Saturday, July 24, 2010

Inception (2010)


 
بدا أن عاميّ (٢٠٠٩ -٢٠١٠) شهدا ظاهرة سينمائية فريدة، (مشاريع العشر سنوات)، لعدد من المخرجين الكبار، مشروع كينتين تارانتينو , مشروع جيمس كاميرون (آفاتار)، مشروع كريستوفر نولان (موضوع حديثنا). الخ 
حكاية مشاريع العشر سنوات هذه بها شيء، الفيلم غالباً، وإن كان آية في الابهار البصري، يخرج أجوف وسطحياً علي المستوى الدرامي أو العاطفي، فلا يوجد أي كثافة أو (شدة) في أداء الممثلين، خلاف أفلام التسعينيات حين كان يجاهد المخرج والممثل لابهار المشاهد بلا تأثيرات بصرية، كان هنالك ابداع غرائبي في السيناريو (مثل، نادي القتال)، أو في لعبة الظلال والنور وأداء الممثل (من منا لا يذكر طريقة حديث د.ليكتر، في صمت الحملان). وأظن أن هذا ما سيذهب إليه الجميع، حين الحديث عن سطحية الأفلام الألفينية.

هنالك ظاهرة أخرى تهمنا، وهي حمّي نولان الصيفية، الحمى لاحظتها أول مرة من سنتين مع فيلم (دارك نايت) الذي نزل في الوقت نفسه من العام، ثم تصدر قائمة
(آي.إم.دي.بي) المبجلة، ينزل فيلم (إنسبشن) بدور العرض في ١٦ يوليو ليتصدر القائمة في غضون يومين، كما حدث بالضبط مع فيلم نولان السابق, قصة الفيلم باختصار عن (كوب - ليوناردو دي-كابريو)، الذي تم استئجاره من قبل منظمة منافسة، ليحصل على معلومات يحتفظ بها سايتو (كين واتانابي)، رجل الأعمال الثري، عن طريق ميكانيزم متطور، هو ورفيقه آرثر (جوزيف-غوردن ليفيت). في موضع آخر من الفيلم يُقال أن الجيش الأمريكي طوّر هذه الخاصية (الأحلام المشتركة)، وهو أن ينام عدد من الأشخاص المتصلين بجهاز يزوّدهم بمنومات من نوع خاص طوال فترة السبات، وفي أثنائها يمكن لهؤلاء أن يعبروا إلى أحلام بعضهم بعضاً، ويشاركوا في أحداثها، مهنة (كوب) تعتمد على ما يتيحه هذا الجهاز، فـ(كوب) خبير متمرس بعملية (الاستخلاص)، فهو يعدّ بيئة (مشاركة أحلام)، ثم يدخل إلى العقل الباطن للشخص المعني ليستخلص منه ما يرغب من معلومات مخفية، (سايتو)، الذي يأتي إليه (كوب) بغرض سرقة معلومات منه، يعرف أغراض كوب الحقيقية لكن يدعه لينفذ عملية استخلاص الأحلام، وهو ما يحدث خلال النصف ساعة الأولى من الفيلم، ونعرف أن كوب محترف تماماً لأنه يقوم بميكانيزم (الحلم داخل الحلم)، فهو، ينفذ عملية المشاركة في الأحلام على مستويين، أول مستوي في العقل الباطن لرفيقه (آرثر)، ثم المستوى الثاني في العقل الباطن لمهندس المجموعة، بهذه الطريقة يضمن كوب الترحال علي مستويات عميقة داخل العقل الباطن للشخص المستهدف (سايتو)، كما يضمن حالات الطواريء، لأن، الموت داخل الحلم يؤدي إلى الاستيقاظ. هكذا حين تطلق (مال -زوجة كوب المتوفية، والتي تظهر في عقله الباطن رغماً عنه لتفسد عليه الأحلام). النار على (آرثر) ليستيقظ من الحلم الأول، نجد أنفسنا في حلم شخص آخر من الفريق، دون أن نلاحظ في البدء، مع وهم أننا (استيقظنا)، لنكتشف أننا في حلم داخل حلم.

سايتو يُعجب بمهارة كوب ويسأله فيما بعد أن يقوم بمهمة، ليست استخلاص معلومات، إنما (زرع أفكار) داخل العقل الباطن لشخص ما، هو فيشر الابن، الوريث لسلسلة شركات تشتغل بقطاع الطاقة، وعمّا قريب سوف تتحول إلى وحش رأسمالي، وكي يحول (سايتو) دون هذا، يطلب من كوب أن يزرع داخل فيشر الابن فكرة : أن يفكك امبراطورية والده.

يكوّن كوب فريقه الخاص، من المهندسة (آرينداتي - إلين بيج)، والتي تقوم باعداد مشاهد وبناء الأحلام، إيمز (توم هاردي) ويبدو أن لهذا موهبة خاصة في التقمص والخداع، فهو قادر على تقمص شخصية (براوننغ- الأب الروحي لفيشر الابن، وعن طريقه ينجحون في زرع ما يرغبون من أفكار). ثم يوسف الكيميائي الذي يزودهم بمنوم قوي، يضمن أن يظل فيشر الابن مخدراً لعشر ساعات، ومشكلة هذا المخدر أن، في هذه الحالة، الموت داخل الحلم لا يعني الاستيقاظ، مثل الأحوال العادية، انما الدخول في حالة (ليمبو)، وهي الشبيهة بغيبوبة ملونة مليئة بالأحلام، وحين يستيقظ منها المرء، يفقد عقله.
(آرينداتي)، بوصفها مبتدئة، يساعدها (آرثر)، حين تعاني من عدم التفرقة بين الواقع والحلم، يقترح عليها آرثر أن تحتفظ بتميمة خاصة بها، تمسكها معها داخل الحلم، كما تمسكها في الواقع، وتكون هي الوحيدة العارفة بأبعادها، درجة لونها وصفاتها الفيزيقة، كيلا يخدعها أحد في حلم ما. تصنع (آرينداتي) بنفسها تميمة على شكل قطعة شطرنج، بينما ترافق تميمة (كوب) المميزة، النحلة الدوارة، كوب والمشاهدين بطول الفيلم.
نجاح كوب في الأمر يعني أن يضمن له سايتو أن يعود للولايات المتحدة الأمريكية، وفي بداية الفيلم نعرف أنه مهدد بالقبض عليه ومحاكمته هناك، ونظن أن السبب هو النشاط غير الشرعي لعملية (استخلاص المعلومات من أحلام الآخرين)، لكننا نعرف فيما بعد أنه متهم بقتل زوجته.

الفريق - بعد كثير من مشاهد العنف والآكشن، والصعوبات التي يواجهها داخل عقل فيشر الابن (الفريق- على غير المعتاد، سوف ينّفذ بيئة مشاركة أحلام ثلاثية المستوى)، ينجح في مهمته، ويعود كوب إلى وطنه.

الفيلم على مستوى من التعقيد لا بأس به، مما يجعلني أندهش، من مسألة الحمّى التي تدور حوله، كيف أعجب كل هذا العدد من الأشخاص؟ الذين غالباً لا تعجبهم أعمال أخرى على نفس الدرجة من التعقيد، أو أقل منها. الفيلم ليس أيقونياً. وأنت تشاهد الفيلم تشعر أن هذه اللعبة قد لُعبت عليك من قبل، وهذا صحيح، فمشهد (مجموعة من الأفراد النائمين، بينما عقولهم تلعب وتدور في مكان آخر، وهم يتشاركون في الأمر)، حدثت من قبل في فيلم (ماتريكس)، وماتريكس، بالنسبة لي، كلاسيكياً أكثر من (إنسبشن) ولا شك، والمشهد الدرامي الأيقوني الذي فيه يظهر مورفيوس بينما يعرض على نيو الاختيار بين الحبة الزرقاء و الحبة الحمراء، والكثير من الثيمات الأخرى الانسانية داخل الفيلم رغم تقشفه العاطفي، وابتعاده عن العالم المعتاد. أما فكرة الدوران داخل عقل أحدهم، ربما تم التعرض لها لكن بمعالجة مختلفة تماماً في فيلم (التجلّي الأزلي للعقل الماحي)، وبه بطلا الفيلم يركضان داخل عقل أحدهما (بينما هو نائم)، لانقاذ ذكرياته من الضياع. والفكرة ذاتها (الدوران داخل العقل) ربما ظهرت كذلك في أفلام أحدث، مثل (سيرك الدكتور برناسوس)، وفيها، الدكتور برناسوس ذو المخيلة الخارقة، يُدخل الناس إلى عالمه العقلي الخيالي الباهر، كي يحصل الشيطان على أرواحهم فيما بعد.


التالي هو محاولة لتقصّي أسباب نجاح فيلم نولان (إلى جانب العامل الرئيسي، الآكشن أو الاثارة الحركية)، رغم تعقيده -في رأيي- وعدم مناسبته لذوق الأغلبية، أو، يمكن اعتبارها، (روشتة) للمخرجين المتحمسين.

 
الموسيقى:

أول محاسن الفيلم هي الموسيقى، مذ المقطوعة التي تُعزف في الـ(دعاية المحمسة) أول ظهورها ديسمبر ٢٠٠٩. ثم الساوندتراك بأكمله الذي يشترك في صناعته هانز زيمر وآخرون، هذه اللعبة مكررة، بدأها كريستوفر نولان في أفلام باتمان، في فيلم (دارك نايت) أكثر ما حرّك حماسي وعواطفي أثناء المشاهدة كانت الموسيقى.

براعة نولان كـ(مخرج) تهيّئه ليستغل الموسيقى إلى أقصى درجة، الألحان السيمفونية التي صاحبت المشاهد كانت مختارة بعناية لشدّ المتلقي إلى حالة من التفاعل مع المشاهد، سواء كانت معقدة، سريعة الخطى، شديدة العنف، ولأن المخرج ،اذا كانت لديه قصة معقدة ومعالجة سينمائية أكثر تعقيداً، فهو يخاطر بفقدان المُشاهد في منتصف الفيلم، وعليه أن يلعب على وتر الموسيقى، والفيلم لن يقدم أي شيء يعجب المتلقي العادي، القصة معقدة، الفيلم خال من نواحي التفاعل أو التورط العاطفي المعتادة، فهي ليست قصة رومانسية، ليست كوميديا، وليست دراما عائلية. والحكاية ليس بها شيء يمكن أن يتماهى معه المتلقي،  كيف يمكن لهذا الفيلم أن يصعد إلى قمة التقييمات؟  الموسيقى كانت أحد العوامل.


الشلة :

ثلاثة أمريكان، إثنان انجليز، ياباني، عربي، وفرنسية. هنالك تباين وتنوع في الشخصيات، الأمر الذي جعل لهؤلاء صحبة ظريفة ومستحبة بطول الفيلم، والحوار/المواقف بينهم لم تخل من الطرافة، أفلام (الفريق)، خاصة حين تكون آكشن، تضمن عنصراً لا بأس به من تعاطف الجمهور، من قبيل التنوع والثراء الدرامي والسيكولوجي الذي يتيحه عدد كبير من الأشخاص يعملون معاً كفريق، هنالك أفلام آكشن تعتمد بشكل كامل على فكرة الفريق وما تبعثه من إثارة في نفوس المشاهدين، لأن الفريق، ولأنه يحوى عدداً من الشخصيات المتنافرة، المختلفة، المتصارعة، ولأن غالباً سوف تنشأ علاقات وحوارات من التفاهم بين هؤلاء، تضمن نجاحها، مثال: الرجال إكس، إتحاد السادة الخارقين، الخ. حين يرى المشاهد تطور علاقات التفاهم في الفريق (وغالباً، في هذه الأفلام، هنالك أعضاء في الفريق يجب اقناعهم بالانضمام- أعضاء عنيدون- أعضاء عدائيون-الخ)، وفي ذروة الفيلم تكون هنالك لحظة من التفاهم الجماعي بين كل العناصر المتصارعة، غالباً، لأجل الهدف السامي داخل الفيلم. هذا الشحن النفسي يهيّء المتلقي لتقبل أحداث الفيلم وغالباً- يشعر المتلقي أنه عضو في الفريق. وهي برأيي- أفلام تتيح للمتلقي أن يكون عضواً في الأحداث.


الحوار:

الحوار كان متواضعاً، وليس به عبارات رنانة كما كان الأمر في فيلم نولان السابق (ذا دارك نايت)، لكن, مع هذا, الحوار لا يخلو من الذكاء والبراعة، إلا في بعض الأحيان حين يتدخل الحوار ليشرح (ما يحدث)، في أول مشهد بالفيلم نحن ندرك أنهم (في حلم داخل حلم) لأننا نرى أعضاء الفريق نائمين في مكان آخر. (قطار). لكن الحوار لا يبخل على المشاهد بهذا التنوير، على لسان أحد الشخصيات: إنه حلم داخل حلم، رغم أن هذه الجملة خطرت لي (من قصيدة مستر. بو)، قبل أن تقال، واذا خطرت لي، فهي سوف تخطر لآخرين وبنفس التأثيرات الشعرية، ومستر.نولان يحرص بشدة على مشاهده (ضيق الخُلق- سريع الملل) لذا فهو يقدم اجابات جاهزة طول الوقت لمن يبحث عنها، والفيلم عموماً هو فيلم (اجابات)، ولأني أرى الأفلام غالباً نوعين، أفلام (أسئلة)، وأفلام (اجابات)، فيلمنا هذا من النوعية الثانية. هنالك في الحوار جُمل اعتبرتها (هُراء) أو حشو، بلا أي فائدة أو ذكاء، مثل ذاك الذي يُكرره كوب من وراء مال، (أنت في قطار، سوف تركب القطار رغم عدم معرفتك بوجهته، لأنك...الخ)، الغرض الوحيد من هذا الوصف هو الذريعة لمشهد المقطورة التي تقتحم الحلم الأول من الأحلام الثلاثة، (يعني، بيان إلى أي مدى مال خطرة).

الشر :

الفيلم بأبعاده الفكرية يركز على مسألة العاطفة المحرّكة للأحلام، والأحلام في الفيلم هي أكوان مبهرة ومحكمة جداً، لكن صناع الفيلم لا ينسون الجانب التحليلي/السيكولوجي، ويؤكدون علي أن ما يحرك العقل الباطن هو العاطفة، والسلاح الذي يستخدمه الفريق البطل، لزرع الفكرة المرغوبة في ذهن (فيشر الابن)، والتي تستند إلى عاطفة الابن تجاه الأب، هي ذاتها ما يهدد نجاح المهمة لأن هنالك (عاطفة) مدمرة ومؤلمة تجوس وتلهو في العقل الباطن لـ كوب (ليوناردو دي-كابريو)، وهي شعوره بالذنب تجاه زوجته المتوفية. والفيلم رغم (هيلمانه) البصري واعتماده بشكل مكثف علي الحركة/الآكشن. هنالك جانب سيكولوجي أو درامي ليس سيئاً، بطل الفيلم تمتصه وترهقه عاطفة سلبية، وهي تقريباً سبب دماره، رغم أن الفيلم لم يركز على الأمر، وغالباً، لن يلاحظ أغلب المشاهدين هذا.
تظهر العاطفة الخطرة لـ(كوب) كتجسيد لزوجته المنتحرة (مال)، لعبت دورها الفرنسية (ماريون كوتّيار)، ويمكننا اعتبارها (شرير) الفيلم، رغم أنها ليست شريراً بالمعنى المتعارف، ورغم أنه ليس هناك شرير بالفيلم بالمعنى المتعارف، مرة ثانية الفيلم مبني بشكل كبير على صخرة زاوية هي (العاطفة)، وليس الأخلاق، أو الصراع. (كوب) يرغب في العودة إلى وطنه ليشاهد ولديه، ولأجل هذا هو سيفعل أي شيء، سوف يخاطر بحياته وحياة الفريق في مهمة غير محمودة العواقب. مسألة الأساس العاطفي للفيلم تتيح للشخصيات كافة التحولات (الديستويفسكية)، (سايتو)، الثري الياباني الذي دخل في صراع مع الأبطال في بداية الفيلم يصبح ضمن الفريق، (فيشر الابن) رغم أنه الموجه له العنف (الفكري)، بتطور الفيلم، نكتشف أن هذا العنف الفكري قد يكون في مصلحته، في الواقع. أما (مال)، فهي حبيبة (كوب)، وليس الذنب فقط ما يبقيها كـ(عفريتة) داخل عقل (كوب)،إنما رغبته في أن يكون معها للأبد رغم أنها ميتة.
أداء (ماريون كوتيلارد) كان في المدى المقبول، وإن لم نر موهبة درامية عاتية (لأن الفيلم لم يتح لها هذا)، إلا أنها جعلت من الشخصية (فام فاتال)، بطراز خاص.

 
الدروس المستفادة:

يلعب الفيلم دوراً (تعليمياً) لا بأس به، خاصة بتقديمه لمسألة (الفكرة هي أخطر الطفيليات على الاطلاق، فهي تتكاثر كسرطان، قد تحدد هوية الشخص أو تدمره). إلى جانب تحليله لطبيعة الأحلام- ذاك العالم الغامض، هنالك معلومات ظريفة عن العقل الباطن، مثل مسألة العاطفة، والمشاهد التي يمشي بها اثنان، (في عقل) أحدهما، والحلم يدور في شارع، ثم
فجأة ينظر جميع المارة، الغرباء، في الشارع، داخل الحلم، إليهما، ومبرر هذا أن الأمر وسيلة دفاعية من عقل المستضيف، ضد الحالم الدخيل. أو، مسألة تأثير انعدام الجاذبية، بسبب السقوط الحر (ولنقل، مجموعة الحالمين حين يكونون داخل سيارة تسقط من جسر)، سوف تنعدم الجاذبية داخل أحلام هؤلاء، ويطيرون في الفراغ. وهذه المعلومات التي يتيحها الفيلم، رغم أن معظمها قد يُعتبر نوعاً من الهراء أو العلم الظريف، تُشعر المشاهد أن الفيلم في مستوى أعلى، بينما هو في مستوى منخفض، قد يمد المشاهد رأسه أكثر ليتماهى مع الفيلم، لكن هنالك فئة من المشاهدين، من اعتاد على الحصول على اجابات بطرق أسهل، سوف يغادر في منتصف الفيلم


تنوير/ذروة

في الفيلم، لحظة التنوير هي لحظة ذروة الأحداث، وفيها، بعدما يصاب (سايتو) بعيار ناري، ويصبح مهدداً بالموت داخل الحلم، اذن مهدد بالغيبوبة الأبدية خارجه، ينتقل الجميع إلى مستوى ثالث من الأحلام، وهناك يصاب كذلك (فيشر الابن)، ثم يموت،  يضطر الفريق إلى الدخول في مستوى رابع هو العقل الباطن لـ(كوب)، هناك سوف يلتقي بـ(مال)، التي قتلت (فيشر الابن)، ويجد فيشر حيّاً لديها، ومن هناك تجري عملية انعاشه بالصدمة الكهربية، والفكرة معقدة وهاوية اذا لم تُرى بصرياً، لكن حين يلتقي كوب بمال، نكتشف أن سبب شعوره بالذنب ليس وهمياً، فهما، مذ سنوات عديدة، اختارا أن يعيشا معاً كحالمين مشتركين، وهكذا، سوف يتقدمان في السن ضامنين حياة سعيدة أبدية، لكن داخل حلم، كل تفاصيله، مبانيه وعوالمه من صنع خيالهما، لكن (كوب) لم يستطع أن يكمل حياته بهذه الطريقة، لذا، (زرع) فكرة داخل عقل (مال)، (ومن هنا أتته خبرة زراعة الأفكار)، أن هذا العالم الذي تعيشه ليس حقيقياً وعليها أن تستيقظ بقتل نفسها، المؤسف أن هذه الفكرة تظل معها حتى بعد الاستيقاظ، مما يؤدي بها إلى الاعتقاد بأن العالم الحقيقي كذلك مزيف، وأن عليها الاستيقاظ بالانتحار.
وبعد أن يصفي كوب حساباته مع مال، ويعيد (فيشر) إلى الحياة، ينتقل إلى مستوى خامس، حيث ينقذ (سايتو)، حين يصير إلى حلم، يظهر به كغريق على شاطيء اليابان، وهناك يأخذوه إلى (سايتو) الذي يظهر عجوزاً جداً، ويبدو أن كوب يمارس معه في هذه اللحظة عملية زرع أفكار ولكن بطريقة ايجابية، فهو انما (يذكره) داخل عقله الباطن أنه ليس عجوزاً إنما لا يزال شاباً، وأنه يجب أن يستيقظ حالاً، وألا يتسرب إلى حالة الليمبو. وهو ما يحدث فعلاً في نهاية الفيلم السعيدة 

  

 لمسة نولان، أو سبّ الجمهور 
ما أقصده بلمسة نولان، هو الشيء الذي لم أجده في أفلامه الأخرى، عدا (ميمينتو)، وهو : مواجهة المشاهد لنفسه، في نهاية الفيلم غالباً، في فيلم ميمينتو نكتشف في النهاية أن البطل قد اختار الحقيقة التي يريد أن يؤمن بها، وألقى وراءه كل ما عداها، لأنه لن يستطيع التعايش مع ما عداها، (وذلك، اعتماداً على حالته من فقدان الذاكرة)، وطوال الفيلم نحن نتعايش مع سؤال الحقيقة، وما الحقيقة، وما الذي يجب أن يصدقه البطل. 
في (إنسبشن)، الفكرة المزعجة التي أدت بـ(مال، زوجة كوب) إلى الانتحار، هي أنها لم تعد تفرق بين الواقع والحلم، فهي صارت تؤمن أن ما تعيشه (الواقع، الذي نعيشه)، هو الحلم، وأنها يجب أن تستيقظ منه بقتل نفسها. في نهاية الفيلم، وبعد نجاح المهمة، وعودة كوب إلى دياره وولديه، تتوقف الكاميرا طويلاً على (تميمته) (النحلة الدوارة)، هذا المشهد يجعل المشاهدين في قاعة السينما يقولون : أوووووووه. لأنهم ظنوا أن - هكذا- كل ما مر كان حلماً. لكني لا أعتقد هذا، فهذه الفكرة حمقاء تماماً ومبالغ فيها. إنما المشاهد المعتاد على (قلبات) الأفلام الأمريكية يرغب في هذا لأنه يظن أنه (يا سلام- يا حلاوة) هذه هي قمة الروعة، أن نكتشف أننا انضحك علينا. في الحقيقة أنا لو اكتشفت أن فيلماً ما (يستهبل) معي إلى هذه الدرجة، ثم يكشف لي في النهاية أن كل ما فات كان حلماً، فسوف يسقط من نظري. لقد مشيت مع احتمال أن الفيلم بالفعل انتهى نهاية سعيدة بالنسبة لـ كوب، ونهاية غير سعيدة بالنسبة للمشاهدين، فقد تسرّبت لهم عدوى (مال)، ولم يعودوا يفرقون بين الواقع والحلم.

Saturday, July 17, 2010

الشرق الأقسى

في حين اهتم الجميع باليابان كبلد نظيف، متطور ومنظم، اهتممت أنا بنواحيه الأخرى، أعني، القبح والخرافة والفوضى، يملك اليابانيون ارثاً فلكلورياً من الرعب يكاد لا يماثله ارث آخر، قصص العفاريت الافريقية مثلاً، دموية في غالبها أو مادية، بربرية، قصص مصاصي الدماء والرجال الذئاب الأوروبية، أو حكايات الفلكلور الاسكندنافي الساذجة. كل تلك لم تستطع أن تقدم بديلاً يغلب الانتاج الياباني - أو حتى ينافسه سوقياً.

فترة الألفينات السينمائية -ما بعد ٢٠٠٠- هي فترة صعود السينما الآسيوية، مذ ظهور النسخة الأمريكية من  فيلم الرعب الياباني (الحلقة)، الفيلم الياباني أصلاً انتاج ١٩٩٨، والأمريكي ٢٠٠٢، فترة الألفينات فقط شهدت عملية أمركة مسعورة لأفلام رعب يابانية، نذكر منها، المياه السوداء، مكالمة واحدة فائتة، وطبعاً، الحقد، وحتى هنالك نوعية تعتبر غير فلكلورية نوعاً، فيلم تنبّؤ، الذي مثلته ساندرا بولوك. ولأني لا أملك أية خبرة في مجال ألعاب الفيديو اليابانية، لكني أعرف منها لعبة (التلّ الصامت) التي تحولت إلى فيلم رعب بنفس الاسم، رغم أن اللعبة أصلاً تدور في بيئة أمريكية، لكن مؤلفها ياباني. (وتبدو لي كنوعية رعب ياباني-مابعد القنبلة الذرية).
في حين تفوق اليابانيون بالرعب لدرجة ظهور تصنيف سينمائي في أمريكا اسمه (جي-رعب)، آكا: رعب ياباني. أرى أن الكوريين تفوقوا في تقديم النيو-نوار، الذي اضمحل تقريباً ولم يعد كما كان في فترة التسعينيات التي شهدت أربعة تحف خالدة من كلاسيكيات النيو-نوار : صمت الحملان - سبعة - ميمينتو - نادي الفتال.
يأتي المخرج الكوري الشهير، بارك-تشان-ووك، ويقدم عدداً من أفلام العنف قد يجدها البعض شديدة الدموية : أولد-بوي، و(التعاطف مع السيد-انتقام)، (التعاطف مع الآنسة-انتقام)، وغيرها، وكلها تُصنّف (آر) عن استحقاق..
ثم تحفة النيو-نوار الآسيوية : ذكريات جريمة. والتي في رأيي قد تنافس الانتاج الأمريكي التسعيني.

على ما يبدو، كي نعود إلى موضوعنا الرئيسي- اليابانيون يملكون رؤية (ارعاب) فريدة من نوعها، قصص الرعب اليابانية - رغم أنها- مثل كل قصص الرعب، غالباً تعبر عن العقل الباطن للفكر الجمعي الياباني، وأنها تنفيس لقلق هذا المجتمع، رغباته السرية أو خطاياه. إلا أن معالجة هذه القصص كي تناسب مسرح (الكابوكي)، جعلها ثرية درامياً، ومنقحة تقريباً من السذاجة الطفولية، أو الهستريا الشعبية، التي ميزت قصص الرعب الفلكلورية عند أمم أخرى.
الكابوكي مسرح ياباني (غنائي-راقص)، يعالج غالباً قصصاً مستوحاه من التراث الياباني، أو قصصاً مكتوبة خصيصاً للعرض، المصادر الموسوعية تذكر أن رواية وتأليف حكايات الرعب انتعشت بالذات في فترة (ميجي- منذ ١٨٦٨)، في هذه الفترة تم حظر نشاط طبقة الساموراي، كما أن اليابان صارت منفتحة أكثر على العالم - الغرب، ويبدو أن صانعي الكابوكي أرادوا جذب الطبقات المستنيرة، أو المرفهة، تم ادخال بعض حكايات الرعب اليابانية إلى مسرح كابوكي لتأديتها.

هنالك شيء ألاحظه في قصص الرعب اليابانية، لو بدأنا ملاحظاتنا من الأفلام، كل الأفلام تقريباً تدور حول، بطلة، في مواجهة عفريتة. في اليابان، هنالك (مخلوقات خارقة)، مذكورة في الموسوعات، بحسب أسمائها، وجدت عدداً كبيراً منها، مخلوقات نسائية بالأساس، ولا ينافس الأمر في فرادته، سوى النماذج الفريدة من مخلوقات هي عبارة عن عفاريت أطفال.

الآن، الجميع يعلم -ويتحدث- عن ذكورية التراث الياباني، (اليابان، بصلفها الامبراطوري، عقدة الشرف لدى جماعات الساموراي، وأديرة الرهبان البوذيين العدائيين). وذكورية اليابان كبلد حديث - مثله مثل ألمانيا- نعم، مفاجيء صح؟.
ويبدو لي- كفكرة طريفة- أن قصص الرعب الياباني هي تحوير لعقدة ذنب طريفة تؤرّق اليابان، بسبب العنف الموجه لليابانيات، وكذلك، بالتبعية، العنف الموجه لأطفالهن.
لكن، هنالك تفسير آخر، مسرح الكابوكي في أول ظهوره بالقرن السابع عشر تقريباً، ولأنه (راقص- غنائي)، كان كل الممثلين من الإناث. الأمر تمت معالجته في أزمنة تالية، تقريباً، حين أصبح الكابوكي واسع الشعبية وبدأت تحضره شخصيات محترمة من المجتمع، وُجد أن الأداء أصبح (جريئاً- قليلاً)، فتم جعل كافة الممثلين من الذكور.

لا أدري، هل الشخصية النسائية، المؤدية النسائية، هي الأكثر مناسبة لأداء- تمثيل- القصص، الأغنيات، الرقصات، التي غالباً قد تعتبر غير لائقة في نظر المجتمع، وبالتالي فإن الشخصية النسائية تناسب كذلك تأدية القصص المرعبة التي تعتبر طفولية - ساذجة - غير مقبولة بالنسبة للمجتمع.
هنالك شيء يميز بشدة قصص الرعب الياباني، وهي أن الرعب سيكولوجي، أغلب قصص الرعب تدور حول بشر تحوّلوا إلى عفاريت بسبب عواطفهم القوية، العواطف القوية تتنوع بين، الحزن الشديد، الغيرة، الانتقام، وحتى الحب، مسألة العاطفة هذه هي ما كنت أتحدث عنه حين ذكرت النضج الدرامي للانتاج الياباني من الرعب، لا أعرف، في قصص أخرى قد يمثل الوحش مثلاً شخصية جاذبة أو لعوب - مثل مصاص الدماء دراكيولا- وقد يتم تحويله إلى وحش رومانسي بعد حين. لكني لا أجد هذا النموذج الخلاق من الحزن المر، الرعب المر، والذي يجعل الأمر أكثر ترويعاً، وأكثر كآبة واثارة للانقباض.
مذ زمن حين شاهدت فيلم (التعاطف مع آنسة-انتقام)، هنالك جملة تتكرر في الفيلم : لا تبكي، البكاء يجلب الحظ السيء. بالنسبة لخلفيتي الثقافية - التي هي خليط من الشعرية العربية وجماليات الغرب، لم أفهم وجهة النظر الآسيوية هذه. إلا أني الآن بعد متابعة متأنية لقصص الرعب الياباني عرفت لماذا يخاف اليابانيون/الشرق الأقصى، من العواطف، فهي قد تكون مؤذية للغير.
هنالك عدد من القصص الفلكلورية منها ما تمت معالجته (كابوكياً)، ومنها ما لا أعرف اذا تمت معالجته مسرحياً أم لا. لكني بحثت عن قصص درامية شخصيتها الرئيسية رجل، ووجدت واحدة هي : آجاري جوان، (القصة طويلة ومليئة بالتفاصيل، نختصرها بشكل مُخلّ كالآتي) راهب بوذي، ياباني، من جبل (هاكّوتسو-سان : جبل الهيكل العظمي، أو العظام البيضاء)، يقع في حب فتاة، وهذا غير مسموح له، لذا، يتحول إلى (أوكوما: الكلمة اليابانية لعفريت أو شيطان)، ويدمر معبده، غالباً من الغلّ. وحين يتقدم في السن، يصلي من أجل الغفران، فيتحول إلى هيكل عظمي، وفي نسخة أخري من الحكاية، إنما هو يظل يصلي حتى يموت، وبعد أن يموت، وبعد أن يصير هيكلاً عظمياً، وللأبد يظل : الهيكل العظمي الذي يتمتم بالصلوات.
الآن، أقول لمؤلف هذه الحكاية: العب غيرها.

 
والحقيقة أن اليابانيين لعبوا غيرها، القصص التي أعجبتني فعلاً هي التالية، منها: قصة امرأة تتحول إلى أفعى-عفاريتية، بسبب الغلّ والحب المعذب من طرف واحد، والمرأة اسمها كيو، ابنة لعائلة ثرية (شواجي)، يطل منزلهم على نهر هيداكا، وهذه العائلة كانت تقدم المأوى للعابرين من الرهبان البوذيين. وفي يوم يأتي للبيت راهب بوذي وسيم اسمه آنجين، وتقوم علاقة رومانسية بين كيو وآنجين، لكن آنجين (يفيق)، ويغادر، على ضفة النهر يسأل ركوبة، ويقول لصاحب القارب ألا يسمح لكيو بعبور النهر (التي تبعته طبعاً). الآن. حين تسمعه كيو يقول هذا تجن، وتقفز وراءه في النهر. تقول الأسطورة : بسبب الغضب، الغلّ، آلام الحب، والشعور بقلة الحيلة، كل هذه المشاعر تحوّل كيو إلى أفعى عملاقة. تسبح بسرعة عاتية. وحين رأى المسكين آنجين هذا المنظر، ركض ليحتمي بمعبد دوجوجي، وهناك الرهبان خبأوه تحت جرس المعبد، يبدو أن المسكينة كيو شمّت رائحته، فالتفت بجسدها الأفعواني حول الجرس وهزته وضربته، ثم نفثت ناراً عظيمة، أذابت الجرس، وقتلت الراهب.

 

هنالك قصة الأشباح الشهيرة (يوتسويا)، أو قصة : أويوا وتاميا، العاطفة المحركة في هذه الحكاية هي الانتقام، أويوا (الجميلة جداً) كانت زوجة تاميا الساموراي، ويبدو أنها كانت ضحية مكيدة، امرأة رغبت في زوجها فبعثت لها (مستحضر تجميل)، في الحقيقة خدعة لتشويه وجهها، (بما أن الأخرى لن تنافس جمالها)، حين يتشوه وجه أويوا، يعلن زوجها عن رغبته في تركها، أويوا من الغضب تندفع إلى باب البيت ومعها السيف لكنها تسقط وتقتل نفسها بالخطأ، وحين يتزوج تاميا الساموراي من الأخرى، يبدو أن أويوا تتحول إلى عفريت نشط لتؤرق عيشة الاثنين. المسرحية طويلة ومرت بعدد من المعالجات، وهي مكونة من ٥ مشاهد مسرحية لأنها تم عرضها كابوكياً في ١٨٢٥.

 


هنالك مخلوق نسائي آخر هو (روكو-رو-كوبي)، عفاريت، لها القدرة الخارقة، غير المحدودة على استطالة رقابها، هي كائنات تتمتع بالشكل البشري في النهار، وتفعل فعلتها في الليل، تتراوح الأسطورة بين، أن هذه المخلوقات تطيل رقبتها في الليل، لارعاب الناس فقط أو التلصص عليهم، وأحياناً تقول الأسطورة أن هؤلاء يمتصون الدم.
 





  يوكي أونا، أو، إمرأة الثلج، هي شبح فتاة يظهر في الليالي الثلجية، غالباً، يقال أنه شبح لفتاة ماتت في البرد، الثلج. يقال أنها تقف في الثلج ببشرة شديدة الشحوب، ملابس بيضاء وطلاء شفاة أحمر. وتسأل العابرين أن يحملوا عنها (الطفل)، يبدو أنه طفل وهمي، وهي تقتلهم بهذه الطريقة، في نماذج أخرى من الأسطورة تظهر يوكي- أونا أكثر عنفاً، فهي تقتحم البيوت باعثة لموجة برد شديدة القوة، وتقتل الناس.


 




أطرف الحكايات (من ناحية الدلالة والرمز)، هي تلك التي تحكي عن مخلوقـ/ـة هي (فوتاكوتشي-أونا) أو، المرأة ذات الفمّين.  هذه المرأة تملك فماً عادياً في مقدمة وجهها، وفماً آخراً في مؤخرة رأسها، كامل تقريباً بأسنان ولسان وشفتين. والأمر راجع إلى عادة اليابانيات في الأكل القليل (ومن أسبابها غالباً أن رجال البيت يأكلون أولاً)، أو ربما (الآنوركسيا، بمقاييس حديثة؟)، والفم الزائد الذي يعبر عن الجوع المؤلم لهذه السيدة، أولاً يطالب بطعام، واذا لم تمنحه الطعام، فهو يبدأ بالـ(برطمة)، وازعاج السيدة الطيبة، ثم ينفرج ويسبب لها آلاماً رهيبة.




 


الحكاية الأكثر ارعاباً، لعدد من الأسباب، منها المعالجات الكثيرة التي طالتها، والتي كان بعضها في أزمنة حديثة نسبياً (السبعينيات)، ثم لأنها تعرض بشكل صريح ومباشر لقضية العنف. هي حكاية (كوتشيساكي-أونا)، المرأة مشقوقة الفم. تخبر بقصة امرأة، عشيقة أو زوجة لساموراي، يعلم الأخير بخيانتها له، (ويبدو أنه ضعيف الثقة بنفسه، لأنها جميلة جداً)، يشق فمها من الأذن للأذن، ويقول: من سيجدك جميلة الآن؟. بعد الحادث بزمن تنتشر اشاعات عن تجول شبح امرأة في الطرقات، تضع قناعاً واقياً على وجهها، ثم تروّع من تجده وتقتله، فهي تسأل : هل تجدني جميلة؟ وحين يجيب المسكين :نعم، تخلع قناعها وتقول: والآن؟. اذا قال لا، تقتله. واذا قال نعم، تطارده لبيته وتقتله هناك. يبدو أنه، لا خلاص من هذه المخلوقة. هذه الحكاية بالذات سببت هستريا شعبية وادعاءات بظهور هذه الشبح في الطرقات، ليلاً، وايذاءه للأطفال. 


الفلكلور الياباني مليء بقصص أخرى تتراوح وتزيد في مقدار الرعب، وهنالك اشارات كثيرة مثل: شبح سيدة عجوز أخُذ منها بيتها وحقلها، شبح سيدة عجوز يظهر ظله على الأبواب، شبح سيدة عجوز يسكن الأقبية.
أو، ذاك الشبح الشاعري: لطفل يلعق زيت المصابيح.




البارحة أمضيت وقتاً ليلياً مرعباً في القراءة السريعة لموسوعة عن الرعب الآسيوي، وأتتني أحلام لا بأس بها عن امرأة الثلج. لكن كل هذا لا يشفع جهلي أو عزوفي عن القراءة المستفيضة في الموضوع، ذو الدلالات الاجتماعية القوية.

Monday, July 5, 2010

المخلوقة الجميلة في الرداء الأبيض




شاهدت فيلم (آميلي) لأول مرة عام ٢٠٠٨، وبعدها عشتُ اعجاباً نقياً وحالماً بشخصية آميلي، وحسبتُ أني صرتُ أحب الشخصيات الطيبة في الأعمال الفنية، أفلام، مسلسلات، روايات. الخ
 

لست من محبّي الفيلم الأوفياء، السينما الفرنسية لا تقدّم لي شيئاً يرضيني، فهي تفتقر إلى اللمسة السوداوية (نيو نوار) التي تميز السينما الأمريكية في التسعينيات، ثم السينما الكورية، مثلاً.

عام ٢٠٠٨ شهد منحدراً في ذوقي، أولاً صار (غوليالمو دي باسكرفيل) الراهب التقي، العقلاني والعادل والخيّر بشكل مطلق، من رواية اسم الوردة، شخصيتي المفضلة في الأدب، ثم بدأت أنتبه إلى وجود (جاك شيبارد) المستحبّ في مسلسل  (لوست)، ثم انتبهت إلى شخصية الراهب (آليكس) في فيلم (آكل الخطايا). ثم عدت إلى الأصل، شخصية (كلاريس ستارلينغ) في فيلم صمت الحملان.


هذه التأملات جعلتني أفهم بالضبط ما الذي (بدأتُ) في البحث عنه في الإنسان عموماً، ولم أك أبحث عنه في السابق، في السابق تركت نفسي لُأعجب بالشخصيات الشريرة، (ليستات) من (لقاء مع مصاص الدماء) (الفيلم وليس الرواية)، ثم سكار من الأسد الملك، ثم وثم. الخ.

الحقيقة أن كل ما يميز الشخصيات هذه، غوليالم دي باسكرفيل، شيبارد، كلاريس، هو البراءة، قد كانت تعجبني البراءة وليست الطيبة، واحدة من الفوائد التي عادت عليّ من متابعة ثرثرة فانز كلود فروللو ورواية أحدب نوتردام على الويب، هو ملاحظاتهم العاطفية النيّرة التي لن أنتبه لها أبداً بنفسي، مثل: أن ازميرالدا ضحلة جداً، فشخصيتها لم تمر بأي نوع من التطور أو (التحول)، مثل شخصية كلود فروللو. الأمر ذاته يسري على (فيبَسْ) مثلاً، لكنه مختلف حتماً مع ازميرالدا، هنالك شيء : الشخصيات التي تمر بتنوير، يتلازم مع تنوير القاريء، أمثال: ديمتري كارامازوف، كلود فروللو، أو (شخصية الطفلة سكاوت فينتش من رواية أن تقتل عصفوراً محاكياً).
هي الشخصية التي - شخصياً- سوف أتعاطف معها وربما أتقمصها، البراءة التي تسري على شخصية ازميرالدا والممثَّلة في : عدم تأثرها، هي ليست (معرضة) لأي من حوادث الرواية بالكامل، الحوادث تدور حولها، ربما تؤثر بها عاطفياً، تتعسها، لكنها لا تشارك في أي منها، وفي الوقت ذاته لا تبذل جهداً لتغيير مجرى الأحداث، هي : لا تقتل فروللو مثلاً.

توصلت مؤخراً لأن شخصية (غوليالم دي باسكرفيل) ليست مبنية باحتراف، وأن امبرتو ايكو يفتقر للموهبة الدرامية، لكن مجدداً غوليالم هكذا يمثل البراءة، هو بريء وليس طيباً بالضرورة، الأحداث السيئة في الدير لم تدفعه للجنون، لم تجعله يتورط عاطفياً (آدزو يتورط عاطفياً، بينما يبقى غوليالم كالصخرة)، لم يغير غوليالم منهجه الفكري، ويشدد على (استخدام مبدأ شفرة أوكامي في التحليل المنطقي)، ليس خائفاً من برناردو غوي، لا يصدر أحكام شريرة، أو مضلَّلَة، حين يتحدث آدزو بسوء عن (الفتاة التي أحرقوها لعدد من التهم )، يشدد غوليالم عليه: إنها فتاة فقيرة، فتاة فقيرة وحسب
.


مثال آخر هو شخصية (كلاريس ستارلينغ)، وهي انعكاس مباشر لشخصية (آليس، من آليس في بلاد العجائب)، هي تجسد البراءة في أقوى أطوارها، في فيلم صمت الحملان، يعلق رئيس الشرطة قائلاً: كوني حذرة، أنت لا تريدين د.ليكتر داخل رأسك.
العبارة تنوه إلى كون د.ليكتر (مُشوِّه) للآخرين, هو لديه القدرة على (امتصاص) البراءة، مثلما يفعل مصاص الدماء مع كلوديا (لقاء مع مصاص الدماء)، يمتص البراءة أولاً من ضحاياه، ربما مثال على هذا شخصية (مايسون فيرغر) من جزء (هانيبال ٢٠٠١)، ونجد في حالته هذه أنه تشوه بالفعل وبسبب د.ليكتر، لماذا لا يحدث الأمر مع كلاريس ؟ لقد دخلت كلاريس إلى عرين الغول، وتكلمت معه، بل أنه لعب معها لعبة عقلية/نفسية، وخرجت منها، بل نظن أنها هي من غيّر د.ليكتر، بعد أن سمع حكايتها مع (الحملان)، وكيف أنقذت أحدهم، يربط بين انقاذها للحمل وبين هوسها بإنقاذ ضحايا القاتل المتسلسل، تظهر دموع طفيفة لا تكاد تُرى في عين د.ليكتر، ربما كان يفكر، هل هي حمل أم راعي ؟


كلاريس مزيج من الحمل والراعي، دور البريء ودور الحامي في الوقت ذاته، هذا يجعلها منيعة إلى أقصى درجة وقادرة على شد د.ليكتر إلى عالمها.
أربط بين كلاريس وآليس، كلاهما شجاع وبريء جداً، ولا يتأثر بـ(العالم المجنون) الذي يحيط به، فكما تمر كلاريس بكل المصاعب في فيلم (صمت الحملان)، تظل بريئة، كأنما هي كانت في حلم أو عالم وهمي (مثل آليس في بلاد العجائب)، لأن الحقيقة الوحيدة بالنسبة لها، والثابتة تماماً، هي براءتها.

هنالك خيط آخر سوف يخرج هذه المرة من آليس (طفلة التاسعة) إلى (بياتريس بورتيناري) طفلة التاسعة كذلك، حين يراها دانتي لأول مرة ويحوّلها إلى قديسة و(مفتاح الخلاص والتطهير) في عمله الدرامي الأشهر (الكوميديا).
مراحل الكوميديا الثلاث: الجحيم - المطهر - الفردوس، تعتبر مانيفيست لتحولات الشخصيات الروائية (غير البريئة)، في حين قد يمر د.ليكتر بالجحيم، المطهر، والخلاص، وكذلك كلود فروللو، و(وحوش أخرى)، لن يمر بهذا (غوليالم دي باسكرفيل مثلاً). والأهم، أنه في الكوميديا رغم أن بياتريس شخصية رئيسية فهي (تحلّق) فوق العمل الدرامي، هي موجودة على الدوام في فكر وذكر دانتي، لكنها ليست في الجحيم وليست في المطهر وتظهر أخيراً في الفردوس، لكن، رغم هذا، بشكل غير ملموس كذلك.

ربما لهذا هنالك ذكر لدانتي وكوميدياه وبياتريس في شكل أوبرا في (هانيبال). ربما كاسقاط على العلاقة بين د.ليكتر وكلاريس.
لا أدري، هل شخصية (بياتريكس كيدو) من فيلميّ (اقتل بيل)، تتقاطع مع بياتريس دانتي في مسألة (البراءة) القصوى، بياتريكس كيدو مختلفة عن كل هؤلاء، عن بياتريس وعن كلاريس، فهي (المنتقم)، هنالك تركيبة سيكولوجية معينة يجب أن يتمتع بها المنتقم كي يظل منتقماً طوال العمل الدرامي، هي بالطبع، عدم التأثر تماماً، بياتريكس لم تهتز عاطفياً طوال الجزئين، وحين وصلت أخيراً إلى بيل، الشرير الرئيسي، وتبيّن لها أنه ليس بهذا الشر، بل أنه من أنقذ ابنتها من الموت وربّاها، ويعرض عليها الصلح، بياتريكس لم تتخل عن قرارها القوي والجذري الذي بدأ مع دراما تارانتينو (بياتريكس سوف تقتل بيل)، إنها منيعة تماماً عن أي عاطفة، حتى إنها منيعة عن التسامح ، في المشهد الأخير حين تقتل بيل، يسألها بضعّة : لماذا لم تخبريني ؟
ترد: ربما لأني شخص سيء جداً، يعترض بيل: لستِ شخصاً سيئاً، أنتِ شخصي المفضل. ونلاحظ أنه يقول هذا، بعد أن قتلته، يقولها وهو يحتضر بسببها.




هنالك شخصيات (واصلة) بين هذا وهذا، أعتبر الواصلة من البراءة للشر هي شخصية الراهب (آليكس) في فيلم آكل الخطايا، فهو ممثل للبراءة كذلك، ملتزم بأداء الليتورجيا باللاتينية، يقوم بعملية طرد أرواح شريرة لفتاة ما (ولا يتأثر بالأمر)، يظل آليكس (منيع علي التأثر) حتى يحب الفتاة التي ساعدها والتي يقتلها (آكل الخطايا)، فيحترق آليكس من الحزن. ويقبل أن يصير آكل الخطايا الجديد
.

الشخصية التي تصل من البراءة إلى القوة/الخير، هي شخصية (سكاوت فينتش)، الطفلة الراوية/البطلة في رواية أن تقتل عصفوراً محاكياً، إنها تقوم بدور مثالي كشاهد على الأحداث المختلفة، السيئة والطيبة، دون أن تتأثر، لأنها طفلة، في حين يتأثر مثلاً أخوها الأكبر (جيم فينتش)، تظل سكاوت حتى تصل إلى (تنويرها) الشخصي في نهاية الرواية، حين تلتقي بـ(بو رادلي) الشاب الوحيد، المنعزل والمنبوذ والذي يظن به الأطفال أنه مسخ أو شرير، سكاوت تلتقي به وتخاطبه، وتعامله بلطف (ربما أول طفل على الاطلاق يعامله بلطف وبلا ريبة)، وتُظهر له أنهما يمكنهما أن يكونا أصدقاء، لأنها اكتشفت أنه مجرد شاب خجول وخائف، تصحبه يداً بيد إلى بيته (الذي كان كذلك مصدراً للرعب القوطي في الرواية)، في هذا المشهد تكون سكاوت قد نضجت درامياً، لقد غادرت دور البراءة، إلى دور الطيبة المطلقة، أو، من الحمل البريء إلى الراعي العادل.




Saturday, July 3, 2010

العلم الجذل


د.ايفا يوستن، طبيبة ومساعدة لد. روبرت ريتر، تقيس رأس امرأة غجرية. ألمانيا ١٩٣٨. وذلك لأجل مشروع (أرشيف الغجر) الذي تولى مسؤوليته د.ريتر.
د.ريتر طبيب ألماني مختص أساساً بعلم نفس الأطفال، وبدأ اهتمامه بـ(مشكلة الغجر في ألمانيا النازية)، تزامناً مع نظريته عن الميل الاجرامي، وجينات الجريمة التي تتوارث في الأفراد، أي أن السلوك الاجرامي يُوّرث، ولا يُكتسب بيئياً، بحسب نظرية ريتر.
هذه الدراسات قدمت حجة دامغة لمؤسسة (منع الجريمة/كريبو) في ألمانيا النازية لمطاردة الفئات الاجتماعية المنحرفة (الغجر والنيغرو)، على أساس عِرْقي، بوصفهم عِرْق فاسد - بناءاً على الأدلة العلمية، (الكريبو) عموماً كانت موجودة مذ القرن التاسع عشر، مؤسسة بوليس لمنع الجريمة وحماية المجتمع في كلا من ألمانيا والنمسا، وعند طلوع الحزب النازي تم ضمّها للجشتابو.