Sunday, October 31, 2010

التحوّلات/٢

رائحة النسيم الخريفي جالبة للكآبة، بما أن شهر أكتوبر أكثر وقت في السنة يتضح به التغير الفصلي، خاصة في آخره، لا يخلو هذا الجو من طعم مظلم أو مقبض، تُقدم الميثولوجيا الكلتية تفسيراً : يصبح الحدّ الفاصل بين هذا العالم، والعالم الآخر، رفيع جداً لدرجة تسمح بمرور أرواح الموتى، الطيبة منها أو الشريرة.

احتفال السامهاين، الكلتي، هو الأصل تقريباً لما يسمّى حالياً، الهالوين (٣١ أكتوبر)، وعادة ارتداء الأقنعة المخيفة إنما هي للظهور بمظهر مخيف- مثل روح شريرة أو مؤذية-، وبالتالي، هذا سوف يضلل هذه الأرواح.

ارتداء الأقنعة المخيفة في أوروبا عموماً، يُمارس للغرض ذاته، الإرث الشاماني كان قوياً في خرافات شعوب الشمال، حيث كان الإيمان بأرواح الطبيعة، لهذا تختلط أغراض استخدام الأقنعة، عادة، بين الحماية من الأرواح غير المرغوب بها، وبين الاحتفاء بالحصاد، يظهر هذا التضارب في استعمالات القناع الاغريقي كأداة طقوسية، مرتبطة بمهرجان الخمر/حصاد العنب، ومن ثم اكتسابها ثقلاً ميثولوجياً حين صارت تمثل ديونيزوس.

في القرون الوسطى تختفي الممارسات الوثنية لكن يظل احساس الكآبة الخريفية، خاصة في بلاد الشمال، الباردة والمحرومة من طبيعة زاهية، في غالب الشتاء، تلعب الأقنعة زاهية الألوان (أحمر-برتقالي) الدور الرئيسي، في حين تكتسب أهميتها كلعبة فنية سخيفة، مثلما يحدث في "مهرجان الحمقى"، في عدة بلدان أوروبية، أيضاً، في الشتاء (آواخر ديسمبر).

التغيرات المناخية، من الفصول الصيفية المنيرة إلى ظلام الشتاء، تم ربطه ميثولوجياً بتواجد الأرواح الشريرة، ونحن نرى أن القناع، كشكل من الفن البصري، بألوانه البرتقالية الزاهية، حين يكون صارماً في الممارسة المسرحية الاغريقية، فارضاً على الممثل المشاعر المفترض به تأديتها، دون أن يحيد، كان قناع كرنفالات الشمال مجرد محاولة بشرية للوقوف بـ"ثبات" أمام تحولات الطبيعة، وأمام الاحساس العام بالكآبة، الذي هو أصلاً نزعة بشرية، تحذيرية، من الفناء.

Wednesday, October 20, 2010

التحوّلات

العبقري، كمفهوم وكلمة واصطلاح، سواء في الذهن الغربي أو الشرقي، هو من يضيف إلي الطبيعة، يشاركها انتاجها، يتحداها. وليس من يفكّ أسرارها أو يتفّهمها. لذا: علماء الفيزيقا ليسوا عباقرة، وفي حين لا يمكننا أن نقول على (ايزاك نيوتن) أنه عبقري، لو التزمنا بأصول المفهوم، فإننا سوف نطلق على غوته مسمى عبقرياً، (طبعاً، مثله مثل دافنشي، دانتي، بيتهوفن، وغيره من الفنانين).


ولو تأملنا في الكلمة العربية، التي تشترك تقريباً مع الكلمة اللاتينية في الأصول، تنحدر من وادي (عبقر). والشعراء في شبه الجزيرة كانوا عباقرة، بسبب الطبيعة الغامضة، المظلمة، والمخيفة للابداع الفني.  ولو الأمر في الذهنية البشرية يتعلق بـ(عفاريت) الابداع فحسب، لما ارتبطت الكلمة بمكان طبيعي، أي وادي عبقر. فالعبقرية الفنية لا تتعلق بالميتافيزيقا فقط، والماورائيات الظلامية، بل المسألة هي غموض الطبيعة، وطاقة الابداع (بحسب الفكرة القروسطية، حيث الفنان هو تلميذ الطبيعة، الجاثي على ركبتيه أمام عظمتها)- هي دائماً طاقة نابعة من مناطق غامضة، مظلمة ومجهولة في الكون : وادي عبقر المقفر بصحراء شبه الجزيرة. والفنان حين يستمد من ظلام الطبيعة واستتارها الهامه، وطاقاته، يستطيع فقط في هذه الحالة منافستها والاضافة إليها. أي يصبح عبقرياً.

النظريات الجمالية تجد في الابداع الفني شيء معاكس لاتجاه العقل، فبينما يأتي الابداع الفني من الروح (كما يقترح جاسون باشلار)، يميل الفلاسفة للعب دور المنظّمين، وميل النظريات الفلسفية للشمولية: حيث يجب أن تقدم النظرية الفلسفية -بحسب الاعتبارات المدرسية والأكاديمية- تفسيراً لقضايا محددة: الكون، الإنسان، الإيمان، المجتمع، الخ. هي هكذا تميل لتصبح عدائية للاختلاف والثورية والابداع، العقل الغربي حين تأسس مذ أفلاطون، وحتى هيغل: كان تحليليا تنميطيا، نسقيا (نظاميا)، يستقي خط سيره من البرهان، والافتراضات، ووضع تسميات/تصورّات تعسفية للتفسير. أفلاطون أدرك شمولية آيديوليجيته، وخاف عليها من التصدّع، فطرد الشعراء من مدينته الفاضلة، وحين نصل لهيغل نجد عنده ذات القلق، حين يربط -في نظريته- بين الفرد والدولة برباط شبه مقدس.
ولعل أقرب ممارسة عملية لهذا النوع من الشمولية العدائية هي التحليل النفسي والمدرسة الفرويدية، والسيكولوجيا تحاول سبر أغوار العبقرية، (كما يفرد فرويد كتاباً مستقلاً لاكتشاف (العقد النفسية) التي دفعت دافنشي ليصير دافنشي). وتعاملها كنوع من الانحراف البشري، أو "الظاهرة".
والعقل الاغريقي (الفلسفة- الحكمة - المنطق) ارتبط بالمدينة الاغريقية، وكان رأيي دائماً أن نشأة الفلسفة كانتاج اغريقي له علاقة بشكل المدينة (بوليس) الاغريقية، وفرادتها بالنسبة لبقية الحضارات، إنها شكل اجتماعي صارم، والحكم برلماني أوليغاركي، في حين كان عدم انفراد شخص واحد بالسلطة ميزة نادرة، إلا أن الأمر وقف عائقاً أمام الاختلاف الفردي الحاد: فلا يوجد ملك (مثقف) يرعى الفنون والفلاسفة-كما، في حالة الاسكندر، والحادثة الطريفة حين أحرق كل مدينة طيبة عدا بيت الشاعر بيندار)، كما أن المدينة تميل دائماً للموائمة بين التقاليد والتحفظات الاجتماعية لجميع أفرادها (كما في حالة اعدام سقراط). أو حتى منع السلطات الرومانية للجماعات الدينية التابعة لديونيزوس من ممارسة طقوسها.


يقدم نيتشه نظرية ظريفة في المقارنة بين الابداع العقلاني الصارم، والعدائي، وبين الابداع الفني (الحقيقي - غير المريض)، يضع الفنون المتحفظة في كفة أبوللو (الشعر ، النحت)، ويضع الموسيقى، الرقص، والغناء والفن الايمائي والتمثيل والتراجيدي المسرحي في كفة ديونيزوس.
أطروحة نيتشه عميقة ومطوّلة، لكننا نختزلها اختزالاً مخلاً: فأنا، مثل نيتشه، أرى بالفعل اختلافاً بين الشعر والنحت والرسم، وبين الموسيقى، ان ارتباط الشعر باللوغوس (الكلمة، العقل)، وارتباط الرسم والنحت بحاسة العين (وهي، بحسب دافنشي، أرقى الحواس، وحين تنظر العين للشيء فهي تتحصل علي نوع من المعرفة الحقة، أي معرفة الثابت، والأبدي، وفي هذا تضاد مع طبيعة الموسيقى (المتحولة). التي تثور على هذه الفكرة القديمة الصارمة بشأن المعرفة. ). بينما ترتبط الموسيقى بحاسة السمع (حاسة دنيا بحسب دافنشي). للموسيقى طبيعة دنيوية (دنيا؟)، وهي الأقرب لقوى الطبيعة الغامضة من سائر ربات الفن، وللموسيقى تأثير خطر دائماً: ومجهول، وظلامي، وهي قادرة على استثارة مشاعر السامع، بل دفعه للحركة والايماء والرقص، ودفعه أحياناً للعنف (طبول الحرب). بل ترتبط هذه بممارسات تصوفية، وأورفيوس الشاعر الغنائي، بآداته (الناي)، يسخّر له قوى الطبيعة: فهو يعزف ألحان شديدة العذوبة، تسكن لها الحيوانات والشجر والطير، بل أن شارون ذاته رسول الجحيم يتأثر بألحانه، وسائر مخلوقات العالم السفلى.


والموسيقى عنصر أساسي في التراجيديا الاغريقية، أي: المسرح الاغريقي، وحين نذكر المسرح فنحن نعود من جديد إلى دينويزوس، ويقال: دينوزيوس إله القناع.

أكثر ما يثيرني في المسرح الاغريقي هو أقنعته، وقد تساءل المؤرخون عن سبب التزام الاغريق بالقناع، لماذا يرتدي الممثل قناعاً في حين بامكانه التمثيل من دونه؟ إن أكثر الافتراضات التي تروقني، أن القناع يقوم بعملية (تحويل)، في القناع يتحوّل الممثل من مجرد مواطن اغريقي، أو حتى انسان ينتمي لمجتمع عدائي ومتحيز، إلى ممثل: وهنا بامكانه أن يؤدي كافة الانفعالات الصاخبة بحرية تامة، فالقناع، بحسب الممارسة التصوفية، يستشرف حلول ديونيزوس في الممثل.

القناع المسرحي اذن هو انفصال للإنسان عن المجتمع، وانسحابه تدريجياً إلى قوى الطبيعة الغامضة، أي قوى دينويزوس، أو من على شاكلته (بان، الساتير).

 في رواية (شبح الأوبرا)، إريك عبقري موسيقي، لكن مشوه، نشأ مذ صغره في قبو لدار الأوبرا، مختبئاً عن الجميع، ووجوده مجهول، ويتخذ شكل الاشاعات أو القصص المخيفة، تثير فتاة اهتمامه (كريتسين)، ويتعهد بتدريبها لتصبح مغنية أوبرا شهيرة، إيريك هو (وحش)، الى جانب تشوهه فهو (معاد للبشر)، وكاره للمجتمع، وللشكل المدجن لحفلات الأوبرا، وللمستوى الضحل للمغنيات، فهو يحول كريستين إلى معجزة فنية، عبقرية موسيقية، في فيلم 2004، مشهد ظهور كريستين على المسرح وأدائها للأغنية، وحولها هالة نورانية من قداسة (الفن العصيّ على الادراك البشري العادي). لكن إيريك مثله مثل قوى الطبيعة يملك جانباً ظلامياً، يزداد هوسه بكريستين (التي يقوم بتدريبها على الغناء، دون أن يدرك أحد أن له وجود، فهو في نظر الجميع مجرد وهم أو حتى شبح). في الرواية يبدو إيريك أكثر اصرارا من الفيلم، ويعرب بصراحة عن عدائه لأي انسان يهدد (المستقبل المهني لكريستين كأعظم مغنية أوبرا علي الاطلاق). إيريك مزج بين الساتير وديونيزوس، وعلاقته بديونيزوس تتعدى الموسيقى والقناع، فهو (شبح)، وهذه الحالة الشاحبة من الحياة والموت تذكرنا بحكاية دينويزوس الميثولوجية، حين عاد من الموت إلي الحياة، كما أن فن الأوبرا، كما يراه كل من نيتشه وفاغنر، هو أفضل "استعادة" لفن التراجيديا الاغريقية. و إيريك ساتير حين يسحب كريستين إلى عالمه السفلي (القبو)، ويزداد جنونه بها، حين تقع في حب راؤول، الفيكونت، إن كون راؤول فيكونت يجعله ممثلاً لكل الضحالة الاجتماعية، بمنصبه العسكري، وشكله الجميل المقبول اجتماعياً، وربما ابتعاده تماماً عن عالم الموسيقى، قد يظهر هنا راؤول كـ(أبوللو).



إيريك وقناعه يقع ضمن مجموعة الشخصيات البارونية التي تثير انجذاباً (uncanny) لدى الجمهور الطليعي، وجاذبيته ظلامية، لكنه يعدّ تمثيلاً نموذجياً لمسألة القناع والانفصال عن المجتمع، الانفصال عن المجتمع يبلغ ذروته عند إيريك، فهو تهديد لدار الأوبرا، وتهديد لمدرائها وزائريها، وهو كذلك يشكل تحديا للشرطة، فهو يملك قوته الظلامية، وأسلحته، التي يواجه بها النظام الاجتماعي، ومحاولات الشرطة لفرض نظامها المدني الخاص. ثم يحوّل كريستين إلى (مايناد) خاصة به، التعبير البشري عن عبقريته الموسيقية المستترة. كشكل من أشكال قوى الطبيعة.


إيريك شبح الأوبرا يشكل (حلقة وصل)، من الممارسات المسرحية التراجيدية في عصر الاغريق، إلى شكل البطل الخارق المعاصر الشائع في الكتب المصورة، وإن كونه بطلاً خارقاً، ومقنعاً، ومعاد للمجتمعات، وتهديد للنظام الخاص بالشرطة، به ربط ظريف لأفكار نيتشه عن السوبر مان، والفن الديونيزي، والثورة علي المجتمعات،

كافة الأبطال الخارقين في القصص المصورة، تقريباً، ومن تحول منهم إلى منتج سينمائي، يملكون مزجاً من الساتير والطوطمية والديونيزوسية، الرجل الوطواط (باتمان)، الذي اتجه إلى حالته المقنعة، بسبب حادثة مأساوية في طفولته، قُتل والديه، بينما اختبأ هو لفترة في كهف تحوطه الخفافيش. أو المرأة القطة (التي سقطت من علّ، أو غرقت في البحر، بحسب المعالجات العديدة للقصة)، ثم تجمعت حولها القطط، ويبدو أن عضة قطة حوّلتها.
الأمر ذاته مع الرجل العنكبوت، الذي "تحوّل" بسبب عضة عنكبوت سام.
المشترك بين كل هؤلاء هو القناع، والطوطمية، حين تُعطى للطبيعة قوى خارقة، غامضة وظلامية، ممثلة في قوى الحيوانات، الخفافيش سادة الليل والظلام، أو القطط، بأرواحها التسعة، أو العنكبوت وسُمّه.

كل هؤلاء الأبطال يشكلون تهديداً لنظام المدينة، ويستجلبون ارتياب السلطات، لكن الجماهير تشعر تجاههم بنوع من الانجذاب الـ(uncanny). وجميعهم مثل إيريك الشبح، يملكون تشوههم الخاص، وإن كان نفسياً، فهو انفصالهم النهائي عن المجتمع البشري، واستحالة اندماجهم به بأي شكل، رغم قوتهم النفسية والجسدية، ولهذا أبعاده التراجيدية. يأتي هنا افتراض نيتشه إلى ذهننا، حين يقترح أن التفوق الفني الأقصى، ليس في انسان منتج أو مبدع لأعمال فنية، بل في أن "يتحوّل" الإنسان ذاته إلى عمل فني، وكان يقصد حالة الممثل التراجيدي المقنّع، الذي يُخرج كل انفعالاته وعاطفته بقوة. ونرى أن الأبطال الخارقين لعصر الكوميكس إنما هم، ببساطة، محاولة عصرية لانتاج ما يسمى بالـ"الإنسان التحفة الفنية"، أو هو مجرّد درب آخر، غير مطروق، شكل غريب للعبقرية.