Monday, December 23, 2013

مشاهد: جُرعة اليوم من العنف الأسري -١

 

 قراءة حُرّة في (الغيرة القاتلة)
 

ما ذكّرنا بالفيلم ليس كونه مُعالجة لمسرحية شكسبير “عطيل”، حيث أن كل المعالجات الشكسبيرية في السينما تثير اهتمامنا وجديرة بالتذكّر، بل أن هذا ما اكتشفناه حين بحثنا عنه، فقد كنا نبحث عن مشهد النهاية في الفيلم، يحيى الفخراني - ومما نذكره، كان شخصا مؤذيا شريراً - يمشي إلى حتفه مُنتحراً، في مشهد مزرق للبحر، وهدير الأمواج في الخلفية.








اذن، في هذه المعالجة ياغو من ينتحر، وليس عُطيل، ديدمونة لا تُقتل، قبل مشهد انتحار مُخلص/يحيى الفخراني/ياغو، أو سيره الغامض إلى أمواج البحر في زرقة الفجر، الذي اخترنا أن نأوّله انتحاراً، يحتضن عمر عطاالله/نور الشريف، عروسه دينا/ديدمونة/نورا، قائلاً: “أنا آسف، مش غلطتي، ولا غلطته، دي غلطة الزمن اللي احنا عايشين فيه."






١. وحش أخضر العينين



“حذار من الغيرة أيها السيد، إنها وحش أخضر العينين، يسخر من فرائسه.”

شكسبير- عُطيل



و حول اختيار يحيى الفخراني للدور، فهو ممثل ليس أيقونياً بالنسبة لأدوار الشرير، أو الوغد، أو الوضيع، أو المنحلّ، أو المؤذي، وثمة مشاهد في فيلمنا، خاصة تلك التي في آخر ربع ساعة من الفيلم، حين يطلب مُخلص/يحيى الفخراني من عمر/نور الشريف أن يمسك الكلب لأنه يريد أن يرحل، وقد كان يقولها بعبوس وتكشيرة طفولية. فكل الكلاب في الفيلم تنبح على مُخلص، وترغب في مهاجمته.

 



لم تك شخصية مُخلص مُغرقة في شر شيطاني ومرعب، ولم يكن له خواص خوارقية بشكل خاص، ما عدا الاشارة الميتافيزيقية الهزيلة لعصبية الكلاب في حضور مُخلص، مخلص ليس الشيطان وليس إبليس الذي يجسده ياغو في النص الأصلي أو في معظم معالجات المسرحية، كنوع من التنويع على أقدم قصة في الكتاب، أو عداوة إبليس لآدم وما ترتب عليها من خروجه من الجنة - موت ديدمونة على يد عُطيل. ثم انتحار عُطيل نفسه، ويمكن قراءة هذا في سياق التقليد الشكسبيري أو في سياق دمج لعدة سرديات كبرى عن أقدم معركة كونية، بين إبليس وآدم، أو بين سيت وأوزيريس، أو بين قابيل وهابيل.



ويمكن القول أن النص الأصلي يستند للضعف البشري، ولاستغلال إبليس/ياغو لهذا الضعف البشري، خطايا مميتة مختلفة، مثل الغيرة، والغضب. فالغضب هو الأكثر “وضاعة” من بين هذه الخطايا، نتيجة للطبيعة الحيوانية والمنحطة والخالية من العقل، التي للبشر. أنصاف القرود. في حين يحتفظ الشيطان لنفسه بخطيئة “مرموقة” مثل الكِبر.



إذن كان ياغو مُتكبراً في النص الأصلي، يستهجن كيف يحظى ذاك القرد الأسود - عطيل- بكل هذه النعم في حين لا يحظى هو بأي منها، وهكذا يمكر لتدمير حياة عُطيل، لا يبدو ياغو “طامعاً” فيما لدى عطيل، فقد ترك الطمع والشهوة وسائر تلك الخطايا الوضيعة للبشر، ياغو يتصرف مثل قوة ظلامية وكونية، شر لذاته، ودمار محض، لذاته، فالشر له طرقه الخبيثة والشريرة لأنه شرّ، ليس ثمة مُبرر.




٢.  الكلاب تنبح على مُخلص



في المعالجة المصرية “الغيرة القاتلة”، لا يبدو أن الغيرة خطيئة عطيل/عمر عطاالله في الفيلم، بل أن غيرته لا تشغل من الفيلم سوى آخر ربع ساعة، ليست الثيمة التي يعتمد عليها، كما اعتمد عليها النص الشكسبيري، لقد تمت ازاحة الغيرة لشخصية ياغو/مُخلص. لقد تم تخفيف الثقل الخوارقي والميثولوجي لطاقة ياغو/مُخلص التدميرية واستيعابها في قصة صداقة/أخوة بسيطة، مُخلص صديق طفولة عُمر، وعلاقتهما للأخوة أقرب، ولكن مُخلص يحقد على عُمر -غالباً لنجاحه- ويحكي الفيلم كيف وصل هذا الحقد لذروته، وهو حقد مُتراكم في روح مُخلص مذ الطفولة، وجاء لينفجر حين بدا له أن عمر سوف يحظى بكل ، شيء، الثروة، الزوجة الصالحة، والنجاح، وربما العيال. لأنه جريء، والحظ يُفضل الجريء، كما نعرف.



في حوار بين مُخلص وزوجته عصمت، تلومه عصمت على جبنه وحذره، وبسببه بقى مُخلص طوال حياته “محلّك سر”، غيرة مُخلص من عمر ليست واضحة بقدر وضوح دور مُخلص في الفيلم وفي حياة عُمر كطاقة سلبية، مخلص كتلة سلبية، كاره للتقدم، والتطور، ولا يريد أن ينجب من عصمت لأنه لن يتحمل نفقات الطفل، بالإضافة لكون مخلص وحش الغيرة أخضر العينين، فهو كذلك يتحقق فيه ستريوتايب الذكر الغريم الحقود والعقيم، طاقة ذكورية سلبية، ولكونها سلبية فهي عقيمة، وهي موجهة للتنغيص على حياة الذكر الايجابي والخصب. (وهذا الإسكتش مُستوحى من قصة سيت وأوزيريس).



في الوقت ذاته، مُخلص بشر عادي وخطّاء، في مسرحية شكسبير يتم الغاء خطأ ياغو، حين لا يعود ياغو بشراً يُحاسب على خطايا، الطبيعة البشرية لياغو تحل محلها طبيعة شيطانية تبلغ ذروتها بعد فعل التدمير الكامل، ومثل إبليس لا يعترف ولا يدرك ياغو أنه مُخطيء، لعل المعالجة المصرية التي جعلت من مخلص بشر خطّاء يُدرك ذلك في النهاية وربما، بتأثير العار أو الذنب، يذهب لحتفه، بشكل يناسب المشاهد العربي الذي - بحسب وجهة النظر الشائعة- لن يرغب في رؤية البطلين مقتولين، خاصة لو كانا نور الشريف ونورا

حسناً إذن، في المسرحية الأصلية كان واضحاً لي أن القصة الأهم هي قصة ديدمونة التي كانت ضحية لكل رجال النص، وأولهم والدها، الذي ساءه أن تهرب ديدمونة من قبضته الأبوية إلى رجل آخر رغماً عنه، وبتعبير أفضل، أن تختار ديدمونة طريقها وحياتها الخاصة. يقول الأب لعُطيل أنها سوف تفعل فيه ما فعلته في أبيها، وهكذا فإن بذرة الشر أو الشك أو الغيرة زُرعت في البدء من قبل الأب أو البطريارك الأول، لقد ورّثها للبطريارك الثاني، بشكل يحلو لنا أن نتخيله، مثل حجر الأساس للشخصية البطرياركية، في النص الأصلي يمكن للقارئ أن يُدرك الجريمة، بكامل أبعادها، إن شاء، تلك الجريمة التي وقعت على رأس امرأة بريئة، ديدمونة ضحية لكل الرجال في حياتها، وقد سقطت ضحية لآفة روحية تعشش في نفوسهم، وتنتقل كعدوى من الأب للزوج، وصحيح أن النهاية كانت مأساوية، لقد نمت الآفة حتى ارتوت من دماء ديدمونة، وهكذا كان مقتل ديدمونة كاشفاً أو فاضحاً لهذه العلة - علة رجال النص أو العلة البطرياركية. وإلى حد ما يدينها، لقد أتى إذن ياغو مثل إبليس يلعب على أوتار البطرياركية ونواقصها أو نقاط ضعفها الوحوشية. هكذا، وإن حدث هذا بوسائل عنيفة ومأساوية، تم دمج العنف الأسري مع الخطيئة، أو تحويله إلى خطيئة، معالجته كخطيئة، نظراً لآثاره.




٣. العنف الأسري مش خطيئة

 

وماذا حلّ للمعالجة المصرية؟ لقد انتهت مثل حادث عنف أسري - ولا يمكننا وصف شيء بهذه الفظاعة بالعادية - ولكن ليس ثمة ادانة في السرد، مشهد العنف الأفظع والأقبح في الفيلم كان ضرب واهانة عُمر/عطيل لدينا/ديدمونة/نورا. لقد كان مشهداً دنيوياً سوف يميل المُشاهد للتغاضي عنه- مشهد تأديب زوج لزوجته (عادي، وإيه يعني…) علقة زوجية، وبالطبع، هي مُبررة، ومتعاطف معها، مثل جرائم الشرف، في مسرحية عطيل، لم يك مقتل ديدمونة مجرد جريمة شرف، بل مأساة، يدرك فيها عطيل بغيه وظلمه وشرّه مع زوجته، ولكن بعد فوات الأوان، فينتحر، ينفذ العقاب على نفسه بنفسه. وحتى مشهد العنف الأسري/القتل، لم يك مثل حلم بشع ومؤلم - وضع عطيل قبضته الخشنة على رقبة ديدمونة وخنقها “برفق”، في حين انهال عمر/نور الشريف صفعاً وضرباً مهيناً على وجه وجسد نورا. كمحاولة لجعله مشهد أكثر دنيوية “وأسرية” وخشونة أو رجولة.

ونضع في الاعتبار أنه قد تم الغاء عنصر التوتر العرقي الذي كان حاضراً في النص الأصلي، وحل محلّه التوتر الطبقي، وعُطيل، ليس بهيمة شرقية أو حيوان مُثير قادم من البرية أو المجاهل الافريقية كما يحلو لبعض المعالجات الغربية تقديمه*، بل كان مهندساً متفوقاً على عتبة النجاح، ويتبع الفيلم حُجة ياغو في النص الأصلي، مثلما يتذمر ياغو من تجاهل عُطيل له، واختياره شخصاً آخراً كمساعد، يتذمر مُحسن من شراكة عمر لسمير، لكن، في أغلب الأحوال، شرّ ياغو، في الحقيقة، غير مُبرر**، ولا حتى بهذه التبريرات الدنيوية، ويستغل مُحسن "يباسة رأس" عمر كما قد استغلّها عُطيل، فعُمر يرفض رفضاً قاطعاً عرض دينا/ديدمونة مساعدته مادياً، وهو لا يريد أن يُفسّر زواجه بدينا كزواج مصلحة مالية، يرفض هذا رفضاً عصابياً أقرب إلى الهوس أو الحساسية المفرطة، ونستعين باقتباس من كتاب "تجارب شكسبيرية في عالمنا المعاصر" عن سيكولوجية عطيل، "فهو لم يحتمل ولم يستطع أن يغير من منهج تفكيره الجامد." هكذا يبدو لنا أن الصفة التراجيدية - في العرف الشكسبيرية- الحاضرة في كلا من النص، والفيلم، بشخصية عطيل/مُحسن، هي الاصرار، أو العناد، وليس الغيرة.

بعد مشهد التنوير، يُعلن عمر/عطيل/نور الشريف أنها مش غلطته، ولا غلطة مُخلص، بل غلطة الزمن - مُناقضاً للتقليد التراجيدي الشكسبيري، الذي يقع فيه البطل التراجيدي في مأساته الخاصة نتيجة للظروف من حوله، وكذلك لأفعاله-  وبعد ذلك يتأسّف لدينا، ثم يضمها لحضنه، وهي كذلك تبادله الودّ، العجيب أنه ليس ثمة أي عنف يُرتكب ضد مخلص، الشرير الأصلي، في النص الشكسبيري كان عطيل مشغولا بانزال العقاب على نفسه، بالانتحار، وقد تبدلت الأدوار في الفيلم المصري، فترك عمر مُخلص، كي يتصرف مخلص مع نفسه بما يجده مستحقاً، فانتحر الأخير، بالزوق ومن سُكات. وبالنسبة لفيلم مصري، فإن انتهاؤه إلى هذه النتيجة يُعتبر نوعاً ما “متطرف”، فموضوع الانتحار وإنهاء فيلم بانتحار شخصية قد يكون نادراً، وفي حالة مخلص، قد تكون النهاية الأقرب لجو وروح الأفلام المصرية أن يذهب للومان، أو أن يُقتل - لوهلة، في مشهد هجوم الكلب عليه، ظننا أن الكلب سوف يقتله، وقد يؤخذ هذا كتريبيوت لأحد كلاسيكيات السينما المصرية (الشموع السوداء) وغيرها. لكن هذه النهاية قد تُفسّر، بلا شك، كمسحة وتأثير مباشر من النص الشكسبيري الأصلي. حتى المشهد، الذي أوّلناه مثل انتحار، كان انتحاراً على استحياء، فقد رأينا مخلص يمشي إلى البحر، ويصل إلى طرف المياه، ثم أظلمت الشاشة فجأة على كلمة “النهاية”.






* أحمد سخسوخ - تجارب شكسبيرية في عالمنا المعاصر، سلسلة الفنون، مكتبة الأسرة، ٢٠١٠.
** المصدر السابق.

No comments: