Monday, June 28, 2010

لوثة سرّانية





دوش وقت سحر از غصه نجاتم دادند 
واندر ان ظلمت شب اب حياتم داند

البيت الفارسي  للشاعر حافظ شيرازي، ترجمته العربية 

البارحة جئتم وقت السحر وأزلتم الغصة من قلبي 
وفي ظلمة الليل، شربت منكم إكسير الحياة


الحقيقة، بمجرد النظر إلى النسخة العربية أجد الكثير من الإيحاءات "السرّانية"، وبالمناسبة كان شيرازي شاعراً صوفياً، قد يكون سبب اختياره لـ(وقت السحر)، ما يعنيه وقت السحر بالنسبة للثقافة العربية والشرقية عموماً، وقد يكون سبب الاختيار أنه الأقرب إلى الفجر والأشد ظلمة كذلك من الليل.


الفجر - لو تحرّينا اللوثة السرّانية التي سوف نفسر بها البيت- مرحلة (تحول) من الليل إلى النهار، من الظلمات إلى النور، من الرصاص إلى الذهب، الخ، عموماً رمز الذهب في الخيمياء القديمة هو رمز الشمس في التنجيم. ولا أستطيع أن أتجاهل الخلفية التراثية للشاعر الفارسي الذي أتى من أرض زرداشتية كانت شائعة بها العقائد الثنوية (الهرطوقية).


عموماً، الشاعر في وقت السحر، الوقت الأشد ظلمة والأكثر قرباً كذلك إلى (التنوير)، المجد أو الخلاص، هذا يفسر لماذا يعاني من الغصة، الذي يعجبني أنه اختار للتعبير عن حالته اليائسة لفظاً يشير أصلاً إلى "طعم"، والأمر يعجبني بشكل شخصي بسبب رؤيتي لمسألة (الطعم)، أيّ طعم هو انعكاس بالضرورة للخبرة البشرية، كما قلت في موضع سابق، (الحكمة). التمييز، التذوق. (وللأمر ايحاءات أخرى لن تخفى على القاريء).


الغصة في القلب هي مرارة الخبرة البشرية القصوى، الألم، لذا يُقال أن رمز المعبود البابلي الوثني (نبو)، (المعرفة)، هو يعسوب، ربما للأمر علاقة بـ(لسعة) المعرفة.


سوف أتجاهل مؤقتاً لفظ (إكسير الحياة) في الشطر الثاني لأن الأمر بات مملاً.
ما يهمني هو الترجمة الإنجليزية التي وجدتها هنا

At the break of dawn from sorrows I was saved

In the dark night of the Soul, drank the elixir I craved.

لا أدري إذا كانت (تلفيقة/تلزيقة) من المترجم الانجليزي، أم أنه بالفعل، المعنى الفارسي الحرفي - للفظة ما، في الشطر الثاني- هو : الليلة الظلماء للروح، سوف أفترض أنها تلفيقة بالفعل لأني-أظن- أن المقابل لعبارة (الليلة الظلماء للروح) هو (ان ظلمت)؟
أرى أن البيت الفارسي عصيّ الفهم على الفرس أنفسهم، لكننا أمام ظاهرة طريفة، المترجم تقريباً (لفّق) مصطلح يكاد يعتبر (صوفياً) -من بيئة غربية- في بيت بمعان سرّانية (غير أكيدة) لشاعر متصوف شرقي.


الليلة الظلماء للروح، ظهرت كمصطلح لأول مرة بالأسبانية في قصيدة للمتصوف المسيحي الأسباني (خوان دو لاكروز)، والذي طُوّب قديساً، المصطلح يعني مرحلة من مراحل الحياة الروحية للمرء، يقع فيها فريسة للعزلة واليأس والنبذ، الجدير بالذكر أن ويكي الإنجليزية تُقصر المصطلح على التصوف المسيحي، وأنها حين تُدرج أمثلة من الشرق لا نجد بينها حافظ شيرازي.
كنت أقرأ ورقة بحثية*، وبها المؤلف -بحماسة- يثبت العلائق بين الكتابات التصوفية الأسبانية والعربية، ويخلص إلى تأثر الأسبان بالعرب.
ومثلاً، يُرفق الاقتباس التالي لابن عربي
"وذلك أن السراب يحسبه الظمآن ماء، وذلك لظمئه لولا ذلك ما حسبه ماء، لأن الماء موضع خاصته، فيلجأ إليه لكونه مطلوبه ومحبوبه، لما فيه من سر الحياة فإذا جاءه لم يجد شيئاً...... "
ثم يأخذ رمزية الماء ويربط بينها وبين أشعار لخوان دولا كروز يرفق بها رمز الماء، أذكر: "آه أيها النبع الكريستالي".
أتخيل الآن، إلى أي درجة سيهلل الباحث اذا وقع على هذا الاكتشاف: مفهوم (الليلة الظلماء للروح) الذي يعتبر أصيلاً وحكراً على التصوف المسيحي أصلاً مقتبس من شاعر فارسي- بالطبع، أساس كلامنا أن شيرازي عاش قبل خوان بزمن طويل.


الحقيقة أني لا أجد لأي هذا معنى، ولو حدث، ولو كان فعلاً هنالك تأثر، أشك كثيراً أن خوان دو لا كروز بالذات متأثر بالعرب، كما أن التصوف (الغربي عموماً) له جذور ضاربة في العمق، أبحاث مشابهة تشعرني أن أوروبا عرفت التصوف لتوها حين اختلطت بعرب الأندلس، كما أن هذا الوقت - على حافة النهضة - كان حفلاً صاخباً لشتى الميول السرّانية (من الغرب والشرق) وقد شارك اليهود في هذا الحفل  بكتاباتهم القبالية. 
الاحالات السرّانية في الفكر الغربي القديم موجودة مذ ديانة الأسرار (الأورفية)، مروراً بتعاليم فيثاغورث وجماعته الغامضة، ثم كل الفلاسفة الذين أخذوا العادة الصوفية/السرانية من أول إبيدوكليس وحتى أفلاطون (نذكر هنا الموقف الظريف، حين اقترب أفلاطون من سقراط المحتضر، والأخير يهمس في أذن الأول بالحكمة بدلاً من قولها علانية)، بعض الممارسات السرانية الشعبية كانت موجودة في الدولة الرومانية (جماعات ديونيسوس)، والتي تم حظرها -على ما أذكر- بسبب الممارسات المتطرفة/أعمال الجلد للمبتدئين..
حتى في علوم القرون الوسطى، يميل علماء العرب إلى الجانب الامبريقي والتحليل الطبيعي الجامد (الأرسطي)، في حين ينحرف علماء الغرب غالباً إلى الخيمياء، لكن هذا غير أكيد، نحن نتكلم عموماً بجهل (الانطباعيين).


 صارت لدي فكرة عامة أن كل الأشياء بدأت واختفت في كل الأماكن، والمسألة هي: في أي أماكن سوف تبقى لمدد أطول من أماكن أخرى، وهواة (التلزيق والتلفيق) سوف يخرجون بادعاءات ليس لها لزوم، مثل أن دانتي تأثر في كوميدياه برسائل الغفران للمعري، وأن جماعة الروزوكروزيون هي شكل غربي لجماعة اخوان الصفا، الخ
لا أجد مانعاً من أن يفعل الجميع الشيء ذاته وألا ينطوي هذا بالضرورة على تأثير متبادل، أخال أن فترة العصور الوسطى كانت (عجائبية) في تأثيراتها، وأن أي نشاط خرج فيها له علاقة (بالزمان)، وليس المكان.فقد كانت كلها أفكار/علوم/نكهات قروسطية، لا شرقية ولا غربية


---

*(بعض آثار التصوف الاسلامي في تصوف أسبانيا القرن السادس عشر -سليمان العطار)

Tuesday, June 22, 2010

ثرثرة فوق النيل


الـ(با)، الروح في المعتقد المصري القديم

ظل المصري القديم ينتظر الحصاد مذ ٣٠٠٠ ق.م وحتى الآن. نشاط الزراعة الذي تعوّد عليه كانت له آثاره السيكولوجية، أولاً ربّى لديه التمييز بين الأرض الخصبة والأرض اليباب، وقد عرفت حضارات أخرى قائمة على الزراعة هذا، لكن يبدو أن تأثير الأرض ومكانها ونوعها كان أقوى في الفكر الميثولوجي المصري، نظراً لوجود النيل، وجوده ربّى لدى المصري احساس بالقداسة، لأن النيل موجود هنا وليس موجود في مكان آخر، وربما لو وُجد في مكان آخر، فهو ليس نيلاً وإن كان سيدر الماء. تمييز النيل لدى المصري يبدأ بمنحه شخصية، صار بشخصية، ثم صار معبوداً باسم (حابي)، وهو ما يغيب تقريباِ في أغلب الحضارات الأخرى، في حين يكتسب (الماء) عموماً شخصيته لدى السومريين، باسم (انكي)، الا أن انكي شخصيته ووجوده لا يقتصران على كونه (ماء) فحسب، فهو أيضاً أشياء أخرى، بعكس حابي.  وفي حين تتمتع أنهار في الميثولوجيا اليونانية ببعض التمييز (مثل نهر النسيان، ونهر ستايكس، وكلها تفعل أي شيء آخر عدا الريّ)، أثر الارتباط بالمكان، الارتباط المرضي به، ظهر في الميثولوجيا، على حد علمي لا أجد في ميثولوجيا أخرى شخصيات مربوطة بالمكان بشكل خاص، (جغرافياً، حورس يحكم مصر العليا، التي هي في الجنوب، وسيث يحكم مصر السفلى، الشمال). هذه الظاهرة الجغرافية لا توجد في ميثولوجيا بلد آخر، عموماً، شعر المصري القديم أنه (لن يفلح)، اذا غادر الأرض التي يعيش بها، في حين أن هذا الاحساس منعدم تقريباً لدى الاغريق، مشاعر العائلة وأخلاقها قوية لدى المصريين القدماء، وبدأ الأدب يتحدث عن مواضيع طريفة، يتساءل كاتب مصري قديم، عن كيف يحتمل الآسيويون عيشتهم، ولا ينسى أن يشفق عليهم، هذه المشاعر الشوفينية المرتبطة بالأرض عموماً، وليس العِرْق، ظاهرة مبكراً في الأدب المصري القديم، في حين أنها ظهرت بشكل تحليلي، منطقي، (وعِرْقي)، لدى أرسطو مثلاً، الذي يرى أن الاغريق أفضل علماً من المصريين، لأن الأولين يفكّرون لأجل التفكير، بينما يفكر المصريون لأجل التطبيق العملي والبناء.


بالنسبة للإغريق، صحيح أنهم متصلّفون، وهو نوعية الصلف الحضاري التي تصيب حضارة رعوية لأنه رعوية، ولأنها متفوقة حربياً، وهي ذاتها الظاهرة التي عانت منها روما حين وقفت أمام بربر الشمال، الجرمان حضارتهم رعوية بدائية، ليس لديهم ما يخسرونه، بينما تقف روما أمامهم مرتعدة على حافة زوالها.


وأخلاق الاغريق أخلاق جنود، في حين نجد في آدابهم (الإلياذة) شجارات خشنة وطريفة، وشتائم، ربما لأن آدابهم ظهرت (بالطبع) متأخرة كثيراً عن الأدب المصري، ومتطورة درامياً عنه. فالأدب المصري لم يتعد النثر الأخلاقي، وأشياء من قبيل رسائل الفلاح الفصيح، الخ.




الميثولوجيا اليونانية التي وصلتنا عن طريق هسيود وهوميروس،  بها من التعقيد الدرامي الكثير، الذي يجعلها متقدمة بمراحل عن الميثولوجي المصري، وعموماً أي عمل فكري اغريقي سوف يتقدم على مثيله المصري، في الميثولوجيا المصرية الرمز بسيط وساذج، بشكل يشعرك أنها نابعة من العمق الشعبي الفلكلوري، وليست مجرد نتاج شاعر مترف شرب النبيذ وفي مزاج جيد.


والأمر ظاهر في أسطورة ايزيس وأوزوريس، والتي أفضلها لأنها تعبير عميق جداً عن الحزن، وهي كذلك تعبير عميق عن سيكولوجية الفلاح المصري البسيطة، ومبدأ: كل شيء سوف يكون على ما يرام، يقتل سيث أوزوريس، ويبعثر أعضاؤه (١٣ عضواً) في كل أنحاء مصر القديمة، ايزيس تلملمه من جديد، وحين يكتمل، فإنها تحلّق فوقه وقد تحولت الى حدأة.

هذا المشهد، لو تخيلناه في الطبيعة : غالباً مشاهد مثل تحليق زمرة نسور أو غربان، يبعث علي الكآبة لأنه يدلل على وجود جيفة، فهو مشهد موت طبيعي وأصيل، في الأسطورة هذا المشهد يتبعه (انبعاث) أوزوريس. ربما تعلّق المصري الشديد 
بمكانه، منحه طمأنينة تتلخص حول: لا     شيء سيضيع، لأن كل شيء هنا، هو ذاته مفهوم (دائرة الحياة)، الذي تستخدمه ديزني في فيلمها (الأسد الملك) حين تحاول حكي قصة أفريقية، ويبدو أن العناصر الميثولوجية الافريقية مشتركة.

الموت ليس مشكلة لدى المصري القديم، بعكس الاغريق مثلاً، الذين يسبب لهم الموت فزعاً، و يعني لهم الخراب غالباً، نفس المعنى لدى السومريين (نذكر هنا مأساة جلجامش حين يكتشف أنه فان)، ربما سوف أعود لسيكولوجية الزراعة مجدداً، أهمية الزراعة لدى المصري طورت لديه (تفهّم) نحو الأشياء الميتة التي ليست كذلك بالضرورة، وأعني هنا البذور، وما تعنيه من احتمالات الحياة، فالمصري ينتظر الحصاد، ويصبر طويلاً عليه، وهو غالباً يجد معنى لتعبه، طوّر هذا لديه احساساً بالطمأنينة تجاه الموت، تجعله يفضل الموت أحياناً لأن بعده جنة، (الافتنان بالموت) ميّز الحضارة المصرية القديمة، وأقرب مثال تلك القبور الضخمة، الأهرامات.
كما أن أسطورة أوزوريس هي الأسطورة الشعبية، وأوزوريس (المرتبط بالموت، وربما، بتحسّن الأحوال على المدى الطويل)، هو المفضل لدى المصري البسيط أو الفقير، في حين يفضّل الكهنة (آمون/بتاح) ويحتكرونه.

Friday, June 18, 2010

sapiō


الكلمة اللاتينية في العنوان، تعني طعم، مذاق، أو ذوق، واللّماحون الذين سوف يلاحظون علاقتها بكلمة : هيومو-سايبن، أي الانسان الحالي، وهو الانسان العاقل المُميّز.
تعرفت على الكلمة لأول مرة ربما في أحد كتب نيتشه، (أظن، الفلسفة في العصر المأساوي الاغريقي)، ترتبط الكلمة بالفلاسفة، الفيلسوف هو نوع مميز ومختلف من الفنانين، فهو الانسان ذو الذوق الحسن، ومجدداً سوف أعوّل علي اللماحين الذي سوف يلاحظون علاقة (سابيو)، بـ (صوفيا)، الحبيبة والعشيقة. أعني، الحكمة.


فكر العصر الكلاسيكي (مذ القرن السابع عشر وحتى مطلع القرن العشرين)، همّش الذوق، بأفكار آدم سميث الاقتصادية المتطرفة عن (العمل- العمل اليدوي- القوى العمالية)، يرى سميث أن قيمة السلع تتحدد بكمية العمل المبذول لانتاجها، ولا شيء آخر، يأتي من بعده مفكرون أكثر تطرفاً يهمّشون كذلك دور الأرض في العملية الانتاجية، (جون بيتس كلارك).


حتى أنا ذاتي صرت أهمّش الذوق، ولا أدري ما أهمية الناقد، بالمقارنة بأهمية العامل، وما أهمية الذوق، والاختيار، بجانب الانتاج المستمر الذي لا ينضب.


حين يقول جان باتيست ساي أن العرض يخلق الطلب المماثل له، فإن زمرة الكلاسيكيون الاقتصاديون يهمّشون الذوق الفردي أكثر فأكثر، فلا يوجد أي أهمية للطلب، أعني الاستهلاك، في الانتاج، أو في قرارات المنتجين، المهم هو العرض، الانتاج، والانتاج والانتاج بلا توقف.


في حكايتنا الطريفة هذه، تأتي الصدمة في الثلاثينيات، بأول كساد عالمي من نوعه، تتلخص أسبابه في الفائض الهائل من السلع، الذي لم يعد يساوي الطلب، تلاشت أرباح الرأسماليين، وملايين العمال عانوا من البطالة.


كينز يأتي ويعكس الأفكار الكلاسيكية ليعطي الطلب الأهمية القصوى، والطلب هو ما يخلق العرض، وأنا أعتبر الفكر الكينزي عودة لمفاهيم (السابيو/ الذوق)، كما أن لدي فكرة طريفة وهي أن شخص مثل (ايف سان لوران)* هو نتيجة مباشرة لوجود شخص مثل (كينز).


يتميز الفكر الكينزي ومن بعده الفكر الاقتصادي الحديث عموماً باعطاء الأهمية للفرد، وذوق الفرد لوحده منفصلاً عن ذوق الجماعة أو الشعوب، الواقع أن التقليعات الفاشيونية الغرائبية هي استجابة لذوق الأفراد، لا أجد تعبيراً (شعبياً) وفردياً في ذات الوقت، أفضل من الموضة، فهي لا تتطلب من ممارسها وجاهة فكرية كبيرة، وفي نفس الوقت فهي تميز الفرد عن غيره، لا شيء يميز الفرد عن غيره أكثر مما يرتديه.




قلت فيما سبق أن هنالك أشخاص بالغو الأهمية، ليس لأنهم منتجون نشطون، وليس لأن لهم انتاج ابداعي بالضرورة، بل لأن ذوقهم (حلو)، هذا يضعهم في القمة، وعلّقت بمثال، شخصية ميريل ستريب في فيلم (الشيطان يرتدي برادا)، ميراندا بريستلي
هؤلاء (الحكماء) ذوو الذوق المتطرف أو الجيد، يعملون عمل المشاعل في وسط (الوفرة) الانتاجية البربرية التي شوهت محددات الذوق.



في حوار بالفيلم، تخاطب (ميراندا بريستلي)، مساعدتها (آندي)، حين ضحكت الأخيرة من مبالغة زمرة السيدات المشتغلات بالموضة في التدقيق بالألوان والصنوف، تقول (بريستلي) أن هاته الكنزة الزرقاء التي ترتديها (آندي)، ليست مجرد كنزة زرقاء، وهذه الدرجة اللونية ليست مجرد أزرق، بل هي نتاج عملية تطور عريض لأذواق مجموعة كبيرة من الأشخاص المشتغلين بالموضة.




لم أتوقع أن يعجبني الفيلم لكنه أعجبني، بسبب أداء ميريل ستريب الطريف والرائع، ولم أتوقع أنني سوف أتحدث عن هذا الموضوع أبداً، لكن النتيجة التي وصلت لها طريفة، حين أبدأ من كلام الصلف نيتشه لأنتهي الى كلام الصلفة (ميراندا بريستلي). موضوع الذوق ومحدداته يشغلني، وربما أتكلم عنه باستفاضة في مناسبات أخرى، لكن الذوق البشري يمكننا اعتباره (دالة في التاريخ)، فكما كانت الثلاثينيات بداية للاهتمام بذوق الأفراد، مذ الستينيات بدأ الذوق الفردي يتطرف أكثر، وحتي الثمانينيات، مكوناً ما يعرف بظاهرة الجيل إكس (جيل حرب فييتنام وأزمات النفط) ، ويأتي بعده الجيل واي (جيل انهيار الاتحاد السوفيتي وجدار برلين وأفكار فوكوياما). تتلخص أفكاري الطريفة في الآتي: اذا كنت من الجيل واي، هنالك احتمال ضئيل جداً أن تعجبك أغاني مادونّا، في حين سوف تجد في نفسك الميل لتذوق أغاني (الليدي غاغا)، وعموماً، مهما تطور مستواك الفكري، فاذا كنت من الجيل إكس فسوف تميل الى روايات ديستويفسكي، بينما تمر عليك روايات امبرتو ايكو مرور الكرام، (وكذلك سلاسل هاري بوتر)، الجيل إكس منيع عليها


---
* لا أجد مانعاً من اضافة جيورجيو أرماني كذلك.

Thursday, June 17, 2010

ابتلاع المرارة بيسر


رسم غويا هذه اللوحة وحيداً بمنزله الريفي، بعدما ناله الصمم، من قبل كان التفسير المفضل لدي، أن غويا يشير بزحل الى أسبانيا، التي تأكل أبنائها، (في حرب أهلية غالباً)، ولم يك يعجبني أي تفسير آخر، مثلاً، أن اللوحة شخصانية، وأن غويا مر بمشاكل مع ابنه، ويبدو أنني قد أُخذت بالدور (الوطني) لـ غويا كفنان، غالباً لم أقع على فن يجسّد القضية الشعبية أو الوطنية ويعجبني، لكني أبقيت على غويا كـ فناني الوطني المفضل، ولم يعجبني أن يسقط من مقعده هذا، ورحت أفسّر كل لوحاته على هذا الأساس، ولأن -أصلاً- لوحتي المفضلة على الاطلاق هي (الثالث من مايو)، التي تُظهر لأول مرة كيف يمكن أن تكون ضحية الحرب، المسالمة، نقصد ذاك الرجل بالقميص الأبيض، الذي يرفع ذراعيه (بطريقة استشهادية)، كيف يمكن أن تضرب هذه الصورة على أوتار المقاومة، أقوى من أي قنبلة أو مدفع.



هكذا رحت أفسر كل لوحات غويا، أما وطنياً، سياسياً أو دينياً، بشكل ساذج، فـ كولوسس هو نابوليون، ولوحات الساحرات والأشباح نية غويا منها شد ذيل القط (الكنيسة/محاكم التفتيش).


لقد رفضت تماماً أن يكون للوحات غويا معنى شخصاني، رفضت أن يكون غويا مجرد انسان مذعور، مذعور من الحرب فيرسمها بلا أبعاد فكرية، مذعور من الساحرات، ومذعور من عفاريته وكوابيسه الشخصية. لقد رفضت الذعر، الرعب الذاتي الهستيري، لصالح العقل المضيء والسامي للفن.


زحل، الى جانب الأسطورة اليونانية، له معان (تنجيمية) قديمة، فهو يمثل الوحدة، واليأس، العزلة الاجبارية، الحرمان، الخوف، والأهم، أرذل، أرذل العمر. وبالنسبة للمراحل العمرية في التنجيم، فمثلاً كوكبة السرطان تمثل المرحلة الجنينية (الماء)، عُطارد : الطفولة، فينوس : البلوغ، مارس : العنفوان، جوبيتر: منتصف العمر، وزحل: أرذل العمر، (نلاحظ أن السن يتقدم كلما ابتعد الكوكب عن الشمس).


انتبهت للمرة الأولى، اليوم، -وهذا يعدّ محبطاً بالنسبة للوحة من مفضلاتي- أن غويا رسمها في أرذل عمره، وأنه غالباً مات بعدها بفترة قصيرة، وأنه بالفعل عانى مشكلة مع ابنه، ما يجعلها مختلفة عن لوحات أخرى تقدم الموضوع ذاته، كما قال الجميع، التعبير الاستثنائي لنظرة الجنون في عين زحل، وأنه يأكل رجلاً بالغاً وليس رضيعاً (هكذا فإن تمثيل غويا يخالف الأسطورة بسفور).

مثلاً، في لوحة بيتر روبينز لنفس الموضوع، زحل يأكل لحم رضيع بالفعل، بلا أي انفعالات (انسانية)، فهو يؤدي دوره الميثولوجي كما كُتب له، بينما لوحة غويا (ونظرة جنونها)، تعدّ تعبيراً انسانياً خالصاً، زحل هنا انسان وليس شخصية أوليمبية، وربما، زحل هنا هو انسان مذعور، مزقت الحرب روحه، عجوز، مصاب بالصمم ومرمي وحيداً في الظلام.
في الأسطورة، زحل بعدما تقدّم في السن، ضَعُف نظره، فصارت (أوبس) الأم تخدعه وتناوله حجارة ليأكلها، بدلاً من أبنائه، الذي كان يتوجس منهم أن يخرج واحد ويأخذ منه ملكه، هكذا فإن ما يودي بزُحل هو تقدمه في السن، وفقدانه قوة حواسه، والحال شبيه مع غويا، الذي فقد سمعه



اللوحات السوداء أعتبرها من أعظم ما أخرجته يد فنان، وبالنسبة لأسلوب الرسم، لاحظت أنه (يتدحرج) من تصوير رؤى واضحة مثل (لوحة سبت الساحرات)، ثم تزداد الرؤى في التغبّش والتضبب، كما في لوحات (رجال يقرؤون)، (امرأتان)، (رجل يأكل مع الموت)، (مشفى المجانين)، الخ



في هذه اللوحات المشاهد يجد صعوبة في تمييز الملامح الدقيقة للوجوه، لكن التعبيرات المرعبة، الجنونية واضحة، رأيي أن الرؤى الضبابية هذه، وان كان يمكننا أن نعزي سببها ربما لحالة غويا النفسية والعقلية المتدهورة، ارتجاف يديه بسبب السن، لكنها جعلت المشاهد (يتورط عاطفياً) مع اللوحات، فغالباً الرسم الفانتازي الذي يُعبر عنه بألوان جليّة ومشعة (كما في كارافاجيو مع الميدوزا)، (أو في لوحة الجاثوم)، المُشاهد ربما لا يتأثر كثيراً بالرعب لأنه واضح، فكما يكون : الفنان يرسمه بوضوح، لأن الفنان يراه بوضوح أمامه (في حالة الوعي)، انها اذن تخيلات الفنان الجليّة أكثر من اللازم، أو ربما هلاوسه، فكرة أن يتمكن المشاهد من التدقيق والملاحظة والمعاينة النقدية لهلاوس الفنان المرعبة، تجعله يعيش تجربة واعية - عقلانية- واقعية، المشاهد لا يتورط عاطفياً لأنه لا يزال واعياً لما يراه، بينما في لوحات غويا تبدو المشاهد كأنها تدور في الأحلام، أو ما يمكننا تسميته :
Nightmare Scenery
اللوحات السوداء تجسيد فني بارع للعقل الباطن، الذي ينحبس الانسان داخله، وحيداً وأصم، باختصار، اللوحات السوداء وجه باطني للانسان، وأى مُشاهدٌ لها سوف يبتلع مرارتها. بيسر.

Sunday, June 13, 2010

لماذا كلود فرولو؟


The Bewitched Man (1798)(1) - Francisco de Goya


مُدخل

نشأ فرولو تلميذاً مجتهداً، وفقد والديه اثر الطاعون، وتركا له أخاً أصغر، يصبح فيما بعد موضوع اهتمامه ورعايته، ويتقدم في دراسته الإكليريكية، ليؤمّن مستقبلاً مريحاً لأخيه، تُظهر الرواية الجانب الطيب، العطوف، لكلود فرولو حين يجد طفلاً مشوهاً مرمياً على عتبة نوتردام، فيوؤيه، ويرعاه ويتبناه، ويمنحه اسماً، كوازيمودو، ويحرص على مدّه بالقسط الجيد من العلم.

يحصل كلود فرولو على منصب رئيس الشمامسة، ويضعه هذا في مكانة اجتماعية محترمة، المنصب الديني يتيح له السلطة، لكن هذه السلطة ( لا تشبعه أو تحقق له الرضا)، بل ترمي به في عزلته أكثر فأكثر، وتجعل تعاطيه البشري أفقر، المزيد من الحواجز ترتفع بينه وبين الناس، كما أن العامة ينفرون منه ويجدونه مخيفاً

فرولو شخصية عميقة، باطنية، شديدة الشغف بالمعرفة لدرجة الهوس، فقد تفوّق في دراساته الجامعية، وتقدم في السن ليصبح خبيراً باللاهوت، الطب، الفلسفة، الآداب، الخيمياء، يجيد اللاتينية، اليونانية، العبرية، الى جانب لغته الفرنسية

الخيمياء


في مشهد يروي زيارة طبيب الملك، والملك ذاته (متنكراً في شخص طالب علم)، لحجرة كلود فرولو الخاصة، الموجودة في زاوية علوية من برج الكاتدرائية، والتي يقال- أنه يمارس فيها تجاربه الخيميائية- يطلب الملك نصيحة طبية من فرولو.
لكن الأخير يرد باقتباس : الطب ابن الأحلام - جامبليك
يبدي الطبيب اعتراضه، فيستطرد كلود في حوار طويل، أنه لا يؤمن بالطب، ولا يؤمن بعلم الفلك (الذي أخذ شكل التنجيم في هذه الأزمنة القروسطية)، حجته بشأن الأخير عقلانية، فهو لا يجد أي منطق في امكانية أن يؤثر نور النجوم على حيوات الخلق، لكنه في استطراده بشأن الطب، يعلق على عدم جدوى أساليب الأطباء، ويخلص الى أن الجسد البشري، وكل ما يتعلق به، ظلام.
والنجوم ظلام، أما عن فرولو، فهو يؤمن فقط بفنون الخيمياء، وتحويل الرصاص إلى ذهب، على حد قوله، فالذهب هو النور الحق.

يعلق طبيب الملك، هامساً في أذن الملك، هذا الرجل مجنون، كما أخبرت.
ويوافقه الملك على ذلك في النهاية.

ربما يكون موقف فرولو من الطب سببه موت والديه بالطاعون، لعله فقد الثقة بالطب لأن الأساليب الطبية العادية لم تنفع في حالات الوباء.
بغض النظر عن الاضطرابات النفسية لدى فرولو، شخصياً لا اعتراض لدي على الخيمياء، فأنا أحسب أن الخيمياء علم، علم حقيقي، لكنه علم باعث على الاحباط، والكآبة، الخيمياء مذ نشأتها السكندرية (المصرية)، كانت بغرض تحويل المعادن الرخيصة الى ذهب، وكل التجارب والكتابات، سواء الصوفية، الغنوصية، الهرمزية، أو الروزنكروزية، كانت لأجل ذاك الغرض المحض، حين أتى الزمان الذي نُظر فيه لهذه الفنون/العلوم نظرة ريبة، اضطر كُتّابها وممارسيها الى استخدام مصطلحات صوفية، أو لاهوتية سرانية، مثلاً، في القرون الوسطى كان يستخدم مصطلح الثالوث المقدس في بعض الكتابات الخيميائية، تحت عين أي مفتش ديني سوف يمر المكتوب مرور الكرام ، لكنه كان (سين) خيميائية، يشار بها الى : الزئبق - الكبريت- الملح.

والثلاثي الكيميائي ذاته كان له معني فلكي/تنجيمي، فهو يشكل الرمز الفلكي لكوكب عطارد، أي هرمز(2).

في الرواية يظهر كلود فرولو كباحث خيميائي شغوف، سبق و حَفَر تحت بيت أحد ممارسي الخيمياء القدماء-بعد موته- بحثاً عن، حجر الفلاسفة.
ما دمنا وصلنا لمرحلة حجر الفلاسفة، فيمكن لنا القول بأن شخصية كلود فرولو كانت تعاني من (مرض المثالية)، قبل أن يتوقع أحد امكانية تحول المثالية الى مرض مؤذ للغير، المثالية كانت شيئاً جيداً في العصور الرومانتيكية الجرمانية- القرن السابع عشر، هنالك أشكال كثيرة للمثالية، هنالك مثلاً المثالية الأفلاطونية مثل التي لدى دانتي، هنالك مثالية وطنية، في كل أشكال المثالية هنالك عملية (تحويل)- ربما بالمفهوم الخيميائي، قد تتحول البلد، الوطن الى الحبيبة المثالية العلوية، قد تتحول الحبيبة الأرضية الى قديسة في السماء (كما في حالة دانتي)، الخيمياء التاريخية ربما هي تحول الممالك الأوروبية الى أوطان بالمعنى الحديث، (التحول) أو الخروج من شرنقة الكنيسة الكاثوليكية، عموماً كلها صور من التطرف المخيف




البداية


نظن بأن كلود فرولو أصيب باحباط علمي، فهو يؤمن بالخيمياء، ويؤمن بامكانية صناعة الذهب معملياً، هكذا فهو في سن ٣٦، يخرج من تجربة علمية فاشلة، بالنسبة اليه هذا شيء جلل، فموضوع حياته الرومانتيكي، العلم، وحصل على شهادات الكليات الأربع العليا (لاهوت - طب - قانون - فلسفة)، بالنسبة لشخص متعوس بالفطرة، فقد والديه في سن صغير، اضطر الى العناية بأخيه الأصغر- الذي يشب ليصبح فتى عابثاً مهملاً في دراسته، يلطخ اسم ((فرولو)) الذي لطالما ارتبط بشخصية محترمة ومتحفظة في المجتمع الباريسي، بالاضافة الى صمم كوازيمودو، الصبيّان موضوع اهتمام كلود ورعايته صارا مصدراً لخيبة أمله.

حين كنت أدور في ويب بحثاِ عن مجتمعات مهتمة بكلود فرولو، نبهني بعض القراء هناك لمآسي فرولو العاطفية عموماً، فهو شخصية ((عطوفة))، قادرة على منح ((الحنان الأبوي، عن جد؟؟؟))، لكنه في النهاية يصبح شخصاً كريهاً باعثاً على النفور والتخوف في محيطه الاجتماعي. أي أنه لا يجد مقابل لما يعطي.


كل هذا التحليل العاطفي لم يك يهمني بقدر ما يهمني الميل المثالي المتطرف لديه، لو جئنا لازميرالدا، الغجرية، نعرف أن الغجر قد اكتسبوا تسميتهم من (مصر)، كلمة (جيبسي) هي النطق الاسباني المحور لكلمة مصر، مصر ترتبط بالتاريخ الخيميائي، فالخيميائيون الأوائل يظنون أن هذا العلم نشأ أصلاً في مصر القديمة، في رواية بندول فوكو لامبرتو ايكو، يورد الأخير معلومات عن ((أخوية بيضاء)) اعتادت على ممارسة الخيمياء في مصر القديمة، كما أن هرمز الهرامزة، أول كاتب خيميائي في التاريخ، كان يُربط بينه وبين (تحوت/ الكتابة والسحر) عند المصريين القدماء، الواقع أن هرمز هو المقابل اليوناني لتحوت المصري.

في العهد الهيللينستي تتحول الاسكندرية الى منشأ للخيمياء بشكلها الابيستمولوجي، يُعتقد أن كتاب هرمز الهرامزة (الجدول الزمردي) كُتب في ذاك الوقت، كما أن هنالك العديد من الكتاب الغنوصيين الذين اهتموا بالخيمياء عموماً، مثل فيلون اليهودي وغيره، لا أظن أن نشأة الخيمياء كعلم نظري في الاسكندرية له علاقة بمصر القديمة، أو مصر عموماً، بل بسبب مكانة الاسكندرية كجاذبة للعلماء والفلاسفة والفنانين، وكبوتقة انصهرت فيها الخزعبلات الشرقية بالابستمولوجيا الغربية.


اسم الوردة

اسم ازميرالدا يعني : الزمرد، وهذا يأخذنا الى كتاب هرمز الهرامزة (الجدول الزمردي)، هنالك تبطين (خيميائي) عام في قصة التورط العاطفي لكلود فرولو، فكما قلنا توقيت أحداث الرواية يقع بعد خروج فرولو من احباط علمي، وصار يناسبه أن يبحث عن (احباط آخر)، علم النفس الحديث يرى أن سبب (فشل تجارب) الناس، سواء نفسية أو عاطفية، بشكل متكرر، أنهم يودون اصلاح فشلهم السابق باعادة التجربة السابقة بحذافيرها، هذا يجعل احتمالات الفشل عالية كل مرة، وتحليل كهذا طريفٌ جداً حين يُطبّق على فرولو، لكني لا أمنع نفسي من تذكره حين أفكر أن كلود فرولو يخرج من احباطه العلمي ليقع - وكأن الأمر متعمدٌ- في احباط عاطفي.

السن

فرولو وقت الأحداث المريرة كان في ال٣٦، مرة أخرى، في رواية بندول فوكو، هذا الرقم مرتبط بفرسان المعبد،(رهبان بندكتيون محاربون في الحملات الصليبية، ونشأت حولهم أسطورة البحث عن الكأس المقدسة، وبعض الاشاعات الغرائبية التي تحولت الى اتهامات بالهرطقة والانحلال، وحُكم عليهم بالاعدام حرقاً)- (في الواقع، أرى أن الكأس المقدسة هي الشكل العتيق/الديني لحجر الفلاسفة، المفهوم العلمي، وفرسان المعبد ليسوا وحدهم من بحث عن الكأس المقدسة، ربما بحث عنها قبلهم فرسان الطاولة المستديرة)، الواقع أن لهذا الرقم معان أخرى، لكن من ضمن أسباب تنامي الاهتمام لدي مؤخراً بكلود فرولو، أن تلك الرواية ذكرتني به، فهي تدور بشكل ما عن الهوس المعرفي، الهوس عموماً بشيء مثالي أو شيء لا ينتمي الى هذا العالم، الشيء، لنتخيل مجموعة من الفرسان يبحثون عن الشيء، الشيء، ما هو الشيء؟ نحن جميعاً نبحث عن الشيء، البشرية مذ أول معالم للحضارة تبحث عن الشيء، في الحقيقة، أن يتخذ الشيء شكل كأس مثله مثل أن يتخذ شكل حجر، فالكأس يحوي الدم، والحجر هو الشكل الأولي لأي حضارة، الدم مرتبط أكثر بالميول البدائية العضوية

فتجربة شرب شيئاً ما - ليكن دماً مقدساً- يحوي السر، مثلها مثل التجربة البشرية الأكثر حداثة، وهي العثور على حجر يحوي السر، فلا أتخيل شيئاً كانت التجمعات القبلية تفعله، قبل اكتشاف النحاس وتتطويعه، سوى شرب دم بعضهم بعضاً.



الهوى


كاتدرائية نوتردام جسّدت حجر الفلاسفة في حياة فرولو، فهي رمز للحضارة الانسانية، كذلك رمز للسماء، وقد تتخذ الكاتدرائية الشكل التجسيدي لرمز (هرمز)، في الأعلى تقبع حجرة فرولو التي يمارس بها قراءاته وخيميائه (الذهن)، في الأسفل قليلاً نجد أجراس الكنيسة، ونجد كذلك جوف سقف دور العبادة حيث تتصاعد أصوات التراتيل الباعثة على الرهبة (الروح)، في قاعدة البناء نجد المذبح (الجسد).

في المشهد الذي يفرد له امبرتو ايكو مقالة كاملة، يقول فرولو : واحسرتاه، هذا سيهدم ذاك، هذا (المقصود به الكتاب)، وذاك (الكاتدرائية)، وقد يعني أن الكتاب سيوفر وسيلة أخرى للتأمل بدلاً من دور العبادة، وقد يعني أن الكتاب سيكون سبباً في ابتعاد الناس عن دور العبادة عموما (النهضة)، أو أي سبب نهضوي آخر.
فرولو محمل بالهموم المعرفية والرومانتيكية، فلا هو وجد حجر الفلاسفة الخيالي، ولا هو يضمن بقاء حجر الفلاسفة الوحيد (الحقيقي).



في هذه الأثناء، يجد فرولو شيئاً غرائبياً، شرقياً، منيعاً، محرماً، شائكاً، شريراً، ولكنه طاهر، بريء ومذنب، يجد ازميرالدا ترقص في الساحة أمام الكتدرائية، انها (تجّسدٌ) محضٌ لكل شيء، هي الظلام، لأنها جسد، وهي النور لأنها جميلة، هي الشرق وهي الغرب، هي الأرض وهي السماء، فهي شكل مشع ومنير لكل المباهج الدنيوية، برقصها وغنائها، وهي معذبته ومطهره الأرضي.
وبعيداً عن الرؤية القروسطية للمادة، فرولو بصفته (مثقف) قروسطي فلا نستبعد وقوعه تحت تأثير الرؤى الأفلاطونية (اليونانية)، وبهذا قد يجد في الجمال (السموّ الحقّ)/المثال، وأن الشيء الخيّر هو بالضرورة جميل (على حد تعبير أفلاطون)، اذن الجميل هو خيّر. (3)
وجد فرولو (أخيراً) شكلاً واقعياً لموضوع هوسه المزمن، فلا هي حجر فلاسفة خيالي يمضي الليالي في التجارب الخيميائية وسط الروائح الخبيثة بحثاً عنه، ولا هي شيء سوف ينقب عنه في الأرض، ولا هي حجر جامد أخرس، صلف، يقف على حافة التحول الفكري الغربي، يملؤه بالهم والثقل الروحي، ومسؤولية حفظ مكانته الدينية واحياء طقوسه، بل هي أبسط من كل هذا، وأعقد من كل هذا، والأهم، هي حجر الفلاسفة الذي يمكن لمسه


الشر


ليلة التحول الأخلاقي لفرولو، حين يطعن فيبس بخنجر، يمضيها متتبعاً أخيه أولاً، الذي يلتقي بفيبس، يخبره الأخير عن لقاءه بالغجرية (التي لا يستطيع تذكر اسمها حتي)، لقد شاهدهما فرولو - فيبس وأخيه- كل الليلة يعاقران الخمر، لا شك أن فيبس كان موضوع حقد فرولو، فهو شاب، جميل، ضابط، ويجد عائداً لتعبه، ويحصل على المجد اللحظي، وعلى اعجاب الفتيات، وهو المترف، العابث المتفسخ السفيه، قد حصل على حب ازميرالدا، والمشكلة أنه لا يقدّر ما حصل عليه، فنظرته لازميرالدا مختلفة عن نظرة فرولو، بالنسبة له هي فتاة سوف تأتي غيرها، بل أن لديه غيرها بالفعل، حين يعترض فرولو طريقه في المساء قبل لقاءه بازميرالدا، يسأله، أنت حقاً ذاهب اليها؟ وحين يجيب فيبس بنعم، يثور فرولو (ونلاحظ أن كل ثوراته - حتى هذه الليلة- داخلية)، يتهمه فرولو بالكذب والخداع، (فيبس) كي يثبت له صدقه يعرض عليه أن يرافقه الى حجرة الموتيل، كي يرى بنفسه أنها ازميرالدا، هكذا فقد بلغ استهتار فيبس بها هذا الحد، يراقب فرولو عبارات الغرام المتبادلة، فتثور ثورته ويطعن (فيبس)

قد كان أمام فرولو عدد من الخيارات الأفضل، فلو كان دنيئاً كما يعتقد أغلب من قرأ الرواية، أمامه التصرف بمكر، وأمامه أن يستخدم سلطته منذ البداية، ومن قبل الحادثة مع فيبس، فهو (لا يسيء استخدام سلطته) الا بعد ارتكابه الجريمة وبعد خراب مالطة.


فرولو يتصرف بهذه الغباوة المميزة لتصرفات العشاق، من لم يجد تصرف روميو بارتكابه الانتحار المتسرع، تصرفاً غبياً؟

الانحلال، أو سقوط فرولو الأخلاقي لا يبدأ الا بعد ارتكابه جريمة القتل، منذ هذه الليلة وقد سقط فرولو أمام فرولو، وبات يعد نفسه مجرماً أو وحشاً، و صار على استعداد للمضي قدماً في هوسه المدمر.


الحادث الآخر الذي يهز فرولو عاطفياً هو تعذيب ازميرالدا، حين كانت تُعذب في حجرة، بتهمة ممارسة السحر والقتل، بتهمة ارتكبها هو، بينما يقبع في الحجرة المجاورة، وكلما تصاعدت صرخات ألمها، يمزق فرولو صدره بسكين، ويقول، لو هي صرخت أكثر سوف أقتل نفسي.

وحين يدخل لزنزانتها، أولاً كي يبوح لها بمشاعره، ثم يريها جرح صدره (علامة على صدقه)، يجد منها رد فعل جاف، فقد عرفت أنه من أوقع الأذى بـ(فيبس) ، وتطرده قائلة أنه قبيح وعجوز. بينما فيبس شاب وجميل.


سلوك فرولو (الجذري) يزداد تطرفاً، حين يصير في نظر نفسه شيطان، وفي نظر ازميرالدا شيطان، ولا يعود يجد حرجاً من التصرف بـ شر حقيقي، ويتمادى فيعرض على ازميرالدا خيارها الأخير، اما هو أو الموت حرقاً، وترد هي أنه -فرولو- يخيفها أكثر من الموت.



المثير للدهشة أن شره مغلف بعاطفة مشبوبة، ومثيرة للشفقة، فمن يقرأ فصل (الحذاء الصغير)، بتفهم، لا يمكنه أن يعد فرولو شريراً حقيقياً، مونولوغه أمام ازميرالدا مؤلم،فقد بكي بحرقة. (لأنها عطوفة تجاه الجميع، ما عداه). ولأنها لن تقول له كلمة طيبة أبداً. ما بال مسألة الكلمة الطيبة هذه؟ التي يطلبها من ازميرالدا في الزنزانة، ثم يطلبها منها حين ينفرد بها على الضفة الأخرى من السين؟ رغبة فرولو المحمومة في التقدير العاطفي ترسم بعداً هزلياً على (دوره كشرير).



الآخرون



منذ الترجمة الانجليزية للرواية بدأت عملية التحوير التدريجي لشخصية فرولو، أولاً بتغيير اسم الرواية من (نوتردام دو باريس)، الى (أحدب نوتردام)، مركزةً على شخصية الأحدب بوصفها موضوع الدراما أو التراجيديا الرئيسي، بينما نجد أن التراجيديا الأقوى تكمن في شخصية فرولو،حين يُهمش فرولو (تراجيدياً وعاطفياً) يركز القاريء غالباً على المحنة العاطفية لكوازيمودو.

الضربة القاصمة لفرولو كانت في فيلم ديزني، فكان تشويهاً سافراً وهزلياً للرواية، قد يجده البعض جميلاً- لكننا نعتبره جميلاً فقط بشكل مستقل، بعيداً عن أي علاقة بالرواية.

أجد بعض الآراء الطريفة حول فرولو، وكلها بسبب التهميش أو التسطيح الحاصل للشخصية، مثلاً، القراء يجدونه أنانياً خبيثاً متمركز حول ذاته، يستخدم كوازيمودو ككلب شخصي، لا شيء يقف أمام أطماعه ورغباته، وهنالك من يقول على موقع (غود-ريدز) أنه يستحق أن يُرمى في البحر لتأكله القروش.

لا اعتراض لدي على كراهية الشرير، لكني لا أجده شريراً، أو لا أجد كل هذه الوصمات بالشر تنطبق عليه، ربما نقول أن فرولو مريض نفسي، سايكوباث، هو بأي حال أفضل -أخلاقياً - من أبطال روائيين يحوزون على التعاطف الجماهيري، مثل غرونوي بطل رواية (العطر)، غالب القراء لم يجده مجرماً أصلاً بالمعنى الأخلاقي، رغم أنه قاتل متسلسل قتل الأبرياء، واحدة تلو الأخرى، ركضاً رواء رغبة أنانية محضة.
الرواية عموماً أجدها صورة عصرية للرومانسية الألمانية لما بعد الحرب العالمية الثانية، الجينات النازية المشوهة حاضرة في الرواية، و همّ (غرونوي) في الوصول الى العطر الأكثر عظمة، يشبه همّ صديقنا في الوصول الى حجر الفلاسفة، فكلها ميول مثالية متطرفة، أقف موقف العداء تجاه رواية العطر، فقد وجدتها تجسد ثيمة نازية خفية، (وهذا رأي شخصي قد يعد تطرفاً كذلك)، كما أني لم أتعاطف مع غرونوي، الذي كان هدفه المثالي، في النهاية، مادياً جداً.

حين تضرب غوغل بحثاً عن فرولو، بالعربية، سوف تجد:"كلود فرولو رمز التعنت الكهنوتي والشر و الخبث و الأنانية والإجرام."، لا أقول أن فرولو رمز الطيبة المحضة، ولربما هذا الانطباع مفهوم لدي، فهو قد دفع بإزميرالدا الى الموت، حين يأس منها، ثم بعدما أيقن أنها ستموت، راح ليضحك بجنون، ربما تضطرم داخل فرولو تفاعلات معقدة لتُخرج هذه الشخصية، والموقف قبيل نهاية الرواية يذكرنا بموقفه في بداية المأساة، حين رأى عنكبوت يفترس ذبابة في شباكه، وحين حاول رفيقه انقاذ الذبابة، اندفع فرولو، كلا، كلا، دع الأمور تأخذ مجراها، لا شيء يفسّر (تجمد) فرولو أمام حياته سوى، ربما، المباديء التي طوّرها، التجهم الدائم، البرود السطحي لشخصيته الكالحة، فرولو (لم) يعرف حلاوة أي شيء دنيوي، وهو غالباً لا يتوقع شيء مماثل من الدنيا، وأي شيء دنيوي (حلو) سوف يصمه فرولو بتهمة، في حوار له مع (غرينوار)، حين كان يعرض عليه خطة لاخراج ازميرالدا من (ملجأها) داخل الكنيسة، يقترح عليه أن يلبس ملابسها وهي تلبس ملابسه، يقول غرينوار، هكذا سوف يشنقونني أنا، يرد فروللو، هذا ليس من شأننا حقاً، ولماذا تحب الحياة لهذه الدرجة ؟
فروللو لا يحب الحياة، رغم أنه لا يصرح في الرواية برغبته في الموت، وما يجعل فروللو تعيساً جداً هو هذه الحالة التي وصل اليها، وأنا لا أجد وصفاً أكثر حيوية للجنون، أكثر من حالة فروللو، فهو يقف (على الحافة) حرفياً، حافة الأبدية، على حد تعبيره، في مونولوغه (4) المؤثر مخاطباً ازميرالدا، عارضاً عواطفه (للمرة الثانية)، أن تكون على الحافة اذن فأنت مجنون، انه الشكل الأكثر قرباً لما يمكننا تسميته (انفصال المرء عن البشرية)، النبذ الحقيقي، ربما لهذا يموت فروللو بهذه الطريقة، حين يدفعه كوازيمودو من الكاتدرائية، فهو لا يسقط مباشرة، بل يتعلق أولاً بتمثال حجري، لمدة طويلة جداً، يجرح أصابعه ويحطم أظفاره محاولاً التشبث، يبذل الجهد، والجهد الذي يبذله يسيء الحال أكثر، فما يتعلق به يلين تحت الضغط، وحين يدرك فروللو بؤس الحال، وأن التمثال لن يتحمل ثقل جسده، ((يخفف)) قبضته، ويصف هيغو رؤاه أثناء السقوط، "حين كان كل ما يحيطه حجر"، يأتي ذكر ((الحجر)) مجدداً، ولا عجب أن عنوان فصل ((موت)) فروللو هو مقولة لدانتي، من كوميدياه، "المخلوقة الجميلة في الرداء الأبيض "(5)، ربما لأن في ذلك الوقت لن يجد الكاتب شيئاً أكثر وجاهة من اقتباسات دانتي، لكننا نميل الى السبب السابق عرضه، (حمّى) المثالية وميل المرء لتعذيب نفسه باسم أي وهم.


ربما يكون فروللو (رمز)، ربما يقصد هيغو أن يرمز بفروللو الى التعنّت فعلاً، تصلّبه أمام شؤون حياته، ميله للخيارات الصعبة العنيفة، ميله للجذرية، وأنا أميل الى أن هيغو قد خدع القراء، فقط، لنراقب الى أي حد يمكننا أن ننخدع، ونصدق أن شخص ما هو الشرّ المحض، وننزع عنه الانسانية، مذ بداية الرواية، فروللو التقي، العالم، العطوف، الذي يأوي اليتامى، الأهل لمسؤولية أخيه، كل ما يجعلني أتعجب من تعاطفي مع الشخصية ونفور الآخرين منها، السؤال، ما الذي حدث لكلود فروللو بالضبط؟ هل الانسان يميل لهذه الدرجة المتطرفة الى ازدراء الغير، القاريء/الانسان، كان مستعداً بشدة لمعاداة هذا الشخص، وخلع الشرّ عليه، في حين أنه كان بطلاً تراجيدياً حديثاً، ربما أتى في عصر الأبطال القوميين، باختصار، كان فروللو شكلاً أدبياً للتدهور الانساني، والى أي حد قد يصل


النازي



فيكتور هيغو مات قبل أن يشهد ألمانيا النازية، لكن في عهده ظهرت الميول الوطنية الألمانية (القرن التاسع عشر)، كما ظهرت أفكار أو كتابات آرثور دو غوبينو، عن الأعراق، قد بدأ الاحتقار النظامي أو المؤسسي للغجر في ذاك الزمان (وكذلك اليهود)، وهو كذلك تميز بأنه زمان الحضر أو الدولة بمعناها الحديث والمستقل عن أي سلطة أخرى (تعاظم السلطة الزمنية)، عموماً شارك الغجر في بث هذا الاحتقار تجاههم، فهم قد أخطأوا خطأ اليهود، وبالغوا في فصل أنفسهم بشكل دائم عن الجماعة، أو المجتمع المتحضر، وكان وجودهم يتمركز حول كونهم جماعة وظيفية (على حد تعبير د.عبد الوهاب المسيري، في وصفه لليهود)، كان سهلاً في أواخر القرون الوسطى (زمن أحداث الرواية)، اتهامهم بالسحر والشر والخبث، وكان سهلاً في زمن كتابة الرواية اتهامهم بالفوضى، الحقارة، الانحلال، أو بأنهم يشكلون تهديداً للدولة، الوطن، العرق الأبيض، النظام الحداثي، الخ.

رواية أحدب نوتردام تكتسب أهمية رومانتيكية أكثر، بعد الحرب العالمية الثانية، رغم التعتيم اللا-ارادي، واغفال البشرية للمآسي التي تعرض لها الغجر، على يد النظام النازي، باختصار، قد تتحول رواية أحدب نوتردام الى نوع آخر من رومانسيات الأزمة، مثلها مثل أفلام كـ (قائمة شاندلر)، الذي بالفعل يلقي الضوء على نوع من العلاقة المضطربة بين ضابط نازي سايكوباتي، وخادمة يهودية، أو فيلم (الكتاب الأسود)، الذي يحكي (مأساة) الشابة اليهودية راشيل شتاين، ورومانسياتها مع ضابط نازي ما.

عموماً، الجو النازي في مطلع القرن العشرين يشبه جو الرعب القروسطي لمحاكم التفتيش، فأوروبا- أو البشرية- تعيش الرعب من جديد، رواية أحدب نوتردام رواية تأريخية، وقد يكون فيكتور هيغو من هؤلاء الفنانين الذين أصيبوا بصدمة (ما بعد الثورة الفرنسية)، فلا هي جعلت فرنسا منارة للاخاء والمساواة، بل عمت الحروب وساد السوء والرعب، بالنسبة لأسباني -مثلاً- كفرانشيسكو غويا، ليرسم سلسلة اللوحات السوداء، أو بالنسبة لفرنسي طليعي كـ فيكتور هيغو، تبدأ أحداث روايته في مطلع القرن الخامس عشر، وهو التوقيت -بالضبط- الذي يشهد بداية تمييز أوروبا للغجر، أو انزعاجها منهم، هل انزعج هيغو من الكتابات العنصرية التي بدأت تظهر في عصره؟ هل بدأ هيغو يخاف من الدولة بشكلها الحديث، الدولة النابوليونية الامبريالية، الدولة الليفيثيان (على حد تعبير توماس هوبس)، الدولة المؤسسية التي تقوم بالاقصاء العلمي الموجّه (على حد تعبير كلا من د.المسيري وميشيل فوكو)، فهي ذاتها دولة القرن السابع عشر، الاصلاحية دينياً، التي تغيرت نظرتها للشحاذين والغجر، فمن يعطي هؤلاء ليس قديساً بالضرورة وليس صالحاً، وهكذا تحولت الأديرة، الى مستشفيات لايواء المجانين، المرضى أو الغجر، كل من يسبب (ازعاجاً اجتماعياً). هل يشير هيغو الى أن الكنيسة ومحاكم تفتيشها ليست بالضرورة آخر أهوال أوروبا، وأن أهوال ((دولية)) أخرى ستظهر؟ فالغجرية ليست غجرية، بل نعرف في آخر الرواية أنها ابنة امرأة فرنسية، ويبدو للقاريء أن هذا ما قد ينقذها من الحرق، لكن (لأجل الكلايماكس الدرامي) هذا لا يحدث، ويرمي كوازيمودو، بفروللو من فوق الكاتدرائية (رومانتيكياً، هذه هي الطريقة الوحيدة ليروي فروللو ظمأه تجاه حجر الفلاسفة)، بالموت.
هل كان هيغو يعبر عن قلقه من العلم؟ العلم المتطرف حين يحول البشر الى مجانين، هل تنبأ هيغو بالتجارب العلمية التي سيجريها علماء النازية على الغجر؟ هذه الأسئلة الطريفة اللا-منطقية هي ما يسلّيني.
عموماً، فيلم ديزني لا يجد حرجاً من تحويل فروللو الى نازي قروسطي، فيقول في أحد مشاهد الفيلم، سوف أجدها (ازميرالدا)، وان اضطررت الى حرق باريس كلها.

وفي مواضع أخرى يصرح برغبته في حرق الغجر، أو ابادتهم - بالمعنى. هذه الميول ليست واضحة في الرواية، لكن التأثير المبالغ فيه للشر النازي للشخصية، الذي تروج له ديزني، يستحق الاهتمام، يعجبني خصوصاً المشهد حين ينزل فروللو (الكرتوني) من عربته، مرهقاً، ويُسأل فيقول: "كانت لدي مشكلة مع المدفأة". تعليقاً على ليلته بلا نوم (أغنية هيلفاير)، ثم يدفع الحرس للبحث عن ازميرالدة، وفي بحثه المحموم عنها يحرق بيوت الغجر أو يضطهدهم، فكأنما هذه (الابادة شبه النازية) ، كانت كذلك بحثاً عن المثال، ذاك الشيء الجميل والمدمّر

------


(1) - اخترتُ هذه اللوحة، كأقرب تجسيد فني (غير متعمّد) لكلود فروللو، من فنان رسمها قبل الرواية الفعلية بنصف قرن، للّوحة قصة، ونلاحظ أن اسم الرجل في اللوحة (كلوديو)، وأن قبّعته تشبه قبعة فروللو في فيلم ديزني.

(3) - whatever is good (agathon) is also beautiful (kalon)
(4) -
"je vous parle debout et frémissant sur la limite de notre éternité à tous deux."
(5) -
La Creatura Bella Bianco Vestita—Dante