، ونجرّهم للهامش، هذا يجعل النكتة أكثر هستيرية وكوميدية، إنها نكتة "في المشمش" أخرى". والخلاصة، وإن لم يعد من الصعب أن يكون المرء يهودياً، فإنه من الصعب حتماً أن يصنع المرء نكتة فلكلورية يهودية، أو قوطية يهودية أمريكية. 


----
*أثناء الكتابة تذكّرت هذه القائمة البغيضة عن "الخراء يحدث"، وهي قائمة سطحية، عنصرية، شديدة الاستظراف ثقيل الظل، بعكس الاستهبال خفيف الظل الذي يصنعه الأخوان كوين، والقائمة تقترح أن السؤال اليهودي هو "لماذا يحدث الخراء دوماً لنا؟" الضمير عائد على الشعب اليهودي بالطبع.

Monday, December 23, 2013

مشاهد: جُرعة اليوم من العنف الأسري -١

 

 قراءة حُرّة في (الغيرة القاتلة)
 

ما ذكّرنا بالفيلم ليس كونه مُعالجة لمسرحية شكسبير “عطيل”، حيث أن كل المعالجات الشكسبيرية في السينما تثير اهتمامنا وجديرة بالتذكّر، بل أن هذا ما اكتشفناه حين بحثنا عنه، فقد كنا نبحث عن مشهد النهاية في الفيلم، يحيى الفخراني - ومما نذكره، كان شخصا مؤذيا شريراً - يمشي إلى حتفه مُنتحراً، في مشهد مزرق للبحر، وهدير الأمواج في الخلفية.








اذن، في هذه المعالجة ياغو من ينتحر، وليس عُطيل، ديدمونة لا تُقتل، قبل مشهد انتحار مُخلص/يحيى الفخراني/ياغو، أو سيره الغامض إلى أمواج البحر في زرقة الفجر، الذي اخترنا أن نأوّله انتحاراً، يحتضن عمر عطاالله/نور الشريف، عروسه دينا/ديدمونة/نورا، قائلاً: “أنا آسف، مش غلطتي، ولا غلطته، دي غلطة الزمن اللي احنا عايشين فيه."






١. وحش أخضر العينين



“حذار من الغيرة أيها السيد، إنها وحش أخضر العينين، يسخر من فرائسه.”

شكسبير- عُطيل



و حول اختيار يحيى الفخراني للدور، فهو ممثل ليس أيقونياً بالنسبة لأدوار الشرير، أو الوغد، أو الوضيع، أو المنحلّ، أو المؤذي، وثمة مشاهد في فيلمنا، خاصة تلك التي في آخر ربع ساعة من الفيلم، حين يطلب مُخلص/يحيى الفخراني من عمر/نور الشريف أن يمسك الكلب لأنه يريد أن يرحل، وقد كان يقولها بعبوس وتكشيرة طفولية. فكل الكلاب في الفيلم تنبح على مُخلص، وترغب في مهاجمته.

 



لم تك شخصية مُخلص مُغرقة في شر شيطاني ومرعب، ولم يكن له خواص خوارقية بشكل خاص، ما عدا الاشارة الميتافيزيقية الهزيلة لعصبية الكلاب في حضور مُخلص، مخلص ليس الشيطان وليس إبليس الذي يجسده ياغو في النص الأصلي أو في معظم معالجات المسرحية، كنوع من التنويع على أقدم قصة في الكتاب، أو عداوة إبليس لآدم وما ترتب عليها من خروجه من الجنة - موت ديدمونة على يد عُطيل. ثم انتحار عُطيل نفسه، ويمكن قراءة هذا في سياق التقليد الشكسبيري أو في سياق دمج لعدة سرديات كبرى عن أقدم معركة كونية، بين إبليس وآدم، أو بين سيت وأوزيريس، أو بين قابيل وهابيل.



ويمكن القول أن النص الأصلي يستند للضعف البشري، ولاستغلال إبليس/ياغو لهذا الضعف البشري، خطايا مميتة مختلفة، مثل الغيرة، والغضب. فالغضب هو الأكثر “وضاعة” من بين هذه الخطايا، نتيجة للطبيعة الحيوانية والمنحطة والخالية من العقل، التي للبشر. أنصاف القرود. في حين يحتفظ الشيطان لنفسه بخطيئة “مرموقة” مثل الكِبر.



إذن كان ياغو مُتكبراً في النص الأصلي، يستهجن كيف يحظى ذاك القرد الأسود - عطيل- بكل هذه النعم في حين لا يحظى هو بأي منها، وهكذا يمكر لتدمير حياة عُطيل، لا يبدو ياغو “طامعاً” فيما لدى عطيل، فقد ترك الطمع والشهوة وسائر تلك الخطايا الوضيعة للبشر، ياغو يتصرف مثل قوة ظلامية وكونية، شر لذاته، ودمار محض، لذاته، فالشر له طرقه الخبيثة والشريرة لأنه شرّ، ليس ثمة مُبرر.




٢.  الكلاب تنبح على مُخلص



في المعالجة المصرية “الغيرة القاتلة”، لا يبدو أن الغيرة خطيئة عطيل/عمر عطاالله في الفيلم، بل أن غيرته لا تشغل من الفيلم سوى آخر ربع ساعة، ليست الثيمة التي يعتمد عليها، كما اعتمد عليها النص الشكسبيري، لقد تمت ازاحة الغيرة لشخصية ياغو/مُخلص. لقد تم تخفيف الثقل الخوارقي والميثولوجي لطاقة ياغو/مُخلص التدميرية واستيعابها في قصة صداقة/أخوة بسيطة، مُخلص صديق طفولة عُمر، وعلاقتهما للأخوة أقرب، ولكن مُخلص يحقد على عُمر -غالباً لنجاحه- ويحكي الفيلم كيف وصل هذا الحقد لذروته، وهو حقد مُتراكم في روح مُخلص مذ الطفولة، وجاء لينفجر حين بدا له أن عمر سوف يحظى بكل ، شيء، الثروة، الزوجة الصالحة، والنجاح، وربما العيال. لأنه جريء، والحظ يُفضل الجريء، كما نعرف.



في حوار بين مُخلص وزوجته عصمت، تلومه عصمت على جبنه وحذره، وبسببه بقى مُخلص طوال حياته “محلّك سر”، غيرة مُخلص من عمر ليست واضحة بقدر وضوح دور مُخلص في الفيلم وفي حياة عُمر كطاقة سلبية، مخلص كتلة سلبية، كاره للتقدم، والتطور، ولا يريد أن ينجب من عصمت لأنه لن يتحمل نفقات الطفل، بالإضافة لكون مخلص وحش الغيرة أخضر العينين، فهو كذلك يتحقق فيه ستريوتايب الذكر الغريم الحقود والعقيم، طاقة ذكورية سلبية، ولكونها سلبية فهي عقيمة، وهي موجهة للتنغيص على حياة الذكر الايجابي والخصب. (وهذا الإسكتش مُستوحى من قصة سيت وأوزيريس).



في الوقت ذاته، مُخلص بشر عادي وخطّاء، في مسرحية شكسبير يتم الغاء خطأ ياغو، حين لا يعود ياغو بشراً يُحاسب على خطايا، الطبيعة البشرية لياغو تحل محلها طبيعة شيطانية تبلغ ذروتها بعد فعل التدمير الكامل، ومثل إبليس لا يعترف ولا يدرك ياغو أنه مُخطيء، لعل المعالجة المصرية التي جعلت من مخلص بشر خطّاء يُدرك ذلك في النهاية وربما، بتأثير العار أو الذنب، يذهب لحتفه، بشكل يناسب المشاهد العربي الذي - بحسب وجهة النظر الشائعة- لن يرغب في رؤية البطلين مقتولين، خاصة لو كانا نور الشريف ونورا

حسناً إذن، في المسرحية الأصلية كان واضحاً لي أن القصة الأهم هي قصة ديدمونة التي كانت ضحية لكل رجال النص، وأولهم والدها، الذي ساءه أن تهرب ديدمونة من قبضته الأبوية إلى رجل آخر رغماً عنه، وبتعبير أفضل، أن تختار ديدمونة طريقها وحياتها الخاصة. يقول الأب لعُطيل أنها سوف تفعل فيه ما فعلته في أبيها، وهكذا فإن بذرة الشر أو الشك أو الغيرة زُرعت في البدء من قبل الأب أو البطريارك الأول، لقد ورّثها للبطريارك الثاني، بشكل يحلو لنا أن نتخيله، مثل حجر الأساس للشخصية البطرياركية، في النص الأصلي يمكن للقارئ أن يُدرك الجريمة، بكامل أبعادها، إن شاء، تلك الجريمة التي وقعت على رأس امرأة بريئة، ديدمونة ضحية لكل الرجال في حياتها، وقد سقطت ضحية لآفة روحية تعشش في نفوسهم، وتنتقل كعدوى من الأب للزوج، وصحيح أن النهاية كانت مأساوية، لقد نمت الآفة حتى ارتوت من دماء ديدمونة، وهكذا كان مقتل ديدمونة كاشفاً أو فاضحاً لهذه العلة - علة رجال النص أو العلة البطرياركية. وإلى حد ما يدينها، لقد أتى إذن ياغو مثل إبليس يلعب على أوتار البطرياركية ونواقصها أو نقاط ضعفها الوحوشية. هكذا، وإن حدث هذا بوسائل عنيفة ومأساوية، تم دمج العنف الأسري مع الخطيئة، أو تحويله إلى خطيئة، معالجته كخطيئة، نظراً لآثاره.




٣. العنف الأسري مش خطيئة

 

وماذا حلّ للمعالجة المصرية؟ لقد انتهت مثل حادث عنف أسري - ولا يمكننا وصف شيء بهذه الفظاعة بالعادية - ولكن ليس ثمة ادانة في السرد، مشهد العنف الأفظع والأقبح في الفيلم كان ضرب واهانة عُمر/عطيل لدينا/ديدمونة/نورا. لقد كان مشهداً دنيوياً سوف يميل المُشاهد للتغاضي عنه- مشهد تأديب زوج لزوجته (عادي، وإيه يعني…) علقة زوجية، وبالطبع، هي مُبررة، ومتعاطف معها، مثل جرائم الشرف، في مسرحية عطيل، لم يك مقتل ديدمونة مجرد جريمة شرف، بل مأساة، يدرك فيها عطيل بغيه وظلمه وشرّه مع زوجته، ولكن بعد فوات الأوان، فينتحر، ينفذ العقاب على نفسه بنفسه. وحتى مشهد العنف الأسري/القتل، لم يك مثل حلم بشع ومؤلم - وضع عطيل قبضته الخشنة على رقبة ديدمونة وخنقها “برفق”، في حين انهال عمر/نور الشريف صفعاً وضرباً مهيناً على وجه وجسد نورا. كمحاولة لجعله مشهد أكثر دنيوية “وأسرية” وخشونة أو رجولة.

ونضع في الاعتبار أنه قد تم الغاء عنصر التوتر العرقي الذي كان حاضراً في النص الأصلي، وحل محلّه التوتر الطبقي، وعُطيل، ليس بهيمة شرقية أو حيوان مُثير قادم من البرية أو المجاهل الافريقية كما يحلو لبعض المعالجات الغربية تقديمه*، بل كان مهندساً متفوقاً على عتبة النجاح، ويتبع الفيلم حُجة ياغو في النص الأصلي، مثلما يتذمر ياغو من تجاهل عُطيل له، واختياره شخصاً آخراً كمساعد، يتذمر مُحسن من شراكة عمر لسمير، لكن، في أغلب الأحوال، شرّ ياغو، في الحقيقة، غير مُبرر**، ولا حتى بهذه التبريرات الدنيوية، ويستغل مُحسن "يباسة رأس" عمر كما قد استغلّها عُطيل، فعُمر يرفض رفضاً قاطعاً عرض دينا/ديدمونة مساعدته مادياً، وهو لا يريد أن يُفسّر زواجه بدينا كزواج مصلحة مالية، يرفض هذا رفضاً عصابياً أقرب إلى الهوس أو الحساسية المفرطة، ونستعين باقتباس من كتاب "تجارب شكسبيرية في عالمنا المعاصر" عن سيكولوجية عطيل، "فهو لم يحتمل ولم يستطع أن يغير من منهج تفكيره الجامد." هكذا يبدو لنا أن الصفة التراجيدية - في العرف الشكسبيرية- الحاضرة في كلا من النص، والفيلم، بشخصية عطيل/مُحسن، هي الاصرار، أو العناد، وليس الغيرة.

بعد مشهد التنوير، يُعلن عمر/عطيل/نور الشريف أنها مش غلطته، ولا غلطة مُخلص، بل غلطة الزمن - مُناقضاً للتقليد التراجيدي الشكسبيري، الذي يقع فيه البطل التراجيدي في مأساته الخاصة نتيجة للظروف من حوله، وكذلك لأفعاله-  وبعد ذلك يتأسّف لدينا، ثم يضمها لحضنه، وهي كذلك تبادله الودّ، العجيب أنه ليس ثمة أي عنف يُرتكب ضد مخلص، الشرير الأصلي، في النص الشكسبيري كان عطيل مشغولا بانزال العقاب على نفسه، بالانتحار، وقد تبدلت الأدوار في الفيلم المصري، فترك عمر مُخلص، كي يتصرف مخلص مع نفسه بما يجده مستحقاً، فانتحر الأخير، بالزوق ومن سُكات. وبالنسبة لفيلم مصري، فإن انتهاؤه إلى هذه النتيجة يُعتبر نوعاً ما “متطرف”، فموضوع الانتحار وإنهاء فيلم بانتحار شخصية قد يكون نادراً، وفي حالة مخلص، قد تكون النهاية الأقرب لجو وروح الأفلام المصرية أن يذهب للومان، أو أن يُقتل - لوهلة، في مشهد هجوم الكلب عليه، ظننا أن الكلب سوف يقتله، وقد يؤخذ هذا كتريبيوت لأحد كلاسيكيات السينما المصرية (الشموع السوداء) وغيرها. لكن هذه النهاية قد تُفسّر، بلا شك، كمسحة وتأثير مباشر من النص الشكسبيري الأصلي. حتى المشهد، الذي أوّلناه مثل انتحار، كان انتحاراً على استحياء، فقد رأينا مخلص يمشي إلى البحر، ويصل إلى طرف المياه، ثم أظلمت الشاشة فجأة على كلمة “النهاية”.






* أحمد سخسوخ - تجارب شكسبيرية في عالمنا المعاصر، سلسلة الفنون، مكتبة الأسرة، ٢٠١٠.
** المصدر السابق.

Monday, July 29, 2013

الفاشية المحضة، أو ١٤ طريقة للنظر إلى قميص أسود - أمبرتو إكو


 


[UR- FASCISM]
أو الفاشية المحضة*

 أمبرتو إكو


نُشرتْ  هذه المقالة لأول مرة بالانكليزية في 
بتاريخ ٢٢ يونيو، ١٩٩٥





عام 1942، كنت في العاشرة، أتسلّم جائزة "شبيبة لودي" الاقليمية الأولى  (مسابقة تطوعية - إلزامية لشبيبة إيطاليا من الفاشيين – أي الشباب الايطالي كله). انطلقتُ بطلاقة خطابية أتحدث حول مسألة "هل يتحتم علينا أن نموت جميعاً لأجل مجد موسوليني وخلود إيطاليا؟" وقد رددتُ على السؤال السابق بالايجاب، كنت  فتى ذكياً.
 

أمضيتُ إثنتين من سنواتي المبكرة بين إس.إس [S.S]، فاشيين، جمهوريين، ومقاومين غير نظاميين، يتبادلون إطلاق النار على بعضهم البعض، وعلّمني هذا أن أتفادى الرصاص، كان تدريباً جيداً.
 

في إبريل 1945، سيطر مقاتلو المقاومة على ميلانو، وبعد يومين وصلوا إلى البلدة الصغيرة حيث كنت أعيش، كانت لحظة نشوة، احتشد الناس في الميدان الرئيسي ينشدون ويلوحون بالأعلام، يهتفون لأجل "ميمو" قائد المقاومة في هذه المنطقة، في السابق كان يحمل رتبة مشير في الكارابينييري، ميمو انضم لمؤيدي الجنرال بادوليو، خَلَف موسوليني، وفقد ساقه في أولى الاشتباكات مع فلول موسوليني. ظهر لنا ميمو في شرفة مجلس المدينة، شاحبا يميل على عكاز، وبإحدى يديه حاول تهدئة الحشود، كنتُ أنتظر خطابه لأني طوال طفولتي عُجنت بخطابات موسوليني التاريخية، في المدرسة كنا نحفظ المقاطع المؤثرة منها عن ظهر قلب. صمت الجمهور، ليتحدث ميمو بصوت أجش، مسموع بالكاد، قائلاً: "أيها المواطنون! الأصحاب! بعد كل هذه التضحيات المريرة ، نحن هنا، المجد لهؤلاء الذين سقطوا من أجل الحرية!"، وكان هذا كل شيء. عاد ميمو للداخل. تصايحت الجموع، وأطلق  البارتيزان رصاصات احتفالية في الهواء، و هرعنا نحن الأطفال لنلتقط فوارغ الطلقات، غنائم ثمينة! لكنني تعلمتُ أيضاً أن حرية التعبير تعني الانعتاق من الخطابة.
 

بعد ذلك بأيام قليلة رأيت جنود أمريكان لأول مرة، كانوا أمريكان أفارقة. أول يانكي التقيته كان رجلًا أسود، جوزِف. وقد عرّفني على مغامرات دِك تريسي وليل آبِنر، كتب مصوّرة زاهية الألوان، زكية الرائحة.

أحد هؤلاء الضباط (النقيب أو الرائد "مَدِي") نزل ضيفاً في فيلا عائلة اثنتين من بناتها كانتا زميلتين لي في المدرسة. التقيته في حديقتهم، حيث أحاطت السيدات بالكابتن "مدي"، يتلعثمن بالفرنسية. الكابتن كان يعرف بعض الفرنسية كذلك، وهكذا تكوّن انطباعي الأول عن المحررين الأمريكان – بعدما اعتدت رؤية الكثير من الوجوه الشاحبة المتشحة بالقمصان السوداء: رجل أسود مثقف يرتدي زياً أصفر ويرطن: "وي! ميغسي بوكو! مدام!، موا أوسي جَم لو شامبنيْ..." للأسف، لم يك ثمة شمبانيا، لكن الكابتن "مَدِي" منحني أول قطعة تذوقتها من علكة ريغلي بنكهة النعناع  وقد أخذت أمضغ اليوم بطوله.  في الليل وضعتها في كوب ماء زجاجي كي تحتفظ بطراوتها لليوم التالي.
 

في مايو سمعنا أن الحرب قد انتهت. منحني السلام احساساً عجيباً. لقد لقنونني أن الحرب الدائمة حالة طبيعية ووضع أمثل لكل إيطالي شاب، في الأشهر التي تلت اكتشفتُ أن المقاومة لم تك ظاهرة محلية بل أوروبية. تعلمتُ كلمات جديدة مثيرة مثل: ريزو، ماكي، أرميه سُكريت، رُوت كابيلله، و غيتو وارسو. رأيت الصور الأولى للهولوكوست، هكذا فهمت معنى الكلمة قبل أن أعرفها. أدركت ماهية هذا الذي حررونا منه.
 

في بلدي اليوم، ثمة أناس يتسائلون إن كان للمقاومة أثراً عسكرياً على سير الحرب، بالنسبة لجيلي هذا السؤال لم يك مهماً: لقد فهمنا على الفور المعنى النفساني والأخلاقي للمقاومة، بالنسبة لنا كانت تعني الشرف، فنحن الأوروبيون لم نقعد مستسلمين ننتظر منقذنا. وبالنسبة للشباب الأمريكان الذين سالت دمائهم ثمناً لحريتنا المستردة، كان وجودنا كأوروبيين خلف خطوط النار نسدد ديوننا مقدماً، له معنى قوي.
 

اليوم في بلدي هنالك من يقولون أن خرافة المقاومة كانت كذبة شيوعية. صحيح أن الشيوعيين استغلوا المقاومة كأنها كانت ملكيتهم الخاصة. بسبب دورهم الرئيسي فيها. لكنني أذكر مقاتلي مقاومة بأوشحة من كل لون، أمضيتُ لياليّ ملتصقاً بالمذياع – والنوافذ مقفلة، والإظلام يجعل المساحة الصغيرة حول الجهاز مثل هالة مشعة – أستمع الى رسائل يذيعها "صوت لندن" موجهة للمقاومة. كانت مشفّرة و شاعرية في الآن ذاته (الشمس أيضاً تشرق، الورود سوف تتفتح) وأغلبها كانت "messaggi per la Franchi"  (رسائل للفرنك)، أحدهم همس لي أن فرانتشي كان قائدا لأكثر شبكات المقاومة قوة وسرية في جنوب غرب ايطاليا. رجل بشجاعة أسطورية. صار فرانتشي بطلي، فرانتشي (واسمه الحقيقي ادغاردو سونيو) كان ملكياً، ومتهّم بالتآمر وتدبير  انقلاب عسكري. من يهتم؟ سونيو ظل بطل طفولتي، والتحرير كان قضية مشتركة بين الناس على اختلاف مشاربهم. 
 

في بلدي اليوم هنالك من يقولون أن حرب التحرير كانت فترة انقسام مأساوية، وأن كل ما نحتاجه هو وفاق وطني. ذكرى تلكم السنوات الرهيبة يجب أن تُكبتْ، refoulée ،verdrängt لكن الكبت الفرويدي يسبب العصاب. ولو كان الوفاق يقصد به تعاطفا واحتراما لكل هؤلاء الذين خاضوا حربهم الخاصة مدفوعين بقناعاتهم، فإن التسامح لا يعني فقدان الذاكرة. يمكنني أن أجزم أن إيخمان قد آمن ايمانا صادقا بمهمته، لكنني لن أقول له أبدا: "حسنا، عُد وافعلها مجددا". نحن هنا لنتذكر ما حدث ولأجل أن نقول رسمياً  أننا لن نسمح لـ "هم"  أن يفعلوها مجدداً.
 

  • لكن من "هم"؟

حين ننظر للأنظمة الشمولية التي حكمت في أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية، يمكننا الجزم بصعوبة ظهور هذه الحكومات بالشكل نفسه لو اختلفت الظروف التاريخية. لو أن فاشية موسوليني كانت قائمة على فكرة وجود زعيم كاريزماتي، على هيمنة الشركات الرأسمالية، على يوتوبيا المصير الامبريالي لروما، والارادة الاستعمارية الشبقة لاجتياح أراض جديدة، والوطنية المتفاقمة، ونموذج لأمة محتشدة كلها بقمصان سوداء، ورفض الديموقراطية النيابية، ومعاداة السامية، اذن يمكنني القول أن، اليوم، حزب التحالف القومي الايطالي، الذي نشأ على أنقاض الحزب الفاشي لفترة ما بعد الحرب، الحركة الايطالية الاشتراكية، وهو بلا شك حزب يميني، ليس له ، الآن، إلا القليل جداً من السمات  المشتركة مع الفاشية القديمة. في السياق نفسه، رغم قلقي الشديد من الحركات شبه النازية التي تظهر هنا وهناك في أوروبا وروسيا. لا أظن أن النازية، في شكلها الأصلي، سوف تنبعث مجددا كحركة وطنية.

لكن، برغم أن اسقاط الأنظمة السياسية صار ممكناً، وكذلك انتقاد الآيديولوجيات، خلف كل نظام وآيديولوجية هنالك دوماً طرق في التفكير والشعور، حزمة عادات ثقافية، وغرائز دفينة ونزعات لا يمكن سبر أغوارها. هل ثمة شبح لا يزال متربصاً بأوروبا (دعك من بقية أنحاء العالم) ؟


 يونسكو قال مرة أن "الكلمات فقط هي المهمة وما دونها مجرد ثرثرة". العادات اللغوية عَرَض مهم ودال على المشاعر الباطنية. لذا من الضروري أن نسأل أنفسنا، لم ليست المقاومة فقط بل الحرب العالمية الثانية كلها يُنظر إليها عموماً كصراع ضد الفاشية. إذا أعدت قراءة رواية هيمنغواي "لمن تُقرع الأجراس" سوف تكتشف أن روبرت جوردان يصف أعدائه كلهم بالفاشيين، ويمتد هذا حتى للفلانخي الإسبانية،  وبالنسبة لتيودر روزفلت، "انتصار الشعب الأمريكي وحلفائه سوف يكون هزيمة للفاشية و الذراع الميت للطغيان الذي تمثله."



أثناء الحرب العالمية الثانية، كان يُطلق على الأمريكان الذين شاركوا في الحرب الاسبانية "مقاومو الفاشية غير الناضجين"، هذا يعني أن محاربة هتلر في الأربعينيات كانت واجبا أخلاقيا على كل أمريكي صالح، لكن محاربة فرانكو في الثلاثينيات كانت "مبكرة جداً"، وتنزّ برائحة مريبة لأن أغلبية من شارك فيها شيوعيون ويساريون آخرون. . . لماذا اذن استخدم الثوريون الأمريكان - بعد تلك الحرب بثلاثين عام- تعبير مثل "خنزير فاشي"  لوصف أي شرطي لا تعجبه عاداتهم في التدخين؟ لماذا لا يقولون: خنزير كاغولاري، خنزير فلانخي، خنزير أوستاشي، خنزير كزلينغي، أو خنزير نازي؟


كتاب كفاحي يعدّ مانفستو لبرنامج سياسي متكامل. النازية لديها نظرية في العرق وفي تفوق الشعب الآري، ومفهوم محدد للفنون المنحطة، وفلسفة في ارادة القوة، والسوبر مان. النازية معادية للمسيحية  وأقرب للوثنية الجديدة، في حين كانت النسخة الرسمية للماركسية السوفيتية الخاصة بستالين، الديامات، أو الديالكتية المادية، إلحادية بالكامل. إن كان المقصود بالشمولية نظاماً توجّه فيه الدولة وآيديولوجيتها كل أفعال الفرد، فإن  النازية والستالينية كانتا نظماً شمولية أصيلة.


 الفاشية الايطالية دكتاتورية بلا شك، لكنها لم تك شمولية بالكامل، ليس بسبب اعتدالها ولكن لضعفها الآيديولوجي و الفلسفي. بعكس الرأي الشائع، الفاشية في إيطاليا لم تملك فلسفة خاصة بها. المقالة في الفاشية التي تحمل توقيع موسوليني والموجودة في تريتشاني إنسايكلوبديا كتبها جيوفاني جِنتيل أو كانت مستوحاة من أفكاره، وهي بدورها انعكاس للمفهوم الهيغلي المتأخر عن الدولة الأخلاقية المطلقة. والتي لم يفلح موسوليني قط في تطبيقها. موسوليني لم يملك أية فلسفة: امتلك بلاغة فحسب. كان عسكريا ملحدا في بداياته وبعد ذلك وقّع ميثاقا مع الكنيسة ورحّب بالأساقفة الذي باركوا شعارات الفاشية. في سنواته المبكرة المعادية للكهنوت، وفقا لخرافة على الأغلب، سأل الرب مرة أن يوجه إليه ضربة فيعرف أنه موجود، فيما بعد، صار موسوليني يذكر اسم الرب في خطاباته دوماً، ولم يمانع أن يُطلق عليه "رجل العناية الإلهية". 

الفاشية الايطالية كانت أول ديكتاتورية يمينية تستولي على السلطة في دولة أوروبية، كل الحركات المشابهة فيما بعد اعتبرت نظام موسوليني نموذجا لها. الفاشية الايطالية كانت أول من أسس طقوسا عسكرية مقدسة، وفلكلور، ونمط لباس، أكثر تأثيراً بقمصانها السوداء من آرماني وبينيتون وفرساس. فقط في الثلاثينيات بدأت الحركات الفاشية في الظهور، موزلي في انكلترا، ولاتفيا، وإستونيا وليتوانيا وبولندة والمجر ورومانيا وبلغاريا واليونان ويوغوسلافيا وأسبانيا والبرتغال والنرويج وحتى في أمريكا اللاتينية. بفضل الفاشية الايطالية اقتنع كثير من الليبراليين الأوروبيين أن النظام الجديد يحمل اصلاحا اجتماعيا مثيرا للاهتمام، ويوفر بديلاً ثورياً براغماتيا و"معتدلاً" يطمس التهديد الشيوعي.

رغم ذلك، فإن الأولوية التاريخية ليست كافية لتفسير لم صارت كلمة "فاشية" مجازاً لوصف كافة الحركات الشمولية. وليس هذا لأنه، من الناحية الجوهرية، الفاشية احتوت على كل المكونات التي ميزت أي شكل تلاها من الشمولية. على النقيض، لم تحتو الفاشية على أي جوهر. الفاشية كانت شمولية ضبابية، قص ولصق لأفكار فلسفية وسياسية مختلفة، خلية من التناقضات. هل يمكن تخيل حركة شمولية حقيقية قادرة على الدمج بين الملكية والثورية، الجيش الملكي وميليشيات موسوليني الخاصة، الامتيازات الممنوحة للكنيسة مع التعليم الحكومي المحرض على العنف، والسلطة الشاملة للدولة، مع سوق حر؟ الحزب الفاشي كان يتبجح بالنظام الثوري الجديد الذي جلبه، لكنه كان مدعوماً من ملاك الأراضي الأكثر محافظة، الذين انتظروا منه ثورة مضادة.

في بداياتها كانت الفاشية جمهورية. لكنها ظلّت عشرين سنة تؤكد على ولائها للعائلة المالكة، كان الدوتشي (الزعيم المفدّى) يمشي متأبطا ذراع الملك،  يعرض عليه لقب امبراطور. لكن حينما طرد الملك موسوليني في ١٩٤٣، عاود الحزب الظهور بعد شهرين، بدعم ألماني، تحت راية الجمهورية الاشتراكية، يعيد تدوير نصوصه الثورية القديمة، تثريه نبرات يعقوبية.

ثمة معمار نازي وحيد، وفن نازي وحيد. لو أن المهندس النازي كان آلبرت سبير، فإنه ليس ثمة مكان لمايز فان دير روهه. وبالمثل، أثناء حكم ستالين، لو أن لامارك كان موجودا فليس ثمة مكان لدارون. في ايطاليا كان هنالك بالتأكيد مهندسين فاشيين ولكن بجانب نماذجهم المزيفة للكولوسيوم قامت مبان جديدة متأثرة بالعقلانية الحداثية لغروبيوس.

لم يكن هنالك جدانوف فاشياً يخط حدّاً ثقافياً صارماً. في ايطاليا هناك جائزتين فنيتين مهمتين، البريميو كريمونا كان يتحكم بها فاشي متعصب وجاهل، هو روبرتو فاريناتشي، والذي شجع الفن فقط كوسيلة للبروباغندا. (يمكنني أن أتذكر لوحات بعناوين مثل "الاستماع إلى خطاب الدوتشي" أو "حالات مزاجية فاشية".) والبريميو بيرغامو كان يرعاها فاشياً أكثر تسامحاً وثقافة وعقلانية هو غيوزيبّي بوطاي، والذي حمى مفهوم الفن لأجل الفن وأنماط أخرى من الآفان-غارد، كانت قد حُظرت في ألمانيا لـ"انحطاطها" ومضامينها الشيوعية.

الشاعر القومي كان دانّوتزيو، غندور لو تواجد في ألمانيا أو روسيا لأرسلوه إلى كتيبة الاعدام. عُيّن كشاعر للنظام بسبب وطنيته وعقيدته البطولية. والتي خالطتها الكثير من الشوائب الفرنسية المتأثرة بمشاعر تداعي "نهاية القرن". 


خذ المستقبلية مثالاً. قد يظن المرء أنها تعتبر نمطاً من الفن المنحطّ، جنباً إلى جنب مع التعبيرية، والتكعيبية، والسوريالية. لكن المستقبليين الإيطاليين الأوائل كانوا قوميون. لقد شجّعوا مشاركة ايطاليا في الحرب العالمية الأولى لأسباب جمالية، كانوا متحمسون للسرعة، العنف والخطر، وكل هذه المشاعر كانت وثيقة الصلة بالعقيدة الفاشية الشبابية. بينما تماهت الفاشية مع الامبراطورية الرومانية وأعادت اكتشاف عادات ريفية، مارينيتّي (الذي اعتبر السيارة أكثر جمالاً من  منحوتة "نصر ساموتريسي"، حتى أنه أراد أن يقتل ضوء قمر) قد عُين برغم ذلك عضواً في الآكاديميا الايطالية، والتي بالطبع عاملت ضوء القمر باكبار شديد.


كثير من محاربي المقاومة ومثقفي الحزب الشيوعي قد تتلمذوا ضمن اتحاد الطلبة الجامعيين الفاشيين، والمفترض أنه كان مهداً للثقافة الفاشية الجديدة. هذه النوادي صارت ضرباً من البوتقة الثقافية حيث تم تدوير أفكار جديدة دون أي سيطرة آيديولوجية فعلية. وليس هذا لأن رجال الحزب كانوا  متسامحون أو ذوو فكر ثوري، ولكن قلة منهم كانت لديها القدرة أو الاستعداد الثقافي لفرض السيطرة.

في العشرين عاماً تلك، صار شعر مونتالي وكتّاب آخرين لهم علاقة بالمجموعة المسماة "إرميتيتشي" رد فعل على الطابع الطنان للنظام، وهؤلاء الشعراء كان مسموحاً لهم بنمط من المقاومة الأدبية طالما ظلّوا سجناء  "برجهم العاجي". كان مزاج شعراء إرميتيتشي نقيضاً للعقيدة الفاشية المفعمة بالبطولة والتفاؤل. تسامح النظام مع معارضتهم الفاضحة، رغم كونها غير مسموعة اجتماعياً، وذلك لأن الفاشيين ببساطة لا يهتمون بهذه الرطانة الغامضة. 

وهذا كله لا يعني أن الفاشية الايطالية كانت متساهلة. لقد ظل غرامتشي سجيناً حتى موته، قادة المعارضة جياكومو ماتيوتي والأخوة روزيليني  تم اغتيالهم، الصحافة الحرة ألغيت، فُككت الاتحادات العمالية، وتم نفي المقاومين السياسيين لجزر معزولة. أمست القوة التشريعية مجرد خيال، والقوة التنفيذية (التي تحكمت في القضاء والاعلام) أصدرت مباشرة القوانين، ومن ضمنها قوانين دعت لحماية العرق، (لفتة الدعم الايطالية الرسمية للهولوكوست).

الصورة المتناقضة التي أصفها لم تك بسبب التسامح ولكن نتيجة للا-تمازج السياسي والآيديولوجي. كان  لا-تمازج صارماً، ارتباك منظّم. الفاشية كانت  فلسفياً غير متناسقة، لكنها من النواحي العاطفية مربوطة بحزم إلى أسس طرازية متشددة.


وهكذا نأتي للمرحلة الثانية من هذا الجدل، كان ثمة نازية واحدة فقط. لا يمكننا أن نصف فلانخية فرانكو المفرطة في كاثوليكيتها بالنازية، بما أن النازية وثنية بالأساس، معادية للمسيحية. ولكن اللعبة الفاشية يمكن أن تمارس بأشكال عدة، واسم اللعبة لا يتغير. مفهوم الفاشية لا يختلف كثيراً عن مفهوم فيتغنشتاين للعبة. اللعبة إما أن تكون تنافسية أو لا تكون، قد تتطلب مهارات خاصة أو لا تتطلب، يمكنها أن تتضمن مالاً أو غير ذلك. الألعاب أنشطة مختلفة تُظهر بعض الشبه  بالأسرة، كما يصف فيتغنشتاين. إليك التسلسل الآتي:


١          ٢          ٣           ٤
أ ب ت    ب ت ث    ت ث ج     ث ج ح


لنفترض أنه ثمة سلسلة من الجماعات السياسية والأولى منها تتميز بالصفات (أ ب ت)، والجماعة الثانية بالصفات ( ب ت ث)، الخ. الجماعة الثانية مشابهة للأولى بما أن لديهما صفتان مشتركتان، لنفس الأسباب الجماعة الثالثة تتشابه مع الثانية والرابعة تتشابه مع الثالثة. لاحظ أن الثالثة تشبه الأولى كذلك ( لديهم الصفة ث مشتركة بينهما). الحالة الأكثر عجباً تلك المتمثلة في الجماعة الرابعة، من الواضح أنها شبيهة باثنين وثلاثة، دون أية صفة مشتركة مع الأولى. ولكن، وفقاً للتناقص المتدرّج للتماثلات من الأولى حتى الرابعة، يظل هنالك شبهاً أو صلة عائلية بين الرابعة والأولى.

الفاشية صارت مصطلحاً لجميع الأغراض لأنه من الممكن نزع سمة أو أكثر من النظام الفاشي، دون أن يفقد صفته الفاشية. خذ الامبريالية من الفاشية وسوف يظل لديك فرانكو وسالازار. خذ الكولونيالية  وسيبقى لديك الفاشية البلقانية للأوستاشيين. أضف للفاشية الايطالية معاداة جذرية للرأسمالية (تلك التي لم ترق كثيرا لموسوليني) وستحصل على إزرا باوند. أضف عقيدة ميثولوجية كلتية ودروشة حول الكأس المقدسة (وهذه صفات غريبة تماماً عن الفاشية الرسمية) وستجد لديك أكثر غوروهات الفاشية احتراماً، يوليوس إفولا. 

ورغم كل هذا التشوش، أعتقد أنه من الممكن رصد قائمة من الصفات النموذجية لما أحب أن أسميه "الفاشية المحضة"* أو "الفاشية الأبدية". هذه الصفات لا يمكن أن تجتمع في نظام واحد، كثير منها يناقض بعضه، وكثير منها يميز ضروب أخرى من الطغيان أو التعصّب. ولكن يكفي أن يتواجد أي منها ليسمح للفاشية بأن تتجلّط حوله.

١. أول سمة للفاشية المحضة هي عبادة التقاليد. التقليدية/الأصالة بالطبع أقدم كثيرا من الفاشية. لم تك فحسب عنصرا مميزا لفكر الثورة المضادة الكاثوليكية التي أعقبت الثورة الفرنسية، بل قبل ذلك بكثير، التقليدية نشأت في الحقبة الهيللينية المتأخرة، كرد فعل رجعي على العقلانية الاغريقية الكلاسيكية. في حوض البحر المتوسط، أناس من أديان مختلفة ( أكثرهم كان البانثيون الروماني متسامحاً معه) أخذوا يحلمون بوحي كان قد نزل في فجر التاريخ الإنساني. هذا الوحي، وفقاً للتصوف التقليدي، قد ظل لزمان طويل مخفياً وراء حجاب اللغات المنسية- في الهيروغليفيات المصرية، وفي الرون الكلتي، وفي مخطوطات أديان آسيوية مجهولة.

هذه الثقافة الجديدة يجب أن تكون توفيقية، التوفيقية لا تعني فحسب، كما يقول القاموس، "دمج أشكال مختلفة من الممارسات والعقائد"، هذا الدمج لابد وأن يتساهل مع التناقضات. كل من الرسالات الأصلية تحتوي على قبس من الحكمة، وكلما بدت واحدة منها متناقضة أو توحي بأشياء غير متكافئة، فذاك لأنها كلها تشير مجازياً لنفس الحقيقة الأوليّة.

ونتيجة لهذا يتعرقل التقدم العلمي.  فالحقيقة قد نُطق بها بالفعل، من قبل، وليس ثمة جديد، وكل ما يمكننا فعله هو تفسير رسائلها المبهمة.

يمكن للمرء أن يتأمل مناهج كل حركة فاشية وسوف يجد مفكرين تقليديين عظام. الغنوصية النازية تم تغذيتها بعناصر تقليدية، توفيقية وسرّانية. المصادر النظرية الأكثر تأثيراً لسرديات اليمين الايطالي الجديد، يوليوس إفولا، مزجت الكأس المقدسة مع "بروتوكولات حكماء صهيون"، الخيمياء مع الامبراطورية الرومانية والجرمانية المقدسة. والدليل الدامغ على الطبيعة التوفيقية لليمين الايطالي الجديد هو "تفتحه الذهني" واستيعابه في المنهج نفسه أعمال  دي ميستر، غينون، وغرامتشي.

إذا بحثت في أرفف المكتبات الأمريكية المعنونة بـ"العصر الجديد"، سوف تجد سان أغسطين، والذي لم يك، على حد علمي، فاشياً. لكن الدمج بين سان أغسطين وستونهنِج - هذا يعتبر عرضاً من أعراض الفاشية المحضة.




٢. التقليدية تعني رفضاً للحداثة. الفاشيون والنازيون على حد سواء يعبدون التقنية، في حين يرفضها المفكرون التقليديون لأنها انحراف عن القيم الروحانية التقليدية. لكن، رغم فخر النازية بمنجزاتها الصناعية، تمجيدها للحداثة كان القشرة السطحية لآيديولوجية قائمة على الدم والأرض (Blut und Boden). رفض العالم الحديث جاء متنكراً  في شكل استنكار لأسلوب الحياة الرأسمالي، الذي هو  بالأساس رفض لروح عام ١٧٨٩ ( وكذلك ١٧٧٦، بالطبع). أي رفض التنوير، فعصر العقل، ينظر إليه كبداية للفسوق الحداثي. وهكذا يمكننا تعريف "الفاشية الأزلية" بأنها لاعقلانية. 



٣. اللاعقلانية أيضا تعتمد على عقيدة "الفعل لأجل الفعل". الفعل بوصفه جميلاً في ذاته، يجب أن يُتّخذ قبل -أو دون -أي تفكير مسبق. التفكير يعتبر نوعا من الاخصاء. هكذا فإن الثقافة مصدر ريبة لارتباطها بالمواقف النقدية. عدم الثقة في عالم المثقفين سمة دائمة للفاشية المحضة، مذ تصريح غورينغ الشهير "حين أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي"، إلى الاستخدام المتكرر لتعبيرات من قبيل "مثقفون منحطّون" "شمّامين كُلّة"، "مخنثون  متكبرون" و"الجامعات معقل الحُمر". مثقفو الفاشية الرسميون كانوا مكلّفين فقط بالهجوم على الثقافة الحديثة والإنتليجينسيا الليبرالية لأنها خانت العادات والتقاليد. 



٤. لا يمكن للعقائد التوفيقية أن تصمد أمام النقد التحليلي. الروح النقدية يمكنها التفريق بين هذا وذاك، وهذا علامة على الحداثة. في الثقافة الحديثة المجتمعات العلمية تشجع الخلاف كوسيلة للتقدم المعرفي. بالنسبة للفاشية المحضة، الاختلاف في الرأي يعتبر خيانة.



٥. كما أن الاختلاف في الرأي دلالة على التنوع. الفاشية المحضة تقوم على الاجماع، وتستقوى باستغلال الخوف الطبيعي من المختلفين. كل الحركات الفاشية تستمد جاذبيتها من التحريض ضد الدخلاء والغرباء والآخر والأجنبي. الفاشية المحضة عنصرية.



٦. الفاشية المحضة تنشأ من الاحباط الفردي أو الاجتماعي. لهذا أحد أهم مميزات الفاشية التاريخية جاذبيتها للطبقة الوسطى المحبطة، طبقة تعاني من أزمة اقتصادية أو احساس بالاهانة السياسية، ومذعورة من ضغط الطبقات الأدنى منها. في عصرنا، حينما يصبح البروليتاريون القدماء برجوازيين صغار (والمهمشون يجري استبعادهم من المشهد السياسي) فإن فاشية الغد سوف تجد جمهورها بين تلك الأغلبية الجديدة.



٧. الفاشية المحضة تقدّم حلاً لأولئك الذين يشعرون أنهم بلا هوية اجتماعية واضحة، والهوية التي تقدمها لهم الفاشية هي الأكثر شيوعاً: كونهم وُلدوا في البلد ذاته. وذاك هو أصل القومية. إلى جانب أن الأعداء وحدهم من يمكنهم تشكيل هوية للأمّة. لذلك، الهوس بالمؤامرة يعدّ من جذور الفاشية المحضة، غالباً ما تكون مؤامرة عالمية. أتباعها يجب أن يشعروا بالحصار. والطريقة الأسهل لحلّ معضلة المؤامرة الكونية هو تشجيع الزينوفوبيا [كراهية الأجانب]، ولكن المؤامرة يجب أن تنبع من الداخل كذلك: اليهود عادة ما يكونوا هدفاً أمثل للزينوفوبيا لتمتعهم بمزية التواجد في الداخل والخارج في الوقت ذاته. المثال الأبرز في الولايات المتحدة الأمريكية للهوس بنظرية المؤامرة يتمثل في كتاب بات روبرتسون "النظام العالمي الجديد".



٨. أتباع الفاشية يجب أن يشعروا بالاهانة من مظاهر الثروة والقوة لأعدائهم. حين كنت صبياً، علّموني أن أتخيل الانكليز كأناس يأكلون خمس وجبات في اليوم. إنهم يأكلون أكثر من الطليان الفقراء والمعتدلين. اليهود أثرياء ويعاونون بعضهم من خلال شبكة سرية من الدعم المتبادل. ولكن الأتباع يجب أن يقتنعوا أنهم قادرين على هزيمة الأعداء، وذلك بتغيير ركائز الخطاب الفاشي باستمرار، الأعداء أقوياء جداً وضعفاء جداً في الوقت ذات. الحكومات الفاشية تخسر الحروب دوماً لأنها عاجزة عن تقدير قوة العدو بموضوعية.



٩. وفقاً للفاشية المحضة، ليس ثمة صراع للبقاء بل أن الحياة نفسها تعاش لأجل الصراع. هكذا فإن المبادئ السلمية تعني الخيانة. وهي مرفوضة لأن الحياة عبارة عن حالة حرب مستمرة. ولكن هذا يؤدي إلى عقدة هرماجدّون، فالأعداء يجب أن يهزموا، وعليه لابد من وجود معركة نهائية كبرى، بعدها تتمكن الحركة الفاشية من السيطرة على العالم. وهذا الحل بعيد الأمد يعني مجيء حقبة سلام و عصر ذهبي، وذلك يتناقض مع مبدأ الحرب الدائمة. لم يفلح أي قائد فاشي في حل هذه المعضلة حتى الآن.


١٠. النخبوية سمة نموذجية لأي آيديولوجية رجعية، هي في أصلها أرستوقراطية، والأرستقراطية والنخبوية العسكرية تفرخ احتقاراً قاسياً لمظاهر الفقر،  الضعف  والضعفاء. الفاشية المحضة تتبنّى فقط النخبوية الشعبية. كل مواطن ينتمي إلى أعظم شعب في العالم، أعضاء الحزب هم الأفضل بين المواطنين، كل مواطن يتحتم عليه أن يكون عضوا في الحزب. و حيث تجد نبلاء فلابد من وجود عوام. ولأن الزعيم يعرف أن سلطته لم تُفوّض إليه ديموقراطياً، بل أخذها غصباً، يعلم كذلك أن قوته مستمدة من ضعف الجماهير، بسبب ضعفهم يحتاجون ويستحقون قائداً. ولأن الجماعة منظمة هرمياً (طبقاً للنموذج العسكري)، كل قائد يحتقر من هم تحته، وكل منهم يحتقر بدوره من هم دونه. وهذا يؤجج حس النخبوية الجماهيرية. 

١١. كلٌ يتعلم لأجل أن يصبح بطلاً. في كل الميثولوجيات البطل كائن استثنائي، لكن وفقاً للفاشية المحضة، البطولة هي القاعدة. وعبادة البطولة مرتبطة بشدة بعبادة الموت. وليس من قبيل المصادفة أن يكون شعار الفلانخي الأسبان "Viva la Muerte/يحيى الموت!". في المجتمعات غير الفاشية  يقال للناس أن الموت سيء لكن يجب مواجهته بكرامة، يقال للمؤمنين أنه الطريق المؤلم للوصول إلى سعادة سماوية.  على النقيض، أبطال الفاشية المحضة يشتهون الموت البطولي، فهو المكافأة الأسمى لحياة بطولية. بطل الفاشية المحضة يرغب في الموت بنفاذ صبر. وهذا الجزع  يتسبب في موت غيره. 

١٢.الحرب والبطولة ألعاب صعبة، لهذا تحاول الفاشية المحضة أن تغير اتجاه ارادة القوة الكامنة في بلاغيات السلاح والحرب بحيث يمكن تفريغها جنسياً. وهذا هو أصل الماتشيزمو  (الذكوري المحتقر للنساء ولكل أنماط السلوك الجنسي المخالف لما يعتبره تقليديا/طبيعياً، من أول الترهبن وحتى المثلية). ولأن الجنس كذلك لعبة صعبة، تميل الفاشية المحضة للاستعاضة عنه باللعب بالأسلحة - الحل الأخير لهذه الشحنات العدوانية يكمن في تحويلها إلى ممارسة قضيبية اصطناعية


١٣. تقوم الفاشية المحضة على الشعوبية الانتقائية: شعوبية نوعية، لنقل، في الديموقراطيات، المواطنون يملكون حقوقا فردية، وهم  يصنعون تأثيراً سياسياً عاماً من ناحية كيفية فحسب- حين تُتبّع قرارات الأغلبية. وفي حالة الفاشية المحضة، ليس للأفراد حقوق كأفراد، والشعب يُعتبر صفة أو مفهوم ميتافيزيقي، كيان متآلف يجسّد "الارادة العامة" أو الارادة الجمعية أو الارادة القومية. ولأن امتلاك هذا الكم كله من البشر لارادة واحدة جامعة أمر مناف للمنطق، يدّعي الزعيم أنه وحده القادر على تفسير هذه الارادة الشعوبية. والمواطنون قد فقدوا قدرتهم على التفويض،  فلا يعود بمقدورهم الاتيان بأي فعل، بل يتم استدعائم فحسب للعب دور "الشعب". هكذا يصبح "الشعب" مجرد خيال مسرحي،  ولضرب مثل على الشعوبية النوعية، لسنا بحاجة للحديث عن البياتزا فينيتزيا في روما أو مدرّج نورمبرغ. هنالك التلفاز والشعوبية الانترنتية، حين يصبح رد فعل عاطفي لجماعة من المواطنين هو الممثل  والمعبر عن"صوت الشعب"، أو ارادته.

لهذا تعادي الفاشية المحضة الشكل البرلماني "المتعفن" للحكومة. كانت أول الجمل التي ينطق بها موسوليني في البرلمان الايطالي: "قد كان بمقدروي أن أحوّل هذا المكان الكئيب والأصم إلى ثكنة عسكرية". وعلى أية حال فقد وجد مكاناً أفضل لعساكره، ولكنه فيما بعد حلّ البرلمان. كلما أثار سياسي الشكوك حول السلطة التشريعية أو البرلمان بحجة أنه لم يعد يمثّل "صوت الشعب"، يمكننا أن نشمّ رائحة فاشية أبدية.

١٤. الفاشية المحضة تتحدث النيوزبيك [Newspeak].  المصطلح اخترعه أورويل في روايته ١٩٨٤ ويقصد به اللغة الرسمية للإنغسوك، الاشتراكية الانكليزية أو الحزب الفاشي الحاكم في عالم الرواية. عناصر الفاشية المحضة مألوفة وظاهرة في أشكال كثيرة من الديكتاتوريات. كل الكتب المدرسية النازية والفاشية استخدمت مفردات لغوية فقيرة، لتقيد أدوات التفكير النقدي الحر والمعقد. ولهذا يجب أن نتربّص لأنماط أخرى متنوعة ومختلفة للنيوزبيك، أحياناً تتّخذ الشكل البريء للبرامج الحوارية الشعبية.


في صباح السابع والعشرين من يوليو، ١٩٤٣، أخبروني أن، بحسب تقارير الراديو، الفاشية انهارت وأُلقي القبض على موسوليني. حين أرسلتني أمي لأبتاع الصحيفة، رأيت جرائد بعناوين متباينة. وبعد قراءتها، أدركت أن كل صحيفة تقول شيئا مختلفا. ابتعت واحدة منهن دون نظر، وقرأت رسالة في الصفحة الأولى وقّعها خمسة أو ستّة من الأحزاب السياسية، بينهم كان الديموكراتزيا كريستيانا، الحزب الشيوعي، الحزب الاشتراكي، والبارتيتو داتزيوني، والحزب الليبرالي. حتى ذلك الحين، كنت أعتقد أنه ثمة حزب واحد فقط في كل بلد، وذاك الذي في ايطاليا كان البارتيتو ناتزيونالي فاشيستا. والان أكتشف أنه في بلدي ثمة أحزاب أخرى يمكن أن تتواجد معا في نفس الوقت. ولأنني كنت صبيا ذكيا، أدركت في الحال أنه لا يعقل أن تنشأ كل هذه الأحزاب بين ليلة وضحاها، لابد وأنهم قد تواجدوا لفترة طويلة كتنظيمات سرية.

الرسالة في المقدمة احتفت بسقوط الديكتاتورية وعودة الحرية، حرية التعبير، حرية الصحافة، والممارسة السياسية. هاته الكلمات، "حرية"، "ديكتاتورية"، "استقلال"- الآن أقرأهم للمرة الأولى في حياتي. وساعتها وُلدت من جديد كرجل غربي حرّ بفضل هذه الكلمات. 

يجب أن ننتبه كيلا ننسى معاني هذه الكلمات مجدداً. الفاشية الأبدية لا تزال حولنا، أحياناً في ملابس مدنية. سيكون من السهل جداً علينا، إن ظهر شخصاً في المشهد العالمي يقول: "أريد أن أعاود فتح أوشفيتز، أريد أن أرى مواكب القمصان السود في ميادين ايطاليا مجدداً." الحياة ليست بهذه البساطة. الفاشية المحضة قد تعود متنكرة في أكثر الأردية براءة. مهمّتنا أن نكشفها ونصوّب أصابعنا على أي من تمثّلاتها الجديدة - كل يوم، في كل مكان من العالم. 

كلمات فرانكلن روزفلت في الرابع من نوفمبر ١٩٣٨، تستحق التذكّر: 

"إن توقفت الديموقراطية الأمريكية عن الحراك قدماً كقوّة حيوية، تسعى كل يوم وليلة بطرق سلمية لأجل تحسين حياة مواطنينا، سوف تطرح الفاشية في أراضينا."

الحرية والتحرر مهمة لا تنتهي. دعوني أختم كلامي بقصيدة لفرانكو فورتيني: 

على متراس الجسر
رؤوس المشنوقين
في الغدير المتدفق
بصاق المشنوقين

على الحصى في الأسواق
أظافر هؤلاء الذين اصطفوا
 ليُطلق عليهم الرصاص
 على العشب الجاف في الخلاء
الأسنان المحطمة لهؤلاء الذين 
اصطفوا ليستقبلوا الطلقات

من العضّ على الهواء، 
وعضّ الحجارة
لم يعد لحمنا آدمياً
من العضّ على آلهواء، 
والعضّ على الحجارة
لم تعد قلوبنا آدمية.

ولكننا قرأنا في عيون الموتى 
ولسوف نجلب الحرية على الأرض

في قبضات القتلى المضمومة
تكمن العدالة منتظرة أن تتحقق.


*تُرجمت عن الانكليزية من هذا النص.

---------------------
*نبّهتني هند هيثم إلى المُراد من البادئة اللغوية (UR-) ذات الأصل الجرماني، والذي كنتُ أجهله،  إن أُلحقتْ بكلمة فهي تعني -حرفياً- الصورة "الأولية - البدائية - الأصلية" منها، لو فرضنا أن هذه "الصورة" قد وُجدتْ بشكل ملموس قديماً وسابقاً على كل الأشكال اللاحقة، لكن هذا لا يصحّ مع غرض إكو من وصفه للـ(UR-Fascism) والتي هي نموذج صياغي "محض"، ونحن نميل لاستبدال كلمة "أبدية" بـ"محضة"، كانت في نيّتي كذلك استخدام "خالصة" ولكني وجدتُ تأثير "محضة" أقوى، وفي ذلك استندنا إلى حوار لغوته مع إكرمان يعرّف فيه الـURreligion أنه "طبيعة نقية [محضة] وعقل نقي [محض]، من أصل الهي".    فالنموذج الذي يصفه إكو هو نموذج عقلاني [محض] لم يوجد قط بشكله هذا ملموساً بل قياسياً.  آيات الشكر والامتنان "المحض" والخالص كله لا تفي  هند هيثم حقها، لم يك يمكنني بأي حال من الأحوال أن أصل للشكل الحالي -والمُرضي لي نسبياً- من هذه الترجمة دون عونها.