حجّاج إلى سان إيزيدور - فرانتشسكو دي غويا |
قد مرّ عليّ بعض المحتقرين "للدهماء" أو الخرفان* من منطلق أن الخرفان "يتّحدون" على فكرة يوهمهم بها "الراعي"، وفي هذا افتراض أن الجماهير من الدهماء تجتمع على "وجود فكرة" أو "حضور ايجابي" لها وليس على تخيّلهم لـ"غياب" أو افتقاد للشيء/الفكرة أو تعرض هذه الفكرة للتهديد والضياع- ما يشعرهم بالذعر. يفترض صاحب التعليق السابق أن التأثير المدمر للقوة المخرّبة الهائلة لجماعات أو حشد من الخرفان يمكن التحكم به اذا بثّ القائد بهم حالة الايمان المفترضة - الايمان حالة ايجابية بالمناسبة، وهي كذلك معقدة جداً، ما يجعل مسألة الحشد الفوري والحفاظ على كثافته صعبة. لتعميق الايمان بشيء/بفكرة ما، يلزم تعقيدها أكثر -كآيديولوجية، والبديل السهل هو التخويف.
أجل، يمكن استخدام سلاح الخوف على عدة جبهات، تخويف الجماهير وتخويف الجماهير الأخرى من الجماهير، يمكن تقسيم الدهماء والخرفان لدهماء مختلفين عن غيرهم، و"خرفان عن خرفان تفرق" بتخويفهم من بعضهم بعضاً. وتتمثل الضربة القصوى والأذكى في تخويف الفرد المؤمن -الايجابي- من الدهماء الـcynic- وقد يكتشف صاحب التعليق أو من هم يوافقونه أن موقفهم الـcynic من الدهماء هو ذاته موقف الدهماء منهم ومن كل شيء آخر. الجماعات الهائجة /الهيجانة/المسعورة لا تحرّكها فكرة بل حالة فريدة من الكراهية المركزة والعدوانية والذعر، حتى لو كان مصدر الكراهية فكرة دينية أو ثقافية - الكراهية في كل حالاتها فكرة مضادة.
غالبا ما أرتاب في موقف الفرد/الأقلية المحتقر للغوغاء لأني أعرف أن الغوغاء تحتقره بالمقابل، وترتاب منه، وتكرهه، إنه يعمّق ويعزز استمرار هذه الدائرة العبثية، ويتخذ نفس موقفهم فلا يجعله هذا مختلفاً عنهم بشدة، هنالك حشود هائلة تخرج لتطالب بتحجيم وقمع حشود أخرى لأن كليهما يكره الآخر، وهؤلاء مثل من يخرجون في حشد ظاهره التأييد وباطنه الذعر أو الخوف من الموت المتمثل في فقدان "الهوية" دينية كانت أو قومية. كل هؤلاء لا يجدون حرجاً من استهداف الآخر أمنياً أو تصفيته، أصحاب موقف احتقار الدهماء والخرفان على أساس أن الخرفان تتبع راعياً هم كذلك سوف يجدون أنفسهم مؤيدين لراعٍ يملك قوة قمعية تتفوق على السابق، وتفسير هذا واضح لأن من ينزع آدمية الخرفان بتبعيتهم للراعي "الأولاني" سوف يبرر قمعهم على يد راعٍ أكثر كفاءة وقوة و"استنارة" بمنطق أن تلك الخرفان "آبقة" وخارجة عن السيطرة وجلبتْ الفوضى. الخلاصة أنه ليس ثمة موقفا مستنيرا من احتقار الغوغاء بل هو ردّ فعل مماثل على احتقارهم هم لمن يختلف عنهم، وهو ليس موقفا عقلانياً بحجّة أن هؤلاء يتبعون "قائد/راع/فرد" دون تفكير، فطالما تواجدت الكراهية/الرعب وُجدت الحاجة لحماية مُنقذ أو قائد يمارس قمعاً مقابلاً.
أجد أن الحالة المريعة لفرد يواجه بمفرده حشد معاد ومؤذ ومنتهِك - كورتيز من رواية "قلب الظلام" يُعتبر ضحية بالمقياس ذاته- هي نتيجة الفخ الأخلاقي الذي يقع فيه من يدّعون موقفا عقلانياً في احتقارهم للغوغاء، بسبب مشكلة التوصيفات الميتافيزيقية، فطالما وُجد دهماء غوغائيون ومجرمون متعطشون للدماء في فعل كراهية جماعي كلّما تواجد ضحايا من الأفراد "المستنيرين" الذين وقفوا في مواجهة هذه الحشود - كما يحلو للكانُن الكنسي في قصص القديسين أو كما يحلو للمؤرخين تذكره بخصوص هيباتيا- فما حدث لا يمكن حلّه ولا صدّه وهو متوقع، أن تسقط قديسة أو قديس ضحية لهؤلاء الغوغاء لأن كل الحشود في الفضاء العام غوغائية ومغيّبة ولاعقلانية ومتعطشة للدم وتبحث عن فريسة - مثلما تكون الأسود في ساحة الكولسيوم وهي تهجم على المؤمنين المسيحيين- فهؤلاء "مسعورون" ومهتاجون وخرفان لكنهم مذعورون أو كارهون لوجود هذا الفرد في "فضائهم" مثلما هو مذعور وكاره لهم. ويبدو لي أن التشاؤم الايجابي أو الحل الوحيد لهذه الحالة هو اقصاء هذا عن ذاك. والاقصاء الناتج عن هذا التشاؤم فكرة تطيب لها نفوس النخبة المستنيرة أو المتمتعة بامتياز مادي أو طبقي. الاقصاء حل لطيف لكن معه سوف يستمر الضحايا في السقوط -بسبب الحدود والخطوط الحمراء- وردّ الفعل الوحيد على سقوطهم قد يكون التشاؤم السلبي، حتى لو لم يقع المبررون في نكسة "لوم الضحية"، فإنه يبدو من "الجنون" ادانة أو لوم جمع غفير من الحيوانات المسعورة، لأنه لا يمكن محاسبة الحيوانات، أو محاكمتها، أو ايجاد نظام لتحقيق العدالة، أو تجريمها أو الاقتصاص منها، "فأنا حزين عليكي يا مسر، لكن، إيه اللي ودّاكي هناك، ناحية الغوغاء؟"
* لا أقصد بالخرفان في هذا السياق الإخوان.
** «إن مرض الجنون نادر عند الأفراد، ولكنه هو القاعدة عند الجماعات والأمم وحقب التاريخ» - [نيتشه]
No comments:
Post a Comment