Friday, April 8, 2011

اختصار مُخلّ للدوغما

يعاني دارسو الاقتصاد من ارتياب تجاه الظاهرة العلمية، مردّه تجربتهم المؤسفة مع علمنة حقل الاقتصاد، أي تحويله من مجال معرفي إلى علم جامد يسير في نهج/خط مستقيم يكاد يقترب من العلوم الرياضية أو الطبيعية، وهو في الواقع، هكذا، يتحول إلى مجرد دوغما/ تيار معبرٌ عن رأي معين لا يسمح كثيراً بأن يحيد عنه باحثون آخرون.


لا مشكلة مع العلم كظاهرة، أو ترقي الاقتصاد إلى "مرتبة" علم -يا سلام!- لكن المشكلة أن "علم الاقتصاد" كان عليه أن "ينتقد" الظاهرة الإنسانية، التاريخية، الاجتماعية، بدلاً من ذاك، علم الاقتصاد بشكله الكلاسيكي الذى تأسس على كتابات انكليز - آدم سميث و ديفيد ريكاردو- قد وضع وظيفته النقدية جانباً - بعد أن شبع سميث نقداً في المركنتليين- وتفرّغ ليكرّس اتجاهاً/تياراً/رأياً متصلباً رافضاً لأي تصورات، أو نظريات أخرى تفسّر الظاهرة الاقتصادية. ورغم أن سميث وريكاردو وستيوارت ميل، وغيرهم، لم يقصدوا التشدد الفكري، لكن هذا ما تتبناه الكلاسيكية الجديدة، والليبرالية الجديدة، التي نحيى بها الآن، والتي تصاعدت -منتصرة- بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي عومل كأنه اعداماً نهائياً لأي أفكار اقتصادية اشتراكية.


تتمحور كلاسيكية آدم سميث، أولاً، حول ايمان عميق بمبدأ حرية السوق، لدي رأي أن الاقتصاد كحقل دراسي مسكون دوماً بروح -اليسار، طبعاً، لو أنه فقط استمر في النقد التاريخي/الاجتماعي لظاهرة السوق- وقد يجد البعض هذا تطرفاً، لكن أفكار سميث في القرن الثامن عشر كانت يساراً في مواجهة أفكار المركنتليين - التي لم تك قد ارتقت لعلم- وفي مقابل النزعة الامبريالية التي تسكن الخطاب المركنتلي، والتي تتلخص ببساطة في أن تبذل الدولة - اللوياثان بطبيعة الحال- كل جهد في حماية صناعاتها المحلية، والتصدير، والامتناع التام عن استيراد أي شيء، ولو تطلب الأمر استعمار الدول الأخرى- ليس لأجل المواد الخام بشكل خاص، لظروف العصر غير-الصناعية، إنما لأجل الذهب، وهو ما راحت المملكة الأسبانية تنفّذه باخلاص تام- يقول سميث أن هذا كله هراء، وأن الفائدة سوف تعود علي الدول لو فتحت أسواقها بين بعضها البعض، سواء أمام الصادرات أو الواردات، وأن هذا، في المدى الزمني القصير أو الطويل، سوف يؤدى إلى رفاهية الأمم.
"يسارية" سميث المزعومة تكمن في ايمانه بأنه لا قيمة حقيقية للنقد-الذهب- إنما ثروة الأمم هي في ما تصّنعه من منتوجات للتصدير، وهذا يعني، بالضرورة، أن القيمة الحقيقية لأي سلعة هي مقدار ما تحويه من عمل. تساير نظريات سميث "روح العصر" التنويرية من اضمحلال الاقطاع، وظهور الآلة البخارية وتحسّن ظروف وسائل النقل، أي بطبيعة الحال انتقال الأيدي العاملة بشكل أكثر كثافة، من الريف إلى المراكز الحضرية.


في القرن التاسع عشر تظهر أفكار ماركس لتنتقد النظرية الرأسمالية التي يكرْس لها سميث، وغيره، حجتها الأساسية هي الاستغلال الواقع على العمال، فهؤلاء يزدادون فقراً بينما يزداد الرأسمالي ثراءاً بسبب ما يحصل عليه من "فائض القيمة" وهو الفرق بين تكلفة انتاج السلعة وسعر بيعها.


كساد الثلاثينيات يمنح فرصة لظهور نقد حقيقي - ليس للرأسمالية بشكل خاص- انما لمبدأ حرية الأسواق، متمثل في النظرية الكينزية، وبها يحث كينز الدولة/الحكومة على التدخل من حين لآخر لاعادة الاستقرار إلى نظام السوق، إما بالوصول إلى التشغيل الكامل (القضاء على البطالة) أو بسياسات مالية ونقدية أخرى.


لكن الكلاسيكية الجديدة لا تلبث أن تظهر، في شكل أكثر طرافة يتمثل في أزمة أسعار الصرف- السبعينيات- ثم انهاء نظام بريتن وودز - فكّ ربط الدولار بالذهب- تلخيصاً: صارت أسعار العملات تتحدد بناء على العرض والطلب. أي صارت العملة كأنما هي سلعة. يزداد الايمان بمبدأ حرية السوق، ويتحول التخصص الاقتصادي الآكاديمي إلى عقيدة رأسمالية، مع الوضع في الاعتبار بعض التعبيرات الموحية لآدم سميث مثل " اليد الخفية" التي تسارع في اعادة السوق للتوازن اذا اختلّ. وافتراضاته أن المصالح الفردية للرأسماليين تتوافق بالضرورة مع المصلحة الجماعية. (مع الفقراء؟).


نظريات التنمية - التابعة للتيار الفكري الرئيس/الرأسمالي- تضع حلاً لمشكلة الدول النامية/الخارجة من تجارب الاستعمار، في انفتاح أكثر على الأسواق العالمية، وانهاء أي حماية وطنية للمنتج المحلي، يمكن تأمل مباديء البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، بشكل أوضح، في برنامج التثبيت والتكيف الهيكلي المفروض على مصر، مذ أوائل التسيعينيات، لحل مشكلة المديونية، باختصار: يجب على مصر أن تقلّص الطلب الداخلي، فمشكلة مصر مع المديونية هي -فقط، برأي الصندوق- أن الطلب الداخلي أكبر من اللازم، ويسبب عجزاً يجعل الحكومة تستدين من الخارج، وعليه يجب الغاء الدعم -على مراحل- ويجب تخفيض سعر العملة، وفتح الأسواق على الخارج، وتشجيع منتجات التصدير - ولا كلمة عن تشجيع قطاعات صناعية تحقق اكتفاء محلي- والمتأمل في البرنامج، ولو كان طفلاً غرّاً، يدرك ما به من تناقضات، وهو عموما نكتة أخرى من نكات النظام السابق- إلى جانب حادثة توقيع البرلمان على اتفاقية الجات ١٩٩٤ دون أن تُقرأ!- صحيح، قد يبدو البرنامج وجيهاً من النظرة الأولى، لكن الاقتصاد المصري له خصوصيته، وهو يشترك في هذه الخصوصية مع حزمة كبيرة من الدول النامية الخارجة من تجربة الاستعمار، والتي في الواقع لا تعود عليها تطبيقات فتح الأسواق على العالم والخصخصة و "يد آدم سميث" الخفية بأي فائدة.




لماذا لا يُنظر في نظريات اقتصادية تناقش مشكلة التنمية في الدول النامية، والتبعية؟ مثلاً، في الجامعات ينصب الاهتمام على نظرية "هكشر-أولن" في التجارة الخارجية " أن ما يخلق التجارة بين الدول هو الاختلاف في أسعار عوامل الانتاج". حتى الآن جيد، كان يجب أن ننتقل لنظرية التبادل اللامتكافئ للفرنسي لارغري ايمانويل، وقد نجلب مثالاً بسيطاً قائماً عليها: أسعار الأيدي العاملة -مثلاً- أي الأجور، في الدول النامية، منخفضة جداً بالمقارنة بمستويات الأجور في الدول الصناعية الكبرى-الغرب. ما الذي يترتب على هذا؟ أن حتى برامج صندوق النقد التي تبدو حسنة النية مشجْعة على التصدير هي في الحقيقة تكرس أكثر فأكثر للافقار المستمر والمنهجي للدول النامية، لأن أسعار وسائل الانتاج كلها داخل الدولة النامية منخفضة، فيحصل المواطن الأمريكي-مثلاً- على السلعة المستوردة من البلد النامي بسعر بخس، بينما يحصل المواطن في البلد النامي على السلع الغربية بأثمان خرافية. اتفاقية الجات في تحرير التجارة وتقليص الممارسات الحمائية - رسوم جمركية، دعم للمنتج المحلي- تسهّل أكثر على الدول الكبرى استغلال الدول النامية، للحصول على المواد الخام بأبخس الأسعار، أو حتى الأيدي العاملة، هكذا، استفادت الدول الغربية من نقطة القوة الوحيدة التي يتمتع بها العالم الثالث- أعني، الأعداد الهائلة من السكان- التي، بحسب قوانين الاقتصاد البسيطة (العرض والطلب) تسهّل مناخاً تقل فيه أجور العمال في العالم النامي أكثر فأكثر، ويزداد الفقر والبطالة، في ظل عالم "مفتوح على الأسواق الرأسمالية" وبدول نامية ذات اقتصادات مشوهة استعمارياً، هشة سوقياً أمام غزو الواردات، تتحول القوة العمالية الهائلة في دول معينة - مصر على سبيل المثال- إلى اعاقة كابوسية للاقتصاد، في حين أن -بالمنطق- المفترض العكس.




يفتقد الاقتصاد المصري لمشروع وطني، وليس مشروعاً قومياً أو شمولياً مرعباً، بالضرورة، و عالم اقتصاد مُعتد به كـ سمير أمين، يشيد -على استحياء- بالتجربة الناصرية لأنها كرّستْ لمشروعاً اقتصادياً وطنيا، قائما على "فك الارتباط" بالسوق العالمي وبكل آثاره السلبية المحتملة على اقتصاد وليد، وليس بالضرورة "الانعزال عن العالم ومخاصمته"، والتجارب الوطنية تذكرنا دائماً - بالصين، بطبيعة الحال- وهناك يتحول "العبء السكاني" إلى ميزة ثمينة، حين يتوجه للداخل، وحين تُطبق خطط لتوجيه الاقتصاد - من جهاز وطني مختص- ولو أن الصين في فترة من تاريخها فتحت سوقها للخارج - على طريقة صندوق النقد الدولي- كانت ستتحول ميزتها السكانية إلى كارثة انسانية وبنسب تقترب من ٤٠٪ تحت خط الفقر، مثلاً!




يرى سمير أمين أن "الديمقراطية" هامة لأي تجربة وطنية تسعى للتحرر من مساوىء الرأسمالية المُستغلة، عالمياً، وربما أقول، هذه الفكرة رغم غرابتها -حيث ترتبط الديمقراطية بالسوق الحر، والرأسمالية، وتتعارض مع كلمة وطنية التي تذكر القاريء بكل التجارب الشمولية في التاريخ- تكمن أهمية الديمقراطية -الفترة الحالية- في أنها سوف تمنح المواطنين حقاً في الرقابة على الأجهزة التنفيذية، والثروات الوطنية، وأزمة مصر مع الدين الخارجي وصندوق النقد سببها الأساسي شحّ الاحتياطي الداخلي من السيولة أو النقد الأجنبي - الذي عرفنا مؤخراً أنه طار مع فساد يزيد عمره عن ٣٠ سنة- والديمقراطية لا تتعارض عموماً مع مشروع وطني يهدف للتنمية، والعدالة الاجتماعية، وليس المزيد من "فتح الأسواق"، وهذه ليست هرطقة لأن عددا من البلدان الأوروبية -العالم الأول- يطبّق ما يسمى "دولة الرفاه" التي تجمع بين أدوات اقتصادية اشتراكية، ورعاية اجتماعية، وسوق حر، في مرحلة تالية. وقد يفيد الاقتصادات النامية أكثر التوجه بالتجارة إلى دول أخرى متعثرة، فهذا سيقلل الفاقد الحاصل سابقاً، بحسب نظرية التبادل اللامتكافئ، نتيجة للاتجار مع دول ترتفع فيها مستويات الأجور وأسعار وسائل الانتاج، كي تستقل الأولى عن دائرتها المفرغة في فلك الاستعمار الجديد.